عَقَدَ مركز خُطوة للتوثيق والدراسات يوم السبت الموافق 22/ 02/ 2025 الساعة 11 صباحًا، حلقة نقاشية حول الورقة التي أعدها أ. د. شريف عبد الرحمن سيف النصر بعنوان “السنن والتنظير: مساحات الالتقاء والافتراق”. وقد حضر الحلقة النقاشية كلٌ من:
أ. منال يحيى شيمي “مدير الجلسة”
أ. أحمد عبد الرحمن خليفة.
أ. د. أماني صالح.
أ. د. أميمة أبو بكر
أ. أيمن شحاتة
د. سوسن الشريف.
أ. عبد الرحمن عادل
أ. محمد الديب.
أ. ميار يحيى.
أ. مهجة مشهور.
د. هاني محمود حسن.
أ. وليد محمد القاضي.
الورقة التي أعدها أ. د. شريف عبد الرحمن سيف النصر لهذه الحلقة النقاشية
السنن والتنظير
مساحات الالتقاء والافتراق
مقدمة:
خلال عصر التنوير الغربي (القرن الثامن عشر) وما تلاه، تأسس “التنظير العلمي” على الإيمان المطلق بقدرة العقل البشري على فهم العالم وحل مشكلاته، مما أدى إلى استبعاد الغيب، والاقتصار على التفسيرات المادية القائمة على الملاحظة والتجريب والقياس. وقد تميزت هذه المرحلة بانفصال واضح عن الدين، حيث تم رفض أي وصاية دينية/أخلاقية على التفكير أو الإبداع، واقتصرت النظرة إلى الدين في أحسن الأحوال على كونه شأناً فردياً يخص حياة الإنسان الخاصة، دون اعتباره موضوعاً للعلم أو مدخلاً لاستخلاص الحقائق. بعبارة أخرى، تم استبدال المرجعية العقلية بالمرجعية الدينية، مع التركيز على الإنسان الفرد باعتباره القيمة المركزية والمحور الأساسي للوجود، وهو ما رافقه رفض للتقليد وإيمان بالحرية والتقدم المستمرين.[1]
وكما تأثر التنظير بخصائص عصر التنوير العقلانية، فقد تأثر بخصائص فلسفة الحداثة الاختزالية، حين أصبح هدفه الأساسي تفسير/تبسيط الظواهر المعقدة والمليئة بالتفاصيل والمتغيرة باستمرار (نزع السحر عن العالم) وصياغة هذه الظواهر ضمن مقولات واضحة، تنفي التنوع والغموض، وتفترض كونية العلم الغربي ومنتجاته المعرفية، دون اعتبار كبير للسياقات والأطر الحضارية التي أنتجت ضمنها هذه المقولات والمعارف. وذلك بهدف ممارسة التحكم العقلاني في الظواهر، وتحقيق التقدم باعتباره الغاية الكبرى.[2]
وفي إطار الخصائص السابقة للتنظير الحديث، ساد توجه نحو “التبسيط” ونفي التعقيد، عبر استبعاد التفاصيل التي يُظن أنها غير ذات صلة بالظاهرة المدروسة، والتركيز فقط على طرفي العلاقة التي “تفسر” الظاهرة محل الاهتمام، مع اعتبار أن أحدهما يؤدي إلى الآخر بشكل مباشر ودون تدخلات معقدة. هذا التبسيط يَفترض أن التفاصيل التي لا يمكن قياسها أو ملاحظتها بشكل مباشر، مثل العوامل النفسية أو الرمزية، هي مجرد شوائب أو عناصر زائدة لا تُساهم في تفسير الظاهرة. وفي هذا السياق أعيد التأكيد على المقولة الشهيرة المعروفة بـ”شفرة أوكام” (Ockham’s Razor)، والتي تنص على ضرورة استبعاد التفسيرات البعيدة والتركيز على الضروري منها. وبطبيعة الحال، في إطار التنظير الحديث، اعتبر الدين والغيب من التفسيرات غير الضرورية (البعيدة) التي يجب استبعادها، بما يتماشى مع التوجه نحو تفسير الظواهر على أساس مادي وعقلاني بحت.
“النظرية” في الإطار الحضاري الإسلامي
لم تحظَ النظريات في الإطار الحضاري الإسلامي بنفس الشهرة التي نالتها في السياق الغربي. فالتنظير الحداثي المتفرع عن رؤية مادية اختزالية تستبعد الغيب، وتقلل من أهمية القيم، وتراهن على التقدم المستمر، وتفترض إمكانية تحقيق السيطرة الكاملة على العالم وظواهره من خلال مجموعة محدودة من المتغيرات والمقولات، هذا النوع من التنظير لم يتلاءم مع الإطار الحضاري الإسلامي الذي تشكّل تحت تأثير روح الوحي، على نحو انعكس بشكل واضح على علومه ومعارفه ومناهجه، وأضفى عليها طابعاً خاصاً يختلف جذرياً عن الرؤية المادية الاختزالية.
فمن جهة، تفاعل الوحي مع الواقع، ونزل منجمًا ومتدرجا، استجابةً للتفاصيل الحياتية الجارية، ومراعيا لتطورها، فانعكست هذه الطبيعة التفاعلية على العلوم والمناهج الإسلامية، ومن قبلها على العقلية الإسلامية، ونشأت فيما بينها وبين الواقع علاقة عضوية، لم تسعَ (العقلية الإسلامية) في إطارها إلى اختزال الواقع أو صب أفراده في قوالب نظرية جامدة، وإنما اتسمت بمرونة واستيعاب كبيرين لمفهوم التنوع، باعتباره جزءًا أصيلًا من مكونات الوجود الاجتماعي.
ومن جهة أخرى، فإن الوحي كما تفاعل مع الواقع، وقدم حلولاً عملية لقضاياه، فإنه وجه الإنسان المسلم نحو الغيب، كيما يمنحه رؤية أوسع للحياة والوجود. فالوحي الإسلامي الذي تعامل مع الإنسان ككائن مركب من روح وجسد، وازن بين احتياجاته المادية ومتطلباته الروحية؛ فدعاه إلى السعي في الأرض والعمل فيها، مع وضع ذلك ضمن سياق العبادة والارتباط بالخالق (سبحانه).
وقد تجسدت المنتجات الفكرية للعقلية الإسلامية، بهذا المفهوم المركب، في صورة اجتهادات مستوعبة لمنطق السنن التي تحكم حركة الواقع، فتراعي تنوعه وغناه، وفي الوقت نفسه، تستلهم قيم الوحي ومبادئه، على نحو يجمع بين عالمي الغيب والشهادة، ويمنح الإنسان القدرة على المبادرة بالأفعال واتخاذ القرارات، في الوقت الذي يذكره بأن أفعاله لها ضوابطها وتبعاتها في الدنيا الآخرة، مما يخلق لديه إحساساً بالمسؤولية الأخلاقية عن أفعاله.
هذا الاجتهاد السنني يوجه الإنسان إلى أهمية النظر في الوجود والكشف عن قوانينه، من دون الطموح إلى الإحاطة به أو تلخيصه ضمن مقولة/مقولات نهائية وشاملة (على نحو ما يسعى إليه التنظير الحديث)، وذلك تسليما بمحدودية قدرات الإنسان، واعترافا بتعقد الواقع الإنساني وتنوع مدخلاته. بدلاً من ذلك، يقدم الاجتهاد السنني مقولات تأخذ بعين الاعتبار التنوع الحاصل بفعل اختلاف الزمان والمكان والأفراد والأحوال. مع النظر إلى هذا التنوع لا كعقبة يتعين التخلص منها، وإنما كملمح أساسي من ملامح سنن الله في الخلق.
وعليه فإنه في الوقت الذي يميل فيه التنظير الحديث إلى صياغة نظريات مادية، كلية وشاملة، تتعثر عادة في استيعاب تعقد الوجود الإنساني، يقدم الاجتهاد السنني نموذجاً أكثر مرونة واستيعابا، يتجنب فرض رؤية اختزالية على الواقع، ويركز على التعامل مع الواقع كما هو، مع الأخذ في الاعتبار تداخل عالمي الغيب والشهادة.
نحو اجتهاد/تنظير سنني![3]
لا تستهدف هذه الورقة إذن الدعوة لنبذ التنظير أو دحض أهميته، بقدر ما تلفت إلى جدوى التفكير فيه وممارسته من خلال مدخل سنني، يوجهه ناحية الأغراض البحثية التي تتناسب مع خصائص المنظور الحضاري الإسلامي. فالسنن تصلح خلل التنظير، وتموضعه في الموضع الذي لا يتعارض مع خصائص الوحي الإلهي. فتعيد الاعتبار للغيب، والقيم، والغائية، ومسئولية الإنسان أمام خالقه.
أما عن المبررات العملية للاقتناع بصلاحية هذا المدخل فيكفي القول إن السنن قد مثلت أحد مظاهر الفاعلية في إطار الحضارة الإسلامية. فعبْر استيعاب السنن وتفعيلها، استطاع المسلمون مواجهة تحديات ومشكلات اجتماعية وروحية عجزت حضارات أخرى عن التعامل معها. وعلى حد البعض فإنه في الوقت الذي اعتمدت فيه العديد من التشكيلات الحضارية على آليات الضبط والتحكم والإكراه من خلال النظم القانونية والاقتصادية والأمنية البحتة، فإن الحضارة الإسلامية، المستلهمة لمعنى السنن، قدمت مقاربات مزجت بين القانون والأخلاق، وبين العقل والإيمان، وبين الاستقراء والاستنباط، وبين الحس والحدس. هذه المقاربات تضمنت حلولًا متوازنة سواء على مستوى تنظيم العلاقات الاجتماعية، أو تقديم إجابات على الأسئلة الوجودية.[4]
التعريف بالسنن
السنن هي تلك المعاني المستقرة، والعلاقات المطردة بين المقدمات والنتائج، التي تحكم حركة المجتمعات والأمم، وتؤكد على وجود نسق للعالم (بشقيه الطبيعي والاجتماعي) أي وجود نظام دقيق محكم، مصدره هو الخالق الذي انبثق عن مشيئته هذا الوجود، فالسنن هي ذلك المبحث الذي يؤكد علاقة المخلوقات بخالقها، والقوانين بموجدها.[5]
وقد عرفها صاحب المنار بقوله: “السنن هي النظام الذي جرى عليه أمر الأمم، وإن ما يقع للناس في كل زمان وفي كل مكان من الوجود في شئون اجتماعهم وحياتهم مطبق لتلك السنن التي لا تتحول ولا تتبدل”[6]. السنن بهذا المعنى هي مما يضفي “منطقاً” على العالم، ويجعل منه وسطاً قابلاً للفهم والحركة، لأنه إذا كان كل شيء يحدث وفقًا لسنة يمكن تحديدها، فإن في هذا ما يسمح للإنسان بأن يرى العالم كنسق معقول، حيث لكل فعل نتيجة، ولكل نتيجة مقدمات. وهذا هو ما يعطي الإنسان القدرة على استشراف الأحداث وتوجيهها إلى ما فيه صلاحه.[7]
والسنن هي مما يمكن اكتشافه فهي في متناول العقل، لأن مقصودها هو المساعدة في توجيه الحركة الواقعية والعملية، وتحقيق النفع والإصلاح.[8] ومن السمات الأساسية للسنن استقرارها واتساقها،[9] فالسنن ليست كالنظريات التي تتقادم وتنتهي صلاحيتها التفسيرية بعد حين، وإنما هي أنساق قادرة على استيعاب التغيرات المستمرة التي تحدث في حياة البشر، سواء كانت هذه تغيرات في الثقافة أو الاقتصاد أو التقانة أو حتى في النظم الاجتماعية والسياسية. هذه التغيرات لا تؤدي إلى انتهاء أو تجاوز السنن، بل تظل السنن حاكمة على كل ما يستجد من تغيرات.[10] من ناحية أخرى فإن السنن متسقة، إذ لا يُتصوَر أن يكون ثمة تناقض بين السنن وبعضها البعض، وإنما هي تعمل في تناغم، وتكامل، وتناسق، وتوازن، على نحو يخلو من أي شبهة تعارض أو تناقض أو عشوائية.
السنن أيضا تعبر عن نظام تفاعلي، منفتح أمام الانخراط فيه وتحديد نتائجه، ما يفسح المجال لفهم إيجابي للعلاقات السببية التي تحكم الظواهر، ويفسح المجال أمام الإنسان ذي الإرادة الحرة للتفاعل مع قوانين الوجود الاجتماعي. هذا التفاعل يبرز دور الإنسان كفاعل مؤثر، حيث يمكنه تسخير السنن لصالحه عبر العمل وفق مبادئها وقواعدها.
وإذا كان الأصل في السنن الشمول، فإن هذا الشمول لا يمنع من تنوع السنن في الرتبة والطبيعة، فهناك سنن التسخير (سنن الآفاق)، وسنن التسيير (سنن الأنفس)، وثمة سنن تخص جماعة المؤمنين، وسنن للكافرين، وسنن للمنافقين، وسنن للأنبياء وسنن للبشر العاديين، وهناك سنن نقلية تم النص عليها في الوحي الشريف، وسنن عقلية يمكن للإنسان أن يستخلصها بإعمال العقل واستقراء الواقع. ولكلٍ رتبة، ولكلٍ نطاق للتطبيق، وربما تحدث تقاطعات بين السنن، فتسري السنة الواحدة على أكثر من جماعة، كما تسري على الجماعة الواحدة أكثر من سنة.
والسنن لا تتبع رغبات وانحيازات الأفراد، ولا تخضع لتصوراتهم الشرطية البسيطة، تلك التصورات التي تتوقع العقوبة الفورية للظالمين والمكافأة الفورية للمطيعين، فكما روي عن ابن مسعود (رضي الله عنه) إن الله “لا يعجل لعجلة أحد … ما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مقرب لما باعد الله ولا مبعد لما قرب الله.” (الطبراني: المعجم الكبير)، الأمر الذي يتطلب من الباحث الذي ينوي توظيف هذا الاقتراب أن يمتلك عقلية مركبة تستوعب تداخل السنن وتكاملها وتفاعلها، وتصبر على فك شفرة الواقع، حتى تتبين أي نسق من السنن ينطبق على تفاصيله.
وكما يعول مدخل السنن — بشكل أساسي— على المصادر الأصولية من قرآن وسنة، فإنه يستلهم مادته أيضا من حقائق الوجود[11]، ومن الخبرات الاجتماعية ومن التاريخ، وذلك عبر الاستقراء العام للسجل التاريخي، بحثاً عن النمط المطرد لتفاعل الأسباب والنتائج، وسعياً للوصول إلى منهج متكامل في التعامل مع الظواهر الاجتماعية، على نحو يتجاوز أغراض العرض والتجميع، إلى محاولة استخلاص القوانين التي تحكم الظواهر.[12]
في سياق المقدمات السابقة وفي ضوء وصول حركة التاريخ إلى مرحلة تهيمن فيها الرؤية الحداثية والتنظير الحداثي على العقل المسلم، وتمارس نفوذها عليه عبر قنوات متعددة وبأساليب متنوعة، فإن الحاجة تدعو إلى التفكير في كيفية استعادة بعض ملامح المنهجية الإسلامية، التي تتميز بطابعها الاجتهادي، وفهمها السنني، وتواضعها التنظيري، على نحو يعيد ضبط بوصلة النشاط البحثي ويؤكد ارتباطه بقيم الوحي ومعانيه.
هذا وتأمل هذه الورقة أن تثير نقاشا حول إمكانات مقاربة الظواهر الاجتماعية من خلال مدخل السنن، والخطوات المنهجية التي ينبغي أن تسبق وتصاحب وتلي هذه المسيرة، والتحديات التي يمكن أن تثور في وجهها، وسبل التغلب عليها أو تذليلها. كما تشجع الورقة ممارسة العصف الذهني الجماعي بشأن النماذج الممكنة لتطبيق اقتراب السنن، ومدى النجاح المتوقع لها في تحقيق المقصود منها، وسبل تجاوز أوجه القصور التي قد يثيرها غلبة الحماس الديني والإيماني على جودة البحث العلمي، وتحقيقه لمقصوده وغاياته.
والله من وراء القصد
والحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] يذهب حسن حنفي إلى أن فكرة النظرية نشأت بعد أن تمت تعرية الواقع الأوربي من أغطيته القديمة الموروثة عن العصر الوسيط المسيحي الكنسي، وقد نشطت حركة تكوين النظريات خلال القرن السابع عشر في محاولة لإيجاد أنساق كلية شاملة. انظر: حسن حنفي، دراسات فلسفية: في الفكر الإسلامي المعاصر (وندسور: هنداوي، 2017).
[2] تشير الحداثة إلى تحول فكري وثقافي شامل بدأ في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مرتبط بعصر التنوير، ونمو العقلانية، والعلمانية، والفردية. وكان التصنيع محركًا أساسيًا لنشر الحداثة، حيث وفّر الوسائل لتحويل المجتمعات من أنماط الحياة التقليدية إلى أنماط حديثة. من خلال نشر التحضر والنقل السريع للمعرفة والمنتجات (بفضل السكك الحديدية، الطباعة، وغيرها من ابتكارات التصنيع). وقد عززت الحداثة النظرة العالمية، التي تتجاوز السياقات المحلية، كما تمثل في الاستعمار والإرهاصات المبكرة للعولمة الاقتصادية والثقافية والسياسية، وقد تميزت نظريات هذه المرحلة (كما في النظريات الاقتصادية والسياسية، وحتى نظريات العلاقات الدولية) بالتعامل مع العالم ككل واحد، لا يعرف الخصوصيات.
[3] للتفصيل الذي لا تتسع له هذه الورقة يرجى مراجعة دراسة اقتراب السنن وتوظيف التاريخ في حقل العلاقات الدولية، ضمن أعمال مؤتمر نحو مدرسة حضارية في نظرية العلاقات الدولية، (القاهرة: دار الكتاب المصري، 2024)، ص ص
[4] انظر حول هذا المعنى وائل حلاق، الدولة المستحيلة (الدوحة: المركز العربي للأبحاث، 2014)، ص 290، سيف الدين عبد الفتاح، مدخل القيم، في نادية مصطفى، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996)، ص 332.
[5] السنن جمع سنة وهي الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة أو المثال المتبع، قيل إنها من قولهم: سن الماء إذا والى صبه، فشبهت العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب، فإنه لتوالي أجزائه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد. يقول صاحب المنار: “إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم المدونة لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه. والعلم بسنن الله – تعالى – من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن سجل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها، ولا يحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لها فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت لها الأصول والقواعد، وفرعت منها الفروع والمسائل”. محمد عبده، محمد رشيد رضا، تفسير المنار (بيروت: دار المعرفة)، (1/141)
[6] محمد عبده، محمد رشيد رضا، تفسير المنار (بيروت: دار المعرفة)، (1/141)
[7] قد يذهب البعض إلى أن معنى السنن متضمن في مفهوم الحتمية الاجتماعية. على اعتبار أن الحتمية الاجتماعية تمثل الإطار العام الذي يفترض وجود أنماط للعلاقات بين الأسباب والنتائج، وينفي فكرة الصدفوية أو الفوضوية. إلا أن مفهوم الحتمية الاجتماعية عادة ما يعطل دور الفاعل (Agent) ويركز على دور المنظومة (System) وما تنضوي عليه من قوانين، الأمر الذي لا يتسق مع مقولات مدخل السنن الذي يؤكد على أن للفاعل الاجتماعي دور مهم في إطار العلاقة المطردة بين الأسباب والنتائج، وأن دراسته أساسية في توجيه فهمنا وتحليلنا للظواهر الاجتماعية.
[8] في التصور الإسلامي يتجاوز مفهوم الإصلاح مفهوم المصلحة التي تتغير بتغير المنظومة المعيارية والقيمية وتغير الظروف والأحوال التي تعرف وفقا لها.
[9] يشار هنا إلى أن الاستقرار لا يعني الثبات أو الجمود، فالاستقرار يعني القدرة على التعاطي مع التغيرات، واستيعابها، كما في سنن التسيير التي رغم اطرادها إلا أنها تفتح الباب أمام الاجتهاد في التعامل مع مستجدات الواقع، كما سيأتي بيانه في الحديث عن أنواع السنن.
[10] على سبيل المثال، في الحياة الاجتماعية، قد تتغير عادات الناس وتقاليدهم بمرور الوقت، لكن تظل هناك سنن اجتماعية أساسية تحكم العلاقات بين البشر تظل قائمة، مثل سنن التعاون والتكافل. هذه السنن لا تنتهي صلاحيتها بتراكم التغيرات المجتمعية، بل تظل بمثابة المبادئ الأساسية التي يعتمد عليها النظام الاجتماعي والإنساني. تماما كما في السياق الطبيعي، حيث تعد قوانين الفيزياء مثالًا على السنن التي لا تتغير. فالجاذبية وقوانين الحركة والحرارة وغيرها، تبقى ثابتة بغض النظر عن التغيرات البشرية أو البيئية.
[11] سمى القرآن الكريم حقائق الخلق كلمات الله كما في قوله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقلَمُ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنْ بَعْدِهِ، سَبْعَةُ أَبْحُرِ مَا نَفِدَتْ كَلِمَتُ اللهِ (لقمان: 27، انظر: محمد أحمد الغمراوي، في سنن الله الكونية (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936).
[12] عماد الدين خليل، التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 8. حتى اعتبر البعض أن السنن التاريخية هي بمثابة آلة نحوية إعرابية للحركة التاريخية والفقه الحضاري، يتعذر فهم التحولات التاريخية السابقة دونها، وبها فقط نفهم علل الترقي والتدني، إذ الأمم لا ترتفع أو تنخفض إلا بعوامل الرفع والخفض، كما لا تجر؛ تبعية أو استعمارا، إلا بأدوات الجر الكامنة في أنفسها. انظر: عادل بوزيد عيساوي، فقه السنن الإلهية، ودورها في البناء الحضاري (الدوحة: وزارة الأوقاف، 2012).