العنوان: الإنسانوية المستحيلة: إشكالات تأليه الإنسان وتفنيدها في الفكر المعاصر
المؤلف: إبراهيم بن عبد الله الرمَّاح
الطبعة: ط. 2.
مكان النشر: الرياض.
الناشر: مركز دلائل.
سنة النشر: 2019.
عدد الصفحات: 245 ص.
السلسلة: سلسلة أطروحات فكرية؛ 15.
الترقيم الدولي الموحد: 8-4-90914-603-978.
إن الناظر في واقع حال الأمة الإسلامية اليوم يجد حروبًا على جبهات عدة بعضها بالقوة الخشنة والبعض الآخر – وهو الأكثر خطورة- بالقوة الناعمة والغزو الثقافي الذي بات يأكل في جسد الأمة في الخفاء مستهدفًا وعي أبنائها وعقيدتهم، مبددًا بذلك طاقاتهم وإمكاناتهم في النهوض بأمتهم، حتى آل الحال بالبعض ممن تأثروا تمامًا بهذا الغزو واعتنقوا الأفكار الدخيلة إلى محاولة تنحية الدين الإسلامي تمامًا عن الحياة واستبداله بدين الإنسانية كحل سيمنح العالم بأسره السلام.
وفي هذا السياق يأتي هذا الكتاب الذي بين أيدينا ليتناول إشكالية المذهب الإنسانوي وجذوره التاريخية والفلسفية وما يحمله من مضامين علمانية إلحادية مبينًا صورته في السياق العربي والإسلامي بشكل خاص ومسلطًا الضوء على تناقضاته وأوهامه ومآلاته، مبينًا جوانب الخلل الذي فيه وفقًا لمعيار العقل وميزان الوحي.
وينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: معالم الإنسانوية.
الفصل الثاني: إشكاليات الخطاب الإنسانوي.
الفصل الثالث: الإنسانوية في ميزان الدين.
الفصل الأول
معالم الإنسانوية
أولًا: التعريف
يؤكد الكاتب في البداية على الفارق بين مصطلح الإنسانوية ومصطلح الإنسانية الذي يوحي عادة إلى معاني إيجابية منها الإحسان إلى البشر وإعلاء الكرامة الإنسانية. أما مصطلح الإنسانوية فيضم تحت لوائه رؤية خاصة للعالم، فحسب معجم Merriam-Webster تُعرف الإنسانوية في السياقات الحديثة بأنها “عقيدة، مجموعة من السلوكيات، أو طريقة للحياة متمركزة حول اهتمامات الإنسان أو قيمه، كفلسفة ترفض ما فوق الطبيعة، تعتبر الإنسان موضوعًا طبيعيًا، تؤكد على الكرامة الأساسية وقيمة الإنسان وقدرته على تحقيق الذات من خلال العقل والمنهج العلمي التجريبي”.
وفي هذا السياق أورد الكاتب مجموعة من التعريفات اللغوية لهذا المصطلح والمصطلحات التي تستخدم عادة بالترادف معه مثل النزعة الإنسانية، الإنسية، المذهب الإنساني، الدين الإنساني، والهيومانية.
ويخلص الكاتب إلى أن المبادئ الناظمة لهذا المصطلح تتمثل في التوجه إلى الإنسان وحده والانفصال عن التشريع الإلهي، التعويل على العقل وحده والانفصال عن توجيه الوحي، التعلق بالحياة الدنيا وحدها والانفصال عن أية دلالة أخروية.
ثانيًا: الجذور
ثم ينتقل الكاتب إلى قراءة تاريخ المصطلح والسياق الثقافي الذي نشأ وتطور فيه، مبينًا أنه مصطلح نما بداخل السياق الثقافي الغربي وهو سياق يختلف كليًا عن السياق الإسلامي، من هنا يقوم الكاتب بعرض تاريخي لجذور النزعة الإنسانوية منذ العصر القديم وحتى العصر الحديث مرورًا بالعصور الوسطى وعصر النهضة الأوروبية.
فأما العصور القديمة فمحورية الاهتمام بالحياة البشرية بدأت مع سقراط وأفلاطون وأرسطو حيث انصب اهتمامهم على السياسة والأخلاق خلاف مَن قبلهم الذي انصب اهتمامهم على دراسة الكون. أما العصور الوسطى وهي ما تسمى بعصور الظلام في أوروبا كانت الفضيلة تقوم على الرهبانية والزهد التام في الدنيا والحط من مكانة الإنسان واحتقار الجسد. ثم جاء عصر النهضة كرد فعل على هذه المغالاة غير الطبيعية في الزهد ونكران الذات حيث بدأت حركة إحياء لكتابات الإغريق والرومان القدماء التي كانت ذات طابع دنيوي، وصارت الفنون والآداب تركز على الإنسان، ولكن كان إنكار وجود الإله أمرًا نادرًا. وتعتبر الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر بداية ظهور خطابًا يتناول الإنسان بأبعاد فلسفية باعتبار أنه ذو قيمة فضلى، ثم تلا ذلك تبلورًا أكثر إحكامًا للفلسفة الإنسانية في الفترة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، واعتبر البعض أن إيمانويل كانط (1724-1804) هو المؤسس الأول للفلسفة الإنسانية نظرًا لاهتمامه بمركزية الإنسان وتحويله الشأن المجتمعي كمادة للدراسة والتأمل.
ثم جاء العصر الحديث بمفاهيم أكثر تطرفًا وراديكالية للنزعة الإنسانية ابتداءً بظهور البيان الإنسانوي الأول (Humanist Manifesto I) عام 1933 الذي عرَّف الإنسانوية بأنها حركة دينية تهدف إلى تجاوز الأديان السابقة ذات الأصل الإلهي. ثم جاء البيان الإنسانوي الثاني 1973 بعد ظهور النازية ونشوب الحرب العالمية الثانية التي هلك فيها أكثر من 70 مليون إنسان، وتجلت في هذا البيان قطيعة أكبر مع الدين ونزوع نحو الإلحاد. ثم جاء البيان الإنسانوي الثالث 2003 تحت عنوان “الإنسانوية وتطلعاتها” بواسطة الجمعية الإنسانوية الأمريكية واحتوى على سبعة نقاط:
1- تستمد المعرفة من الملاحظة والتجريب. 2- البشر هم جزء من الطبيعة ونتيجة للتغير التطوري وهي عملية غير موجهة. 3- تُستمد القيم الأخلاقية من حاجة الإنسان واختبارها من خلال الخبرة. 4- تحقيق الحياة ينبثق من المشاركة الفردية في خدمة المثل العليا الإنسانية. 5- البشر اجتماعيون بالطبيعة ويجدون المعنى في العلاقات. 6- العمل لنفع المجتمع يزيد السعادة الفردية. 7-احترام وجهات النظر الإنسانية في مجتمع مفتوح علماني ديمقراطي مستدام بيئيًا.
يبين الكاتب أن هناك العديد من البيانات والإعلانات الإنسانوية الأخرى، لكنه يذكر أن من أهم ما طُرح في التعريف بالإنسانوية جاء في مقدمة ستيفن لو Stephen Law المعنونة: الإنسانوية، مقدمة قصيرة جدًا والتي قام فيها بمنابذة الدين صراحةً، قائلًا أن الإنسانويين إما ملحدين أو لا أدريين، وأنهم لا يؤمنون بوجود الحياة الآخرة، كما أنهم يرفضون مقولة أنه لا يمكن أن توجد قيمة أخلاقية بدون إله، فالأخلاق عندهم تُستمد من كل ما يساعد البشر على الازدهار في هذه الحياة، وهي مسؤولية فردية خاصة لا تحتاج أن تستمد من سلطة خارجية، وهم يؤمنون أنه يمكن أن يكون لحياة البشر معنى دون أن يهبهم إياه الإله.
ثالثًا: المنظمات الإنسانوية
يؤكد الكاتب أن البعض اعتبر الإنسانوية دينا من الأديان الحيوية، فقد وجد رموز الإلحاد الجديد أن التبشير بالإنسانوية أكثر قبولا عند الناس من التبشير بالإلحاد المجرد، ولذا أنشؤوا المنظمات التي تحمل الرسالة الإلحادية الممهورة بالطابع الإنساني مثل الجمعية الإنسانوية الأمريكية (AHA)، ومجلس الإنسانوية العلمانية وغيرهم الكثير، وترفع هذه المنظمات شعارات مثل “جيد بدون إله”، “لأجل حياة واحدة نعيشها” مع إدماج رمز يعبر عن سعادة الإنسان. ومن الأنشطة التي تمارسها هذه المنظمات بجانب الترويج للإلحاد السعي للقضاء على التمييز ضد الملحدين، ومعارضة التعليم الديني في المدارس، والدفاع عن المرتدين عن الإسلام Ex- Muslims of North America
كما ظهرت مثل هذه المنظمات في الوطن العربي مثل “منظمة مؤمنون بلا حدود” وتتضمن مجالات عملها السعي نحو تحقيق رؤية إنسانية للدين منفتحة على آفاق العلم والمعرفة وخلق تيار فكري يؤمن بأهلية الإنسان على إدارة حياته ومجتمعه دون الحاجة إلى عقيدة توجهه.
الفصل الثاني
إشكاليات الخطاب الإنسانوي
يسعى الكاتب في هذا الفصل إلى الخوض في أعماق إشكاليات المذهب الإنسانوي لبيان تناقضاته، كما يقوم في ثنايا ذلك بعرض مختصر لتقطاعاته مع بعض المذاهب الفكرية الأخرى كالليبرالية والعلمانية والوجودية والعدمية … إلخ.
أولًا: نزعة الإلحاد وتأليه الإنسان
لقد ساعد عصر التنوير وزيادة غرور الإنسان باكتشافاته الكونية إلى ظهور مذهب الإنسانوية، وبدأ الاعتقاد باستحالة التقدم مع وجود الدين، ولذلك فإن الإنسانويين إما ملحدون أو لا أدريون، متشككون أو ينتمون إلى دين ولكنهم يفرغونه من محتواه ومن عقيدته ويأخذون منه فقط ما يتماشى مع الأفكار الإنسانوية، وفي هذا الإطار يقول توماس باين في كتابه (عصر العقل): “أؤمن برب واحد لا أكثر، وآمل أن ألقى السعادة بعد هذه الحياة، أؤمن بالمساواة بين بني الإنسان، وأؤمن أن الوظائف الدينية تنحصر في ممارسة العدل، وحب الرحمة، والسعي من أجل إٍسعاد أبناء العائلة الإنسانية…لا أؤمن بالعقيدة التي تنطق بها الكنيسة اليهودية، أو الرومانية، أو اليونانية، أو التركية، أو البروتستانية، أو أي كنسية يلغيها علمي، فقط عقلي هو كنيستي”.
وفي هذا السياق صارت إرادة الإنسان لا إرادة الخالق هي المصدر المعترف به لتحسين العالم، فآل الأمر إلى أنه لا سلطة فوق الذات، ولا قيم أخلاقية إلا عن طريق منافع الذات، ولا سعادة إلا عن طريق إشباع الذات، ولا حقيقة إلا عن طريق معرفة الذات.
ينتقل الكاتب إلى السياق العربي فيذكر أن أكثر من لهج بالأنسنة والإنسانوية هو (محمد أركون)، إذ ينسب إلى نفسه إدخال مفهوم (الأنسنة) إلى التداول العربي ويعرفها بأنها “انتقال من عالم يسيطر فيه المقدس إلى عالم يسيطر فيه الإنسان”. ويرى محمد أركون أن هذه النزعة عرفتها الثقافة الإسلامية منذ القرنين الثالث والرابع الهجريين، ويستشهد بأسماء مثل ابن رشد وابن سينا وغيرهم، فهو يرى أن العلاقة بين الإنسان وبين الله علاقة حوار وليست علاقة تسليم وعبودية، وبالتالي فعلاقة الإنسان بالنص المقدس يكون فيها العقل الإنساني هو الحاكم الأول.
وعلى نفس المنوال كانت أقوال عبد الرحمن بدوي ونصر حامد أبوزيد تدور حول أنسنة الرؤية الإسلامية بمعني جعل النص القرآني قابل لكل التفسيرات والرؤى، فيكون الإنسان هو مرجعية ذاته، ولذلك فإن أصحاب الفكر الإنسانوي إما ملحدون أو يصلون عبر هذا الطريق إلى الإلحاد ومن لا يصل إلى الإلحاد يقع في الشك أو التناقض.
ثانيًا: دين الإنسانوية والبعد التجاوزي
ينتقل الكاتب لمناقشة إشكالية أخرى من إشكاليات الخطاب الإنسانوي وتتمثل في تناقض الإنسانوية بين إدعاءها بقبول الجميع والتسامح مع الجميع في حين أنها تستبطن رفضًا لمن لا يوافقها في تصورها عن الإنسان، لأنها شاءت أم أبت تنطلق من تحيزات مسبقة تستبعد أية تفسيرات للكون غير التفسيرات الوضعية، فهي قد جاءت – كما سبق الذكر- كرد فعل على المسيحية والكنيسة، كما أنها برفضها للأديان تفرض نوعًا من التعالي عليها وبالتالي تتحول هي نفسها إلى دين أيضًا لكنه أرضي المصدر. وفي هذا السياق يسلط الكاتب الضوء على فكرة استحالة انفكاك الإنسان عن اعتناق دين، حتى لو كان دينًا وضعيًا، فانحسار الأديان الروحية أدى إلى ظهور ديانات أرضية بديلة عبر مفاهيم مثل الجمهورية والوطن والقومية تمارَس في إطارها أشكال من عبادة الرموز والأمكنة والأزمنة والتماثيل للزعماء. ويذكر الكاتب هنا تساؤل دوركهايم حينما قال: “ما الفرق في هذه الشعائر بين المسيحيين الذين يحتفلون بمواعيد المسيح المقدسة أو اليهود الذين يحيون ذكرى خروجهم من مصر أو اجتماع مواطنين يحيون ذكرى نشوء نظام قانوني أخلاقي أو حدث عظيم في حياتهم الوطنية؟”، وفي هذا الإطار أيضًا يذكر الكاتب بعض مفكري الغرب الذين أشاروا إلى هذه الفكرة مثل الفيلسوف الألماني بول تيليش الذي استخدم مصطلح الديانات البديلة.
ومما ذكره الكاتب أيضًا من تناقضات الإنسانوية أن الإنسانوي عادة ما يقع في مأزق الاختيار بين ما يمليه عليه ضميره (الإنساني) وبين ما يمليه عليه واجبه (الوطني) إذا قررت دولته خوض حرب ظالمة على شعب أعزل، فإذا اختار الخيار الأول خان دولته وعقده الاجتماعي، وهذا غير أخلاقي في نظره، وإذا جنح إلى الخيار الثاني فقد كفر بإنسانيته المتجاوزة.
ثالثًا: النسبية الأخلاقية
يؤمن الإنسانوين بنسبية الأخلاق أي أن الأفعال الصائبة أخلاقيًا تختلف من ثقافة لأخرى، فليس هناك صواب مطلق في مجال الأخلاق. وبناءً على ذلك يرى الإنسانويون أن الأخلاق ليست مستمدة من الدين وإنما فرضتها الطبيعة واستحسنتها التجربة، وبالتالي لابد من التأكيد على حرية الفرد في اعتناق ما يراه من مبادئ أخلاقية.
وهنا يبين الكاتب خطورة النسبية الأخلاقية على المجتمعات لأنها ستؤول إلى استحالة إلزام أحد بأي معيار أخلاقي، وهذا ينعكس في واقعنا اليوم من خلال الكثير من الآفات التي يستبشعها الإنسان السوي مثل انتشار الشذوذ الجنسي الذي أجمعت على استنكاره الفطر السليمة، وبنفس المنطق سوف تنتشر الكثير من السلوكيات الشاذة والأفعال المستقبحة، إذ وفقًا للنسبية الأخلاقية لا يوجد معيار للحسن والقبيح والخير والشر والحق والباطل، وفي هذا السياق اعترف القانوني جورج باتون “أن السبيل الوحيد للوصول إلى معايير متفق عليها للقانون هو الاعتراف بالوحي السماوي قانونًا”.
ويشير الكاتب في هذا الصدد أنه على الرغم من أن الإنسانويين يبدون قدرًا من الصلابة الأخلاقية حيال ما يعتقدونه صوابًا أو خطأ، لكنهم لا يوضحون القاعدة التي تتأسس عليها هذه الصلابة، وفي هذه الحالة إما أن يقعوا في التسويغ النفعي البراغماتي للأخلاق والذي يفقد القيم الأخلاقية قيمتها أو يقعوا في تقرير نسبيتها بما يفقدها قيمتها مطلقًا.
أيضًا يذكر الكاتب أن من آثار النزعة الإنسانوية والقول بنسبية الأخلاق انتشار نزعة الأنا والفردانية وعدم الاهتمام بالصالح العام، حيث يتم تغليب حقوق الفرد على حقوق المجتمع، وبالتالي نرى تشريعات تحمي السارق من عقوبة القطع دفاعًا عن حقوقه الإنسانية دون النظر لما ينجم عن ذلك من ضياع حقوق سائر أفراد المجتمع الذين يعيشون الرعب والخوف من هذه الجرائم.
رابعًا: الداروينية والتفرد الإنساني
يبين الكاتب في هذا الجزء مركزية النظرية الداروينية التطورية في الخطاب الإنسانوي وأنها بالنسبة لهم التفسير المقبول لظهور الإنسان على الأرض. ثم يناقش التناقض الذي يقع فيه الإنسانويون بتمسكهم بالنظرية الداروينية، لأنها من ناحية لا تتوافق مع المكانة التي جعلها الإنسانوي للإنسان باعتباره إلهًا على الأرض، لأن الداروينية كما هو معلوم أزالت عن الإنسان أي مركزية بجعله جزءًا من السلسة الحيوانية لا أكثر، فهو بحسبها نتاج عملية مادية لا غاية لها، ومن ناحية لا تتوافق مع مبدأ المساواة بين البشر الذي ينادون به لأن الداروينية تقر بمبدأ التفاوت البيولوجي والتفاوت بين الأجناس.
خامسًا: الإنسانوية الغربية والآخر
في ورقة معنونة (غطرسة الإنسانوية) يقول نورم ألين: “إن كثيرًا من الإنسانويين البيض يعتقدون أن الحضارة الغربية هي المعيار الذهبي للعقلانية والموضوعية”. وهنا يشير الكاتب إلى التناقض الذي يتخلل النزعة الإنسانوية التي تنطلق من مركزية الغربي حول نفسه واستعلائه على الآخرين خاصةً الأفارقة السود من خلال تصوير الحضارة الغربية نفسها في سعيها نحو الهيمنة على أنها في معركة مقدسة للإنسانية ضد البربرية، والعقل ضد الجهل، والتقدم ضد التخلف… إلخ، فالغرب في هذا السياق قد احتكر لنفسه أنه صاحب الحريات والقيم والفضائل.
وفي هذا السياق ينقد الكاتب هذه الفكرة ببيان وهمية الصورة الأخلاقية التي يصور الغرب بها نفسه، فيناقش على سبيل المثال الادعاء الأوروبي بأن الفضل في تحرير الإنسان من العبودية يعود لها، مبينًا أن هذا لم يكن بدافع أخلاقي وإنما بدافع استغلالي محض، نظرًا لحاجة المجتمع الصناعي آنذاك إلى اليد العاملة.
يشير الكاتب أيضًا إلى صورة أخرى من خداع الغرب المتمركز حول نفسه المتجسدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي هو غير إنساني في الحقيقة من الناحية الواقعية، فلقد أُطلق هذا الإعلان في وقت كانت فيه شعوب لا تزال واقعة تحت استعمار القوى الغربية، ليطرح بذلك سؤالًا: هل حقوق الإنسان هي حقوق الإنسان الغربي فقط؟.
من هنا يبين الكاتب أن من معالم الثقافة الغربية التي يتم عولمتها أنها مزدوجة المعايير في التعامل مع الآخر، فالآخر إما إرهابي، أو عدو، أو خائن، لتصبح خطابات الإنسانوية وحقوق الإنسان مجرد أدوات سياسية تستخدم لتحقيق المصالح فقط.
على الصعيد الآخر يشير الكاتب بعض الإشارات السريعة لقوة وروسوخ القيم الأخلاقية في تاريخ الحضارة الإسلامية وظهور ذلك في السلم والحرب، وكيف ضمت دولة الإسلام في كنفها أهل الملل والأديان المختلفة وجعلتهم يتمتعون بحقوقهم ولا يبخسونها.
سادسًا: العلموية واحتكار المعرفة
يضيف الكاتب هنا إشكالية العلموية Scientism باعتبارها إحدى إشكاليات النزعة الإنسانوية، حيث جاء في البيان الإنسانوي الثالث تبني الإنسانوية العلم الطبيعي منهجًا وحيدًا للوصول إلى الحقيقة، وهذا هو ما يقره التيار العلموي، فالعلموية لا تعترف سوى بالعلم التجريبي سبيلا للمعرفة وتحصر العلم فيه، والعلم التجريبي قائم على النسبية والقابلية للدحض. وفي المقابل تستبعد كل مصادر المعرفة الأخرى التي تتضمن الاستدلال العقلي أو الخبر الصادق. ومن مآزق العلموية كما يبينها الكاتب أنها لا تستطيع الجواب عن سؤال الغائية نظرًا لمحدودية العلم الطبيعي في هذا المضمار، فهو يستطيع الكشف عن بعض القوانين الكونية، ولكنه لا يستطيع أن يجيب على سؤال لماذا وجد هذا الكون؟ فهذا السؤال وغيره يقع ضمن سلطان الدين.
سابعًا: الدولة والعلمانية
يشير الكاتب هنا إلى مأزق آخر من مآزق تقاطع النزعة الإنسانوية مع المذاهب الفكرية الأخرى، مسلطًا الضوء على ارتباط الإنسانوية بالعلمانية، ويذكر الاعتراف المباشر من المفكر الإنسانوي ستيفن لو في كتابه “الإنسانوية مقدمة قصيرة جدا” حيث يقول: “الإنسانويون علمانيون”، وفي هذا السياق أيضًا يقول جاك غودي: “الإنسانوية تطلق أحيانًا ويراد بها الدين العلماني للإنسانية”.
وهنا يشير الكاتب إلى تاريخ ظهور قضية حقوق الإنسان وكيف أنها ارتبطت بالديمقراطية وبالعلمانية السياسية التي سادت الفكر الأوروبي منذ القرن السابع عشر، والتي أكدت على الحقوق المدنية، وأن الإنسان له حقوق طبيعية مدنية وليست دينية إلهية، وفي ضوء هذا الفكر تأسست مواثيق حقوق الإنسان التي تمنح الإنسان حقوقًا باعتباره مواطنًا في دولة وليس لمجرد إنسانيته، فعلى سبيل المثال تميز النظم المعاصرة بين المواطن والمهاجر في الحقوق، كما تميز الدول الغربية بين حقوق الإنسان الغربي وغيره، فحيثما تأكدت مصلحة الغرب خارج حدوده كان الاضطهاد والاستغلال.
ويضيف الكاتب في هذا السياق أن العلمانية التي تدعي أنها تقف على مسافة واحدة من كل الأديان لها موقف خاص من الإسلام تحديدًا باعتباره عقيدة وشريعة تهيمن على كل جوانب الحياة، ولذلك نجد أن حقوق المسلمين تحديدًا في الغرب يضرب بها عرض الحائط حيث قوانين تحظر الحجاب وقوانين تحظر بناء المساجد وغير ذلك الكثير. ومن ثم فإن العلمانية التي يتعلق بها الإنسانويون لإيرادة الخير للإنسانية – كما يزعمون- يكشف الواقع زيفها.
ثامنًا: الاضمحلال وما بعد الإنسانوية
في نهاية هذا الفصل يذكر الكاتب التغيير الذي طرأ على الإنسانوية مع ظهور تيار “ما بعد الحداثة” الذي زعزع مكانة الإنسان وأزاحه عن مركز العالم، وأُعلن بذلك موت الإنسان كما قال ميشيل فوكو. وظهرت نسخة محدثة من الإنسانوية عُرفت بالإنسانوية المتحولة Trans humanism وهي تشير –حسب رأي بعض المفكرين- إلى تغيير حالة الإنسان النفسية والجسدية والعقلية باستخدام التقنية مثل آليات الذكاء الاصطناعي المتطورة والهندسة الوراثية والاستنساخ والتحكم في السلوك والأعصاب، مما قد ينشأ عنه كائن آخر مختلف Posthuman، من هنا يقول الكاتب أن مقولة تجاوز الإنسان زادت من تأكيد العدمية وأدت لمزيد من استعباد الإنسان وحَرَمته من التمتع بالحرية والكرامة.
ويختم الكاتب الفصل ببيان محصلة ما تم عرضه خلاله من معطيات تفيد بعمق الأزمة التي يعيشها الفكر الغربي ويعاني منها الإنسان المعاصر، ويورد في هذا السياق عدد من شهادات مفكري الغرب أنفسهم على عمق هذه الأزمة التي تدور في مجملها حول ضياع الجوهر الإنساني وما يتعلق بذلك من أزمة أخلاقية وقيمية، وفي هذا الإطار أصدر المؤلفان ريشارد كوك وكريس سميث كتابهما “انتحار الغرب” متحدثين عن انهيار حضارة الغرب.
وهنا يوصي الكاتب المسلمين بالعمل لاستعادة مكانتهم العالمية وعدم الاكتفاء بالإنتظار السلبي المجرد.
الفصل الثالث
الإنسانوية في ميزان الدين
بعد أن تناول الكاتب مقولات الإنسانوية وجذورها ضمن السياق الغربي الذي انبثقت منه وتقاطعها مع المذاهب الفكرية الغربية الأخرى والأزمة العميقة التي يعيشها الفكر الغربي بناءً على ذلك، يأتي في هذا الفصل ليضع الإنسانوية في ميزان الإسلام، ويهدف من خلال هذا الفصل أن يبين أن الأفكار الجيدة التي تدعو إليها الإنسانوية من تعظيم الإنسان والإحسان إلى البشر والإتقان في صناعة الحياة ليست من إبداع الإنسانويين ومنطلقاتهم الفلسفية المادية بل ما كان فيها من خير فهو مسبوق بما جاء الإسلام، مع بيان أن المسلمين ليسوا في حاجة إلى تحريف النصوص الواضحة لتناسب الذوق الإنسانوي المعاصر ومنها تفضيل المسلم على الكافر، والتصدي للغلو المدني الدنيوي.
ثم يقدم الكاتب للفصل بمقدمة تبين الغاية من خلق الله عزوجل للإنسان وهي عبادته سبحانه، مبينًا تكريم الله عزوجل للإنسان دون سائر المخلوقات، وحمله لأمانة السماوات والأرض وهذا مما ينقض ما تقرره الإنسانوية من أن وجود الإنسان على الأرض صدفة.
أولًا: تكريم الإنسان في الإسلام
يبين الكاتب في هذا الجزء وجوه عدة من تكريم الله عزوجل للإنسان وهي:
1- خلق الله سبحانه وتعالي لآدم بيده والنفخ فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له.
2- إحسان خلقته وصورته، فقد خلقه الله عزوجل كما يقول ابن العربي المالكي حيًا، عالمًا، قادرًا، مريدًا، متكلمًا، سميعًا، بصيرًا، مدبرًا، حكيمًا.
3- تخصيصه بالتكريم من بين المخلوقات.
4- إقسام الله عزوجل به كما في قوله تعالي في سورة الشمس “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا” (7)، ويعلق ابن القيم على هذا القسم فيقول: “كما أنه لما أقسم بالنفوس أقسم بأعلاها وهي النفس الإنسانية”.
5- الامتنان عليه بالعقل والعلم كما في سورة العلق.
6- تسخير الكون له وفي هذا السياق يقول ابن خلدون: “والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتن به عليه في غير ما آيه في كتابه…ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من استخلاف”.
7- خلق الطيبات له والجماليات المبهجة.
8- فطره على الإيمان، فالله عزوجل من تكريمه للإنسان أنه فطره على عبادته سبحانه دون غيره، فالإنسان بفطرته السوية يأبى أن يخضع لحجر أو شجر أو حيوان، كما أن الله عزوجل فطر الإنسان على الأخلاق الحسنة التي يفارق فيها الحيوان، ولذلك يقال لمن خرج عن موجب الإنسانية في الأخلاق بأنه ليس إنسان، ولذلك كان بعث الله عزوجل للرسل لتكميل هذه الفطرة وتقريرها لا لإنشائها أو لتحويلها أو تغييرها.
9- إرشاد الله عزوجل الإنسان لإحسان المعاملة مع الخلق بشكل عام، المسلم منهم والكافر، وأمره بالعدل بين الناس واللين في دعوة غير المسلمين، ونهيه عن الاعتداء، والإحسان للكفار غير المحاربين، ومن وجوه ذلك الإحسان الدفاع عن أهل الذمة واستنقاذ أسراهم. وفي هذا السياق يذكر الكاتب العديد من الشواهد الدالة على إحسان المسلمين في معاملة الخلق من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته استهداءً بأدلة القرآن والسنة، ويؤكد الكاتب في هذا الصدد أن إحسان المسلم مع غيره من الأمم الأخرى باعثه الامتثال لدين الله وتقديم شرعه وليس بسبب نزعة فلسفية إنسانية تتعالى على الدين.
10- الإنعام عليه بالتشريع الكامل، فقد بينت الشريعة للإنسان كل ما يُصلح شأنه في الدنيا والآخرة، وهذا من اهتمام الإسلام بالإنسان، ومن كمال الشريعة أن الله عزوجل لم يكلف الإنسان إلا بما في وسعه ورفع عنه الحرج وأحل له الطيبات وحرم عليه الخبائث. ومن أجل الإبقاء على النفس الآدمية أباح الله تعالى عند الضرورة من الطعام ما حرم في حالة السعة، وكذلك نهى الله عزوجل عباده عما يضرهم ولو كان من جنس العبادات، مثل الصوم الذي يزيد في مرض الإنسان أو يقتله. ويذكر الكاتب هنا ما قاله قتادة: “إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم”، حتى أن الله عزوجل نهى عن الحزن، ولو تعلق الأمر بالدين كما في قوله تعالى في سورة آل عمران “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (139)، ومن كمال الشريعة أنها حثت الإنسان على السعى والبذل ولو كان في انتظار الآخرة. ومن كمال الشريعة أيضًا حفظ ضروريات الإنسان (الدين، العقل، النفس، المال، النسل)، وقد شرع سبحانه لأجل ذلك العقوبات والحدود الرادعة رحمة بالخلق وإحسانًا إليهم. ومن مظاهر كمال الشريعة واعتنائها بالإنسان أنها منهجًا وسطًا بين الشدة واللين، وهذا يأتي من نظرة الإسلام للإنسان بأنه مركب من جسد وروح، على عكس المذاهب الأخرى التي تقف في طرف في هذه المسألة، فنجد المذاهب الصوفية الغنوصية التي تعتبر الجسد سجنًا قذرا للروح أو المذاهب المادية المعاصرة التي لا ترى من الإنسان إلا البعد المادي فقط.
بالإضافة إلى ذلك فقد جاءت الشريعة بالتوازن بين العمل في الدنيا والعمل للآخرة، فلم تأمر برهبانية أو انقطاع للآخرة انقطاعًا كليًا، فالأنبياء الذين هم أكمل الناس لم يشرع لهم اعتزال الناس والامتناع عن المباحات. وأخيرًا وازنت الشريعة بين مصلحة الفرد والمجتمع فلم تقف على أحدهما في مقابل الآخر كما هو حال الفردانية Individualism أو الاتجاهات الجماعاتية كالاشتراكية.
وبعد عرض هذه الوجوه العشرة من تكريم الإسلام للإنسان يعلق الكاتب أن ما جاء في القرآن من آيات تدل على ضآلة الإنسان مثل “أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ”(20) سورة المرسلات، فإن المراد بها لفت الأنظار إلى عظمة الخالق في خلق الإنسان وتذكيره بأن لا يستكبر عن العبادة. أما الآيات التي يفهم منها ذم الجنس الإنساني مثل “وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا” (11) سورة الإسراء، فإن في ذلك تحذير للإنسان من سوء الأخلاق وحثه على العمل الصالح، فالإنسان ليس مذمومًا من حيث هو وإنما لكفره إن أعرض.
ثانيًا: مفهوم الدين والمشترك الإنساني
يقف الكاتب هنا على نقطة هامة تتعلق بالفرق بين الدين الإلهي والدين الإنسانوي، وينتقد على إثر ذلك بعض محاولات أنسنة الإسلام موضحًا بعض مظاهر ذلك، فيبين أولًا أن الإسلام على رغم من أمره بالإحسان للخلق والرحمة بهم وحسن معاملتهم إلا أن هذا يأتي تبعًا لتعظيم الله عزوجل وتعظيم أمره تعبدًا، فالمقصد الرئيسي يكمن في التعبد لله عزوجل واستحضار الدار الآخرة، فليس المقصود من الدين الحق مجرد المصلحة الدنيوية من إقامة العدل بين الناس في الأمور الدنيوية، فالمركزية في الإسلام لله عزوجل وليس للإنسان، وهذا مفارق للدين الإنسانوي الذي لا يعتبر إلا الدنيا ويختزل الدين في معاملة الخلق. وهنا ينتقد الكاتب مبالغة بعض المسلمين في حصر الإسلام في فكرة المشتركات الإنسانية بدافع الدفاع عن الإسلام ضد من يتهمونه بالقسوة والجفاء، مبينًا أن هذا لابد أن يوضع في سياقه الصحيح من بيان أن رأس الأمر في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله والعمل للآخرة، فتقديم الإسلام وحصر غايته في العدل بين الناس وحسن معاملة الخلق ليناسب الذوق الإنسانوي هذا مما يضاد محكمات الدين التي تجعل مدار الأمر على التعبد لله عزجل، وتأتي أوامر الشريعة بالعدل والإحسان للخلق تبعًا لذلك.
وهذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها “فقالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا ينفعه إن لم يقل يومًا: اغفر لي خطيئتي يوم الدين”. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المرء لا ينجيه في الآخرة إلا الإسلام.
أيضًا من آثار النزعة الإنسانوية التي طالت بعض المسلمين المبالغة في التركيز على حظ الإنسان العاجل من العبادات وفوائدها الدنيوية، أو حصر أسباب التحريم في الأضرار الدنيوية دون التركيز على معنى التعبد وتحصيل التقوى، ومن صور ذلك ما صوره أبو حامد الغزالي فيمن يصلي لأن الصلاة رياضة للجسد ولو تخلل صلاته بعض الأخطاء، أو من يشرب الخمر ويبرر ذلك بأن تحريم الخمر إنما كان لأنها تثير العداوة والبغضاء ولكنه يتحرز عن ذلك، وهنا يؤكد الكاتب على أن كون الشرع يصلح دنيا الناس لا يعني قصره على هذا الغرض وإهمال اعتبار التقوى والتقرب إلى الله عزوجل وقصد الدار الآخرة بالعمل الصالح.
ثالثًا: معيار التمايز ومَعقِد الولاية
يستكمل الكاتب بيان موقف الإسلام من الإنسانوية ومقولاتها وكيف ألقت بظلالها على بعض المسلمين، فيتحدث هنا عن معيار التمايز بين البشر في الإسلام، مؤكدًا على أن الله سبحانه ذكر في كتابه وحدة الأصل البشري، فلا مجال لأعراق عليا وأعراق دنيا كما في الداروينية التي يؤمن بها المذهب الإنسانوي، ولم يعلق الله عزوجل كرامة الإنسان على أمر خارج إرادة الإنسان كخلِقته، بل علقها على تحقيق التقوى وهو أمر كسبي، كما في قوله تعالى في سورة الحجرات “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”.
ثم ينتقد الكاتب بعض المتأثرين بالمذهب الإنسانوي ممن يتأولون آيات القرآن الكريم التي يُذم فيها الكافر بهدف نبذ الكراهية وتحقيق التناغم إلى غير ذلك من الشعارات، مبينًا أن الناس حسب شريعة الإسلام يتمايزون حسب موقفهم من الإيمان بالله تعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويترتب على هذا التمايز اختلاف أحكام الشريعة الإسلامية المختصة بالفرد والمجتمع تبعًا للموقف من الإيمان، ويترتب عليه أيضًا اختلاف مصير الإنسان في الحياة الآخرة.
رابعًا: أصل الأخلاق
من دعاوي الإنسانويون باسم الإنسانية وباسم كونية الإنسان قطع الصلة بين الدين والأخلاق، ومحاولة الفصل بين الخروج من الدين والخروج من الأخلاق، ويذكر الكاتب هنا أن العقل وإن كان يثبت حُسن بعض الأخلاق كالعدل مثلا قبل ورود الشرع عليه إلا أنه لا يستقل بمعرفة تفاصيل تطبيق هذه القيمة في الواقع في المواقف المختلفة.
ويشير الكاتب إلى استحالة انفكاك الخطاب الأخلاقي عن المقولات الدينية، باعتبار أن الأخلاق تعبر عن إنسانية الإنسان. يذكر الكاتب ما قاله نيقولاي برديائيف “إن القول بمذهب إنساني ملحد ضرب من التناقض لأنه إذا انتفى وجود الله انتفى وجود الإنسان”، فبدون الإيمان تنتفي إنسانية الإنسان.
ومن ناحية تطبيقية تشير بعض الإحصائيات أن معدل تبرع المسلم هو الأكثر ثم اليهودي ثم البروتستانتي ثم الكاثوليكي وأقلهم الملحد.
وينهي الكاتب هذه الجزئية بتوضيح أثر الذوق الإنسانوي على بعض المسلمين الذين يحاولون علمنة الأنشطة الخيرية التطوعية -على سبيل المثال- فيجعلونها لمجرد تحقيق الذات والرضا عن النفس، وليس ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة، في محاولة لفصل التطوع عن أصله الإسلامي باستبعاد النصوص الواردة في فضله والاعتماد فقط على مخاطبة الدوافع الإنسانية.
خامسًا: العلم ومصادر المعرفة
يبين الكاتب أهمية العلم في الإسلام، وكيف اعتنى القرآن بالعلم لكونه صفة للإنسان، من خلال ذكر لفظة العلم في مواضع وآيات كثيرة، فضلًا عما يتعلق به من مفاهيم أخرى كالتعقل والتفقه والتبصر والتدبر والتذكر والسمع والبصر والنظر وذكر أولي الأبصار وأولي الألباب وغيرها من المفاهيم. أما من جهة تقسيم العلوم فتنقسم إلى علوم شرعية (وحي) وعلوم حياتية، وقد جمع المسلمون كلا الصنفين، ومن الثابت أن نتائج العلوم التجريبية القطعية يستحيل أن تتعارض مع الوحي.
من ناحية آخرى أزال الإسلام العوائق أمام تحصيل العلم النافع، ومن ذلك التحذير من اتباع الهوى، اتباع الظن، الجدل المذموم، الريب، البغي، تبديل كلام الله عزوجل وتحريفه، كما نهى عن التقليد الأعمى، ومحاربة الخرافة من السحر والشعوذة والتنجيم والإعتقاد بغيبيات لا دليل عليها.
ثم ينتقل الكاتب للحديث عن مصادر المعرفة في الإسلام في مقابل المذهب الإنسانوي الذي يتبع التيار العلموي الذي يحصر المعرفة في العلوم الطبيعية فقط وما تتوصل إليه من نتائج، أما مصادر المعرفة في الإسلام فإنها كما تعتد بالتجربة والملاحظة فإنها تعتد أيضًا بالخبر الصادق، والاستدلال العقلي.
ومما ينبه عليه الكاتب في هذا السياق أن أعلى العلوم وأشرفها العلم بالله تعالى، وعلى هذا الأساس لابد أن ننظر إلى العلوم الأخرى، فالعلوم الطبيعية والعلوم الحياتية عمومًا لابد أن تكون نية دارسها لله عزوجل أي نصرة لدينه وإقامة لشرعه وتعرفًا عليه من خلال التأمل في مخلوقاته.
وأخيرًا يشير الكاتب أن الإسلام جاء بمنهج وسط في مسألة الأخذ بالأسباب وقدرة الإنسان على التحكم في محيطه وبين التوكل على الله عزجل وتسليم الأمر له، فالمسلم يؤمن بهيمنة الله عزوجل وسبق مشيئته مشيئة العباد وجريان الأسباب بأمره، والأخذ بها بناءً على ذلك، ولا يؤمن بقدرة الإنسان على التحكم والهيمنة على كل شئ في الكون.
خامسًا: معركة المصطلح
يتناول الكاتب في هذا الجزء من نهاية الكتاب الحديث عن أهمية عدم الاستسلام للمصطلحات الوافدة بما تتضمنه من حمولة فكرية تقتل الذات وتفقد الخصوصية والتميز الحضاري، وتجعل المسلم في غربة عن دينه وثقافته ولغته، خاصة عندما تقدم هذه المصطلحات ضمن إطار العالمية والكونية وتصوير من يخالفها بأنه خارج نطاق العالمية، وهذا ينطبق على مصطلح الإنسانية الذي يستخدم بكثرة وبإطلاق في الأوساط الإسلامية، حيث يبين الكاتب خطورة أن يتم تعريف هذا المصطلح بالإحسان للغير مطلقًا وبناءً على ذلك يتم وصف الإسلام بأنه إنسانوي وأنه لا يعارض الإنسانوية من هذا المنطلق، في ظل تجاهل تام لخلفيات المصطلح الفكرية والفلسفية ضمن تكييف سطحي للمصطلح يؤدي مع مرور الوقت إلى تحريف حقائق الإسلام وتشويه مبادئه، ويشير ابن القيم لهذه الإشكالية فيقول: “أصل بلاء أكثر الناس من الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل فيطلقها من يريد حقها، وينكرها من يريد باطلها، فيرد عليه من يريد حقها”.
ولذلك فإنه من الأحرى توصيف طبيعة الإسلام بأوصاف الشرع ومصطلحاته لا بمصطلحات غريبة عنه، وإلا نتج عن ذلك خطأ في الحكم وضلال في التصور ومن ذلك استخدام ألفاظ كالبر والإحسان والمخالقة.
خاتمة
من خلال ما سبق عرضه نستطيع القول أن الكتاب قد تعرض لأحد الإشكاليات الفكرية الهامة التي تؤثر في مجتمعاتنا الإسلامية، بأسلوب سلس ومباشر يستهدف الفكرة وتطبيقها في الواقع دون الخوض كثيرًا في قضايا نظرية التي تُبعد عن تحقيق الهدف من تجلية حقيقة المذهب الإنسانوي وتسليط الضوء على مظاهر التأثر به في السياق الإسلامي، وبيان خطورة الأفكار الوافدة على مجتمعاتنا والتي باتت تتغلغل في عقول الكثيرين بوعي أو غير وعي، فإن الأمة اليوم في أشد الحاجة إلى ما يوقظ وعيها بما يكون باعثًا لها على العمل للخروج من أزمة ركودها ويمهد لها أدوات ذلك وأول تلك الأدوات الاعتناء الواقعي المثمر بعالم الأفكار.
عرض:
أ. يارا عبد الجواد*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحثة في العلوم السياسية.