الشيخ عبد الحميد بن باديس
رائد الحصانة الحضارية والثقافية
أ. يارا عبد الجواد*
يذكر المفكر الجزائري الأستاذ مالك بن نبي أنه ليس فقط ممارسات المستعمِر هي من تصبغ الشعوب المستعمرة بصبغة الضعف والمغلوبية، وإنما هناك عامل داخلي آخر يسمى بـ “القابلية للاستعمار”، ينبعث من داخل نفس الفرد الواقع تحت الاستعمار، وتظهر تجلياته في حالة الجهل والبطالة والانحطاط الديني والأخلاقي عند الشعب المستعمَر ذاته، ما يجعله تربة خصبة للمستعمِر وأهدافه. وبناءً على ذلك يكون من أجلّ وأهم أدوار مَن يقاومون الاستعمار أن يقاوموا أولًا هذه القابلية للاستعمار في نفوس شعوبهم، وهو ما فعله الشيخ عبد الحميد بن باديس أحد كبار علماء الجزائر الذي نضع بين يدي القارئ نبذه يسيرة عن حياته ونضاله ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، سالكًا بذلك طريق نشر العلم ورفع الجهل والعمل على الإصلاح المجتمعي بشتى جوانبه، مؤمنًا بأن هذا السبيل في مواجهة الاستعمار هو من أهم السبل، مقدمًا بذلك نموذجًا للعالِم الذي يعايش واقعه ويبث روح العمل فيما يقدمه من علم، فلم يكن رحمه الله حبيس التنظير بل كان عالمًا ومصلحًا مقاومًا يجسد العلم واقعًا حيًا.
أولًا: السيرة الذاتية
ولد الشيخ عبد الحميد بن باديس في مدينة قسنطينة شرقي الجزائر عام 1307 هجري/ 1889 ميلادي، أي بعد ستين سنة من بدء الاحتلال الفرنسي للجزائر، وهو ينحدر من أسرة (ابن باديس) وهي أسرة كريمة عريقة معروفة بالجاه، والغنى، ومشهورة بالعلم، والأدب. وقد كان لهذه الأسرة مقام كبير ومحترم لدى سكان قسنطينة ولدى الاحتلال الفرنسي أيضًا. فقد كان أبيه محمد المصطفى بن باديس حافظًا للقرآن ومن أعيان المدينة، واشتغل قاضيًا وعضوًا في المجلس الجزائري الأعلى. ومن رجال أسرته المشهورين المعز بن باديس، الذي أعلن انفصال الدولة الصنهاجية عن الدولة الفاطمية، وأعلن فيها مذهب أهل السنة. وكان جده أيضًا قاضيًا في قسنطينة وعضوًا في المجلس العام وفي اللجنة البلدية. وعلى الرغم من هذا الامتياز الذي كان للأسرة إلا أن الشيخ عبد الحميد بن باديس لم يستفد منه لتحقيق مآرب شخصية رغم العروض التي كانت تقدم له، بل على العكس من ذلك كانت مواقفه تعكس قوة تمسكه بدينه وهويته العربية الإسلامية والسعي لتحرير وطنه.
نشأ ابن باديس بقسنطينة، ورفض والده أن يلحقه بالمدارس الفرنسية ولذلك التحق بالكُتًاب لحفظ القرآن الكريم، ثم تعلم مبادئ العلوم الشرعية واللغة العربية، ثم انتقل ابن باديس إلى تونس لاستكمال تعليمه العالي في جامع الزيتونة، وفيه تلقى العلوم الإسلامية على أيدي مجموعة من كبار علماء تونس آنذاك أمثال العلامة محمد النخلي القيرواني، والعلامة الطاهر بن عاشور، والشيخ محمد خضر حسين والمؤرخ البشير الأصفر.
وفي عام 1913م عاد ابن باديس إلى قسنطينة وبدأ بتقديم دروسًا للطلبة في الجامع الكبير بقسنطينة، وفي نفس العام سافر ابن باديس إلى مكة لأداء مناسك الحج والتقى في المدينة المنورة بشيخه الونيسي وأراد البقاء معه هناك، إلا أنه نُصح بالعودة إلى وطنه والقيام بواجب الإصلاح وخدمة الدين واللغة العربية. وفي المدينة المنورة أيضًا تعرف ابن باديس على رفيق دربه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وبحثا معًا حال بلدهما ووضعا خطة للإصلاح.
وفي عام 1914م عاد ابن باديس إلى الجزائر بعد أن زار في طريق عودته عدة بلدان منها دمشق ولبنان ومصر واتصل بعلمائها. وممن اتصل بهم الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية وزميل الشيخ محمد عبده.
لما وصل الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى قنسطينة استأنف مباشرة نشاطه التعليمي والتربوي وكان يحضر له عدد هائل من الطلاب. فعندما كان يقدم درس تفسير القرآن عام 1914 كان يحضر له كل ليلة نحو ألفين طالب من سكان قسنطينة ونواحيها.
وفي عام 1919 أسس ابن باديس صحيفة النجاح، وفي عام 1925 أصدر ابن باديس صحيفة أسبوعية باسم “المنتقد” كان شعارها (الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شئ)، لكنها أوقفت بعد العدد الثامن عشر من قبل السلطات الفرنسية لحدة نقدها.
وفي عام 1925 أصدر ابن باديس صحيفة “الشهاب” التي كانت تجمع بين الأهداف الإصلاحية التربوية والحث على العدل وإحقاق الحقوق، ثم أوقفها عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية بعد أن وضعتها السلطات الفرنسية تحت إشرافها المباشر.
وفي عام 1926م أسس ابن باديس مدرسة للتعليم الابتدائي أطلق عليها اسم “المكتب العربي”. وفي عام 1930 أراد ابن باديس أن يطور المدرسة فأسس جمعية التربية التعليم، ودعا إلى تأسيس فروع لها في أنحاء الجزائر.
وفي عام 1931م أُسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وانتُخب الشيخ رئيسًا لها، وفي عام 1936 م تأسس المؤتمر الإسلامي الجزائري بدعوة من الشيخ ابن باديس وبمشاركة من السياسيين والعلماء للمطالبة بحقوق الجزائريين، وتم ترشيح الشيخ لرئاسة المؤتمر إلا أنه لم يقبل، لكنه سافر مع وفد منه للمفاوضة باسم الشعب الجزائري مع الحكومة الفرنسية لكن لم تكلل جهودهم بالنجاح.
لم يترك ابن باديس أية مؤلفات منشورة، ويقال إنه ألف الرجال ولم يؤلف الكتب، غير أنه ترك آثارًا كثيرة جمعها تلامذته في أعمال منشورة أهمها:
– تفسير ابن باديس طبعه أحمد بوشمال عام 1948[1]، كما ترك “كتاب العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية”، الذي طبعه تلميذه محمد الصالح رمضان سنة 1963 [2]، كما طبع كل من توفيق شاهين ومحمد الصالح رمضان كتاب “رجال السلف ونساؤه” عام 1966، ثم كتاب “مبادئ الأصول” الذي حققه ونشره الدكتور عمار طالبي سنة 1988.
كما خلف ابن باديس آثارًا عديدة نشرت على شكل مقالات وخطب ومحاضرات وقصائد شعر في صحف بينها المنتقد، والشهاب، والنجاح، والشريعة المطهرة، والسنة المحمدية، والبصائر.
وفي الثامن من ربيع الأول 1359هجري الموافق 16 أبريل 1940م توفي الشيخ ابن باديس متأثرًا بمرضه، وشيعت جنازته وسط جموع غفيرة تاركًا خلفه إرثًا علميًا ونموذجًا في المقاومة والإصلاح. وقد كان من بين الشخصيات التي شاركت في التشييع، الشيخ العربي التبسي، الذي ألقى خطابًا تأبينيًا، قال فيه: “لقد كان الشّيخ عبد الحميد بن باديس في جهاده وأعماله، هو الجزائر كلها فلتجتهد الجزائر بعد وفاته، أن تكون هي الشّيخ عَبد الحميد بن بَاديس”. وقد صار تاريخ وفاته يومًا للعلم ينشد فيه طلاب المدارس قصيدة ابن باديس الشهيرة “شعب الجزائر مسلم وللعروبة ينتمي”. فرحمه الله تعالى وتقبل منه.
ثانيًا: مكونات شخصيته ومنطلقات رؤيته
إذا أردنا الوقوف على العوامل المؤثرة في تكوين وبناء شخصية ابن باديس سنجد مجموعة من العوامل تتشابك وتتقاطع معًا ويمكن تقسيمها كما يلي:
1- ثبات وقوة البناء العقدي: فعلى الرغم من أن ابن باديس نشأ وتعلم في بيئة صوفية غارقة في البدع والانحرافات العقدية، إلا أن نزوعه إلى الاجتهاد والبعد عن التقليد كان سببًا في إقباله على القرآن والسنة والاهتداء بهما، وقد سعى بناءً على ذلك في إصلاح العقائد ومحاربة البدع على منهج أهل السنة.
2- البناء العلمي والفكري: لقد رُبي ابن باديس وتهيأ للعلم منذ صغره، فقد اتسم بالنبوغ والتفوق وحصَّل من العلم الكثير في سنوات عمره المبكرة، فحفظ القرآن وهو في الثالثة عشر من عمره، ثم ألحقه والده بالشيخ الونيسي ليتعلم العربية والعلوم الشرعية، ولما ظهر لشيخه نبوغه وتفوقه حرص على ألا يكون أداة في يد السلطات الاستعمارية فأوصاه بأن يطلب العلم للعلم لا للوظيفة، وعاهده ابن باديس ألا يقرب أي منصب لدى الحكومة الفرنسية، ثم وجهه لإكمال تعليمه في جامع الزيتونة والذي أتم فيها الدراسة التي تُحصل عادة في سبع سنوات في ثلاث سنوات فقط. بالإضافة إلى ذلك، فإن تلقي ابن باديس العلم على أيدي علماء كبار أمثال الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي وغيرهم كان أيضًا أحد العوامل الهامة في تعزيز تكوينه العلمي.
لقد كان ابن باديس شديد الحرص على تحصيل العلم حتى أن أحد تلاميذه يروي عنه ما يدل على ذلك فيقول: “قال ابن باديس كنت أسهر الليالي للدراسة والمطالعة، مستعينًا ببعض المنبهات، لكني حين أحس أن النوم يغالبني ولم تعد المنبهات تنفع في دفعه عمدت إلى مطرح أضعه على الأرض، وأضع مرفقي على الأرض أو أحدهما، فيلامس الآجر باردًا فاستيقظ، وأجدد مطالعتي حتى أفرغ منها”.
لقد اعتني ابن باديس – في رحلة تحصيله للعلم – بالقرآن وتفسيره عناية بالغة نبعت من يقينه بأن القرآن مصدر الهداية والإصلاح، كما أنه كان فقيهًا، وكان محبًا للشعر وله العديد من الدواوين، هذا بالإضافة إلى سعة اطلاعه وفقهه بالواقع وأحوال الأمة.
لقد تمتع ابن باديس بسعة في الفكر وتحررًا من أسر التقليد والجمود، وقد كان يحث طلابه على التفكير وترك التقليد، ويدعو إلى الأخذ بالأسباب المادية وطلب المعرفة بأية لغة ومن أي مصدر. وعلى الرغم من هذا الانفتاح الفكري الذي كان يدعو له ابن باديس إلا أنه كان ملتزمًا بثوابت الشرع وهذه سمة محورية في منهجه الفكري.
3- الجانب النفسي والخلقي: كان يوصف الشيخ عبد الحميد بن باديس بأنه حليم ومتسامح حتى مع المخالفين، وكان – رحمه الله – على قدر شديد من التواضع على الرغم من أنه من أسرة ذات جاه وغنى، وكان يرى أهمية أن يدور الإنسان مع الحق أينما دار نصرة له لا نصرة للذات، ولذلك تمتع بشخصية شجاعة عزيزة فرفض الكثير من العروض المادية والمعنوية التي قدمتها له السلطات الفرنسية ومنها ما قدمته له لحمله على تأييدها في الحرب العالمية الثانية، أو على حل جمعية العلماء المسلمين وغير ذلك من الأمور.
ثالثًا: المشروع الإصلاحي لابن باديس: الأهداف والوسائل الإجرائية
قبل الخوض في التجربة الإصلاحية للشيخ عبد الحميد ابن باديس علينا أن نقف قليلًا مع السياق المجتمعي المحيط بهذا المشروع الإصلاحي في ظل الاحتلال الفرنسي، فقد سعى المستعمر الفرنسي ليس فقط إلى نهب خيرات البلاد والاستيلاء عليها، بل كان يسعى إلى طمس الهوية الإسلامية والعربية للشعب الجزائري والتمكين للثقافات الفرنسية والغربية في المقابل. واتبعت فرنسا في ذلك سياسات وإجراءات عنصرية تقوم على التفقير والتجهيل والتنصير والفرنسة ووأد اللغة العربية وإحلال الفرنسية وتزوير التاريخ الجزائري وتفكيك الشعب وتقويض الوحدة الاجتماعية والتماسك الأسري وتحطيم النفوس وتفريغ البلاد من الرموز والقادة المصلحين.
وفي هذا السياق قام المستعمر الفرنسي بحرق الكثير من المكتبات العلمية الزاخرة بالكتب والمخطوطات العلمية وطمس المعالم والأسماء الإسلامية والعربية، وأحل بدلًا منها أسماء ومعالم فرنسية وغربية، وأغلق الكتاتيب والمدارس ووضع قيودًا على فتح مدارس جديدة، وافتتح مقابل ذلك مدارس تقوم على تحقيق أهدافه من تعليم الفرنسية وغرس القيم الغربية. كما شجع الهجرة الأوروبية إلى الجزائر حتى قارب عدد الفرنسيين والأوروبيين مليون نسمة قبل ثورة الجزائر 1954م، هذا بالإضافة إلى مواجهة الاحتلال للمقاومة الشعبية بشكل وحشي.
وبسبب هذه الإجراءات ومع مرور السنوات انتشر الجهل والأمية بين عامة الشعب الجزائري وتكونت نخبة جزائرية تؤمن بالقيم الفرنسية والمبادئ العلمانية وتدعم توجهات الاحتلال.
على صعيد آخر كان المجتمع الجزائري ذاته يعاني من أمور أخرى منها البعد عن منهج أهل السنة وانتشار البدع والخرافات، وكان الاحتلال يستغل هذه الحالة ويعمقها حتى يحطم الشخصية الجزائرية وبالتالي يقضي على روح المقاومة فيها.
في هذه الأجواء الذي يتعاضد فيها المعامل الاستعماري مع معامل القابلية للاستعمار كان عمل ابن باديس الإصلاحي الذي ارتكز على هدفين أساسيين مقاومة الإستعمار من جهة والإصلاح المجتمعي الداخلي. فقد كان ابن باديس مؤمنًا بأن الإصلاح الداخلي سيمهد الطريق للتحرير وأنه لا طريق لتحرر البلاد من المستعمر دون تحريرٍ للعقول مما بثه فيها من جهل وتشويه، ولذلك عمل ابن باديس بقوة على هذا الهدف.
وقد كان لابن باديس تصورًا دقيقًا وشاملًا لحال المجتمع الجزائري ويعبر عن ذلك بنص موجز فيقول: “انحطاط في الخلق، وفساد في العقيدة، وجمود في الفكر، وقعود عن العمل، واحلال في الوحدة، وتعاكس في الوجهة، وافتراق في السير. حتى خارت النفوس القوية وفترت العزائم المتقدة، وماتت الهمم الوثابة، ودفنت الآمال في صدور الرجال، واستولى القنوط القاتل واليأس المميت، فأحاطت بنا الويلات من كل جهة، وانصبت علينا المصائب من كل جانب”. لكنه في نفس الوقت لم يكن يائسًا متشائمًا، بل كان مؤمنًا بأن الشعب الجزائري ما زال ينبض بالحياة وأنه يحتاج مَن يعيده إلى ذاته الأصيلة، ولذلك كانت من أٌقوال ابن باديس “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب من قال إنه حاد عن أصله أو قال إنه مات، فقط كذب”.
من هنا اعتنى ابن باديس بعدة مجالات:
1- العقيدة: حرص ابن باديس على تعليم العقيدة من القرآن والسنة، وذلك في ظل انتشار بعض الطرق الصوفية المليئة بالأفكار البدعية المتعاونة مع الإحتلال بشكل أو بآخر، فكان ابن باديس يحارب البدع ويرد على المبتدعة في الصحف والرسائل، وكان يؤكد على أهمية إصلاح الخطاب الدعوي بناءً على ذلك.
2- التعليم والعلماء: لقد أولى ابن باديس التعليم أهمية كبرى في مشروعه الإصلاحي، وذلك نظرًا لتفشي الجهل جراء عملية التجهيل التي كان يمارسها الاحتلال، فكان التعليم يعاني من مشكلات متعددة خاصة في ظل عدم وجود مدارس نظامية يتعلم فيها النشء دينهم ولغتهم العربية، بعد ان أغلق الاحتلال المدارس العربية وفتح مدارس فرنسية بدلًا منها لتحقيق أهدافه.
كان ابن باديس يرى أن “صلاح التعليم أساس الإصلاح”. وفي مقالة له بنفس العنوان أوضح ابن باديس منطلق رؤيته الإصلاحية في مجال التعليم حيث قال فيها “لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم.. ونعني بالتعليم: الذي يكون به المسلم عالمًا من علماء المسلمين يأخذ عنه الناس دينهم، ويقتدون به فيه، ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا للتعليم النبوي في شكله وموضوعه، في مادته وصورته”. ويرى أيضًا ابن باديس أن التعليم الذي ينشده للأمة هو التعليم الذي ينشر فيها الحياة، ويبعثها على العمل، ويسمو بشخصيتها في سُلم الرقي الإنساني، ويظهر كيانها بين الأمم”.
وعلى الرغم من حث ابن باديس على أهمية الاعتناء بتعليم العلوم الشرعية واللغوية، إلا أنه كان يرى ضرورة الاهتمام أيضًا بعلوم الأكوان والعمران، ولو كانت تؤخذ باللسان الأجنبي، وكان يؤكد على أهمية التطبيق العملي لهذه العلوم.
على صعيد آخر لم يكن اعتناء ابن باديس بالتعليم منفصلًا ومعزولًا عن اعتنائه بالتربية، فلم يكن يقتصر على مجرد التعليم وتلقين المعرفة، بل سعى إلى تربية الطلاب على هذا العلم وبناء النفس الإنسانية من جميع جوانبها، لذلك كان طلابه شديدو التعلق به. ولقد جاء تتويج هذا الاعتناء الشديد بالتربية والتعليم بتأسيس ابن باديس مكتب للتعليم الابتدائي العربي عام 1926م، وانبثقت عنه في عام 1930م مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية، وهي الجمعية التي أصبح لها نحو 170 فرعًا في مختلف مناطق الجزائر. وقد نص ابن باديس في قانونها على هذا البعد التربوي فقال: “إن هدف الجمعية نشر الأخلاق والمعارف والصنائع اليدوية بين أبناء المسلمين وبناتهم”. ولقد أسس لذلك الوسائل التي تحقق هذه الأهداف ومنها مدرسة، وناديًا للمحاضرات، وملجأ للأيتام، ومعملًا للصنائع.
كما حرص ابن باديس على أن يكون لدى الطالب القدرة الذاتية على التعلم، فدعا إلى أن تكون الدروس العلمية لتلقي القواعد والأصول، وإكساب الملكة العلمية، ثم يكون لكل طالب خطة ذاتية ليوسع مداركه ومعارفه من خلال القراءة وغيرها، وكان يحث طلابه على التعلم ونشر العلم.
وفي الوقت الذي كانت دعوته تقوى وتمتد، كانت فرنسا ماضية في سياستها التي ترمي إلى صناعة جيل مقطوع الأواصر عن سابقيه من آباء وأجداد، جاهلًا بتاريخهم نابذًا لتراثهم، ليسهل عليها تجسيد مخططها الرامي لجعل الجزائر “جزءًا لا يتجزأ من فرنسا”. فبعد تسع سنوات من منعها تعليم اللغة العربية في الجزائر أقامت في الذكرى المئوية للاحتلال 1830 – 1930 احتفالات كبرى معلنة بها محو معالم الهوية الجزائرية وطمسها إلى الأبد. كان لهذه الاحتفالات الاستفزازية الأثر البالغ في نفس ابن باديس فانطلق ضاربًا في طول البلاد وعرضها يجمع علماءها ويشحذ همم زعمائها وأشرافها، فتكللت جهوده في الخامس من مايو 1931 بالإنجاز الأكبر في مسيرته بتأسيس “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” بشعارها “الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا”.
جمع الشيخ عبد الحميد حوله كثيرًا من العلماء من مختلف ربوع الجزائر وجهاتها وحرص أن تكون الجمعية جامعة لمختلف المذاهب والآراء. رغم ما كانت تزخر به الجمعية من رجالات وعظماء من أمثال محمد البشير الابراهيمي والعربي التبسي والطيب العقبي ومبارك الميلي وغيرهم إلا أنهم جعلوه قائدًا لهم، فكان أول رئيس لجمعيتهم، واختاروا البشير الابراهيمي ليكون نائبًا له.
وقد كان هدف الجمعية الرئيسي يتمثل في توحيد الصف واجتماع كلمة العلماء انطلاقًا من إيمان ابن باديس بأهمية العمل الجماعي، وقد كانت الجمعية نقطة تحول في حركة الشيخ نحو مواجهة الاحتلال بقوة الخطاب.
حددت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأهداف التي تسعى لتحقيقها في منشور نشره الشيخ ابن باديس في العدد 160 من جريدة “البصائر” بتاريخ السابع من أبريل 1939، والتي تشمل ما يلي:
– تعزيز التربية والتعليم.
– تطهير الإسلام من البدع والخرافات.
– إشعال شعلة الحماسة في قلوب الجزائريين، بعدما بذل الاستعمار جهوده لإطفائها بهدف إضعاف مقاومة الشعب الجزائري.
– إحياء الثقافة العربية ونشرها، بعد أن سعى الاستعمار إلى القضاء عليها.
– الحفاظ على الهوية الجزائرية بجميع مقوماتها الحضارية والدينية والتاريخية، ومقاومة سياسة الاستعمار التي كانت تهدف إلى طمسها.
ولتحقيق تلك الأهداف، أسست الجمعية فروعًا لها على المستوى الوطني، بلغ عددها 58 عام 1938. وعملت الجمعية عبر تلك الفروع على نشر اللغة العربية على نطاق واسع، وإحياء الثقافة العربية الإسلامية في الجزائر، وبعْث التاريخ العربي الإسلامي.
كما نظمت الجمعية بعثات تعليمية لخريجي مدارس الجمعية ومعاهدها إلى المشرق العربي، وأولت اهتمامًا بالتعليم في المساجد، ووضعت برامج لنشر التعليم الديني والعربي للصغار المبتدئين، وتدارك النقائص التي عانى منها الملتحقون بالمدارس الفرنسية، كما اهتمت بالكبار وخصصت لهم دروسًا في الوعظ والإرشاد ومحو الأمية. لم تكتف جمعية العلماء بدورها التربوي والتعليمي داخل الوطن فحسب، بل امتدت جهودها إلى فرنسا لمرافقة أبناء المهاجرين الجزائريين هناك.
وقد كان لهذه الجمعية وكبار علمائها أمثال البشير الإبراهيمي والطيب العقبي ومبارك الميلي وغيرهم الكثير دورًا كبيرًا في إيقاظ المجتمع الجزائري الذي سيقوم فيما بعد بثورة مليونية تقوده إلى الاستقلال والحرية.
3- الشباب عامة والمرأة خاصة: من اللافت أيضًا في حياة ابن باديس اهتمامه الكبير بجيل الشباب، هذا الجيل الذي أنساه التعليم الاستعماري دينه ولغته وتاريخه، ودمر شعوره بذاتيته وحقرها في نفسه تحقيرًا شديدًا. وقد كان ابن باديس على وعي كبير بحال الشباب، ولكنه كان مؤمنًا ومدركًا لقيمة الشباب في صناعة المستقبل، ولذلك وجه جهوده لتعليمهم وتربيتهم، ففتح لهم المدارس وأقام لهم محاضرات وأشركهم في الجمعيات التربوية وحرص على القرب منهم، فأعلنت صحيفة الشهاب وصحيفة المتقد أنهما لسان الشباب الناهض في القطر الجزائري.
لم يقتصر اهتمام ابن باديس على الاهتمام بالشباب الذكور فقط، بل كانت له عناية خاصة بالمرأة، فحرص ابن باديس في بداية طريقه على تعليم البنات ودعوة آبائهم لإرسالهن للجمعيات التعليمية وضمان مجانية التعليم لمن لا تستطيع منهن دفع التكاليف، وفي ذلك يقول: “إذا علَّمتَ ولدًا فقد علّمتَ فردًا، وإذا علَّمتَ بنتًا فقد علّمت أمّة”.
وفي مجلة الشهاب أنشأ بابًا بعنوان (رجال الإسلام ونساؤه)، ونبه على خطورة دعاوى مساواة المرأة في وظيفتها بالرجل، وأن الرجل والمرأة تتكامل وظائفهما.
4- مقاومة الاستعمار: لم يكن ابن باديس عالمًا يعيش في مكتبته منعزلًا وإنما كان يعايش بعلمه آلام مجتمعه وأمته، ولذلك جمع بين العلم والتعليم وبين العمل المقاوم على أرض الواقع. كانت له مواقف كثيرة في هذا الشأن منها أنه كان يدعو فرنسا إلى إشراك الجزائريين سياسيًا واقتصاديًا في إدارة شؤون الجزائر، وعارض بقوة إدماج الجزائر في فرنسا، وتجنيس الجزائريين بالجنسية الفرنسية قائلًا: ” إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري”.
وفي عام 1930 احتفلت فرنسا بمرور مئة عام على احتلال الجزائر فطلب الشيخ من أهل قسنطينة عدم المشاركة في الاحتفال الذي دعت إليه السلطات الفرنسية، فاستجابوا له جميعًا. وفي عام 1939 وهو العام الذي بدأت فيه الحرب العالمية الثانية طلبت السلطات الفرنسية من الشيخ أن يبعث برسالة تأييد لفرنسا لدخولها الحرب، فأبى، ففرضت عليه الإقامة الجبرية.
ولقد كان الشيخ يهتم بقضايا أمته بشكل عام فامتدت مواقفه خارج الجزائر ومن ذلك احتجاجه على قرار تقسيم فلسطين وعلى الانتهاكات التي تحدث لأهلها.
خاتمة
في ضوء هذا العرض لحياة الشيخ عبد الحميد بن باديس لعل أبرز ما يتجلى للناظر في شخصيته ومسيرة حياته هو إدراكه أن مواجهة الاحتلال يجب أن تبدأ بالعلم؛ ولذا عمل ابن باديس على نشر العلم باعتباره السلاح الأهم في مواجهة مستعمر كاد يظن أن الأمر قد استقر له اعتمادًا على قوة سلاحه. كما كان ابن باديس ملهمًا في رؤيته التي تتسم بالتكامل والتوازن، فقد كان – رحمه الله – يجمع بين العلم والعمل، وبين فقه الواقع والعمل فيه، وبين الإصلاح الذي يمتد للجذور وبين الحركة الآنية، وبين بناء الفرد والعمل الجماعي والمؤسسي. فقد قدم تجربة تستحق الغوص في أبعادها وجوانبها، وذلك باستحضارصعوبة السياق التاريخي والمجتمعي الذي عمل فيه. فقد بدأ مشروعه الإصلاحي في ظل واقع استعماري قد أحكم قبضته ليس فقط على الأرض وإنما على الشعب وثقافته ولغته وهويته، فكانت العقبات لا تتمثل فقط في المستعمِر الخارجي وإنما في الفرد المستعمَر ذاته الذي رضي بالاستعمار، بل وانصهر فيه. من هنا كانت أهمية هذا المشروع الإصلاحي الذي قدمه ابن باديس ليكون نموذجًا يسترشد به المصلحون والعلماء والعاملين لأجل إحقاق الحق ونشر العدالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحثة في العلوم السياسية.
[1] ثم طبعته وزارة الشؤون الدينية بالجزائر تحت عنوان “مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير” عام 1982، وطبعته مرة أخرى وزارة الشؤون الدينية بالجزائر تحت عنوان مجالس التذكير من حديث البشير النذير عام 1983
[2] ثم طبع مرة آخرى على يد الشيخ محمد الحسن فضلاء في 1984
المراجع
– عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الجزيرة، 15 إبريل 2024، متاح على الرابط التالي:
– عبد الحميد بن باديس حياته وإنجازاته، الميادين، 10 يوليو 2021، متاح على الرابط التالي:
– أسامة حيان، عبد الحميد بن باديس مجدد مصلح أم شيخ خاضع للاستعمار، الجزيرة، 29 إبريل 2019، متاح على الرابط التالي:
https://www.ajnet.me/blogs/2019/4/29/%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF-%D8%A8%D9%86-%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%B3-%D9%85%D8%AC%D8%AF%D8%AF- %D9%85%D8%B5%D9%84%D8%AD-%D8%A3%D9%85-%D8%B4%D9%8A%D8%AE
– التجربة الدعوية للشيخ عبد الحميد ابن باديس، 2014، (الرياض: مركز البيان للبحوث والدراسات).
– جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هيئة قامت ضد الاستعمار والخرافات، الجزيرة، 16 إبريل 2014، متاح على الرابط التالي:
– بصمات ابن باديس الجزيرة الوثائقية، يوتيوب، 2021، متاح على الرابط التالي: