العلمانية تحت المجهر: المفهوم والإشكاليات

العلمانية تحت المجهر

المفهوم والإشكاليات*

أ. د. عبد الوهاب المسيري**

لتعريف العلمانية سنقوم بطرح فكرة “العلمانيتين”، الجزئية والشاملة:

أولًا– العلمانية الجزئية: هي رؤية جزئية للواقع (إجرائية) لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية (المعرفية)، ومن ثم لا تتسم بالشمول. وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وربما بعض الجوانب الأخرى من الحياة العامة، وهو ما يعبر عنه أحيانًا بعبارة “فصل الدين عن الدولة”. ومثل هذه الرؤية الجزئية تَلزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة، كما أنها لا تنكر بالضرورة وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية وربما دينية، أو وجود ماورائيات وميتافيزيقا، ولذا لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية. كما أنها رؤية محددة للإنسان، فهي قد تراه إنسانًا طبيعيًا / ماديًا في بعض جوانب من حياته (رقعة الحياة العامة) وحسب، ولكنها تلزم الصمت فيما يتصل بالجوانب الأخرى من حياته وفيما يتصل بثنائية الوجود الإنساني ومقدرة الإنسان على التجاوز، ولذا فهي لا تسقط في الواحدية الطبيعية / المادية، بل تترك للإنسان حيزه الإنساني يتحرك فيه إن شاء، ويرى كثير من المفكرين الإيمانيين، المسلمين والمسيحيين، أنه لا تعارض بين هذا النوع من العلمانية والإيمان الديني.

ثانيًاالعلمانية الشاملة: رؤية شاملة للعالم ذات بُعد معرفي (كلي ونهائي)، تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة. وهي رؤية عقلانية مادية، تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية، التي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسره مكون أساسًا من مادة واحدة، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرد، أو المطلقات، أو الثوابت. هذه المادة تشكل كلًا من الإنسان والطبيعة. ومن ثم فالعلمانية الشاملة رؤية واحدية طبيعية مادية تصفي الثنائيات فتلغي الحيز الإنساني تمامًا، إذ لا يوجد فيها مجال إلا لحيز واحد هو الحيز الطبيعي المادي.

ويتفرع عن هذه الرؤية منظومات معرفية (الحواس والواقع المادي مصدر المعرفة، فالعالم المعطى لحواسنا يحوي داخله ما يكفي لتفسيره والتعامل معه)، كما يتفرع عنها رؤية أخلاقية (المعرفة المادية هي المصدر الوحيد للأخلاق، وبما أن المادة في حالة حركة دائمة، لا يوجد أية قيم أخلاقية ثابتة)، وأخرى تاريخية (التاريخ يتبع مسارًا واحدًا، وإن اتبع مسارات مختلفة فإنه سيؤدي في نهاية الأمر إلى النقطة النهائية نفسها)، ورؤية للإنسان (الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة / المادة، ليس له حدود مستقلة تفصله عنها، ومن ثم هو ظاهرة بسيطة أحادية البعد، وهو كائن ليس له وعي مستقل، خاضع للحتميات المادية المختلفة، غير قادر على التجاوز والاختيار الأخلاقي الحر، أي أنه يتم تفكيكه وتسويته بالكائنات الأخرى). هذا يعني أن كل الأمور، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، تاريخانية زمنية نسبية لا قداسة لها، مجرد مادة استعمالية.

والعلمانية الشاملة، بهذا المعنى، ليست مجرد فصل الدين، أو الكهنوت، أو هذه القيمة، أو تلك عن الدولة أو عما يسمى “الحياة العامة”، وإنما هي فصل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية (المتجاوزة لقوانين الحركة المادية والحواس) عــن العـالم، أي عـن كـل من الإنسان (في حياته العامة والخاصة) والطبيعة، بحيث يصبح العالم مادة نسبية لا قداسة لها.

ويمكن القول: إن العلمنة هي “الترشيد المادي” أي إعادة صياغة الواقع المادي والإنساني في إطار نموذج الطبيعة / المادة بالشكل الذي يحقق التقدم المادي وحسب، مع استبعاد كل الاعتبارات الدينية والأخلاقية والإنسانية، بشكل تدريجي ومتصاعد في مختلف مجالات الحياة، الواحد تلو الآخر، بحيث يصبح كل مجال خاضعًا للقوانين المادية الكامنة فيه، ويختزل الواقع الطبيعي والإنساني إلى القوانين المادية، ويمكن القول: إنه بعد أن تصل المتتالية العلمانية الشاملة إلى التحقق في معظم حلقاتها، تُصفى الثنائيات، وتُصفى بذلك تركيبة الإنسان ومقدرته على التجاوز (تجاوز الطبيعة المادة وذاته الطبيعية المادية) فيختفي الإنسان الفرد، الحر، الواعي، المسؤول أخلاقيًا واجتماعيًا، ويذوي كيانه كمقولة مستقلة عن عالم الطبيعة / المادة، ويصبح جزءًا لا يتجزأ منها، ويُنظر إليه باعتباره كائنًا أحادي البعد، بسيطًا. ومع إنكار تركيبة الإنسان ومقدرته على التجاوز تسود الواحدية المادية، وتُنزع القداسة عن العالم (الإنسان والطبيعة)، فيسقط في قبضة الصيرورة المادية، ويظهر الإنسان الطبيعي الذي يُعرف في ضوء أبعاده واحتياجاته المادية (الدوافع الاقتصادية أو الجسمانية)، حدوده هي حدود المادة، أهدافه وغاياته وأخلاقه مادية، سلوكه وتطلعاته وأشواقه مادية، لا توجد مسافة تفصل بينه وبين الطبيعة / المادة، ومن ثم لا يوجد حيز إنساني مستقل يتحرك فيه الإنسان بقدر من الاستقلال والحرية، ولذا فهو لا يمكن دراسته إلا في إطار النماذج الطبيعية / المادية.

والإنسان الطبيعي / المادي ليس فيه من الإنسان سوى الاسم، فهو إنسان لا يتحرك في الحيز الإنساني وإنما في الحيز الطبيعي، فمرجعيته النهائية مرجعية مادية كامنة، وهو إنسان يتم اختزاله إلى بُعد واحد هو البعد المادي، ويتحول في كليته إلى ظاهرة علمية مادية قابلة للملاحظة والتجريب، شأنه شأن أي ظاهرة طبيعية أخرى (وهو ما يعبر عنه باصطلاح “وحدة العلوم”Unity of science ). والإنسان الطبيعي يتوجه توجهًا حادًا نحو المنفعة واللذة (منفعته ولذته). وتتصاعد عمليات الترشيد المادي، ويتم تطبيقها على مستوى العالم بدرجات متزايدة، مما يؤدي إلى تزايد تساقط الحدود والخصوصية بحيث يصبح العالم كله مادة استعمالية، مجرد سوق ضخم، ويصبح كل البشر كائنات وظيفية، أحادية البعد، يمكن التنبؤ بسلوكها وحوسلتها وتوظيفها (وهذه هي إحدى أهم جوانب العولمة في تصورنا)، وعندما يسود التجانس الكامل بين معظم المجتمعات البشرية أو كلها، وعندما تتلاقى وتتْبع نمطًا واحدًا وقانونًا عامًا واحدًا (قانون التطور والتقدم العالمي الحتمي، من منظور العلمانية الشاملة) يصبح العالم مكون من وحدات قد تكون غير مترابطة ولكنها متشابهة، فما يحدث في الواحدة يحدث في الأخرى.

والهدف (المقصود وغير المقصود) من عملية الاختزال هذه، هو تقويض كل الأبعاد المركبة للواقع (بما في ذلك الحيز الإنساني)، حتى يمكن توظيف (حوسلة) كل من الواقع المادي والإنساني بكفاءة عالية على مستوى العالم، إلى أن يتحقق حلم اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية ونهاية التاريخ، حين يتم برمجة كل شيء والتحكم في كل شيء، بما في ذلك الإنسان نفسه، ظاهره وباطنه.

ونحن نذهب إلى أن العلمانية (الشاملة) والإمبريالية صنوان:

أ- فرغم أن الإنسان الغربـي بـدأ مشروعه التحديثي بالنزعــة الإنسانية (الهيومانية) التي همشت الإله ووضعت الإنسان في مركز الكون، إلا أنها، شأنها شأن أية فلسفة مادية، ترى أن الإنسان هو إنسان طبيعي/ مادي، يضرب بجذوره في الطبيعة / المادة، لا يعرف حدودًا أو قيودًا، ولا يلتزم بأية قيم معرفية أو أخلاقية، فهو مرجعية ذاته، ولكنه في الوقت نفسه يتبع القانون الطبيعي، ولا يلتزم بسواه ولا يمكنه تجاوزه، ولذا، فهو في واقع الأمر كائن غير قادر إلا على التمركز حول مصلحته (منفعته ولذته) المادية وبقائه المادي (فالإنسانية مفهوم أخلاقي مطلق متجاوز لقوانين المادة مفارق لها) وغير قادر على الاحتكام لأية أخلاقيات إلا أخلاقيات القوة المادية.

ب- ولذا، بدلًا من مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض (أو الأصفر أو البني … إلخ) في الكون، وبدلًا من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض، وبدلًا من ثنائية الإنسان – الطبيعة / المادة، وتأكيد أسبقية الأول على الثاني، تظهر ثنائية الإنسان الأبيض في مقابل الطبيعة / المادة وبقية البشر الآخرين (الذين يصبحون جزءًا لا يتجزأ منها) وتأكيد أسبقيته وأفضليته عليهم، وبدلًا من الاحتكام للقيم الإنسانية تُستخدم القوة، ويصبح همّ هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها وتوظيفها لحسابه واستغلالها بكل ما أوتي من إرادة وقوة.

ج- من هذا المنظور، يمكن القول: إن العلمانية (الشاملة) هي النظرية، وإن الإمبريالية هي الممارسة، ولكن الممارسة أخذت شكلين مختلفين باختلاف المجال (ومن ثم تمت تسميتها كما لو كانا ظاهرتين منفصلتين لا علاقة للواحدة منهما بالأخرى):

  • في الداخل الأوربي تأخذ الإمبريالية شكل الدولة العلمانية الرشيدة (الملكيات المطلقة – الدول الديموقراطية منذ الثورة الفرنسية – الحكومات الشمولية)، وفي مرحلة لاحقة أخذت شكل ما نسميه “الإمبريالية النفسية” (وهي تصعيد معدلات الاستهلاك من خلال تسليط الإعلانات على الإنسان الحديث المنعزل عن أسرته والخاضع للنسبية، ومن خلال إعادة صياغة صورة الذات بحيث يصبح الاستهلاك هو السبيل الوحيد أو الأساسي لتحقيقها)، ويتحدث هابرماس عن “استعمار الحياة” وجوهر الإمبريالية الداخلية هو فرض الواحدية الطبيعية / المادية على المجتمع، أي ترشيده في الإطار المادي لصالح الطبقات الحاكمة.
  • أخذت الإمبريالية في بقية العالم أشكالًا كثيرة (الاستعمار التقليدي – الاستعمار الاستيطاني – الاستعمار الإحلالي – الاستعمار الجديد ـ النظام العالمي الجديد)، وجوهر إمبريالية الخارج هو فرض الواحدية الطبيعية / المادية على بقية المجتمعات الإنسانية وترشيدها في الإطار المادي لصالح المجتمعات الغربية ككل.

        وفي تصورنا أن أفضل طريقة لتناول قضية العلمانية والعلمنة هي قضية المرجعية (كامنة أم متجاوزة)، فالعلمانية (الشاملة) قد لا تكون إلحادية أو معادية للإنسان على مستوى القول والنموذج المعلن (فهي قد لا تنكر وجود الخالق، أو مركزية الإنسان في الكون، أو القيم المطلقة، الإنسانية أو الأخلاقية أو الدينية، بشكل صريح ومباشر)، ولكنها على المستوى النموذجي الفعال ومستوى المرجعية النهائية، تستبعد الإله، وأية مطلقات من عملية الحصول على المعرفة، ومن عملية صياغة المنظومات الأخلاقية، كما تستبعد الإنسان من مركز الكون بشراسة وبحدة وتنكر عليه مركزيته وحريته .

بعض إشكاليات العلمانية الشاملة:

بعد أن طرحنا تعريفنا للعلمانية الشاملة يمكننا الآن تناول بعض إشكالياتها الأساسية، وفي هذا السياق يجب أن نفرق بين المتتالية المثالية الافتراضية (المجردة)، والمتتالية المتحققة (المتعينة)، ففي بداية أي مشروع، يتصور صاحبه أنه سيتحقق من خلال متتالية مثالية افتراضية يراها مسبقًا بدرجات مختلفة من الوضوح. ولكن، حينما يتحول المشروع إلى واقع ومتتالية متعيّنة، فإنه يواجه عناصر لم تكن في الحسبان، فقد لا يجني صاحب المشروع كل الثمرات التي كان يؤمل فيها، وقد لا تتحقق كل النتائج التي تصور حتمية حدوثها، بل إنه قد تظهر نتائج إيجابية وسلبية لم يضعها في اعتباره، وهي نتائج غير مقصودة، قد تستقل وتتبلور وتصبح لها دينامية مستقلة عن إرادته، بل وقد تكتسب مركزية.

وعمليات التحديث والتنوير والعلمنة لا تشكل أي استثناء لهذه القاعدة، فقد كان المؤمل من خلال المشروع التحديثي العلماني الشامل (أي التحديث في الإطار المادي) أن يعرف الإنسان قانون / قوانين الضرورة (القوانين الطبيعية)، ويتحكم فيها، ويوظفها لصالحه، فتزداد سعادته وفرديته وخصوصيته، وبالفعل لابد من القول: إن النموذج المعرفي العلماني الشامل نموذج حقق قدرًا لا بأس به من السعادة للإنسان، فهو نموذج حركي استبعد المرجعية المتجاوزة والغيب والتركيب وغير المحسوس والمبهم، وتبنى مرجعية مادية كامنة، وتفاعل مع الملموس والمحسوس والواضح البسيط، ولذا أمكنه تطوير أدوات ومناهج (في معظمها مادية كمية) زادت بالفعل من معرفة الإنسان ومن درجة تحكمه في الواقع (المادي)، كما أنه ألقى الضوء على جوانب معينة من النفس البشرية (غرائزه والأساس البيولوجي لبعض جوانب سلوكه وشخصيته) وعمَّق من إدراكنا لها، وأثبت أن مقدرته التفسيرية لبعض جوانب الواقع الطبيعي والإنساني مرتفعة ارتفاعًا مدهشًا، وأن مقدرته الترشيدية لهذه المجالات نفسها (أي إعادة صياغتها) مذهلة.

ولكن الواقع ليس بسيطًا، وخصوصًا الواقع الإنساني، فهـــو يتحدى الصيغ التفسيرية الاختزالية المادية، أي إن المقدرة التفسيرية الترشيدية للنموذج العلماني الشامل قد تكون عالية حين يكون التعامل مع العالم المادي، أو مع الإنسان في جانبه المادي (جسده – أسباب بقائه المادي – دوافعه الغريزية المباشرة ـ ظاهره … إلخ)، ولكنها تكون ضعيفة، بل تكاد تكون منعدمة، حينما يكون التعامل مع ما يميز الإنسان كإنسان (تطلعاته – أحلامه – آماله ـ اختياراته – باطنه ـ قيمه … إلخ)، وفي تصورنا أن هذه هي المشكلة الكبرى للعلمانية الشاملة، فهي لا تكتفي بتفسير بعض جوانب الواقع الإنساني تفسيرًا ماديًا (كما تفعل العلمانية الجزئية)، وإنما تصر على تفسيره كله، دون أية مهادنة، من خلال النماذج المادية، إنها خطيئة التبسيط والاختزال وإنكار أية إمكانية إنسانية للتجاوز (والاحتجاج العبثي في الأدب الحداثي هي تعبير عن إدراك الإنسان لهذه الحقيقة).

وقد جرت عملية التبسيط والاختزال بهدف التوظيف وتغيير الواقع، ولذا صاحبها في البداية قدر كبير من التفاؤل، فالإيمان بالتقدم المادي وإمكانية السيطرة الكاملة على الكون هو أمر يثلج صدر كثير من البشر، ومع هذا، ظهرت النتائج (غير المقصودة) التالية:

أولًا- ثمة إدراك عميق لدى الإنسان (تسانده العلوم الطبيعية الحديثة) بأن المعرفة الكلية أو حتى شبه الكلية مستحيلة، وبأن رقعة المجهول تتزايد بنسبة أكبر من تزايد رقعة المعلوم، وبأن معرفتنا العلمية (المادية) عن الواقع ليست يقينية، وإنما احتمالية إلى حد كبير، وذلك بسبب تركيبة الواقع، واستحالة وضعه داخل شبكة السببية المادية الصلبة وتفسيره كله تفسيرًا ماديًا.

وتشكل قضية القيمة والغاية (وتعريف الخير والشر) مشكلة أساسية في النموذج العلماني الشامل، فالافتراض العلماني الشامل الأساسي، أو القيمة الحاكمة أو المطلقة فيه، أو المسلَّمة العلمانية الشاملة النهائية (ولأنها مسلمة نهائية فهي لا تقبل النقاش، ولذا فهي شكل من أشكال الغيب)، تذهب إلى أن ثمة طبيعة (مادية) وإنسانًا طبيعيًا ماديًا يخضعان لقانون طبيعي / مادي عام، متغير بشكل دائم مثل حركة المادة، ومن ثم لا يوجد شر متأصل في الإنسان، فالطبيعة المادة لا تعرف خيرًا أو شرًا، أو مقدسًا أو مدنسًا، وما يسمى شرًا إن هو إلا ظواهر مادية مصدرها مادي (البيئة – الجينات والصفات الوراثية للإنسان – اختلال الغدد أو الأنزيمات … إلخ)، ومن ثم يمكن إصلاحها بالوسائل المادية (إصلاح البيئة – عمليات جراحية… إلخ)، والقيم الأخلاقية هي الأخرى مصدرها مادي، ولذا فهي متغيرة، وعلى الإنسان أن يستمد منظومته القيمية من الطبيعة / المادة وما يستخلصه العلم الطبيعي منها من قوانين.

ولكن كيف يمكن الاتفاق على مضمون هذه الطبيعة / المادة؟ هل هي طبيعة تنتج مجموعة من القيم، أم أنها طبيعة محايدة لا تكترث بالقيمة، ولا تنتج سوى حركة دائرية متواترة؟ ولماذا يجب أن نعتبر تدمير العالم شرًا وتشجيره خيرًا؟ وما هو الأساس الفلسفي لهذا الافتراض؟ لا يوجد في المادة ما يجعل التشجير أفضل من التدمير، ولا يمكن للعلم أن يزودنا بمنظومات تساعدنا على الاختيار بينها، فالمادة حركة بلا غاية، وهي تظهر وتختفي، والذرات تصطدم بلا هدف ولا غاية، والطبيعة تخلق أنواعًا بالمصادفة، كما أنها تدمر أنواعًا أخرى بالمصادفة أيضًا (هذا إن قبلنا بالرؤية المادية)، وإن كان ثمة حركة فهي حركة هندسية دائرية صماء، إن اتبَعَها الإنسان يتم تطبيعه وترشيده وتدجينه تمامًا ولأصبح شيئًا من الأشياء.

والعلم يرصد الواقع بكفاءة، ولكن يتساوى من منظوره الإنسان والحيوان والقرد واليرقة، فكلها ظواهر طبيعية تدرس بالطريقة نفسها، ولها المكانة نفسها، وإن قيل: إن الإنسان سيستخلص من الطبيعة / المادة ما يتفق مع منفعته ولذته ومع الصالح العام، فما هي هذه المنفعة وهذه اللذة داخل هذا الإطار المعرفي؟ وما هو هذا الصالح العام؟ هل المنفعة هي ما يحول الإنسان إلى طبيعة، وما يقضي على الجوانب المركبة في بنيته العقلية والعاطفية حتى يمكن أن يتكيف مع النسق الهندسي؟ وكيف يمكن أن نؤسس منظومة قيمية استنادًا إلى نظريات علمية احتمالية يتوصل إليها العلماء بعد رصدهم للإنسان واليرقة؟.

وفي غياب أي يقين معرفي أو أخلاقي أصبحت كــل الأمــور متساوية، وأصبح الخير مساويًا للشر، والعدل مساويًا للظلم، وظهرت النسبية المطلقة، وأصبحت العدمية (وغياب الهدف والمعيار والغاية والمعنى) زائرًا دائمًا بيننا (على حد قول نيتشه)، ومن حقنا أن نتساءل، هل يمكن للإنسان أن يعيش في حالة الشك المطلق هذه، أم أنه سيتبنى أي ميتافيزيقا تقابله في طريقه وتعطيـه قـدرًا من الأمن والأمان، كما حدث حينما تبنت الجماهير الغربية النازية والعنصرية، وكما يتبدى الآن في تزايد عدد المؤمنين بالسحر والتنجيم والأطباق الطائرة. (لوحظ أن عدد المؤمنين بالسحر في البلاد المتقدمة يفوق نظرائهم في البلاد المتخلفة).

ثانيًا- لكن حياد الطبيعة وغياب المنظومات القيمية والمعرفية ليس سوى واجهة تخفي ميتافيزيقا وأخلاقيات القوة، فالعلمانية الشاملة تحول العالم إلى مادة استعمالية، وترفض أي مرجعية متجاوزة للعالم المادي والحواس الخمس، ولكنها – بسبب إطارها المادي – تذهب إلى أن القيم التي تساعد على تحقيق القانون الطبيعي (المتعة ـ البقاء المادي – القوة – الانتصار في معركة البقاء) تكون خيرا، أما ما يقف في طريق تحققه فهو الشر. ولكن لأن كل الأمور نسبية يظهر الفرد صاحب القوة، السوبرمان الإمبريالي الذي يحسم المواقف النسبية ويخدم مصلحته بالقوة، فيفرض إرادته ويوظف الواقع لصالحه، ويحقق بقاءه (ومنفعته ولذته) على حساب الآخرين. وليس من قبيل المصادفة أن الصراع أصبح هو المفهوم الأساسي في حضارتنا، وأن الداروينية الاجتماعية أصبحت أهم الفلسفات وأكثرها انتشارًا، سواء بين الخاصة أو العامة، وأن الإمبريالية هي أهم ظاهرة في عصرنا الحديث.

ثالثًا- لم ينجم عن عمليات العلمنة الشاملة هذه (وما صاحبها من نسبية مطلقة) أي تعميق للفردية، فالحياة الحديثة تتسم بالتنميط الشديد، بل إن الخصوصيات القومية للأمم لم تتحقق إلا في المراحل الأولى للعملية التحديثية، وما يحدث هو أنه، مع تفتت العالم إلى أنساق مختلفة مستقلة، ومع غياب أية مرجعية متجاوزة، يظهر القانون العام الطبيعي الكامن في المادة باعتباره المرجعية الأساسية والوحيدة، فتتساقط الهويات والخصوصيات، ويعاد صياغة العالم ليتفق مـــع القانون الطبيعي العام أو القوانين العامة للحركة أو الواحدية المادية التي تسيطر تدريجيًا على كل مناحي الحياة، ومن هنا نجد ظواهر مثل التنميط وسيادة النماذج البيروقراطية والكمية، وأخيرًا العولمة.

رابعًا- لم ينتج عن عمليات العلمنة الشاملة زيادة التحكم في الذات الإنسانية أو في الواقع، بل على العكس، فمع ظهور الإنسان الطبيعي وتحديد المنفعة واللذة باعتبارهما الهدف الأساسي للوجود الإنساني، ترجم هذا نفسه إلى الاستهلاكية، وتصور أن مزيدًا من السلع فيه مزيد من المنفعة واللذة، وقد تسارعت وتيرة هذه الاستهلاكية تسارعًا مذهلًا، وبعد أن كانت الحاجة هي أم الاختراع، أصبح الاختراع هو الذي يولد الحاجة، فوجد الإنسان نفسه محاطًا بسلع وأجهزة ليس متأكدًا تمامًا أنه يريدها (والسلعة مثل المادة، شيء يتحرك بلا هدف أو غاية)، وبدأ الإنسان يشعر أنه لم يعد يملك من أمره شيئًا وأنه يدخل في بحث لا ينتهي عن هدف لم يحدده، في عالم ليس من صنعه، تتراكم فيه سلع لا يريدها.

وفي تصوري أن الإنسان غير قادر على استيعاب وتيرة الاستهلاكية بسبب حدود جهاز العصبي وحدود العقل. ولذا، بدلًا من الإحساس بالتحكم الكامل، بدأ الإنسان يشعر أن قبضته تتراخي، وأنه خاضع لمسارات وعمليات لا يمكنه التحكم فيها، وقد شُبه التقدم بالقطار المندفع بأقصى سرعة ولا يعرف أحد اتجاهه. وقد أدى الإحساس بعدم الاتزان، وفقدان التحكم، واختفاء الحدود على المستوى الفلسفي، إلى ظهور ما بعد الحداثة والعدمية الفلسفية، أما على المستوى المجتمعي، فقد أدى ذلك إلى تزايد الجريمة ومعدلات الطلاق، والعزوف عن الإنجاب وتفكك الأسرة والإباحية (الأطفال غير الشرعيين – حمل المراهقات – الإيدز … إلخ) وكل الآفات التي تُصنف على أنها “الثمن الحتمي والمعقول للتقدم” الذي يرى البعض الآن أنه قد يكون حتميًا، ولكنه ليس بالضرورة معقولًا. ولا يمكن إبطاء هذا الأمر إلا بإدخال مقولة “الإنسان ككائن متميز عن النظام الطبيعي وعن المادة”، أي لا يمكن إبطاء السرعة المجنونة إلا من خلال إدخال قدر من الثنائية، التي تتناقض مع العلمانية الشاملة، والتي تؤكد الغائية الإنسانية.

خامسًا– ثمة إشكالية أخرى طريفة وهي أن تحقق النموذج العلماني الشامل ونجاحه، أي المعرفة الكاملة لقوانين الضرورة والتحكم الكامل في الواقع والوصول إلى نقطة الصفر، سيؤديان في نهاية الأمر إلى التحكم في الإنسان والتنبؤ بسلوكه، بـل تغييره، أي أن النموذج العلماني يبدأ بوضع الإنسان في المركز، ثم يزيحه تدريجيًا عن المركز (لتحل محله القوانين الطبيعية / المادية)، وينتهي الأمر بتفكيك الإنسان تمامًا، وإلغاء مقولة الإنسان. وعلى كلٍ، فإن هذا تناقض كامن في الافتراض العلماني الأساسي، وهو أن الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة المادية، فالجزء عادةً أقل من الكل، وهو يتحقق بمقدار التحامه بالكل، وبمقدار تجسيده لقانون الكل العام، فالإنسان العلماني يتحقق بمقدار تعبيره عن قوانين الطبيعة المادية، ولكن تحقيقه لهذا القانون يعني في واقع الأمر إلغاءه ككيان مستقل لـه سماته الإنسانية وإرادته الأخلاقية المستقلة (وهي إشكالية تتضح بحدة في فكر الاستنارة).

سادسًا- رغم الإنجازات المادية الضخمة لمنظومة الحداثة العلمانية التي لا يمكن إنكارها، هناك من البشر من لا يزال يؤمن بأن الإنسان كائن يعيش في الطبيعة / المادة، ولكنه لا يمكن رده في جميع أبعاده إلى النظام الطبيعي(المادي والحتمي والمطرد)، ومن ثم يؤمن هؤلاء أن الجنس البشري له مكان خاص ومكانة خاصة في الكون، وأن إنسانية الإنسان لا تكمن في مقدرته على زيادة معدل إنتاجيته، وكم السلع الذي ينتجه ويستهلكه، وتحسين مستوى معيشته وحسب، وإنما هي مسألة أعمق من ذلك بكثير، فإنسانية الإنسان تكمن في مقدرته على الحفاظ على هويته وخصوصيته واتزانه الداخلي، وعلى تحقيق جوهره الإنساني الذي يتجاوز سطح المادة والأشياء، وفي مقدرته علــى الاختيار الحر بين ما هو إنساني وغير إنساني أو بين الخير والشر. ولكن مثل هؤلاء، حينما يجابهون العالم، يجدون عالمًا تسيطر عليه حكومات محلية ومنظمات وشركات دولية عندها السطوة والمقدرة في صورة أجهزة وبيروقراطيات أخطبوطية واسعة الانتشار، تتسم بمستوى عال من الكفاءة والشراسة، تبذل قصارى جهدها من أجل تحويل العالم بأسره إلى سوق خاضع تمامًا للآليات الصارمة لقانون العرض والطلب، وإلى مصنع خاضع تمامًا لآليات إدارية وحركية لا تقل عنها صرامة، وتحاول أن تجعل الإنسان بسيطًا وأحاديًا في بساطة القانون الطبيعي الذي يسري عليه، فترتب له بيئته الاجتماعية وطراز معمار منزله وأثاث بيئته وأوقات فراغه وأحلامه، وتضع قواعد إجرائية لكل صغيرة وكبيرة في حياته، تكفل تحويله إلى منتج ومستهلك تتزايد توقعاته الاستهلاكية تزايدًا مستمرًا لضمان دوران حلقة الإنتاج والاستهلاك (القفص الحديدي عند فيبر – السجن الحديدي عند زيميل – الإنسان ذو البعد الواحد عند ماركوز.

وفي مجابهة هذا العالم المستأنس الأملس، يشعر الإنسان الذي يصر على إنسانيته باغتراب عميق، لأن ما بداخله من تركيب وأسرار ينفر بشكل فطري تلقائي من عالم لا قسمات له ولا ملامح، تم التحكم فيه تمامًا، فالإنسان يجابه عالمًا كل ما فيه محايد بارد ميت، خاضع لقوانين برانية ليست لها أبعاد جوانية؛ مادة محضة خارجة عنه وعن وعيه وعن إحساسه بذاته الإنسانية، أي أنه يجْبَه عالمًا غير إنساني، ويُطلق البعض على هذا الإحساس “الاغتراب”، وهو نتيجة ما يسمى «التسلع والتشيؤ والتوثن»، فتظهر حركات الاحتجاج المختلفة، مثل الأدب الحداثي الذي يشكل صرخة احتجاج يطلقها إنسان وعَدَهُ الفكر الإنساني الهيوماني (ومن بعده فكر الاستنارة العقلاني) بأنه سيكون في مركز الكون، وأنه ستتزايد معرفته بقانون الضرورة والحركة، وأنه من ثم سيتزايد مقدار تحكمه في العالم، فوجد أنه في عالم ما بعد الحداثة ذرة لا معنى لها، أو قطرة في السيولة المتدفقة، ولا يملك لنفسه حولًا ولا قوة.

سابعًا- وقد ثارت الشكوك بخصوص إحدى الركائز الأساسية للرؤية العلمانية الشاملة للكون وهو مفهوم التقدم، والتقدم هو الإجابة العلمانية الشاملة عن السؤال الكلي والنهائي الخاص بالهدف من وجود الإنسان في الكون، وقد تم تعريفه في إطار المرجعية المادية، وترَّسَخ الإيمان به، وأصبح هو إحدى الركائز الأساسية لرؤية الإنسان العلماني الشامل للكون وللطبيعة ولذاته وللآخر، ورغم تغلغل الإيمان بالتقدم إلا أن الشكوك أثيرت بخصوصه منذ بداية القرن العشرين:

أ. تساقطت كثير من الأسس التي يستند إليها مفهوم التقدم، فقد ظهر لنا أن كلًا من العلم وعقل الإنسان محدود، ومن ثم تأكد لنا أن حلم التحكم الإمبريالي الكامل في العالم إنما هو وهم ما بعده وهم، وأنه حلم اختزالي طفولي وتبنِّ لنماذج بسيطة، فنحن نحرز التقدم في ناحية لنكتشف بعض الآثار السلبية (غير المقصودة) في ناحية أخرى؛ نتيجة لعدم إلمامنا بكل مكونات النظام البيئي وبكل مكونات النفس البشرية، فالنظام البيئي مركب والإنسان أكثر تركيبًا.

ب. اكتشف الإنسان أيضًا أن المصادر الطبيعية محدودة، وأن الدول المتقدمة التي يشكل سكانها (٢٠٪) من البشر يستهلكون (٪۸۰) من المصادر الطبيعية، وهذا يعني أن ما يوجد من مصادر طبيعية لا يكفي لأن يتقدم بقية البشر ويصلوا إلى المعدلات الاستهلاكية نفسها، أي أن نموذج العلمانية الشاملة الذي حقق مستويات استهلاكية عالية للإنسان الغربي، لا يمكن تكراره بأية حال على مستوى العالم بأسره.

ج. لاحظ الإنسان أن التقدم التكنولوجي لم ينجم عنه بالضرورة تحسن في الأداء الإنساني، وقد دعَّم مسار التاريخ الغربي، بعد هيمنة فكرة التقدم، من شكوك الإنسان بخصوصها، إذ نشبت حرب عالمية أولى ثم ثانية، وتسارع إيقاع المجتمع، وتآكلت الأسرة، وبدأ الإنسان يدرك أنه بلور مفهوم التقدم انطلاقًا من إدراكه لعائد التقدم المحسوس والمباشر قصير المدى، وأنه لم يدرك ثمنه غير المحسوس غير المباشر بعيد المدى، وأن المؤشرات المادية التقليدية لم تعد تجدي، لاحظ الإنسان الغربي هذه الظواهر ذات التكلفة العالية: الإباحية (التكاليف المادية لإنتاجها، والتكاليف المعنوية لاستهلاكها) ـ السلع التافهة التي لا تضيف إلى معرفة الإنسان ولا تعمق من إحساسه ـ تآكل الأسرة – طريقة التعامل مع العجائز – تناقص الوقت الذي يقضيه الإنسان مـع أسرته – تراجع التواصل بين الناس بسبب الكومبيوتر ـ الأمراض النفسية (الاكتئاب وعدم الاتزان والتوتر العصبي) – أدوية الحساسية وضيق النفس – تزايد العنف والجريمة في المجتمعات التي يقال لها متقدمة – انتشار الفلسفات العدمية وفلسفات العنف والقوة والصراع (الداروينية الاجتماعية والنيتشوية) – تزايد الإحساس بعدم المقدرة على معرفة الواقع (ما بعد الحداثة) – تزايد الإحساس بالاغتراب والوحدة والغربة – تزايد الإنفاق على التسليح وأدوات الفتك – تخريب البيئة (ثقوب الأوزون – تزايد سخونة الغلاف الجوي ـ النفايات النووية – تزايد ثاني أكسيد الكربون) – ظهور إمكانية تدمير الكرة الأرضية إما فجأة (من خلال الأسلحة) أو بالتدريج (من خلال الكوارث البيئية) – أثر السياحة وحركة التنقل في نسيج المجتمعات في تراثها .

ويمكننا الآن أن نتعامل مع علاقة العلمانية الشاملة بعالم السياسة:

أ. أشرنا من قبل كيف أن العلمانية الشاملة حولت العالم إلى مادة استعمالية، والقيم إلى مسألة نسبية، والذات إلى مرجعية، وجعلت من البقاء (والتقدم) الغاية النهائية، والصراع الآلية الأساسية لحسم كل التناقضات، أي إنها ولدت عقلية إمبريالية هيمنت على الإنسان الأوربي، ودفعت به إلى غزو بقية العالم، فاستولى عليه فاقتسمه ونهب المصادر الطبيعية والبشرية لكل شعوب الأرض.

ب. وقد أفرزت هذه الإمبريالية رؤية عنصرية قامت بتصنيف البشر على أساس صفات مادية كامنة فيهم: حجم الجمجمة ــ لـون الجلد ـ شكل الشعر… إلخ، وأكدت التفاوت بين الشعوب، ونظرت إلى الشعوب غير الغربية وأراضيها ومواردها باعتبارها مادة استعمالية يمكن للسوبرمان الغربي أن يوظفها لحسابه باعتباره أقوى الشعوب وأكثرها رقيًا.

ج. قام الإنسان الأوربي بترشيد العالم لمصلحته حتى يتسنى له استغلاله على أكمل وجه، وتضمن هذا الترشيد فيما تضمن القضاء على كل المؤسسات الحكومية والأهلية التقليدية التي كانت تنتظم الحياة السياسية والاجتماعية لشعوب آسيا وإفريقيا، وتغيير النظام التعليمي ومعمار المنازل وتخطيط المدن، وإعادة صياغة البنية الاقتصادية والسياسية (تغيير البناء المحصولي – القضاء على النخب السياسية والثقافية التقليدية) وأحل محل كل هذا مؤسسات يديرها مديرون أجانب، وزودهم بأدوات القمع والإكراه للحفاظ على الأمن الداخلي، وكل هذا كان يتم لصالح الدول الغربية المستعمرة، ونسمي هذه العملية (علمنة دون تحديث)، فالعلمنة تقوم بتفكيك أوصال المجتمع، وهذا في صالح الدول الغربية، أما التحديث، أي إنشاء مؤسسات حديثة تدير المجتمع على أكمل وجه لصالح أهله أو حتى لصالح نخبته الحاكمة، فهذا ما يقف ضد صالح الاستعمار، وقد نتج عن ذلك أن دول آسيا وإفريقيا تدفع ثمنًا غاليًا للتقدم دون أن تحرز هي أي تقدم.

ثم جاءت مرحلة الاستقلال ولم يتغير الأمر كثيرًا؛ إذ جاءت نخب محلية صعدت من عملية تفكيك أوصال المجتمع بالقضاء على البقية الباقية من الجماعات المدنية، وزادت من هيمنة الدولة القومية وسطوتها ومن مؤسساتها الأمنية، فهي نخب مستغربة منفصلة تمامًا عن الشعوب التي تحكمها وعن خطابها الحضاري، وقد أسست هذه النخب نظمًا استبدادية فاسدة قامت باستغلال شعوبها، واستمرت في عملية العلمنة دون تحديث، وكل هذا بتأييد دول الغرب العلمانية الديموقراطية.

لكل هذا يمكن القول: إن ارتباط مصطلح العلمانية بالتسامح واتساع الأفق والتعددية وقبول الآخر والإيمان بالعلم ليس ضروريًا، فهذه مجموعة من القيم يمكن أن يتسم بها نظام علماني أو غير علماني، ويمكن أن تكون غائية عنهما. وهناك أمثلة في الفكر والتاريخ العلماني تبين مدى القسوة التي يمكن أن تصل إليه النظم الحاكمة العلمانية. ففكرة الاقتصاد الحر، أو اقتصاديات السوق، والداروينية الاجتماعية، والنيتشوية، والعنصرية والنازية، كلها أفكار أو منظومات فكرية علمانية صراعية قتالية أبعد ما تكون عن التسامح وقبول الآخر.

وقد تبدت هذه الأفكار في ظواهر اجتماعية وتاريخية، يمكن أن تشير إلى أولى تجارب العلمانية الغربية وهي حركة الاكتشافات، التي تطورت لتصبح الحركة الإمبريالية التي اشتركت فيها كل الدول الغربية (بما في ذلك روسيا القيصرية [في الخانات التركية وبولندا] والولايات المتحدة [في أمريكا اللاتينية والفلبين في مرحلة لاحقة] لإبادة الملايين ونهب العالم. ويمكن في هذا الإطار أن نشير إلى الغزوة الصهيونية لأرض فلسطين، فالصهيونية رغم كل ديباجاتها، في جوهرها حركة داروينية علمانية، حولت فلسطين والفلسطينيين إلى مادة استعمالية (تُطرد خارج فلسطين)، بل حولت الجماعات اليهودية في العالم إلى مادة استعمالية أيضًا (تُنقل إلى فلسطين)، وساندتها الإمبريالية الغربية، وكل هذا تم في إطار من العقل المطلق. ولم يتوقف مسلسل العنف الإمبريالي (العلماني) حتى الآن، سواء في البوسنة أم الشيشان أم من خلال نشاط المخابرات الأمريكية، سواء في حركة الاغتيالات أو الانقلابات أو مساندة النخب الحاكمة الفاسدة في العالم الثالث.

ويمكن أن نشير أيضًا إلى الثورة الفرنسية التي نادت بالحرية والإخاء والمساواة، وأفرزت عهد الإرهاب وروبسبير ثم نابليون الذي أرسل جيوش فرنسا لغزو روسيا ومصر وغيرها من البلدان. ثم كان هناك الثورة البلشفية التي أفرزت ستالين والمذابح التي دبرها والجو الشمولي الذي فرضه على الشعوب السوفيتية، والثورة النازية التي طبقت معايير رشيدة مادية صارمة على البشر واجتثت مَن تصورت أنهم غير نافعين (Useless eaters) أفواه تستهلك ولا تُنتج بما فيه الكفاية في المصطلح النازي.

وقد أدرك البروفسير “جون كين” تمامًا هذه الجوانب المظلمة للتجربة العلمانية؛ ولذا وضع مصطلح ما بعد العلمانية (Post-secularism) على وزن ما بعد الحداثة وما بعد الأيديولوجيا وغيره من المصطلحات الشبيهة، وكلمة (ما بعد) هنا تعني في واقع الأمر نهاية، وما بعد الحداثة تعني نهاية الحداثة، وما بعد الأيديولوجيا تعني (نهاية الأيديولوجيا)، (ويظهر هذا في مصطلح نهاية التاريخ)، ولكن آثر أصحاب هذه المصطلحات أن يستخدموا الكاسحة (بوست) (ما بعد) ليشيروا إلى أن النموذج المهين قد فقد فعاليته، ولكن النموذج الجديد البديل لم يحل محله بعد.

 و(ما بعد العلمانية) تعني أن نموذج العلمانية قد دخل مرحلة الأزمة، ولكن لم يحل محله نموذج آخر، وبالفعل يتحدث البروفسير “كين” عن أن العلمانية لم تفِ بوعودها لا في العالم الأول (حيث تنتشر العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية)، ولا في العالم الثالث (حيث تحالفت العلمانية مع الفاشية والقوى العسكرية والطبقات المستغلة).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منقول بتصرف من:

عبد الوهاب المسيري، عزيز العظمة (2000). العلمانية تحت المجهر. ط. 1. دمشق: دار الفكر. 334 ص.

** أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن بكلية البنات جامعة عين شمس.

عن عبد الوهاب المسيري

شاهد أيضاً

الإنسانوية المستحيلة: إشكالات تأليه الإنسان وتفنيدها في الفكر المعاصر

تأليف: د. إبراهيم بن عبد الله الرمَّاح

عرض: أ. يارا عبد الجواد

إن الناظر في واقع حال الأمة الإسلامية اليوم يجد حروبًا على جبهات عدة بعضها بالقوة الخشنة والبعض الآخر – وهو الأكثر خطورة- بالقوة الناعمة والغزو الثقافي الذي بات يأكل في جسد الأمة في الخفاء مستهدفًا وعي أبنائها وعقيدتهم.

بين الإسلام والعروبة

تأليف: المستشار طارق البشري

عرض: أ. أحمد عبد الرحمن خليفة

يندرج كتاب "بين الإسلام والعروبة" للمستشار طارق البشري (1933: 2021م) بجزئيه ضمن مجموعة مؤلفات البشري التي عُنيت بتحليل قضية "الجامعة السياسية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.