القيم في المنظومة الإسلامية:
التأسيس والمناسبة*
د. محمد الأنصاري**
مقدمة:
يبدو سؤال القيم من الأسئلة ذات الراهنية المزمنة والدائمة بحكم ارتباطه بعدد من القضايا المستجدة التي تجعله دائماً موضوع الطرح وإعادة الطرح. ومن بين تلك القضايا المستجدة التي يفرزها البحث العلمي في حقل القيم من جهة، وتطور المجتمعات الإنسانية من جهة ثانية: علاقة الدين بالقيم. والمقصود بهذه العلاقة إثارة قضية التأثير والتأثر بين الدين باعتباره منظومة ذات أسس اعتقادية، ومضامين تعبدية، وحمولات أخلاقية، وبين القيم باعتبارها مجالاً للنظر العقلي والبحث الفلسفي. ثم يأتي بعد ذلك سؤال الكونية والخصوصية في المجال القيمي، هذا السؤال الذي يمكن صياغته بعبارة أكثر دقة بالقول: هل القيم مطلقة في كل المجتمعات وعبر كل الأزمنة أم أن هناك جانباً من النسبية فيها يستدعي التوقف عند كل نظام قيمي باعتباره منتجاً لتجربة إنسانية خاصة مشروطة بمعطيات الزمان والمكان والإنسان؟
لقد تعددت الأجوبة عن تلك الأسئلة تبعاً لتعدد المرجعيات والمنطلقات الفكرية والإيديولوجية. فبين من يرفع شعار الكونية ويدعو إلى اعتبارها في المجال القيمي والحقوقي، وتبعاً لذلك ينادي بمحو كل ما له علاقة بالخصوصية الثقافية أياً كان مستقرها ومستودعها. وبين من يرفع شعار الخصوصية مبيناً زيف دعوى الكونية وأنها ليست سوى تجل لنموذج ثقافي غربي يسعى لبسط سلطانه واكتساح ثقافات الشعوب المغلوبة.
وأياً ما كان الأمر والموقف فإن هناك إشكالات عدة ينبغي أن تكون موضع اهتمام الباحث وهو يقارب موضوع القيم. ومن أهم تلك الإشكالات: سؤال تأسيس القيم. والمقصود به تحديد المرجعية التي يُستند إليها في تقرير القيم وتحديد معياريتها، هل الأمر يتعلق بالعقل الإنساني أم بالإرادة الإلهية باعتبارها المحددة لما يصلح للإنسان في عالم الغيب والشهادة؟ هذا السؤال الذي يقع في قلب ما يعرف بالمشكلة الأخلاقية، التي تعد أهم المشاكل في فلسفة القيم، يمكن صياغته بشكل أكثر إجرائية عندما نتساءل: على أي معيار نستند عندما نحكم على هذا السلوك أو ذلك بأنه خير أو شر، حسن أو قبيح؟[1]، ويدخل في صلب إشكالات التأسيس الحديث عن إمكانية التعارض أو التعايش بين مرجعيتي العقل والشرع في الإجابة عن هذا السؤال الذي تتجاذبه المرجعيتان، شأنه في ذلك شأن عدد من الأسئلة المعرفية والاعتقادية التي تَحَدث فيها علماء الإسلام وصاغوا فيها قوانين لدرء التعارض متى كان متصوراً أو موجوداً.
بعد سؤال التأسيس يبرز سؤال المناسبة، والمقصود به: هل القيم الدينية تتناسب وتتلاءم مع القيم الكونية؟ هذا السؤال الذي يُطرح بإلحاح وشدة في عصرنا الحاضر كلما تعلق الأمر بأحكام أو قضايا يختلط فيها ما يوصف بأنه كوني بما هو خصوصي يعكس هوية وثقافة المجتمعات بروافدها المختلفة التي يُعد الدين من بين مكوناتها الأساسية. ويزيد من أهمية هذا السؤال ما تفرضه الممارسات الاتفاقية التي تقوم بها الدول في إطار القانون الدولي والتي قد تتضمن أحياناً مضامين حقوقية ذات خلفية قيمية يُصرَح بأنها تسمو على التشريعات الوطنية في عدد من الدساتير.
بعد الإجابة عن السؤالين لا بد من تقديم نماذج لبعض الاجتهادات التي حاولت حصر القيم الإسلامية في قيم عليا مرجعية تستند إليها باقي القيم الفرعية التي توجه السلوك وتحدد الاختيار بالنسبة للأفراد والجماعات في الحياة اليومية. وذلك باعتبار القيم بناء يخضع للتراتبية ويستهدف تقديم محددات لرؤية العالم واستشراف المطلق، كما أنها تعكس روح المجتمع وثقافته. وبناء على ما تقدم ستنتظم هذه الورقة في مطلبين اثنين كما هو موضح فيما يلي:
المطلب الأول/ منظومة القيم الإسلامية: التأسيس والمناسبة.
المطلب الثاني/ منظومة القيم المرجعية العليا الإسلامية.
المطلب الأول: القيم في المنظومة الإسلامية: التأسيس والمناسبة
قبل الشروع في فحص سؤال التأسيس والمناسبة لا بد أولاً من تعريف القيم بصفة عامة ثم القيم الإسلامية بصفة خاصة. لقد عُرِّفت القيم بتعاريف متعددة تبعاً لاختلاف المجالات المعرفية التي تهتم بها. فالقيم موضوع تتقاطع فيه تخصصات أكاديمية متعددة مثل: الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلوم التربية، وعلم السياسة، والدراسات الشرعية… بل وحتى بعض التخصصات العلمية من خلال الحديث عن أخلاقيات المهنة وأدبيات البحث العلمي.
عموماً نجد أن الجانب اللغوي من هذه الكلمة مشتق من فعل قوَّم الذي يشير في اللغة العربية إلى معانٍ منها: قوَّمْتُ الشَّيء تقويماً، وأصلُه أنَّك تُقيم هذا مكانَ ذاك. ومنه هذا قِوام الدين والحقّ، أي به يقوم[2]. واصطلاحاً نجد أن من أوفق التعريفات التي تمَكّن صاحبها من ذكر ما تفرق في غيره من التعاريف ما ذكره الدكتور مهدي عبد الحليم حينما قال: “القيم معايير عقلية ووجدانية، تستند إلى مرجعية حضارية، تُمكِّن صاحبها من الاختيار، بإرادة حرة واعية وبصورة متكررة، نشاطاً إنسانياً يتسق فيه الفكر والقول والفعل، ويرجحه على ما عداه من أنشطة بديلة متاحة فيستغرق فيه، ويسعد به، ويحتمل فيه ومن أجله أكثر مما يحتمل في غيره دون انتظار لمنفعة ذاتية”[3].
انطلاقاً من التعريف السابق يمكن أن نتحدث عن مجموعة من الخصائص التي تميز القيم والتي يأتي على رأسها: الغائية أي أن القيم مطلوبة لذاتها[4] “في غير انتظار لمنفعة ذاتية”، كما أنها تتميز أيضاً بالقابلية للمقارنة طالما أن المرجعية الحضارية التي تستند إليها تتميز بالتعدد والتنوع. بالإضافة إلى الخاصيتين السابقتين تتميز القيم أيضاً بخاصية التراتبية، والمقصود بها أنها تترتب فيما بينها ترتيباً هرمياً بحيث يمكن الحديث عن قيم مركزية وأخرى فرعية. هذه الخاصية الأخيرة (التراتبية) تُمكِن الأفراد من القيام بالموازنة والترجيح عند تعارض القيم بعضها مع بعض في وضعيات أو مواقف معينة[5]، كما أنها تمكننا من تحديد نظام القيم في ثقافة معينة خلال تاريخ معين، وذلك بالبحث عن القيمة أو القيم المركزية في تلك الثقافة، طالما أن نظام القيم والسُلَم الذي ترتب فيه هو الذي يميز هذه الثقافة عن تلك[6].
إن ارتباط القيم بالمرجعية الحضارية بمحدداتها المختلفة يجعلنا نتحدث عن القيم بالإضافة إلى تلك المرجعيات فنتكلم عن القيم الغربية مثلاً، وعن القيم الإسلامية. يضاف إلى ذلك أن ارتباط القيم بمجالات محددة يمكِّن من الحديث عن أنماط متعددة منها بتعدد تلك المجالات، وذلك مثل: القيم الدينية، قيم المواطنة، قيم حقوق الإنسان، قيم العيش المشترك…
ويمكن تعريف القيم الإسلامية بالقول: “إنها معايير عقلية ووجدانية تستند إلى المرجعية الحضارية الإسلامية، وتمثل محددات لفكر الفرد المسلم وموجهات لسلوكه، كما أنها تشكل محددات لرؤية وتمثل العالم واستشراف المطلق”. انطلاقاً من هذا التعريف يمكن أن نخلص أيضاً إلى مجموعة من الخصائص التي تميز القيم الإسلامية والتي تضاف إلى الخصائص العامة للقيم التي سبق ذكرها، أي: الغائية، والقابلية للمقارنة، والتراتبية. ومن بين أهم تلك الخصائص: كون القيم الإسلامية قيماً فطرية متى عُرضت على العقول تلقتها بالقبول، كما أنها قيم شاملة لجميع مجالات الفعل الإنساني طالما أن مرجعيتها شاملة كذلك لجميع مناحي الحياة الإنسانية. يضاف إلى ذلك أنها قيم مرتبطة بالعمل رغم كونها من حيث هي معايير عقلية عامة تتميز بخاصية التجريد الذي تتميز به القيم عامة. وتمنح هذه الخاصية الأخيرة سبب وجودها من طبيعة الرسالة الإسلامية التي يتعانق فيها العلم بالعمل بشكل وثيق لا انفصام فيه.
أولاً: القيم وسؤال التأسيس في المرجعية الحضارية الإسلامية
إن أول الأسئلة التي تواجه الباحث في القيم في السياق الإسلامي هو سؤال مرجعية تأسيس القيم. ويتجلى مقتضى هذا السؤال في القول: إلى أي مصدر يُستند في إضفاء صفة القيمة على معيار معين؟ أو بعبارة أدق ما هي المرجعية التي تؤسس للمنظومة القيمية في المجال الإسلامي؟ لقد تحدث عدد من الباحثين والمختصين في مجال القيم عن أسس متعددة للقيم بصفة عامة منها: اللذة، والعرف، والدين، والعقل، والضمير الإنساني[7]، كما تحدثوا أيضاً عن مدارس متعددة في التنقيب العقلي عن أساس القيم. ومن تلك المدارس: المدارس السيكولوجية التي تفسر السلوك الأخلاقي، الذي هو انعكاس للقيم، بالعوامل النفسية وفي مقدمتها اللذة والألم. بينما تذهب بعض مدارس علم الاجتماع إلى تفسير السلوك الأخلاقي تفسيراً سوسيولوجياً يرتكز على الأعراف والمواضعات الاجتماعية. وهناك أيضاً مدارس فلسفية ترجع أساس القيم إلى العقل. إضافة إلى ذلك توجد مدارس واتجاهات فكرية تعتبر الدين أساس القيم ومرجع السلوك الأخلاقي[8].
إن الاختلاف في تقدير أساس القيم ليس مجرد خلاف نظري، بل إنه خلاف يستتبع أشكالاً أخرى من الخلاف من قبيل: مصدر الإلزام في مجال القيم، وقواعد الترجيح بين القيم عند تعارضها، إضافة إلى الخلاف الأساسي المتعلق بتأويل القيم لأن القيم معايير مجردة يخضع تنزيلها للخصوصية الثقافية لكل حضارة من الحضارات.
إن الجواب عن سؤال التأسيس من وجهة نظر إسلامية يستدعي منا بيان الموقع المعرفي الذي ينبغي التماس الجواب منه في خريطة العلوم الشرعية. والجواب سيكون طبعاً في علم الكلام الذي يُعد فلسفة للمسلمين، حيث تعالج أهم القضايا الأنطولوجية، والأخلاقية، والإبستمولوجية. وإن لهذا الاختيار ما يبرره علمياً وواقعياً، وذلك أن واقع الأمة قد عرف اتجاهات متعددة ومدارس مختلفة في التأسيس للقيم من وجهات نظر مختلفة. لكن كل تلك المدارس لم تكن تعكس وجهة نظر الإسلام الخالصة ولا جوهر رسالته الناصحة. لقد وُجد من بين فلاسفة الإسلام من سعى لبناء الأخلاق على أساس الموروث الفلسفي اليوناني، كما ارتأى اتجاه آخر تأسيسها على الموروث الفارسي الساساني[9].
إن التنقيب عن جواب لإشكالية التأسيس في علم الكلام ينبع من اشتغال هذا العلم على القضايا المجردة ومنها مسألة معرفة الخير والشر وطرق تلك المعرفة ومدى إلزام نتيجتها. إن معرفة الخير والشر هي جوهر كل فلسفة أخلاقية. وفي هذا الصدد نجد أن علم الكلام قد تضمن مباحث مهمة تقدم أجوبة عن هذه الإشكالية. هذه المباحث التي تندرج تحت عنوان أكبر هو مسألة التحسين والتقبيح. لقد شغلت هذه المسألة المتكلمين طويلاً، وانقسموا إزاءها إلى طرفين ووسط. فالطرفان هما المعتزلة والأشاعرة اللذان وقفا على طرفي النقيض فيها.
فالمعتزلة قرروا أن التحسين والتقبيح إنما يكون بالعقل. بمعنى أن العقل له صلاحية الكشف عن حسن الأفعال، أو قبحها بحسب المصالح والمفاسد المتضمنة فيها. وفي تقرير مذهب المعتزلة يقول القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني (415هـ): “ومن كمال العقل أن يعرف بعض المقبحات وبعض المحسنات وبعض الواجبات، فيعرف قبح الظلم وكفر النعمة والكذب الذي لا نفع فيه ولا دفع ضرر، ويعلم حسن الإحسان والتفضل، ويعلم حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك مانع، وحسن الذم على الإخلال بالواجب مع ارتفاع الموانع”[10].
في مقابل هذا الاتجاه – المعتد بالعقل وأحكامه كثيراً – وجدت في الفكر الكلامي الإسلامي نزعة نقلية تمنع أن يكون للعقل مدخل في التحسين والتقبيح. وقد جسد الأشاعرة هذه النزعة بما قرروه في مختلف كتبهم الكلامية والأصولية في هذه المسألة. يقول الإمام الغزالي (505هـ) في المنخول: “لا يستدرك حسن الأفعال أو قبحها بمسالك العقل، بل يتوقف دركها على الشرع المنقول. فالحسن عندنا ما حسنه الشرع بالحث عليه، والقبيح ما قبحه بالزجر عنه والذم عليه”[11].
بين الموقفين السابقين توسط عدد من الأعلام مثل الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. هذا الأخير الذي أثبت التحسين والتقبيح العقليين لكن دون أن يقع فيما وقع فيه المعتزلة من ربطهما بالجزاء والثواب. وقد قال في تقرير هذا المذهب: “فالصواب في هذه المسألة إثبات الحسن والقبح عقلاً، ونفي التعذيب على ذلك إلا بعد بعثة الرسل، فالحسن والقبح العقلي لا يستلزم التعذيب، وإنما يستلزمه مخالفة المرسلين”[12].
والخلاصة التي يمكن الخروج بها من هذا العرض المختصر للمسألة هي أن تأسيس القيم أو مرجعية القيم في المجال الإسلامي متعددة فهناك من يبنيها على العقل المجرد، وهناك من يجعلها مؤسسة على الشرع بمصادره النقلية التي هي القرآن والسنة. وهناك فئة ثالثة تجمع بين الأمرين فتجعل للعقل مكاناً في التأسيس لكن إثبات الجزاء الأخروي متعلق بالنقل فقط.
وهذه الملاحظة لا تتعلق فقط بالمتقدمين من الفقهاء والمتكلمين، بل إنها حاضرة بقوة فيما كتبه عدد من المفكرين المعاصرين والباحثين في مجال القيم والأخلاقية الإسلامية. ويمكن أن نمثل لهذا الاختلاف المعاصر في التأسيس للمنظومة الأخلاقية بما قرره اثنان من المختصين الكبار في الفلسفة عموماً والفلسفة الأخلاقية على وجه الخصوص هما: الدكتور طه عبد الرحمن الذي يرى أنه لا يمكن تأسيس الأخلاق إلا على أساس الدين، بينما يذهب مواطنه الدكتور محمد عابد الجابري إلى أن تأسيس الأخلاق على أساس العقل يمثل إجماعاً في الثقافة العربية الإسلامية.
يرى الدكتور طه عبد الرحمن في إطار نقده الأخلاقي للحداثة الغربية أن النظر الفلسفي الحديث في الأخلاق يبدو وكأنه فوضى فكرية لا مطمع في الحد من توسعها[13]. ومن مظاهر هذه الفوضى تلك النسبية الكبيرة التي تعرفها القيم. ذلك أن ما يعتبره بعض الفلاسفة قيمة أخلاقية قد يكون في رأي البعض الآخر قيمة غير أخلاقية مثل الطمع في الثواب والخوف من العقاب. إن السبب في هذا الاضطراب الكبير يرجع بالأساس إلى الاشتغال على القيم اعتماداً على العقل الذي تختلف أحكامه وتضطرب في هذا المجال، وعدم ردها إلى مجالها الحقيقي الذي تنسب إليه وهو مجال الدينيات، فلا أخلاق بدون غيبيات كما لا دين بدون غيبيات[14]. هكذا يقرر الدكتور طه عبد الرحمن أن أسباب الأخلاق موصولة بأسباب الدين حتى أنه لا حدود بينة مرسومة بينهما، كما أنه يبني مشروعه الأخلاقي على مسلمة الجمع بين الأخلاق والدين جاعلاً هذا الجمع أصل الأصول لفلسفته الأخلاقية[15].
يقرر الدكتور محمد عابد الجابري من جهته أن تأسيس الأخلاق على العقل يشكل موضع إجماع في الثقافة العربية[16]، هذا الإجماع الذي يحاول إثباته من خلال استعراض ما يؤكده من نصوص الأصلين الأولين في الإسلام، وهما القرآن والسنة بحسب ما فهمه منها[17]. بعد ذلك ينتقل إلى إبراز القضية من خلال مواقف المتكلمين في مسألة التحسين والتقبيح – المشار إليها سابقاً – مقرراً أن كون العقل يميز بين الحَسَن والقبيح بصورة بديهية هي مسألة متفق عليها بين المتكلمين سواء كانوا أشاعرة أو معتزلة، لكن ما يترتب عن هذا التمييز من وجوب التزام الحسن وتجنب القبيح فهي مسألة خلافية بين الفريقين[18]. فالأشاعرة يرون أن إدراك ما في الأشياء من حُسْن أو قبح يختص به العقل، لكن الحكم على الشيء بالحسن والقبح وبالتالي كونه حلالاً أو حراماً هو للشرع وليس للعقل مدخل فيه[19]. والحقيقة أن هذا الموقف لا يمثل جوهر الأشعرية، وليس مصرحاً به، وإنما هو مقال لبعض التجارب التوفيقية في المسألة كما سبق بيانها قبل في كلام الإمام ابن القيم. أما المعتزلة فإنهم يرون أن العقل يستقل بمعرفة الحسن والقبيح كما أنهم يوجبون واجبات ويحرمون محرمات بالاستناد إلى العقل وحده. وقد كانت هذه الفكرة من جملة ما انتقدوا عليها في فلسفتهم الأخلاقية من طرف جميع الاتجاهات الكلامية السنية.
يتضح مما تقدم أن تأسيس القيم في المرجعية الحضارية الإسلامية يعرف تنازعاً بين مرجعيتين هما العقل والنقل. وقد برز هذا التنازع في التراث الأخلاقي الإسلامي من خلال مختلف المقالات في علم الكلام، كما برز أيضاً في إسهامات المختصين في الفلسفة الأخلاقية من المعاصرين. والحاصل أن هذا التنازع لا يعني بتاتاً التناقض الحدي بين المقالات المؤدي إلى اختلاف النتائج، بحيث يعتبر القبيح عند طائفة حسناً لدى طائفة أخرى والعكس. إن حالة كهذه يمكن أن تقع في نظام معرفي يستند إلى مجرد العقل، مع ما يعرفه تحديد هذا العقل من إشكالات تجعل أحكامه وما يبنى عليها مغرقة في النسبية لا يعرف الاستقرار طريقاً إليها.
إن واقع البحث المعرفي يؤكد على مبدأ التكامل بين المرجعيتين (العقل والنقل) في التراث الإسلامي. هذا التكامل الذي لا يؤدي إلى طغيان جانب العقل على النقل أو العكس، بل يقوم على مبدأ التوازن الذي يستند إلى مُحكَّمات القطع أو الظن في الترجيج بين المصدرين. وبناء عليه فإن التعارض الواقع أو المتوقع يُسعى إلى درئه ورفعه من خلال الجمع بين دلالة المعقول والمنقول عند عدم تعارضهما، وتقديم القطعي على الظني سواء كان عقلياً أو نقلياً عند التعارض. وهذا الأمر يضمن تعايشاً بين المرجعيتين في جميع مجالات المعرفة التي يزدوج فيها النظر العقلي والنقلي معاً. إن هذه الخاصية التوفيقية تنعكس على النظام القيمي المؤسس على محكمات العقل والنقل بحيث تضمن الاستقرار لهذا النظام من جهة والتوازن في تلبية نداء الروح وحاجات الجسد من جهة أخرى، وفي الموازنة بين رغبات الفرد وضرورات المجتمع. هذا الأمر ينتج استقراراً نفسياً لدى الأفراد ومجتمعاً متماسكاً قوياً بفضل نظامه القيمي الثابت والمستقر.
إن الانطلاق من مبدأ التكامل بين مرجعيتي العقل والنقل في جميع المجالات وخاصة في المجال القيمي يضمن الإجابة المثلى على سؤال تأسيس الأخلاق بما يحقق إنسانية الإنسان وكونه روحاً وجسداً غير متمايزين. وتبعاً لذلك يحقق إحدى أهم خصائص الإسلام وهي التوازن والاعتدال، فليس هناك انفصال بين النقل والعقل في فهم الإسلام أو في تحديد طبيعته، وإنما هناك علاقة عميقة بينهما، لأن الإنسان الذي هو المخاطب بهذا الدين، لا يمكن تجزئته إلى فاعليتين منفصلتين متقابلتين، إحداهما تتلقى الأمر أو الخبر أو المعلومة، بدون تروٍّ أو فكر، والأخرى تخضع ذلك لحساب العقل وحده بدون مراعاة لأي معطيات سابقة[20].
لا يقتصر دور مبدأ التكامل بين مرجعيتي العقل والنقل في تحقيق خاصية التوازن في المجال القيمي فقط، بل إنه يمتد ليشمل جميع مجالات النشاط الإنساني. فهو مبدأ فكري منهجي يؤطر حياة الإنسان المسلم ويفتح له آفاقاً معرفية تتلاقح فيها أفكاره مع الكسب الإنساني بشكل يجعله فاعلاً ومتفاعلاً. ينطلق من الذات الحضارية المحصنة بقيمها ويتصل بما هو إنساني نافع دون أن يُفرِط في هويته أو ينسلخ عن قيمه.
ثانياً: القيم الإسلامية وسؤال المناسبة
المقصود من هذا السؤال هو الحديث عن إمكانات التوافق أو التعارض بين منظومتي القيم الإسلامية والقيم الكونية. فالقيم الكونية هي قيم إنسانية تتجاوز العلاقات الاجتماعية والخصوصيات الحضارية للشعوب والأمم. بينما القيم الإسلامية هي قيم تُمنح من العقل الأخلاقي الإسلامي ومن مصادر التشريع الإسلامية. ولذا فإن سؤال المناسبة أو الملاءمة يكون مشروعاً هنا، لا سيما وقد كثر الحديث في مجالات متعددة مثل حقوق الإنسان والقانون الدولي عن إشكالية التفوق المعياري أو السمو للمنظومة الكونية على الخصوصيات المحلية.
بداية أؤكد أن القيم من حيث كونها معايير مجردة تستند إلى العقل في مرجعيتها أو إلى النصوص التأسيسية، لا يمكن الخلاف بشأنها ولا الجدال في قيمتها. فمن ذا الذي يجادل في الكرامة الإنسانية، أو العدل، أو المساواة، أو الحرية… فهذه القيم هي محط تبجيل من طرف كل الثقافات وفي كل الحضارات. ومن هنا فإن الإشكال ليس مرتبطاً بالقيم في الرؤية، وإنما ينشأ الخلاف في التطبيق المرتبط بالمعاني أو التأويلات التي تُعطَى لتلك القيم.
والجدير بالذكر أن هذا الاختلاف في التأويل ليس مرتبطاً بالحضارات المختلفة، بل قد يكون داخل نفس الحضارة. فالأوروبيون والأمريكيون يمتلكون قيماً أساسية مشتركة، لكنهم لا يشتركون في فهم واحد لهذه القيم. فعلى سبيل المثال يمجد الجميع الكرامة الإنسانية، إلا أن الأوروبيين يرون في عقوبة الإعدام انتهاكاً لها، لكن الأمريكيين يستمرون في تطبيق تلك العقوبة ويعارضون إلغاءها[21].
بناء عليه نستطيع القول إن القيم باعتبارها معايير عقلية مجردة لا تختلف من حضارة إلى أخرى، لكن الذي يختلف ويحدد تبعاً لذلك النظام القيمي السائد في كل ثقافة إنما هو تراتبيتها وانتظامها في نسق معين. إضافة إلى المعاني التي تعطى لها والتي تكون مشروطة بالواقع وإكراهاته. إن الحديث عن نسبية القيم ينبغي أن يفهم في إطار هذا التحديد، كما أن الفوضى والتناقض المفهومي الذي وسم به الدكتور طه عبد الرحمن باب الأخلاقيات في الفلسفة المعاصرة إنما يرجع إلى هذا السبب بالذات. نعم يمكن الحديث عن تصادم القيم فيما بينها لكن لأسباب أخرى ترتبط بخاصية التراتبية التي تمت الإشارة إليها سابقاً.
وفي هذا الإطار يلاحظ الدكتور طه عبد الرحمن أن بعض القيم الأساسية التي تُبنى عليها الحياة الطيبة تكون متعارضة أو متنازعة، بل متصادمة فيما بينها، بحيث لا يمكن رفع هذا التصادم برد هذه القيم بعضها إلى بعض ولا بترجيح بعضها على بعض[22]. وهو إذ يقرر هذا الأمر فإنه لا يرجعه لا إلى الذاتية القيمية التي تربط القيم بأذواق الأفراد، ولا إلى النسبية القيمية التي تربطها بالثقافات، بل يرد ذلك إلى كون العلاقة بين القيم تتصف بصفتين أساسيتين هما: التغاير والتباين[23].
إن اختلاف مستويات النظر إلى القيم يفسر لنا جانباً من التصادم والتنافس الملاحظ بين القيم. هذا التصادم الذي لا يمكن تصوره على المستوى العام المجرد الذي يجعل من القيم معان إيجابية سابقة ومدرَكَة تندرج في إطار المشترك الإنساني. لكن تنزيلها من هذا المستوى العام إلى المستوى الإجرائي يخضع لإكراهات الواقع الاجتماعي والثقافي والتاريخي لكل مجتمع على حدة. وهنا يمكن أن نتحدث عن نوع من التخصيص في الفهم قد يؤدي إلى التنافس والتصادم بين نظم القيم في الثقافات المختلفة. وهذا الأمر هو ما أفرز التوقيع بالتحفظ أو إبداء الإعلانات التفسيرية (التوقيع على الاتفاقية مع التحفظ على بعض بنودها أو تفسيرها تفسيراً خاصاً بشكل يضمن عدم مناقضتها للتشريعات الداخلية أو للثوابت الوطنية)، في ممارسة الاتفاقية الدولية التي تمس جانب القيم والهوية.
إن ممارسة الاتفاقية الدولية لا سيما تلك المتضمنة لمقتضيات ذات حمولة قيمية (المساواة بين الرجل والمرأة، حقوق الأفراد…) والتي قد تتعارض مع بعض الثوابت القيمية المرتبطة بخصوصيات المجتمعات (الإجهاض، الحرية الجنسية…) ليست سوى تجلٍ من تجليات تنازع وصراع القيم على المستوى الدولي. هذا التنازع الذي يُطرح أيضاً على المستوى المحلي في شكل تجاذبات قيمية وهوياتية في عدد من المحطات والأحداث التي قد تختلف مواقف الفرقاء الثقافيين والحقوقيين منها تبعاً لاختلاف مرجعياتهم. وتمثل لحظة وضع أو مراجعة الدساتير في البلدان العربية إحدى أهم تلك المحطات، بحيث يصح وصف هذه الإشكالية بأنها إحدى أهم التوترات المهيكلة للدساتير العربية[24].
لقد أضحى التدافع والتجاذب القيمي سمة للمجتمعات المعاصرة التي تتميز بالتعدد المرجعي. هذا التدافع الذي يجد أرضيته في عدد من المجالات منها: السياسة، والتعليم، والاقتصاد، والثقافة، والإعلام… يمثل واقعاً يومياً لا ينبغي إنكاره أو التنكر له والقفز عليه، بل إن الحكمة تقتضي إيجاد أفضل الطرق لتدبيره بعد دراسته والتعمق في البحث عن أسبابه. وحينئذ يمكن الحديث عن تحصين الذات ضد كل محاولات الإلحاق والاستتباع باسم مفهوم الكونية الذي يسعى إلى فرض نظم قيمية نمطية تبلورت في سياق ثقافي وحضاري مختلف. وبعد تحصين الذات يمكن الحديث عن استثمار الرصيد القيمي المشترك باعتباره مشتركاً إنسانياً يمثل ثروة يتعين تعهدها من خلال الحوار بين الثقافات والحضارات والتلاقح الإيجابي في مجال القيم البناءة والإيجابية[25].
بما تقدم يتضح أن للقيم مستويين: مستوى الرؤية أو التصور حيث ينظر فيه إليها باعتبارها معانٍ مجردة لا يختلف تقدير الناس لها ولدورها الإيجابي في البناء الاجتماعي. ثم مستوى التأويل الذي يرتبط بتنزيل القيم على الواقع الاجتماعي حيث يخضع ذلك التنزيل بالضرورة لمحددات مختلفة ولإكراهات متعددة تنقل القيمة من المعنى العام المجرد إلى المعنى الخاص الذي يعكس الخصوصية الثقافية والحضارية. ويشكل هذا المستوى مجالاً للتنازع والتدافع في المجال القيمي الذي ينبغي البحث عن أسبابه دولياً (في العلاقة بالآخر الحضاري) ومحلياً (التعدد المرجعي على مستوى المجتمع الواحد)، ثم التوافق على مسالك لتدبيره واستثماره بما يحفظ الهوية ويحقق الانفتاح في عالم متحول ومفتوح لا مجال فيه للانغلاق والحجر على الناس ومصادرة اختياراتهم. وإن هذا المسلك ليمثل اتجاهاً نحو عقد اجتماعي مؤسس للتجمع المدني سواء على المستوى الدولي أو الوطني.
المطلب الثاني: منظومة القيم العليا الإسلامية وخصائصها
لقد تعددت اجتهادات الباحثين في حصر وجرد القيم العليا أو المركزية في الإسلام. والمقصود بوصف القيم بكونها عليا أو مركزية أنها على درجة كبيرة من التقدير في سُلم القيم، كما أنه يمكن إرجاع بقية القيم الفرعية إليها. وكانت كثير من تلك الاجتهادات تستند إلى فهم نصوص الوحي وأيضاً إلى الجانب المقاصدي من الشريعة الإسلامية. وإذا كان سياق الدراسة لا يسمح بعرض أكبر عدد ممكن من تلك الاجتهادات، فإني اقتصر على بعض النماذج مع استحضار خصوصيتها الفكرية أو التربوية. بعد ذلك العرض سأخصص طرفاً من الحديث عن الخصائص العامة للقيم في الإسلام.
أولاً- منظومة القيم العليا المرجعية في الإسلام:
إن فكرة انتقاء مجموعة من القيم لتشكل منظومة للقيم العليا أو المرجعية في نظام قيمي معين، تستند إلى مجموعة من المعايير من أهمها: أهمية القيم المنتقاة ومدى علوها في السُلم التراتبي للقيم، ثم مدى انتظام القيم حولها بشكل يجعلها تشكل نسقاً أو منظومة مترابطة. وأخيراً مدى تمثيلها للخصوصية القيمية لذلك النظام، وتقديمها لأجوبة تعكس تَمثُله للحياة والمصير والعلاقة مع الغير بشكل يتطابق مع مرجعيته. وتعد هذه الفكرة حديثة نسبياً أملاها اشتغال المتخصصين على إبراز خصائص ومميزات الإسلام باعتباره نظاماً قيمياً يقدم أجوبة على مختلف إشكالات المسألة الأخلاقية.
لقد عاب كثير من المختصين على علماء الإسلام في مجال الأخلاق مجموعة من الأمور من أهمها: ترتيبهم لمكارم الأخلاق ضمن الكماليات في سلم المقاصد[26]، وأيضاً طابع التجزئة الذي ميز البحث في هذا المجال في التراث الإسلامي[27]. وسعياً لتجاوز هذه النقائص اقترح بعضهم نماذج لمنظومات قيمية تظهر أصالة البعد الأخلاقي في الإسلام وتمثل قواعد عامة لها تضمينات في مجالات مختلفة. وفيما يلي عرض موجز لبعض تلك النماذج:
يرى الدكتور فتحي حسن ملكاوي – مستنداً في ذلك إلى ما قدمه الدكتور طه جابر العلواني – أن وصف القيم بكونها عُليا يكون باعتبارها مرجعية مقاصدية لبيان غاية الحق من الخلق، ومنظومة معيارية للقيم التي تنبثق عنها سائر القيم الرئيسية والفرعية في دين الله[28]. وقد حدد عناصر هذه المنظومة في ثلاث قيم هي:
– التوحيد: وهو الأساس الأول في منظومة القيم العليا الإسلامية والعنصر الأساسي في النظام العام الاعتقادي. هذه القيمة لها تجليات في مختلف مجالات الفعل الإنساني تنطلق من رد الظواهر إلى أصل واحد. ففي المجال المعرفي نجد المرجعية التوحيدية في مجال مصادر المعرفة وأدوات اكتسابها وفق منهجية التكامل المعرفي. أما في المجال الاجتماعي فيتجلى التوحيد في وحدة الاجتماع البشري، وفي المجال السياسي في وحدة الأمة، وفي المجال الاقتصادي في مبادئ الاقتصاد وأخلاقيات الإنتاج الإسلامية، وفي النظام الجمالي في غياب بعض أصناف الفن التشخيصي مثل النحت الذي يتخذ من تماثيل الإنسان أو الحيوان موضوعاً له…[29].
– التزكية: وهي مفهوم مركزي من مفاهيم القرآن والسنة موضوعها الإنسان سواء في فرديته أو اجتماعه. وتشكل التمثل العملي للشخصية الإنسانية وتفرعاته النفسية والعقلية. وتكون تزكية الفرد بتزكية المشاعر وخلجات القلب، والسلوك والجوارح. أما الأمة فتتم تزكيتها عن طريق تزكية علاقات أفرادها، وأنظمة حياتها. وتكون التزكية للمال بتطهير طرق اكتسابه وإنفاقه وتنميته وفق مبدأ الاستخلاف[30].
– العمران: وتمثل هذه القيمة الصورة العامة للنظام الاجتماعي وتفرعاته الاقتصادية والسياسية. وهي تحدد فقه العمل في الحياة الدنيا، ولا سيما عمل المجتمع، المتعلق بنظم الإدارة والرعاية لشؤون الناس بتيسير سبل الحياة لهم ورفع المشقة عنهم. وتتجلى هذه القيمة في الجوانب المادية لحياة المجتمع من بنيات تحتية وصناعات، وفي الجوانب المعنوية في استتباب الأمن وإقامة العدل وممارسة الشورى[31].
هذه باختصار عناصر منظومة القيم العليا الإسلامية التي ترجع إليها وتُستمد منها بقية القيم الرئيسية والفرعية. وهذه القيم تشكل معايير نابعة من تصورات أساسية عن الكون والحياة والإنسان والإله كما صورها الإسلام. وهذه المنظومة لها وظائف مقاصدية مرتبطة بالمقاصد الكلية للشريعة بحيث تحقق أهدافاً لتلك الكليات. كما أن لها وظائف تربوية بحيث يمكن اعتبارها موجهات أساسية لبناء المناهج وفق مدخل القيم[32].
إن تحديد النظام القيمي من خلال إبراز القيم المركزية المهيمنة فيه يشكل عملاً منهجياً مفيداً في تحديد خرائط للطريق في مجالات مختلفة. ومن أمثلة ذلك تحديد طبيعة النظام المعرفي ومرتكزاته، والإسهام في تحديد الكليات الأخلاقية التي تشكل مكوناً أساسياً من النظام المقاصدي بصفة عامة. هذا المكون الذي ينبغي أن يحتل مكان الصدارة في البناء المقاصدي، لا أن يتقهقر إلى مستوى الكماليات كما درجت بعض الأدبيات المقاصدية على وصف وترتيب الأخلاق ضمنه. أما في المجال التربوي فإن القيم تعتبر موجهات للمناهج الدراسية ومحددات لبناء السياسات التربوية وتنفيذها ومعايير لتقويمها. ولأجل هذا الاعتبار ما فتئت الأنظمة التربوية الناجحة تولي أهمية كبرى لتحديد القيم المرجعية واستثمارها في العملية التربوية. والملاحظ أنه كلما كانت تلك القيم قليلة العدد وعامة ومتوافقاً بشأنها كلما كان أثرها كبيراً وفعلها في المنظومة أكثر ضبطاً[33].
يقدم لنا الدكتور محمد عابد الجابري من جهته نموذجاً للقيمة المركزية في الإسلام من خلال استقراء نصوص القرآن الكريم التي يرى أنها تركز على مفهوم العمل الصالح. هذا المفهوم الذي يمكن اعتباره بمثابة القيمة المركزية في أخلاق القرآن الكريم[34]، كما أن اجتماع العمل الصالح مع الإيمان تنتج عنه قيمة دينية مركزية تعتبر من أسمى القيم في كل دين وهي قيمة التقوى. ويفيدنا تتبع ورود هذه القيمة في القرآن الكريم من الحكم بأنها ليست مجرد قيمة تتعلق بالعلاقة بين العبد وربه، بل إنها تشكل فضيلة تتجه نحو الآخرين[35]. ويمثل هذا الاجتهاد تنظيراً يسعى إلى تفهم القيم الإسلامية من مصادرها الأصلية، ولأجل هذا السبب فإنه يستمد أهميته لكونه يعكس الموروث الإسلامي الخالص على عكس القيم التي كانت سائدة في نظم قيمية أخرى تأثرت بمؤثرات خارجية.
ومن بين الدراسات الجيدة التي يمكن ذكرها في هذا الباب أيضاً كتاب الدكتور محمد الكتاني، حيث عمل على تجميع القيم المرجعية في الإسلام في إطار منظومة متكاملة مترابطة ومتفاعلة تتكون من: الحق، العلم، الإيمان، الدين، المسؤولية، الشريعة، العدل، الوسطية، حقوق الإنسان. وقد كانت فكرة الترابط والانسجام بين هذه القيم وبين مختلف المجالات المعرفية معياراً أساسياً في اختيار هذه القيم واعتبارها قيماً مرجعية تعكس الجهاز القيمي الذي اعتمده الإسلام في بناء عقيدته وشريعته. كما أنها تحدد منظوره إلى الحياة الإنسانية، أو إلى مسؤولية الإنسان، باعتباره لم يُخلق عبثاً وإنما كان مستخلفاً في الأرض، مكلفاً بإعمارها، مسؤولاً عن تحقيق رسالته فيها، مكلفاً بتنمية قدراته وتزكية نفسه وعبادة خالقه[36].
ثانياً- الخصائص العامة لمنظومة القيم في الإسلام:
الملاحظ أن القيم وإن كانت عالمية وكونية من حيث المبدأ – كما سبقت الإشارة إلى ذلك- إلا أنها تخضع لتأويل يرتبط بالخصوصية الثقافية والدينية لكل حضارة، أي بعبارة أخرى فهي مشتركة إنسانياً مختصة اجتماعياً[37]. وتبعاً لذلك فإن مميزاتها الخاصة تستمد بشكل كبير من خصائص مختلف الحضارات المحتضنة لها. ومن هذا المنطلق فإن الخصائص العامة لمنظومة القيم في الإسلام تستمد من الخصائص العامة للشريعة الإسلامية بوصفها رسالة عالمية شاملة وسطية رحمة للعالمين.
– الربانية: وتستند هذه الخاصية إلى الوحي الإلهي الذي يستمد منه القيم المرجعية في الإسلام. وتبعاً لذلك فإنها قيم موجهة للجميع ولا تعكس انتماءً طبقياً أو مصلحياً أو عرقياً. بل هي تشريع إلهي للناس كافة يتمتعون بها ويحكِّمونها في مختلف جوانب حياتهم. ومن مظاهر هذه الخاصية القبول العام الذي تحظى به تلك القيم مقارنة مع غيرها من منظومات القيم التي يمكن أن يكون مصدرها فلسفات تختلف تقديراتها للإنسان بحسب اختلاف زاوية الرؤية. فالقيم التي تستند إلى النزعة الفردية الليبرالية يغلب عليها مثلاً تغليب القيم الفردية مقابل تغليب القيم الاجتماعية في المنظومات أو الفلسفات الاشتراكية[38]. فالملاحظ مثلاً أن الأنظمة الغربية المستندة إلى الفلسفة الليبرالية تغلِّب القيم الفردية في البناء السياسي، ولذا نجد منظومتها القيمية تقوم على حقوق أساسية مثل: المساواة، الملكية الخاصة، الحرية الفردية… بينما ينظر فلاسفة الاتجاه الاجتماعي إلى الحقوق السابقة باعتبارها حقوقاً شكلية تعكس تطلعات فئات وطبقات مسيطرة خلال مرحلة تاريخية معينة. لأجل ذلك فإنهم ينادون بحقوق تركز على المضمون الاجتماعي والاقتصادي مثل: العدالة التوزيعية عوض المساواة النظرية.
– الشمول: فالقيم المرجعية في الإسلام تهتم بمختلف جوانب حياة الفرد والجماعة ولا يطغى فيها جانب على جانب. وهذه الخاصية تجد مكمنها في طبيعة الرسالة الإسلامية التي تسعى إلى تنظيم حياة الفرد والجماعة. ومن شمول هذه القيم أيضاً دخولها في كل جوانب الحياة الإنسانية المختلفة. فللفكر قيم، وللاعتقاد قيم، وللقلب قيم، وللنفس قيم، وللسلوك الظاهر قيم[39].
– الفطرية: إن قيم الإسلام فطرية ليس فيها ما يخالف الطبيعة البشرية ولا ما يضادها، ولذلك فإنها عندما تعرض على العقول السليمة تقبلها. كما أنها – نتيجة لهذه الخاصية – قيم إنسانية ليست خاصة بجنس دون جنس ولا بعرق دون عرق. إنها قيم تخاطب الجانب الموحِّد والموحَّد في الإنسان: أصل الخلقة والفطرة التي فطر الله الناس عليها. ولطالما مثَّل الرجوع إلى الفطرة الأولى، أو ما يسميه فلاسفة العقد الاجتماعي مثل جان جاك روسو وجان لوك وغيرهما منطلقاً لتحديد القيم الأصلية للإنسان التي لم تتأثر بإضافات الثقافة أو الاجتماع الإنساني. هذه القيم التي درج هؤلاء الفلاسفة على تسميتها بالحقوق الطبيعية ينبغي تحصينها ولا يمكن التنازل عنها أو السماح بانتهاكها[40]. غير أن النظر الفلسفي لفلاسفة العقد الاجتماعي قد انتهى بهم إلى تقرير حقوق أو قيم تعكس وجهة نظر الليبرالية السياسية. وتشكل الحرية والمساواة والتسامح جوهر تلك القيم التي نادى بها هؤلاء، وسعوا لإقامة النظام السياسي على أساس العقد الاجتماعي الذي يصونها ويضمن للمواطن التمتع بها.
– الجمع بين الثبات والمرونة: فهي قيم ثابتة راسخة مطردة لا تفقد خصائصها مع الزمن ولا تتراجع ولا تبلى، والسبب في ذلك هو استنادها إلى الوحي الإلهي والشريعة الثابتة، لكنها في نفس الوقت مسايرة للتغيرات متجاوبة معها. ويمكن إرجاع هذه الخاصية إلى ما سبق الحديث عنه من تراتبية القيم التي تُمكِّن من الترجيح بينها وفق سلم الأولويات في حالات التعارض.
– التوازن والوسطية: إن استمداد القيم من الشريعة يجعلها تصطبغ بخصائص المصدر. ومن أهم تلك الخصائص التوازن والوسطية. فالتوازن يتم بمراعاتها لمختلف جوانب الشخصية الإنسانية الوجدانية والعقلية والجسدية، وذلك دون أن يطغى جانب على جانب. ولتأكيد هذه الخاصية نجد الإسلام حاسماً في التصدي لجميع مظاهر إهمال النفس والقسوة عليها باسم التعبد والنسك. وفي حديث الرهط الثلاثة ما يؤكد هذه الخاصية، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك يقول جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي عليه السلام قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[41].
– الواقعية: تتميز القيم الإسلامية بالواقعية فهي – نظراً لملاءمتها للفطرة – ليست قيماً نظرية مثالية غير قابلة للتطبيق في الواقع بكل إكراهاته. ومن واقعية هذه القيم أنها تراعي حال المكلف وجهده وطاقته، فلا تَحْمِله على ما فيه هلاكه أو تضييع مصالحه. وهي بذلك تسعى لتزكيته وفق طاقته وبما يتحمله من التكاليف الشرعية دون أن تساير انحرافاته بزعم المنفعة والذرائعية ونسبية القيم وغير ذلك من المفاهيم المستعملة في تبرير الانحراف.
هذه باختصار شديد أهم خصائص منظومة القيم العليا في الإسلام وهي خصائص مستمدة من خصائص الإسلام نفسه. وبإمكان الملاحظ أن يرى في الإسلام رسالة أخلاقية قبل كل شيء، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد جعل من أهم مقاصد بعثته إتمام مكارم الأخلاق وتقويتها وتمثلها في سلوك الفرد والمجتمع المسلمين[42]. والأخلاق في الإسلام ليست مجرد فضائل تتجلى في علاقة الفرد بربه وخالقه إنما هي موجهات ومحددات للسلوك داخل المجتمع، كما أنها تستمد طابع الإلزام من إلزامية أحكام الشريعة فيكون امتثال الفرد المسلم لها نابعاً من إيمانه بربه. وتبعاً لذلك تكون محركاً على الفعل والانفعال داخل المجتمع بما يثمر أفضل النتائج وأحسن الأوضاع.
خاتمة:
إن القيم مدخل أساس لبناء الفرد والمجتمع وفق معايير محدَّدة ومحدِّدة للاختيار وموجهة للسلوك. ولذلك مازال صناع التغيير في العالم يهتمون بها في جميع مجالات السياسات العمومية من سياسة واقتصاد وتربية وثقافة… والقيم من حيث المفهوم العام قد تكون موضع اتفاق، لكن المعاني والتأويلات المرتبطة بالتطبيق تبقى موطن الخلاف الرئيسي. والسبب في ذلك هو اختلاف البيئات الثقافية للمجتمعات التي تتوجه إليها هذه القيم.
إن الاختلاف الأساسي المرتبط بالقيم إنما يكون في مجال التنزيل المرتبط بثقافة المجتمعات وخصوصياتها أما القيم من حيث معناها المجرد فلا يمكن الاختلاف في تقديرها أو اعتبارها. ومن أجل تدبير هذا الاختلاف الذي يظهر على شكل تجاذبات وتنازعات سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي لا بد من اللجوء إلى آليات الحوار التي تمكن من تحصين المجتمعات وفي نفس الوقت من الانفتاح على المشترك الإنساني في مجال القيم الإنسانية.
إن القيم الإسلامية باستمدادها من الشريعة بمصادرها النقلية والعقلية لها من الخصائص ما يجعلها تتنكب طريق أي انحراف تصوري في القيم نتيجة للتطورات التي يعرفها العالم. كما أنها من جهة ثانية تتمتع بكل ما يضمن لها مسايرة الواقع وعدم الحجر على المكلف. فهي قيم فطرية غايتها تزكية الإنسان فرداً وجماعة من أجل بلوغ هدف العمران الذي اقتضاه الاستخلاف الإلهي للإنسان في هذه الأرض.
وأخيراً فإن مجال البحث في القيم الإسلامية يُعد مجالاً خصباً وروضاً أنفاً لكل باحث يسعى لإبراز تفوق منظومة القيم الإسلامية وللدفاع عنها في ظل واقع يتسم بالتدافع القيمي على المستوى المحلي والعالمي. ومن شأن تعزيز البحث في هذا المجال تقديم أجوبة مقنعة عن مختلف الإشكالات التي تثيرها المسألة القيمية على جميع الأصعدة. ولا شك أن تلك الأجوبة ستدفع لمزيد من تحصين الذات القيمية عبر إعادة اكتشافها والاعتزاز بها وتقديمها في أبهى حلة للمخالف، كما أن من شأن ذلك أيضاً تيسير سبل الانفتاح على المشترك الإنساني في مجال القيم والاستفادة منه في ربط جسور الاتصال وتعزيز ثقافة الحوار مع الآخر من أجل تعايش أفضل في عالم يعج بالمصالح والمتناقضات. وإن هذا الهدف لكفيل بتشجيع وتنسيق جهود البحث المؤسسية في مجال القيم في العالم العربي والإسلامي لتنتج أطراً مرجعية ودلائل قيمية تستفيد منها دول هذا العالم في مختلف المجالات مثل الاقتصاد، والتربية، والثقافة، والعلوم، والسياسة، والإعلام، وغيرها من المجالات.
* * * * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البحث منشور سابقًا في:
محمد الأنصاري (2022). القيم في المنظومة الإسلامية: التأسيس والمناسبة. مجلة المسلم المعاصر. ع. 172- 173. ص ص. 15- 40.
** أستاذ باحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – تطوان – جامعة عبد المالك السعدي – المملكة المغربية.
[1]الجابري، محمد عابد. العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2001 م، ص 101.
[2] ابن فارس، أبو الحسين أحمد، مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر، 1399هـ/ 1979م، ج 5 ص 43.
[3] عبد الحليم، مهدي، تعليم القيم: فريضة غائبة، مجلة المسلم المعاصر، عدد 65/ 66 سنة 1992/ 1993 نقلا عن: الصمدي، خالد، القيم الإسلامية في المنظومة التربوية: دراسة للقيم الإسلامية وآليات تعزيزها، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – إيسيسكو – 1429هـ/ 2008م، ص 18.
[4] الجابري، محمد عابد، مرجع سابق، ص 56.
[5] عبد الفتاح، إسماعيل. القيم السياسية في الإسلام، الدار الثقافية للنشر، القاهرة، ط 1، 1421هـ/ 2001م، ص 21 – 22.
[6] الجابري، محمد عابد، مرجع سابق، ص 523.
[7] الجابري، محمد عابد، مرجع سابق، ص 101.
[8] يلخص الدكتور محمد الكتاني هذه المدارس في ثلاثة اتجاهات أساسية حينما قال: “إن تأسيس منظومة للقيم الأخلاقية لا يمكن أن يخرج عن ثلاث مرجعيات: فإما أن تؤسس على المرجعية الاعتقادية الدينية، وإما أن تؤسس على المرجعية الفلسفية، التي تعتمد العقل وحده، أو على المرجعية العلمية التجريبية التي ترجع في تحديد الأخلاق إلى الواقع، وترفض التسليم بالدوافع الفطرية، أو المعارف القبلية للإنسان. “ينظر: الكتاني، محمد، منظومة القيم المرجعية في الإسلام، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – إيسيسكو – 2008 م، ط 1، ص 168.
[9] يميز الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه “العقل الأخلاقي العربي” بين مجموعة من نظم القيم في الثقافة العربية تبعا للمؤثرات التي تطغى في كل نظام من تلك النظم والتي تحدد أيضا نموذجا أخلاقيا سائدا، وقد جعل تلك النظم أربعة هي: الموروث الفارسي الذي يقوم على أخلاق الطاعة والذي رسخه كتاب الآداب السلطانية من مترجمي الأدب الساساني مثل عبد الله بن المقفع، والموروث اليوناني الذي يقوم على أخلاق السعادة التي كتب فيها الفلاسفة الإسلاميون مثل الكندي وابن مسكويه، والموروث الصوفي القائم على نموذج أخلاق الفناء، ثم الموروث العربي الخالص القائم على نموذج أخلاق المروءة.
[10] الهمداني، القاضي عبد الجبار بن أحمد، المغني في أبواب التوحيد والعدل، أشرف على طبعه: طه حسين وأمين الخولي، 1962م، وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر، ج 11 ص 384.
[11] الغزالي، أبو حامد، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، ط 2، 1400هـ/ 1980م، ص 8
[12] ابن القيم، الإمام محمد بن أبي بكر، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، تحقيق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عالم الفوائد، ط 1، 1432هـ، ص 956.
[13] عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1، 2000، ص 15.
[14] المرجع السابق، ص 25.
[15] المرجع السابق، ص 25 – 26.
[16] الجابري، محمد عابد، مرجع سابق، ص 104.
[17] المرجع السابق، ص 110 حيث قال: أما القول بأن أساس الأخلاق في الموروث الإسلامي الخالص هو العقل، فهذا يجد ما يؤيده ويؤكده في الأصلين الأولين في الإسلام، وهما القرآن والسنة، دع عنك كون القياس عند غالبية المجتهدين هو نفسه أصل من أصول التشريع في الإسلام. والقياس كما هو معروف، هو اعتماد العقل في الحكم على ما ليس فيه نص بناء على ما ورد فيه نص. ليس هذا وحسب، بل إن القرآن يدعو صراحة إلى الاعتبار. وهو استعمال العقل للعبور من حال الجهل إلى حال العلم”.
[18] المرجع السابق، ص 113.
[19] المرجع السابق، ص 116.
[20] الكتاني، محمد، مرجع سابق، ص 4.
[21] زيادة، رضوان، وأوتول كيفن جيه، صراع القيم بين الإسلام والغرب، دار الفكر، دمشق، ط 1، 1431هـ/ 2010م، ص 48 – 49.
[22] عبد الرحمن، طه. تعددية القيم: ما مداها؟ وما حدودها؟، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية – مراكش، ط 1، 2001، ص 14.
[23] المرجع السابق، ص 15 – 16، حيث يوضح هاتين الخاصيتين بقوله: “المراد بالتغاير أن القيمتين المتصادمتين لا تقبلان مقايسة أو مقارنة إحداهما بالأخرى، وذلك للأسباب التالية: إما أنه لا توجد أية قيمة عليا – كالسعادة – يمكن أن تتفرع عليها هاتان القيمتان أو يجري ترتيبهما بحسبها، وإما لأنه لا يوجد وسيط أو وسيلة – كاللذة – يمكن أن تقدر أو توزن بهما هاتان القيمتان، وإما لأنه لا يوجد مبدأ عام يمكن أن يؤخذ به أو قاعدة مقررة يمكن اتباعها للخروج من هذا التصادم، ومثال القيمتين المتغايرتين: المعرفة والرحمة، فلا يمكن أن نقيس إحداها على الأخرى، ولا أن نقارن بينهما على أساس مشترك بينهما، فضلا عن أن الزيادة في إحداهما لا يجعلها بالضرورة أفضل من الأخرى ولا دونها أفضلية وإن كان يجوز أن توجد قيمة ثالثة تفضل الواحدة ولا تفضل الأخرى.
التباين: المراد بالتباين معنيان أحدهما التباين المنطقي، ومقتضاه أن مدلول إحدى القيمتين المتصادمتين لا يمكن أن يجتمع في العقل مع مدلول القيمة الأخرى، بحيث إذا تصور تحقق إحداهما، امتنع تصور تحقق الثانية، ومثال القيمتين المتباينتين منطقيا: العدل والعفو، والمعنى الثاني التباين التطبيقي ويحصل بين قيمتين متوافقتين منطقيا، لكن يوجد بينهما تباين عرضي ناتج عن أسباب عملية تتعلق بظروف مخصوصة أو بأحوال هذا العالم، ومثال التباين التطبيقي: الحياة الزوجية الهنية وحياة التفرغ للعلم، فليس بين الأمرين تباين منطقي، ولكن يجوز أن يتباينا عند بعض طالبي العلم”.
[24] ينظر: طارق، حسن، دستورانية ما بعد انفجارات 2011: قراءة في تجارب المغرب وتونس ومصر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط 1، يونيو 2016.
[25] ينظر: إعلان الرباط حول ربيع القيم، ضمن: تدافع وبناء القيم: السياق الدولي والواقع الإسلامي، مجموعة من المؤلفين، المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، ط 1، 2013، ص 175 – 181.
[26] يقول الدكتور طه عبد الرحمن (مرجع سابق، ص 51) بخصوص هذا الأمر: “وإذا كان الفقهاء والأصوليون قد أخذوا بمبدأ تبعية الأخلاق للدين بموجب تسليمهم بأن الدين جاء لينظم حياة الإنسان في مجموعها، فإن كنا نقرهم على هذا الأخذ، فإننا نلومهم على كونهم جعلوا رتبة الأخلاق لا تتعدى رتبة المصالح الكمالية، حاملين عبارة “مكارم الأخلاق” – التي ورد بها الحديث الشريف المعلوم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” – على معنى “مكامل الأخلاق”، أي تكملات للأخلاق، في حين لو أنهم اتبعوا المنطق السليم في فهم حقيقة الدين، لتبينوا أن الأخلاق أولى برتبة الضروريات من غيرها، فما ينبغي= =لدين إلهي، ناهيك بالإسلام، أن ينزل إلى الناس، مقدما الاهتمام بشؤون الحياة المادية للإنسان على الاهتمام بكيفيات الارتقاء بحياته الروحية! وهل في المصالح ما يختص بكيفيات هذا الارتقاء غير الأخلاق! ثم هل في شؤون الإنسان ما هو أدل على إنسانيته من شأنه الخلقي!”.
[27] يقول الدكتور محمد الكتاني (مرجع سابق، ص 3 – 4) منتقدا هذه النزعة: “من الواجب منهجياً أن ننظر إلى “الدين” الإسلامي في عقيدته وشريعته وقيمه على أنه منظومة متكاملة، تتضمن حقائق عالم الغيب والشهادة، وتحدد منهجية التعامل بين الإنسان وبين هذه الحقائق. وداخل هذه المنظومة تتحدد مواقع الأشياء والقيم والعلاقات. ومن يحاول فهم “الإسلام” بمنهجية مغايرة، فإنه قد يقع في أخطاء جسيمة، ويصدر أحكاماً متناقضة، أو غير موضوعية. وهذا ما وقع فيه بعض العلماء ولاسيما العلماء التقليديون في القديم والحديث، حينما نظروا إلى المنظومة الإسلامية العقدية والتشريعية والخلقية كوحدات مستقلة، لكل منها قانونها الخاص. أي نظروا إلى المكونات كأشياء ثابتة، لا كمكونات متفاعلة فيما بينها. وجعلوا من الإنسان نفسه نثاراً من الأجزاء، والظواهر المنفصلة بعضها عن بعض. والقرآن الكريم هو أول من يفضح أخطاءهم بما يقدم عن العالم والإنسان من تناسق وتفاعل ونظام متكامل، دع عنك ما يضطر إليه المحلل للظواهر المادية والاجتماعية من فصل إجرائي منهجي بين أي صنف من أصناف تلك الظواهر، ليتمكن من تعمقها وسبر أغوارها. فإنه لا يلبث أن يضع هذه الظاهرة أو تلك في إطارها العام من النظام الشامل الذي يحيط بها”.
[28] ملكاوي، فتحي حسن، منظومة القيم المقاصدية وتجلياتها التربوية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1، 1441هـ/ 2020م، ص 10.
[29] المرجع السابق، ص 75.
[30] المرجع السابق، ص 119.
[31] المرجع السابق، ص 121.
[32] Depover, Christian, 2006, conception et pilotage des réformes du curriculum, UNESCO, p 16.
[33] من بين التطبيقات التربوية التي استلهمت نموذج القيمة المركزية والقيم الناظمة في بناء المنهاج الدراسي: منهاج مادة التربية الإسلامية في المدرسة المغربية الذي صدر في يونيو 2016، منخرطا في إطار الإصلاح التربوي الذي جعل من مدخل القيم أهم مرتكزاته. وقد جعل هذا المنهاج من التوحيد القيمة المركزية ونظم حولها أربع قيم أساسية هي: الحرية، والاستقامة، والإحسان، والمحبة. ينظر: منهاج التربية الإسلامية بسلكي التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي العمومي والخصوصي، مديرية المناهج، الرباط، يونيو 2016، ص 8. ونجد.
[34] الجابري، محمد عابد، مرجع سابق، ص 593.
[35] المرجع السابق، ص 594.
[36] الكتاني، محمد، مرجع سابق، ص 4.
[37] معنى كون القيم مشتركة إنسانيا مختصة اجتماعيا أنها على مستوى التصور الفكري المجرد لا يقع بشأنها كبير اختلاف لذا فهي مشتركة على هذا المستوى، لكن تنزيلها على واقع المجتمعات التي تختلف سياقاتها ومرجعياتها يجعلها تتكيف بشكل كبير وتخضع لعملية تأويل تتحكم فيه شروط ذاتية وموضوعية.
[38] Braud, Philippe, La démocratie politique, éditions du seuil, 2003, p 86 – 87
[39] المانع، مانع بن محمد، القيم بين الإسلام والغرب: دراسة تأصيلية مقارنة، دار الفضيلة، الرياض، ط 1، 1426هـ، 2005م، ص 156.
[40] ينظر: أومليل، علي. الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1، 1985، ص 65.
[41] صحيح البخاري، كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح، حديث رقم 4776، ج 5 ص 1949.
[42] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» رواه البخاري في “الأدب المفرد” رقم: 273.