التوحيد والحلولية

التوحيد والحلولية*

أ. د. عبد الوهاب المسيري**

التوحيد والحلولية الكمونية الواحدية

التوحيد هو الإيمان بإله واحد قادر فاعل عادل قائم بذاته واجب الوجود، منزه عن الطبيعة والتاريخ والإنسان، بائن عن خلقه مغاير للحوادث؛ فهو مركز الكون المفارق له الذي يمنحه التماسك، ويمنح الإنسان الاستقلال عن سائر الموجودات، والمقدرة على الاختيار، وعلى تجاوز عالم المادية، وذاته الطبيعية المادية. أما الحلولية الكمونية، كما أسلفنا، فهي الإيمان بإله حال كامن في الطبيعة والإنسان والتاريخ، أي إن مركز الكون كامن فيه. وبهذا فإن التوحيد هو عكس الحلولية الكمونية. كما أن ثمة علاقة وثيقة بين الحلولية الكمونية والعلمانية الشاملة؛ فالعلمانية الشاملة رؤية واحدية مادية، تدور في إطار المرجعية الكامنة (المادية). كما أن تصاعد معدلات الحلولية الكمونية يعني تزايد محاولات تفسير الكون في إطار القوانين الكامنة فيه دون أن يُؤبه بأية قوانين خارجة عنه متجاوزة له. وهذا يعني تصاعد معدلات العلمنة والترشيد وتزايد هيمنة الواحدية المادية.

ويمكننا قراءة تاريخ الفلسفة الغربية على أنه تاريخ صراع بين رؤية إيمانية تؤمن بتجاوز الإله والإنسان لعالم الطبيعة من جهة، ورؤية حلولية كمونية أساسًا مادية، من جهة أخرى ترى أن الإله كامن في الطبيعة (أي الطبيعة المادة)، وأن الإنسان جزء لا يتجزأ منها، ومن ثم فهو إنسان طبيعي / مادي غير قادر على تجاوزها. وفي داخل الرؤية الحلولية الكمونية ذاتها ينشب صراع بين التمركز حول الذات (وإنكار الكون وتأليه الإنسان)، والتمركز حول الموضوع (وتأليه الكون وإنكار الإنسان) في مرحلة الحلولية الصلبة، ويحسم الصراع لصالح التمركز حول الموضوع وتأليه الكون، وتظهر مرحلة الحلولية السائلة؛ فتسيطر الواحدية المادية تمامًا، وتنكر أي شكل من أشكال التجاوز أو الثنائية أو المرجعية، ويتجلى المركز من خلال كل الأشياء، ويصبح العالم بلا مركز ولا مرجعية.

من التوحيد إلى الحلولية الكمونية الواحدية (وحدة الوجود)

تشكل وحدة الوجود لحظة نهائية في عملية حلول وكمون تدريجية. وحتى يمكننا إلقاء الضوء عليها وتصنيف الأنساق الحلولية الكمونية سنفترض وجودًا متصلًا، أحد طرفيه التوحيد الخالص، والطرف الآخر الحلولية الكمونية الواحدية التامة أو وحدة الوجود:

أولًا: الرؤية التوحيدية

تفترض الرؤية التوحيدية وجود جوهرين؛ جوهر إلهي، وجوهر طبيعي. وهما مستقلان تمام الاستقلال فيدرك الإنسان نتيجة لذلك، أن هناك خالقًا قائمًا بذاته، واجب الوجود، وأنه قريب منه ومن الدنيا، ولكنه مفارق (مباين) له ولها متجاوز لكليهما. وفي هذه المنظومة، يمكن رؤية أن الإنسان والإله تفصل بينهما ثغرة أو مسافة أو مساحة، ولكن توجد بينهما علاقة؛ فالإله قد كرم الإنسان، ونفخ فيه من روحه عنصرًا ربانيًا حوَّله من مادة محضة وجسد أصم إلى جسد وعقل وروح، وعلَّمه الأسماء كلها، ثم وضعه في مركز الكون، أي استخلفه فيه (حسب التعبير الإسلامي). مركزيته هذه مستمدة من علاقته بالإله، ومن العنصر الرباني الذي يسري فيه. ومن ثم، فإن الثغرة ليست هوة والمسافة ليست فراغًا، وإنما هي المجال الذي يتفاعل فيه الخالق مع مخلوقاته، ويتفاعل فيه الإنسان مع الإله والطبيعة. وهذا هو الفكر التوحيدي، ولا سيما الإسلامي، الذي يعين نقطة يلتقي عندها الإله بالإنسان (المطلق بالنسبي، والمقدس بالتاريخي). هذه النقطة هي القرآن (أي كلمة الإله) في الإسلام، وهي المسيح (أي اللوجوس أو كلمة الإله) في المسيحية. ولكن رغم تعين النقطة وتحققها في التاريخ (نزول القرآن في الإسلام، ونزول المسيح ثم قيامته في المسيحية)، إلا أنها نقطة وحسب، وليست وجودًا مستمرًا ودائمًا؛ إذ يظل الإله والإنسان والتمايز بينهما يتكرران على جميع المستويات، وتصبح هناك مسافة بين الإنسان والطبيعة المادة، فيتمايز الإنسان عن عالم المادة، وتصبح له قوانينه الخاصة. فكأن استقلالية الإنسان، وتميزه عن الطبيعة، لا يمكن أن تتحقق من دون المسافة التي تفصل الإله عن الإنسان، ومن دون الحدود التي تُفرض عليه. والمسافة لها أصداؤها أيضًا داخل المنظومة المعرفية والأخلاقية التوحيدية. ويمكن أن نصوغ هذا النسق من العلاقة بين الإله والطبيعة والإنسان على النحو الآتي: فالله لا يحل في الإنسان، وإنما يستخلفه في الأرض، فيعطيه قيَمًا مطلقة، ويأمره بتعمير الأرض (لا باستهلاكها أو غزوها وتدميرها). هذه القيم تفصل الإنسان عن الطبيعة/ المادة، ولكن الطبيعة/ المادة – هي أيضًا – ليست مجرد مادة ميتة صماء، فالإله خالقها أيضًا يبث فيها الحياة والمعنى، ولكنها تظل دون الإنسان منزلة. ويمكن الإنسان أن يُدرك الإله من خلال التاريخ ومن خلال الطبيعة، دون أن يرده إليهما، ودون أن يراه مجرد قوة دافعة كامنة فيهما. وهكذا يظل الإله (المرجعية النهائية المتجاوزة) خارج أي نسق مغلق دائري، فالدائرة لا تكتمل البتة والمسافة التي تفصل الإله عن الإنسان جزء أساسي من البنية تمامًا مثل المسافة التي تفصل الطبيعة عن الإله، وعن الإنسان.

ثانيًا: الرؤية الحلولية الكمونية

أما في النسق الحلولي الكموني فنلاحظ أن المسافة بين الإنسان والإله تبدأ بالتناقص إلى أن تتلاشى تمامًا حتى تصل إلى مرحلة وحدة الوجود.

أولًا- تبدأ المرحلة الأولى في عملية التناقص والحلول هذه، بحلول الإله في العالم (الإنسان والطبيعة) دون أن يمتزج به تمامًا. ومع تناقص المسافة، يقترب الإنسان من الإله، دون أن يلتحم به تمامًا. وهذه المسافة الصغيرة لها أصداؤها أيضًا في عالم الطبيعة؛ إذ يقترب الإنسان من الطبيعة بمقدار اقترابه من الإله، ولكنه لا يلتحم بها أيضًا. وهذه الدرجة هي التي تأخذ بها الفِرق المعتدلة من المتصوفة، ولا يمانع فيها أهل السنة فثمة قوة حيوية ما، من روح الإله، تسري في المخلوقات كافة وتتوحد بها، ولكنها تتجاوزها في الوقت نفسه.

وقد اعتبرنا هذه المرحلة كمونية على سبيل التجاوز؛ إذ إنه من منظور إيماني حقيقي لا يمكن لله أن يتجسد على الإطلاق، كما لا يمكن أن يختلط بمخلوقاته، حتى وإن أرسل إليها الإلهام، أو حتى الوحي؛ فالرسول (صلى الله عليه وسلم) نفسه لا يمكنه أن يصل إليه، بل يظل (قاب قوسين أو أدنى) منه.

ثانيًا- يلاحظ، في المرحلة الثانية من النسق الحلولي الكموني، أن تناقص المسافة بين الخالق والمخلوق تتزايد حتى تكاد تختفي، وأن روح الإله تسري في العالم والطبيعة والإنسان، وتبدأ بالتوحد شبه الكامل بهما، والكمون فيهما؛ فتختفي المسافة التي تفصل، أو تكاد، بين الخالق والمخلوق، ويتوازى الإنسان مع الطبيعة، أو يكاد. ورغم التساوي الذي يكاد يكون كاملًا بين الإنسان والإله والطبيعة في هذه المرحلة يظل الإله منفصلًا عنهما، أو لنقل إن ثمة تأرجحًا بين التساوي والتجاوز. ولذلك، يظل الإله يتسم بشكل من أشكال المركزية والمرجعية. وهذه المرحلة الثانية من النسق الحلولي الكموني تقف على عتبات وحدة الوجود والكمون الكامل دون أن تلجها. ويقول كثير من مؤرخي الفكر الإسلامي إن التصوف الإسلامي، مهما بلغ من تطرف، لا يتجاوز هذه المرحلة إلا في لحظات نادرة، ومن هنا الحديث عن وحدة الشهود في مقابل وحدة الوجود.

ثالثًا- في المرحلة الثالثة، يتوقف التأرجح، ويتحقق التوازي والتوحد الكامل بين الإنسان والإله؛ الأمر الذي يعني أنه في هذه المرحلة مرحلة وحدة الوجود والحلولية الكمونية الواحدية، يصبح الإله غير متجاوز للمادة، متوحدًا بها تمامًا ، كامنًا فيها، ولا توجد أية مسافة تفصل بينه وبين مخلوقاته، ويصبح هو ومخلوقاته شيئًا واحدًا ملتحمًا بشكل عضوي حلولي کموني، ويتوحد الجوهر الرباني بالجوهر المادي، فيصبح هناك جوهر واحد، ويصبح لا معنى للتمييز بين جوهر إلهي وآخر طبيعي، وتكون الإشارة إلى الواحد إشارة إلى الآخر، ومن ثم يفقد الإله سمته الأساسية التي تميزه كإله، أي تجاوزه للطبيعة والإنسان والتاريخ، ويفقد الإنسان استقلاله عن الطبيعة / المادة، ومن ثم يفقد تعينه الإنساني، ويذوب في محيطه.

وهذه هي مرحلة الواحدية الكونية التي تختزل العالم بأسره إلى مستوى واحد، وترجعه إلى مبدأ واحد هو القوة الدافعة للمادة الكامنة فيها التي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها: قوة لا تتجزأ، ولا يتجاوزها شيء، ولا يعلو عليها أحد، وهي قوة لا متعينة لا تعرف التمايز الفردي. وهو مبدأ يمحو كل الثنائيات؛ إذ ترد له كل الظواهر.

والنقطة المرجعية هنا هي المبدأ الواحد؛ إذ لم يعد «الإله» في مقابل الكون، وإنما أصبح هو الكون. ولم يعد الإنسان في مقابل الطبيعة؛ إذ أصبح الإنسان والطبيعة شيئًا واحدًا. يُردّ الجميع إلى المبدأ الواحد الذي يتسمى باسمين مختلفين واختلاف التسميات والمصطلحات هو مصدر الاختلاف بين الشكلين الأساسيين لوحدة الوجود؛ فهو في وحدة الوجود الروحية يسمى «الإله»، وفي وحدة الوجود المادية يسمى «القوة الدافعة»، أي إن الاختلاف بينهما ليس حقيقيًا.

التوحيد والحلولية الكمونية الواحدية (منظور مقارن)

من الإشكاليات التي يواجهها العقل البشري علاقة الكل بالجزء، والواحد بالكثرة، والمطلق بالنسبي، والعام بالخاص، واللامحدود بالمحدود، والماضي بالحاضر، والهامشي بالمركزي (مشكلة معرفية). وعلاقة الآخر بالذات (مشكلة نفسية)، وعلاقة الخير بالشر (مشكلة أخلاقية)، وعلاقة الخالق بالمخلوق، والإنسان بالطبيعة (مشكلة دينية). والإجابة عن هذه الأسئلة النهائية تشكل نسقًا معرفيًا يمكن أن تولد منه إجابات على كثير من الأسئلة السياسية والتاريخية والأيديولوجية … إلخ.

ونحن في الواقع، نرى أن هناك إجابتين أساسيتين: الإجابة التوحيدية (التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة)، والإجابة الحلولية الكمونية الواحدية (التي تدور في إطار المرجعية الكامنة). والإجابة التوحيدية هي الإجابة الإيمانية، على حين أن الإجابة الحلولية الكمونية (روحية كانت، أم مادية) هي الإجابة الإلحادية. والاختلاف بين المنظومتين يرتكز على الاختلاف بين رؤيتين للإله تتفرعان إلى إجابات متضادة عن علاقته بالإنسان وبالعالم، وكيفية تواصله مع المخلوقات. ويمكن القول إن الركيزة الأساسية في كل من المنظومتين هي تصورهما لطبيعة الإله، وعلاقته بالإنسان والطبيعة.

1. الله

-إن الله في المنظومة التوحيدية إله واحد لا شريك له، مباين للعالم، منزه عنه وعن قوانين الطبيعة والتاريخ، مغاير للوجود الحسي، متعالٍ على جميع المخلوقات، متجاوز لها ولكل ما يتصوره العقل والخيال، خارج علاقات الزمان والمكان والكم والكيف والسبب والرمز والتجلي والرؤية والفيض والصدور والحلول والفناء، منفرد عديم المثل والنظير، لا يمكن تصويره أو تجسيده أو تشبيهه، ولا يقبل التجزيء أو التقسيم والتكثير، بل هو واحد من جميع الوجوه. والكون لم يفض عنه، وإنما خلقه الله من العدم، ولم يحل أو يكمن فيه. وهو بعد أن خلق الكون لم يهجره، بل أخذ يديره ويمنحه الاتجاه والمعنى والغرض. وهو يثيب الناس ويعاقبهم جزاءً لما كانوا يعملون؛ فقد وهبهم حرية الاختيار بين الخير والشر. وهو إله العالمين؛ عادل لا يحابي شعبًا على شعب، ويحاكم الجميع بقيم أخلاقية ومعرفية عالمية تستند إلى وجوده وحضوره الدائم غير المنظور في الطبيعة والتاريخ دون حلول فيهما؛ إذ يظل هو المرجعية النهائية المتجاوزة لكل شيء. ويمكن التعبير عن هذه العلاقة بالقول: إن الإله ليس كمثله شيء، رغم أنه شديد القرب منا، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، ولكنه رغم قربه هذا لا يجري أبدًا في عروقنا، ولا تدركه أبصارنا أو أسماعنا، ويظل قريبًا يجيب دعوة الداعي إذا دعاه دون أن يلتحم بأحد، أو بشيء، فهو العلي العظيم. والمسافة التي تفصل بين الخالق والمخلوق مسافة مطلقة نهائية لا يمكن إلغاؤها، فحتى أشرف المخلوقات يظل قاب قوسين أو أدنى.

-أما السمة الأساسية «للإله» في المنظومة الحلولية الكمونية فهي أنه لا يتجاوز الطبيعة والإنسان والتاريخ، وإنما هو مبدأ واحد، دافع للمادة كامن فيها، ليس له وجود متجاوز لها فهو يتجسد فيها. وهو، نظرًا لتجسده، يمكن أن تدركه الحواس؛ ولهذا يمكن تصويره، وتشبيهه، وتجسيده. وهو، في حلوله في الطبيعة/ المادة، يتجسد في كثير من ظواهرها، أو فيها كلها، فيفقد أُحاديته ويكتسب التعددية. وهو لم يخلق العالم من العدم، وإنما خلقه إما من مادة قديمة، ومن ثم فهو المحرك الأول والأزلي وحسب، أو خلقه من ذاته من خلال عملية فيضية ليصبح هو ذاته العالم. وعادة ما يحل هذا «الإله» في شعب بعينه، أو في أرض بعينها، ويكون بمثابة امتداد له في العالم، وهو شعب يتجاوز عادة، معايير الخير والشر؛ ولذا فإن ذاك «الإله» لا يثيبه ولا يعاقبه، وإنما يوزع نعمته على العالم من خلاله. وتختفي القيم المعرفية والأخلاقية المطلقة؛ إذ يلتصق الخير والشر ويتوحدان وتختفي القيم المطلقة (المتجاوزة) لتحل محلها قيم متجسدة مادية، (أي كامنة في المادة)، نسبية، خصوصًا أن الإنسان في المنظومات الحلولية الكمونية جزء لا يتمتع بحرية الاختيار، وكثيرًا ما يتصور الشر أنه مجرد خلل، أو خطأ، أو نتيجة جهل بالقواعد، أو نتيجة عملية انفصال عن الخالق.

2. الإله والعالم ووجود الكل والجزء

-يتوقف وجود العالم في المنظومة التوحيدية على وجود الله، ولكن وجوده غير متوقف على وجود العالم، لأنه متجاوز له، ويعلو عليه. ورغم هذا، نجد أن العالم له وجود حقيقي، وهو ليس مجرد وهم؛ فالمخلوق ليس فقاعة تعيش في «حلم الإله»، وإنما هو كيان حقيقي متعين رغم اعتماده في وجوده على الإله.

-يرتبط وجود «الإله» في المنظومة الحلولية الكمونية الواحدية بوجود العالم، تمامًا مثلما يرتبط وجود العالم بوجود «الإله». وفي أشكال وحدة الوجود الروحية يلاحظ أن نسبة «الإله» إلى العالم كنسبة الجوهر إلى أعراضه. والجوهر واحد والأعراض متكررة. ولكن لا جوهر بلا أعراض، ولا أعراض بلا جوهر، والعالم لكل هذا مجرد عَرَض، فهو ليس إلا مظهرًا وهميًا. أما في وحدة الوجود المادية، فإن «الإله» هو العَرَض والوهم (تأليه الكون). كل هذا يعني في واقع الأمر، أن الأجزاء والتفاصيل لا وجود حقيقيًا لها، فهي وهم يتجلى في الكل الحقيقي الجوهري.

3. المركزي والهامشي وعلاقة الكل بالجزء (مشكلة المعنى)

-ترى المنظومات التوحيدية أن الله المتجاوز لا يحل أبدًا في مخلوقاته، أو يكمن فيها، ولكنه لا يهجرها أبدًا، ولذلك فهي لا تتحول إلى ذرات متناثرة. وبهذا يكون مركز الكون مركزًا غير منظور، يوجد خارجه، ولكنه يربط بين أجزائه؛ وهو يربط بين كل أطراف الثنائيات دون أن يُلغي المسافة التي تفصل بين كل طرف وآخر، ومن هنا توجد علاقة بين الكل والجزء داخل إطار من الثنائية الفضفاضة، ولا يمكن فهم الجزء إلا في ضوء الكل. إلا أن الكل، رغم علاقته هذه، يظل كلًا متجاوزًا لكل جزء على حدة، وللأجزاء معًا، ولا يوجد تلاحم أو اتصال كامل، ولكن لا يوجد انفصال كامل أيضًا، لا واحدية، ولا أحادية، وإنما مسافة يمكن عبور أجزاء منها واختزال بعضها، ولكن لا يمكن أيضًا إلغاؤها تمامًا.

-حينما يحل «الإله» في الكون وفي مخلوقاته يكون مركز الكون داخله، كامنًا في المادة، ولذا يتداخل الجزء في الكل، والمطلق في النسبي، والدال في المدلول، ويصبح الإله والكون كيانًا واحدًا. وبدلًا من وجود علاقة بين الكل والجزء، فإنهما يلتحمان تمامًا، حيث يفقد الكل تجاوزه، ويفقد الجزء وجوده. وقد يتركز الحلول أو الكمون الإلهي في شعب بعينه، فيصبح هو مركز البشر وسيدهم، وتصبح بقية العالم مجرد هامش. على أن الشعب مركز الحلول والكمون يفقد هو أيضًا وجوده ومعناه الإنساني بتحوله إلى تجسد «إلهي» (حلولية صلبة)، ولكن حينما يختفي فيه الكل في الجزء، والجزء في الكل، ويختفي فيه معنى الوجود تمامًا، يتم فقدان المركز (واحدية سائلة).

4. الهوية

-في المنظومة التوحيدية، الكل متجاوز للجزء، ولكن الجزء (مع هذا) له وجود حقيقي، فثمة انفصال بين الكل والجزء، ولكن ثمة اتصال أيضًا؛ اتصال لا تمحي معه المسافة بينهما. وهذه المسافة التي لا يمكن اختزالها، وهذه العلاقة مركبة من اتصال وانفصال دائم بسبب تجاوز المركز، هو ضمان أن يكون الجزء ليس ذرة لا معنى لوجودها، وإنما هو وحدة مهمة، له دلالة ومعنى وغرض واتجاه محدد، وقيمة مطلقة، وله تعينه الشخصي ومنحناه الخاص. وهويته المستقلة هوية لا يمكن أن تُمحى؛ إذ لا يمكنه أن يذوب في الكل. وتتكرر علاقة الاتصال والانفصال هذه؛ فأي جزء في العالم لا يمكن أن يكون مجرد تفصيلة لا طائل من ورائها، ولا وجود حقيقيًا لها، أو هوية، ووجود المركز المتجاوز هو ضمان أنها جزء مهم له حدوده الخاصة، وخُلِق لسبب معلوم، ويتحرك لهدف وغاية لكن تماسك الهوية يعني الاعتراف بالآخر، فهو أيضًا له هويته، وكيانه وانفصاله واتصاله بالكل.

-وفي المنظومة الحلولية الكمونية يحل «الإله» في الكون ويكمن فيه. وإنْ تركَّز الحلول والكمون الإلهي في فرد فإنه يصبح الأنا المقدسة، والمركز المطلق. وإنْ تركز في شعب فإنه هو وحده يصبح ذا هوية ومعنى، ويسقط الآخرون تمامًا. ومع هذا يلاحظ أن هوية الأنا المقدسة، أو الشعب المقدس، هوية عامة لا خصوصية لها، أو تعين إنساني، إذ إن الجزء يلتحم بالكل فيُفقد التجاوز ويختفي، وتنزوي كل الحدود والهويات والأهداف والاتجاهات، وتضمر الذات ثم تختفي، تمامًا مثلما يختفي الآخر، وتتساوى كل الأشياء وتتم تسويتها.

5. التوحيد والواحدية (مشكلة الوحدة والتنوع)

-مما تقدم، يمكننا أن نقول إن التوحيد غير الواحدية، والتوحيد هو الإيمان بإله واحد متجاوز للعالم، ولكن تجاوزه لا يلغي العالم، إذ يظل العالم بتنوعه وشخصيته قائمًا، حقيقة لا وهمًا، بل إن أحادية الإله هي ضمان تعددية العالم، فهو وحده الواحد الأحد. لذلك، يمكننا أن نصف الرؤية التوحيدية بأنها رؤية ناضجة؛ إذ يظل الإنسان جزءًا من كل، جزءًا له استقلاله وحرمته ومسؤوليته رغم انتمائه للكل (وهذا ما نسميه النزعة الربانية).

-لا يوجد في المنظومة الحلولية الكمونية توحيد، وإنما واحدية، وتنبع الواحدية من الالتصاق والتوحد، فتختلط كل العناصر وتذوب في الكل العضوي الأعظم، وتفقد هويتها واتجاهها المستقلين. ومن هنا، فإن الرؤية الحلولية الكمونية هي حل انسجامي ينم على عدم النضوج، وعلى الخوف من الهوية التي يعني وجودها عبء المسؤولية، وحتمية الاختيار (وهذا ما نسميه النزعة الجنينية).

6. الإنسان والكون

-يُلاحظ أن الإنسان في المنظومة التوحيدية يحتفظ بهويته ومكانته في الكون باعتباره مستخلفًا فيه، ولذلك فإن الهدف من وجوده هو التوازن مع الذات ومع الطبيعة. ولكنه، على أية حال، توازن لا يخل بمركزيته وبمسؤوليته. وهكذا، فإن ثنائية الإنسان والطبيعة، وكذلك أسبقيته عليها، لا يمكن محوها.

-أما في المنظومة الحلولية الكمونية الواحدية فإن الإنسان إما أن يصبح المركز الأوحد الذي يغزو العالم ويهدم كل المخلوقات، وإما أن يذوب في الطبيعة تمامًا حتى يصبح جزءًا منها؛ وبهذا فإن تلك الثنائية تُصفى، وكذلك الأسبقية.

7. المنظومة المعرفية

يمكن الإنسان في المنظومة التوحيدية أن يصل إلى المعرفة من خلال حواسه وعقله وحدسه وإيمانه، وهو لن يصل إلى اليقين المطلق الذي يؤدي إلى التحكم الكامل في الكون، ولكنه يصل إلى قدر معقول من المعرفة يمكنه من التعامل مع الواقع. ووجود الإله المتجاوز هو الضمان في أن هذه المعرفة صادقة إلى حد كبير، وأنه يمكن أن يتم التواصل بين البشر من خلال لغة مفهومة.

-لا توجد معرفة في المنظومة الحلولية الكمونية الروحية، وإنما يوجد عرفان نتيجة للتواصل (الجسدي المادي، أو الروحي) المباشر بين الخالق والمخلوق. والمعرفة التي يصل إليها المرء عن طريق العرفان معرفة يقينية مطلقة تُمكِن صاحبها من التحكم في الكون، ومن هنا ارتباط المنظومات الحلولية بالسحر؛ فالساحر هو إنسان يحاول أن يتوصل إلى الصيغة السرية، أو شيفرة الكون، حتى يمكنه التحكم في القوة، أو القوى الخفية الكامنة في الظواهر. ولكن، إن لم يحصل العرفان فلا معرفة على الإطلاق، وإنما يكون ثمة ظلام دامس وعَدَم، وخضوع للمصادفة وحركة المادة. أما في المنظومة الحلولية الكمونية المادية، فإن المعرفة هي انعكاس للواقع المباشر والإمبريقي على المخ، وهي أيضًا إما معرفة علمية موضوعية مطلقة يمكن عن طريقها التحكم في قوانين الضرورة، أو أحاسيس ذاتية نسبية ليس لها مشروعية خارج حدودها. واللغة إما حرفية جبرية واحدية بسيطة توصل الأفكار الواحدية، أو لا توجد لغة؛ ومن ثم لا توجد وسيلة للتواصل.

8. الزمان (الماضي والحاضر والمستقبل)

-إن الزمان في المنظومة التوحيدية له معنى وله اتجاه، وهو مجال الإثم والتوبة، ورقعة الحرية التي يجتهد فيها الإنسان ويخطئ ويصيب. وتعاقبه، وعدم سقوطه في الحلقات الدائرية، يعني أنه مجال حرية الإنسان، وأن ثمة مجالًا دائمًا للخلاص في المستقبل (في اللحظة التالية)، وأن هناك إيمانًا بالخلود والبعث والثواب.

-أما الزمان في المنظومة الحلولية الكمونية الواحدية فيفقد استقلاله أيضًا؛ إذ إنه يصبح موضع الحلول والكمون، مشبعًا بالقداسة، أو يصبح لا قداسة له ولا معنى؛ مجرد لحظات متكررة، ومن ثم يكون دائري الشكل .. وعادة ما يكون الماضي البعيد، أو المستقبل البعيد، هو لحظة الحلول والكمون. ودائرية الزمان، تلك الدائرية العبثية التي لا هدف لها، ولا مجال فيها لحرية الإنسان، تُسقط حرية الإنسان، ولا يوجد خلود، وإنما تناسخ أرواح، وعود أبدي.

9. المنظومة الأخلاقية

-الإنسان الذي يؤمن بإله متجاوز تحدّه الحدود، ويتمتع بهوية متعينة، وبقدر من الحرية. وهو إنسان يدرك أصله الرباني، ولذلك فهو قادر على الاختيار، وعلى تجاوز ذاته الطبيعية، وعلى الاحتكام للقيم الأخلاقية المتجاوزة لإرادته، ويمكن الحكم عليه من منظورها.

-وفي المنظومة الحلولية الكمونية لا داعي لتجاوز العالم (الطبيعي)، فالعالم مكتفٍ بذاته، وهو مصدر القيم، وكل الأمور متساوية فيه؛ ولا داعي لتجاوز الذات، فهي جزء من العالم الطبيعي. والشر وهْم، فالعالم الطبيعي (ككل) خيِّر (والشر هو جهل هذه الحقيقة). ومن يدرك هذه الحقيقة يصل إلى الحق والخير (ومن هنا الخضوع التام للحتمية باعتباره السلوك الوحيد المتاح، والرغبة العارمة في العودة إلى الروح). ولكن، يمكن أن يتوحد الإنسان بالمطلق، ولهذا فهو لا يحتكم إلى أي مطلقات، ولا يمكن الحكم عليه من منظورها، وتظهر إرادة القوة كمقياس وحيد.

10. المساواة والتساوي

-ثمة ثنائية في العالم، وثمة مركز للعالم متجاوز له. لهذا السبب، فإن العالم يأخذ شكل هرم؛ قمته غير منظورة، إذ يوجد فيها الإله المفارق، وقاعدته هي العالم (الإنسان والطبيعة). وثمة أسبقية للإنسان على الطبيعة؛ فهو يقف في مركز الكون على درجة أعلى من كل الكائنات الأخرى، وإن كان يربطه بها رابط. ويربط بيجوفيتش[1]  بين فكرة الخلق (التوحيدية)، وهي تؤكد أصل الإنسان الرباني، وفكرة الخلود والبعث من جهة، ومفهوم المساواة من جهة أخرى. ففكرة الخلق والخلود تعني أن الإنسان ليس مكونًا من جوهر واحد أو مادة وحسب، لأنه يتسم بالثنائية، فهو مادة وروح. وغياب عقيدة الخلق والخلود يعني انتفاء التمييز بين الإلهي والطبيعي، ومن ثم ينتفي التمييز بين الإنساني والطبيعي. ولكن فكرة المساواة المطلقة بين البشر باعتبارهم مخلوقات الله، وباعتبارهم جوهرًا إنسانيًا منفصلًا عن الطبيعة، هي فكرة دينية محضة مرتبطة تمام الارتباط بفكرة الخلق من عدم، وبالخلود، وبالجوهر الإنساني المتميز الذي يحوي القبس الإلهي. فإذا لم يكن الله موجودًا، أو إذا كان حالًا وكامنًا في المادة، فإن الناس يكونون غير متساوين البتة. ولتوضيح هذه الفكرة يمكننا القول: إن غياب الإله يعني أن ثمة تساويًا بين الإنسان وكل الكائنات، وأن ما يسري عليه يسري عليها. وحينئذ يصبح من السهل على العلم الطبيعي، من خلال الملاحظة الموضوعية، أن يقرر اللامساواة بين الناس على أساس حجم الجمجمة، أو درجة الذكاء، أو القوة العضلية، أو المقدرة الإنتاجية، أو لون الشعر والعيون، أو أي صفة مادية أخرى – فالعنصرية العلمية ممكنة جدًا، بل ومنطقية – ما دمنا حذفنا المدخل الديني (التوحيدي) من حسابنا. وهكذا، سرعان ما يمتلئ المكان بأشكال اللامساواة عرقيًا، وقوميًا، واجتماعيًا، وسياسيًا. وإذا أضفنا إلى هذا، الرغبة الطبيعية/ المادية في السيطرة لدى الإنسان، فإنا سنكتشف أنه تأسيسًا على الدين فقط يستطيع الضعفاء المطالبة بالمساواة. ومن ثم، فإن علم الأخلاق يرتبط هو أيضًا بالعلاقة بين المساواة وفكرة الخلود. وانطلاقًا من هذا نجد أن النظم الدينية والأخلاقية التي لا تعترف بالخلود، أو لديها فكرة مشوشة عنه لا تعترف نتيجة لذلك، بالمساواة. كما نجد أن النظم التوحيدية نُظم تأخذ شكلًا هرميًا، ولكن يمكن تحقيق المساواة الإنسانية المبدئية داخلها بسبب وجود الإله خارج العالم المادي، وبسبب تميز الجوهر الإنساني عن الطبيعة؛ وهو ما يسمى بالاستخلاف في الإسلام.

-في النظم الحلولية يكون مركز العالم كامنًا فيه؛ ولهذا لا ثنائية بين الإنسان والطبيعة، ولا أسبقية له عليها، وليس له أصل رباني، ولا جوهر إنساني متميز؛ يسري عليه ما يسري على الكائنات الأخرى، ويتم تسويته بها. وبهذا، فإن هذه النظم تأخذ شكل فطيرة مسطحة، ولكنها تأخذ شكل هرم مدبب أيضًا؛ إذ إن بعض الأفراد أو الشعوب يمكنهم أن يصبحوا موضع الحلول والكمون، ومن هنا تنتفي المساواة، ويظهر التنظيم الطبقي الصارم، كما هي الحال في النظام المغلق للفئات في الهند والمرتبط بعقيدة تناسخ الأرواح في الهندوكية.

11. التواصل بين الخالق والمخلوق

-يتواصل الله مع الإنسان في المنظومة التوحيدية بأن يرسل إلى البشر أنبياء ورسلًا لا يتجسد فيهم؛ فهم حملة رسالته المخلصون الأمناء وحسب، وهم قدوة حسنة وحسب، لا عصمة لهم، ولا يستمر الوحي الإلهي إلى ما لا نهاية، وإنما ينتهي بخاتم المرسلين.

-أما في المنظومة الحلولية الكمونية، فإن «الإله» يتواصل مع مخلوقاته من خلال تجسده في الدنيا، ومن خلال حلوله (كمونه) في أحد مخلوقاته، أو في بعضهم، أو فيهم كلهم. وحتى حينما يبلغ البشر بكلمة، فإن الكلمة عادة ما تتجسد لتصبح جسده وامتداده في الأرض؛ فيصبح حامل الرسالة ليس مجرد رسول، وإنما تجسيدًا للإله، ولهذا فهو مصدر البركة وهو معصوم، بل إن التجسد والعصمة يتوارثان عبر الزمان. ويمكن أن يتجسد «الإله» في قوانين العالم المادي، والمهم دائمًا هو اختزال المسافة حتى تتوحد كل المخلوقات في كيان عضوي واحد، وحتى يصبح العالم المادي هو ذاته العالم الروحي، ويصبح «الإله» هو جسده، ويصبح جسده هو الدنيا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منقول بتصرف من:

عبد الوهاب المسيري (2018). الحلولية ووحدة الوجود/ تقديم هبة رءوف عزت، عبد القادر محمد مرزاق. ط. 1. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر. ص ص. 49- 62.

** أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن بكلية البنات جامعة عين شمس.

[1]  انظر: علي عزت بيجوفيتش هروبي إلى الحرية، ترجمة إسماعيل أبو البندورة (بيروت: دار الفكر المعاصر؛ دمشق: دار الفكر، ١٤٢٢هـ / ۲۰۰۲م)، شذرة رقم ١٢٣٦، ص ٢٧٣ [المراجع].

عن عبد الوهاب المسيري

شاهد أيضاً

ازدواجية التنوير: دراسات في النقد الثقافي المقارن

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

ازدواجية التنوير: دراسات في النقد الثقافي المقارن

التكامل المعرفي عند أهل النظر التوحيدي

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

التكامل المعرفي عند أهل النظر التوحيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.