المقاصد الشرعية
ودورها في استنباط الأحكام*
أ. د. أحمد الريسوني**
استنباط الأحكام الشرعية هو عمل العلماء المجتهدين. فالحديث عن استنباط الأحكام، هو حديث عن الاجتهاد وعن الاستنباط، بمعناهما الأصولي المعروف. وهو ما لا يحتاج – في مقامنا هذا – إلى أي تعريف أو توضيح، وكذلك الشأن مع (مقاصد الشريعة).
فلذلك أُوَفِّـر على نفسي وعلى السادة العلماء الأجلاء، أي صفحة أو وقت يمكن تخصيصهما لتوضيـح مفردات العنوان في هذا البحث، وأنصرف مباشرة إلى صلب الموضوع والغرضِ منه، وهو الاعتماد على مقاصد الشريعة في استنباط الأحكام الشرعية.
قد لا نجد عند المتقدمين الكثير من التنظير والتأصيل في مدى الحاجة، ووجوه الحاجة، إلى مقاصد الشريعة عند الاجتهاد واستنباط الأحكام. وهذا راجع في جزء منه إلى قلة التنظير – عمومًا – في المراحل الأولى للحركة العلمية الإسلامية. ولكنه يرجع أيضًا إلى بداهة المسألة وجريانها الفعلي في فقههم واجتهاداتهم. لقد كانت المقاصد سارية في فقه الصحابة والفقهاء المتقدمين، سريان الروح في أبدانهم والدمِ في عروقهم. كيف لا والمقاصد هي “روح الشريعة وحِكَمها وغاياتها ومراميها ومغازيها” كما يقول شيخنا ابن بية[1].
لكن الأمور اختلفت عند المتأخرين، ثم بدرجة أكبر عند المعاصرين.
فمنذ القرنين الثالث والرابع، نمت حركة التأليف والبحث والنقاش النظري في كافة العلوم والقضايا النقلية والعقلية، ومنها البحث في أصول الشريعة وعللها وقواعدها. وفي هذا الوقت أيضًا نجمت النزعة الظاهرية اللفظية في تفسير الدين وشريعته. ظهرت في المشرق، ثم لم تلبث أن وجدت لها رواجًا – ربما أقوى – في الأندلس والمغرب.
ثم حصلت تطورات تاريخية وفكرية، حملت معها تحديات وإشكالات عديدة لعلماء الشريعة وأعلامها.
فالجويني كان يتوقع – أو على الأقل كان يخشى – “خُلُوَّ الزمان من المجتهدين ونَقَلَةِ المذاهب وأصول الشريعة”، وهذا دعاه إلى كثير من البحث والتأمل والتعمق في أصول الشريعة وفروعها ومقاصدها ومراميها، تحسبًا للنازلات قبل حلولها…[2].
والقرافي يرى أن التمكن من مقاصد الشريعة وأسرارها هو السبيل الوحيد لإبطال شبهات المبطلين والمشككين، حيث يقول: “وأما القيام بدفع ُشبَه المبطلين، فلا يتعرض له إلا من طالع علوم الشريعة وحفظ الكثير منها، وفهم مقاصدها وأحكامها، وأخذ ذلك عن أئمةٍ فاوَضَهُم فيها، وراجعهم في ألفاظها وأغراضها”[3].
وفي هذه الأثناء كان أكثر الفقهاء قد أخذوا يميلون – أكثر فأكثر- إلى (الفقه السهل)، فقهِ التقليد والتجميد، بدعوى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وفقهِ الاحتياط والسلامة، بدعوى الفتن وفساد الزمان، وفقهِ المختصرات و”القوانين الفقهية”، بدعوى فتور الهمم، وفقهِ البدع، بحجة أنه “تحدُث للناس مُرَغِّباتٌ بقدر ما أحدثوا من فتور”[4]، على غرار المقولة القديمة “تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور”. وهذا ما دعا القِلَّةَ من الفقهاء المتبصرين إلى مزيد من العناية ببعث الروح الاجتهادية المقاصدية وبثها في الأوساط العلمية، وخاصة منها الأوساط الفقهية الأصولية.
وفي هذا السياق جاء الشاطبي ليحاول القيام بعمل تصحيحي وتجديدي، يقتفي فيه أثر المتقدمين ومَن سار على نهجهم من اللاحقين. وكانت ميزة الشاطبي الأولى، هي أنه جعل مقاصد الشريعة جوهر التجديد، وأساس الاجتهاد، ومعيار أهليته ومَجْمَعَ شرائطه. قال رحمه الله: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها”[5].
كان الفكر الأصولي الفقهي عند الإمام الشاطبي فكرًا تجديديًا مقاصديًا إلى حد بعيد. لكن الشاطبي لم يكن مجددًا في القرن الثامن الهجري، بقدر ما هو مجدد في القرن الرابع عشر الهجري، حيث تمت ولادته العلمية الحقيقية. وقد تمثل ذلك في نشر كتابيه (الموافقات) و(الاعتصام). ولذلك يمكن أن نقول: لقد تلاه مباشرة ظهور العلامة ابن عاشور. فما إن نشر كتاب (الموافقات) حتى تلقفه ابن عاشور وقام بتدريسه وترويج أفكاره ومنهجيته. ثم لم يلبث أن قام يؤلف على منواله قائلاً: “فأنا أقتفي آثاره، ولا أهمل مهماته، ولكن لا أقصد نقله ولا اختصاره”[6].
استعرض ابن عاشور مَحالَّ اجتهاد المجتهدين في أدلة الشريعة، فجعلها خمسة مَحال، أَختصِرها فيما يلي:
- فهم نصوصها وألفاظها بحسب ما تقتضيه قواعد اللغة واصطلاحات الشرع فيها.
- مقارنة المعنى المستنبَط، مع غيره من أدلة الشريعة وأحكامها، للتحقق من التوافق بينه وبينها، فيؤخذ به حينئذ بلا إشكال، أو يظهر نوعُ تعارض، فيُعمَل على التوفيق أو الترجيح.
- قياس ما لا حكم له في الشرع، على نظيره المنصوص على حكمه، بعد التعرف على علته.
- الحكم فيما يجِدُّ من حوادث غير منصوص على حكمها، وليس لها في الشرع نظير تقاس عليه.
- النظر فيما لم تظهر حكمة الشرع فيه، وتصنيفه ضمن الأحكام التعبدية غير المعللة، أو اكتشاف علته ومقصوده، لإلحاقه بالأحكام المعقولة المعللة[7].
ثم قال: “فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها”[8]، بمعنى أن المقاصد تدخل في جميع المناحي الاجتهادية.
وبعد ابن عاشور – أو بجانبه – حمَلَ راية المقاصد والاجتهاد المقاصدي العلامة المفكر علال الفاسي. وهو يرى أن مقاصد الشريعة ليست مجرد مرجع ثانوي، أو مرجع خارجي، يُرجع إليه ويستأنس به إلى جانب مصادر التشريع الأصلية، بل هي من صميم تلك المصادر، وهي العنصر المحوري الثابت فيها وفي خلودها. يقول رحمه الله: “مقاصد الشريعة هي المرجع الأبدي لاستقاء ما يتوقف عليه التشريع والقضاء في الفقه الإسلامي، وأنها ليست مصدرًا خارجيًا عن الشرع الإسلامي، ولكنها من صميمه، وهي ليست غامضة غموض القانون الطبيعي، الذي لا يُعرف له حد ولا مورد…”[9].
ومن جوامع كلِمِهِ في هذا الباب قوله: “والشريعة أحكام تنطوي على مقاصد، ومقاصد تنطوي على أحكام”[10]، وهذا معناه أن المقاصد تؤخذ من الأحكام، وأن الأحكام تؤخذ من المقاصد. وهذا أحسن تصوير وأوجز تقرير، لعلاقة المقاصد بالاجتهاد والاستنباط. ننظر في الأحكام فنستنبط منها المقاصد، وننظر في المقاصد فنستنبط منها الأحكام…
وفي زمننا اليوم، نهض لهذا الموضوع فنهض به، شيخنا العلامة عبد الله بن بية، فأبدع وأمتع، وخاصة في المبحث الرابع من كتابه (علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه). وهو المبحث الذي سماه “الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها”[11].
وقد بدأه بتأكيد ما ذهب إليه الشاطبي من قبل، فذكر أن “أول استثمار لها (أي للمقاصد) هو ترشيح المستثمر لها، الذي هو المجتهد، ليكون مجتهدًا موصوفًا بهذا الوصف، فلا بد من اتصافـه بـمعرفة المقاصد”[12]. ثم عرض رأي ابن عاشور المتقدم، ثم قال: “ولبيان ما دندن حوله أبو المقاصد أبو إسحاق الشاطبي، والعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، رحمهما الله تعالى، نقول: إنه يُستنجَد بالمقاصد في أكثر من عشرين منحى من مسائل الأصول…”[13]. والحقيقة أنه قد أوصلها إلى ثلاثين وجهًا، هي كلها تقريبًا عبارة عن قواعد أصولية، لغوية واستدلالية، تَمَّ تطعيمها وتسديد العمل بها، باستحضار الفكرة المقاصدية والنظر المقاصدي في إعمالها.
وبعد أن استعرض الشيخ الجليل هذه المناحي الثلاثين للاستنجاد بالمقاصد، قال حفظه الله: “وهذه المناحي التي تسجَّـل لأول مرة، لو أردنا نشرها – كما تنشر بعد الطية الكتبُ – لكانت جزءًا كبيرًا، لكن مقصودنا من هذا هو الإشارة إلى أن المقاصد هي أصول الفقه بعينها[14]، وهذه المناحي والمدارك أمثلة للوشائج الحميمة والتداخل والتواصل. ولو أمعنا النظر وأعملنا الفكر لأضفنا إليها غيرها. فأقول لطالب العلم: انحُ هذا النحو…”[15].
أقول: فها أنا ذا أنحو هذا النحو، مستعينا بالله، ثم مستهديًا بالذين سبقوا فأفادوا ومهدوا ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه﴾[16].
القضية الكلية: ألا تغيب المقاصد قبل النظر بشيء من التفصيل والتمثيل في بعض مناحي العمل بالمقاصد وكيفية الاستنجاد بها في الاجتهاد والاستنباط، أقول بصفة إجمالية: يلزم الفقيه والمجتهدَ والمستنبِطَ، أن يكون مستحضرًا على الدوام أنَّ كل شيء من الشريعة له مقصوده ومرتبط بمقصوده وتابع له. فسواء تعلق الأمر بلفظ من ألفاظ الشريعة، أو نصٍّ من نصوصها، أو قاعدة من قواعدها، أو حكم من أحكامها مستخرجٍ منها، أو مُخَـرَّجٍ على أصولها الجزئية أو الكلية، ففي كل ذلك مقاصد مطلوبة للشارع، لا يستقيم شيء من الشريعة إلا بها.
وعلى قدر النقص في معرفة المقاصد بمختلف مستوياتها، أو على قدر النقص في استحضارها واعتبارها، يكون الخلل والزلل في الاجتهادات والاستنباطات. وقد حذر الشاطبي من زلة العالِم وما يترتب عليها من أخطار وأضرار، قد تستمر في الأمة أزمانًا متطاولة، فذكر أن هذه الزلات “أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه…” وكذلك – يضيف – “فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته…”[17].
أثر المقاصد في تفسير النصوص والاستنباط منها:
من المعلوم – كما تقدم قبل قليل – أن أولى الخطوات في أي عمل استنباطي هي النظر في النصوص الشرعية الواردة في الموضوع، وتحديدُ دلالاتها اللغوية والاصطلاحية والسياقية. وإذا كان تحديد المعنى اللغوي الصِرف لا يحتاج إلى نظر مقاصدي أو جهد استنباطي، فإن تحديد المعنى الاصطلاحي، وبدرجة أكبر المعنى السياقي، لا يكاد يستغني عن ذلك كما هو مشاهد ومعلوم. وهنا تأتي المقاصد لتكُون الموجِّه الأساسي للمجتهد والناظر في نصوص الشرع وألفاظه وعباراته، بناء على قاعدة “تبعية الدلالة للإرادة”[18]. فإرادة المتكلم وقصده في كلامه هو الحَكَم الأول والأخير، في تحديد معنى أي لفظ أو عبارة. قال الآمدي: “دلالات الألفاظ على المعاني ليست لذواتها،… وإنما دلالاتها تابعة لمقصد المتكلم وإرادته”[19]. وهنا بيت القصيد؛ وهو أن معرفة مقصود الشارع من سياق كلامه أو عبارته، لا تتأتى ولا تنقاد، إلا لمن له خبرة سابقة بمجمل مقاصده وما يريده وما لا يريده، وما يُقبل عنده وما لا يقبل. “وهذا المساق يختص بمعرفته العارفون بمقاصد الشارع”، كما يقول الشاطبي[20].
خلاصة المسألة أن الألفاظ ودلالاتها اللغوية الأصلية، ليست هي المحدد الوحيد للمعاني والدلالات الشرعية، بل لا بد من البحث عن المعنى السياقي ومقاصد الشرع فيه. وهذا هو المنهج الذي سنَّـه لنا الصحابة، كما يقول ابن القيم: “وقد كان الصحابة أفهَمَ الأمةِ لمراد نبيها وأتْبعَ له. وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده”[21].
أمثلة من القرآن الكريم:
1ـ قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾[22] [البقرة: 275].
ورد النهي عن “أكل” أموال الربا في هذه الآية وفي غيرها. ومثل ذلك ورودُ النهي – عمومًا – عن أكل الأموال بالباطل، وعن أكل أموال اليتامى خاصة. وبالنظر إلى الدلالات اللغوية فإن “الأكل” معروف… ولكن بالنظر إلى السياقات المحيطة باللفظ، وباستحضار صاحب الخطاب ومقاصده، فإن المعنى يختلف كثيرًا. ذلك أن الأكل المعروف لا يكون لـ “الأموال”، فلا أحد يأكل الأموال، وإنما يأكل الناسُ الأشياءَ القابلة للأكل. وإلى هذا الحد نستطيع أن نفهم أن “الأكل” هنا هو كناية عن الاستعمال والاستهلاك ومختلفِ وجوه الصرف لهذه الأموال المنهي عن أكلها. فيدخل فيه استعمالها -مثلاً – في الشرب واللباس واتخاذ السكن وتأثيثه منها…
ولكن بمزيد من الاستحضار والتعقل لمقاصد الخطاب، ندرك أن المعبَّر عنه بالأكل في الآية المذكورة والآيات الشبيهة بها، يدخل فيه كل ما سبق، ويدخل فيه أيضا الكسبُ والتملك، بل وأصل التصرف والتعامل المفضي إلى الكسب والأكل. ولذلك ذهب الإمام الطبري إلى أن قوله تعالى: ﴿يأكلون الربا﴾، معناه ” يُرْبون”. ثم قال رحمه الله: “فإن قال لنا قائل: أفرأيتَ مَنْ عمِلَ ما نهى الله عنه مِنْ عَمَلِ الربا في تجارته ولم يأكله، أيستحق هذا الوعيد من الله؟ قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل…، وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا، وأنَّ سواءً العملُ به، وأكله، وأخذه، وإعطاؤه…”[23].
2 ـ وفي الآيات التي ذكرَتْ تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، لم يقع التصريح بالذي حُرِّم فيها، فبقي كأنه عامٌّ في كل شيء منها، مع أن المقصود بالتحريم إنما هو الأكل. فاللفظ هنا أعم من الأكل، ولكن المقصود الأكل. بخلاف الآيات السابقة، حيث ذُكر الأكل، والمقصود أعم من الأكل. قال ابن عاشور: “وإضافةُ التحريم إلى ذات الميتة وما عطف عليها، هو من المسألة الملقبة في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأَعيان، ومحمله على تحريم ما يُقصد من تلك العَين باعتبار نوعها، نحو ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: 3]، أو باعتبار المقام نحو ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23]، فيقدَّر في جميع ذلك مضاف يدل عليه السياق، أو يقال: أقيم اسم الذات مقام الفعل المقصود منها للمبالغة، فإذا تعين ما تقصد له، قُصر التحريم والتحليل على ذلك”[24].
فبعض الفقهاء قد يُدخلون – إذا أغفلوا المقصد – في تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، أشياء عديدة سوى الأكل وما في حكمه، كتحريم الأحذية أو الأحزمة المصنوعة من جلد الخنـزير، أو تحريم الاستفادة من صوف الميتة، أو نحوِ ذلك من وجوه الانتفاع الممكنة، مما هو غير مقصود بالتحريم المنصوص عليه في الآية، بل يُلتمس حكمه في غير هذا الموضع.
3 ـ ومن الأمثلة كذلك استشهاد بعض علماء الشيعة على إمامة علي رضي الله عنه بقوله تعالى ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا…﴾[25].
قال نجم الدين الطوفي: “واعلم أن هذه الآية من عُمَد الشيعة، وعند التحقيق واعتبار ما سبقها وما لحقها، لا حجة لهم فيها بوجه. والذي قرروه ضرب من الشبهة، وإنما مقصودها التعلق بولاية الله ورسوله والمؤمنين، والإعراض عن ولاية اليهود والنصارى والمشركين…”[26].
فالمقصد الذي سيقت له الآية ونطقت به ألفاظها، هو الذي يحدد معناها ومناطها. وما سوى ذلك فهو تقصيد وتقويل بغير دليل.
أمثلة من السنة:
1- حديث أَبِى هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ»[27].
فبعض الفقهاء تمسكوا بظاهر اللفظ، فحملوا الإسراع على شدة المشي الذي يداني الجري، وبعضهم – كابن حزم الظاهري – حمله أيضًا على الوجوب. وأما الجمهور ففهموا المقصد الإرشادي في المسألة، فحملوا الأمر أولًا على الاستحباب لا على الوجوب، وحملوه على مشيٍ يزيد على المشي العادي، لكنه لا يصل إلى حد الشدة والإجهاد. قال في الفتح: “وَالْحَاصِل أَنَّهُ يُسْتَحَبّ الإِسْرَاع لَكِنْ بِحَيْث لا يَنْتَهِي إِلَى شِدَّة يُخَاف مَعَهَا حُدُوث مَفْسَدَة بِالْمَيِّتِ، أَوْ مَشَقَّة عَلَى الْحَامِل أَوْ الْمُشَيِّع، لِئلا يُنَافِي الْمَقْصُود مِنْ النَّظَافَة، أوَ إِدْخَالُ الْمَشَقَّة عَلَى الْمُسْلِم، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَقْصُود الْحَدِيث أَنْ لا يُتَبَاطَأ بِالْمَيِّتِ عَنْ الدَّفْن، وَلأَنَّ التَّبَاطُؤ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى التَّبَاهِي وَالاخْتِيَال”[28].
2- حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»[29].
فهذا الحديث إذا أُخِذ بظاهره وحرفيته دون نظر في مقصوده ومرماه يؤدي إلى قطيعة تامة بين المؤمنين الصالحين ومن سواهم من غير المؤمنين وغير المتقين؛ فلا تبقى علاقة معهم ولا إحسان إليهم. وهذا خلافُ قصدِ الشارع في بذل البر والإحسان، ومخالطة الناس ودعوتهم إلى الله وإلى صراطه المستقيم. ولذلك نبه عدد من شراح الحديث على أن هذا ليس هو مقصود الحديث الشريف. قال المناوي: “وليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان لأن المصطفى عليه السلام أطعم المشركين وأعطى المؤلفة المئين، بل يطعمه ولا يخالطه، والحاصل أن مقصود الحديث كما أشار إليه الطيبـي النهيُ عن كسب الحرام وتعاطي ما ينفر منه المتقي، فالمعنى لا تصاحب إلا مطيعًا ولا تخالل إلا تقيًا”[30].
أثر المقاصد في العمل بالقياس:
القياس من أصله قائم على اعتبار المعقولية والتعليل والعدل في أحكام الشريعة. ولذلك فالقياس الصحيح المنَزَّل في محله إنما هو تحقيق لقصد الشارع وحكمته وعدله.
وإذا كان الفهم الصحيح لنصوص الشرع لا يتم ولا يستقيم إلا بمعرفة مقاصده واستحضارها ومراعاتها، فإن هذا هو عين ما يلزم في إجراء القياس وسلامته. وسبب الزلل هناك هو نفسه هنا، ألا وهو الجهل بمقاصد الشريعة أو الغفلةُ عنها. قال الإمام ابن تيمية: “الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ. وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الإِسْلامِ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّعْمَةِ السَّابِغَةِ وَالْعَدْلِ التَّامِّ”[31].
وقد نَقَل ابن القيم أن ِابن الْمُبَارَكِ سُئل: “مَتَى يُفْتِي الرَّجُل؟ قَالَ: إذَا كَانَ عَالِمًا بِالأَثَرِ، بَصِيرًا بِالرَّأْيِ”.
وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: “مَتَى يَجِبُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفْتِيَ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ بَصِيرًا بِالرَّأْيِ بَصِيرًا بِالأَثَرِ”. ثم وضح ابن القيم هذين القولين، بقوله: “يُرِيدَانِ بِالرَّأْيِ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ وَالْمَعَانِيَ وَالْعِلَلَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا الأَحْكَامَ وَجَعَلَهَا مُؤَثِّرَةً فِيهَا طَرْدًا وَعَكْسًا”[32].
فالذي لا يكون بصيرًا بالقياس الصحيح، وبالمعاني والعلل الصحيحة التي يُبنى عليها، يَسقط في الأقيسة الـحَـرْفية الصورية، الخالية من مقاصد الشرع أو المجافية لها، مثلما يسقط في التفسيرات الـحَـرفية الظاهرية لنصوص الشرع وألفاظه. وكما أن الجمود اللفظي والغلو فيه يؤديان إلى القول بمعانٍ غريبة مستهجنة، فكذلك الشأن مع الجمود القياسي والمغالاة فيه. فكِلا المسلكين ضرب من الظاهرية السطحية، التي تؤدي إلى تجميد الشريعة وتشويه أحكامها. وهذا ما عناه ابن العربي بقوله: “فإن في اتباع الظاهر على وجهه هدمَ الشريعة، حسبما بيناه في غير ما موضع”[33].
ومن القواعد التي أخذ بها الأئمة لدفع المبالغة في القياس أو وضعه في غير موضعه أوفي غير مرتبته، تقديمهم الاعتماد على كليات الشريعة قبل اللجوء إلى القياس الجزئي. وهذا ثابت عن الأئمة مالك وأبي حنيفة والشافعي. وقد أورد إمام الحرمين رأي الإمام الشافعي بأن المجتهد يبحث عن الحكم المطلوب أولاً في نصوص الكتاب، ثم في نصوص السنة، بدءاً بالمتواتر منها، ثم الآحاد… قال “فإن عَدم المطلوبَ في هذه الدرجات لم يخض في القياس بـعد، ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة. وعدَّ الشافعي من هذا الفن إيجاب القصاص في الـمُـثَـقَّـل، فإنَّ نفيه يخرم قاعدة الزجر. ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة، التفت إلى مواضع الإجماع، فإن وجدهم أطبقوا على حكم نصوا عليه فقد كفَوْه مؤنة البحث والفحص. فإن عدَمَ ذلك خاض في القياس…”[34].
وإذا كانت كليات الشرع ومصالحه العامة تقدم على القياس وتَحْجُبه، أيّاً كان حكمه ومقتضاه، فمن باب أولى أن تقدَّم عليه إذا اقتضى شيئًا أو أفضى إلى شيء يتنافى معها. وهذا لا يقتضي إبطال القياس أو الطعن في حجيته ومشروعيته، وإنما يعني أنه قد استعمل في غير موضعه، أو بغير شروط صحته. وقد أجاد ابن القيم غاية الإجادة وأبلى البلاء الحسن في بيان حالات كثيرة أسيئ فيها استعمال القياس، فأوقع أصحابَه في معضلات، أقَلُّها لجوؤهم إلى القول بأن في الشريعة أحكامًا جاءت على خلاف القياس. والحقيقة أن الشريعة إنما تخالف الأقيسة الفاسدة، التي تتم بمعزل عن حِكَم الشريعة ومقاصدها[35].
وتلافيًا للغلو في الظاهرية اللفظية أو القياسية، فإن العلماء سلكوا مسلكًا استدلاليًا أطلقوا عليه اسم الاستحسان. وبغض النظر عن النقاشات والمساجلات اللغوية والفنية حول مصطلح الاستحسان، ومدى الحجية الاستقلالية لهذا “الدليل”، فإن مما لا شك فيه أن للأئمة والفقهاء المجتهدين مسالك اجتهادية يلجأون إليها ويسلكونها كلما واجهوا استنتاجات وتخريجات لفظية أو قياسية تجافي مقاصد الشريعة وتخرم مصالحها القطعية. وكان لفظ الاستحسان هو الاصطلاح الجامع الأكثر استعمالًا للتعبير عن هذه المسالك التي ليست في الحقيقة سوى مسالك مقاصدية استصلاحية. وقد نقل ابن حزم – وغيره – قولة بليغة للإمام مالك عن أصبغ بن الفرج “قال: سمعت ابن القاسم يقول: قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان، قال أصبغ بن الفرج: الاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس”[36].
ما أريد الوصول إليه هو أن القياس الفقهي الصرف، بخطواته وشروطه الشكلية المعروفة، محفوف بعدد من الاحتمالات الظنية التي تجعل نتائجه غالبًا بحاجة إلى نوع من الرقابة أو التصديق قبل اعتمادها. والفقيه الذي يجري الأقيسة وهو ناظر ومحتكم إلى مقاصد الشرع العامة، وإلى مقاصده أو مقصوده في المسألة الخاصة التي ينظر فيها، يكون قد أجرى القياس على هدى من الشرع. وأما إذا غفل عن الحِكَم والمقاصد أو لم يتمكن من معرفتها في نازلته، فهذا الذي يحتاج قياسه إلى تصديق بَعْدِيٍّ للتثبت من انسجامه وعدم تصادمه مع مقاصد الشريعة، وإلا وجب نقضه وعدم التصديق عليه.
ومن الأمثلة الواضحة والشهيرة في هذا الباب، قضية قتل الجماعة للواحد، وقتل الجماعة بالواحد. فقتل الجماعة للواحد هي أن يشترك شخصان أو ثلاثة أو أكثر في قتل شخص واحد. وقد ذهب الجمهور الأعظم من الصحابة والأئمة وفقهاء المذاهب، إلى أن الذين يشتركون متعمدين في قتل شخص واحد يقتلون به جميعاً. وهذا هو المعبر عنه بقتل الجماعة بالواحد. وعمدة هذا القول هو المقصد الشرعي الكلي في حفظ النفوس وحقن الدماء وردع العدوان عليها. إذ لو لم يُقتل المشتركون في الجريمة، لكان هذا تشجيعًا على القتل وتهوينًا لأمره. وأكثر جرائم القتل العمد تتم بالتواطئ والاشتراك. وعند عدم تطبيق القصاص على الجماعة، فإن هذا سيدفع حتى الذين كانوا سيقتلون بصورة فردية يعمدون إلى إشراك غيرهم للإفلات من القصاص. مع أن القتل الجماعي هو في حد ذاته يعد درجة عالية الخطورة في سلم الإجرام والفساد في المجتمع. وهذا ما يحتم تشديد العقوبة، ولو بالقتل تعزيراً.
وأما المانعون من قتل الجماعة بالواحد فمستندهم النظر القياسي الظاهري. فالنصوص الشرعية جاءت بالقصاص والمماثلة فيه، فالنفس بالنفس، أي قتل الواحد بالواحد، وجاءت بأن الاعتداء لا يُرَدُّ بأكثر من مثله، ولا يجوز الإسراف في القتل… وبناء عليه فالقتيل الواحد لا يقتل به إلا واحد، قياسًا على ما هو معهود في العقوبات الشرعية. وذهب داود وغيره إلى أن الجماعة المشتركين في القتل لا يقتل منهم أي أحد لتعذر المماثلة، وإنما عليهم الدية. قال الصنعاني مؤيدا هذا المذهب: “والظاهر قول داود، لأنه تعالى أوجب القصاص وهو المماثلة، وقد انتفت هنا. ثم موجب القصاص هو الجناية التي تَزهَق الروح بها، فإن زهقت بمجموعِ فِعْلِهِمْ، فكل فرد ليس بقاتل، فكيف يقتل عند الجمهور؟!”[37].
هذا النظر القياسي الظاهري تجاوزه الجمهور لتنافيه مع مقاصد الشريعة ومصالحها العليا، وإن اختلفت عباراتهم ومصطلحاتهم في تفسير ذلك. فالحنفية يتجاوزونه باسم الاستحسان، كما يوضحه قول السرخسي: “وَإِنْ اجْتَمَعَ رَهْطٌ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ بِالسِّلاحِ فَعَلَيْهِمْ فِيهِ الْقِصَاصُ… وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لا يَلْزَمَهُمْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ، لِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِن الظُّلْمِ عَلَى الْمُتَعَدِّي… وَلا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْوَاحِدِ، وَهَذَا شَيْءٌ يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ، فَالْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ يَكُونُ مِثلا لِلْوَاحِدِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَشَرَةُ مِثلا لِلْوَاحِدِ؟ وَأَيَّدَ هَذَا الْقِيَاسَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ وَذَلِكَ يَنْفِي مُقَابَلَةَ النُّفُوسِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ…”[38].
والشافعية يتركون القياس في مثل هذه الحالة باسم الكليات والضرورات التي لا يتقدم عليها القياس الجزئي، كما يقول الجويني: “ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه، وإن كان جليًا، إذا صادم القاعدة الكلية تُرك القياس الجلي للقاعدة الكلية. وبيان ذلك بالمثال: أن القصاص معدود من حقوق الآدميين، وقياسها رعاية التماثل عند التقابل، على حسب ما يليق بمقصود الباب. وهذا القياس يقتضي ألا تقتل الجماعة بالواحد، ولكن في طرده والمصير إليه هدم القاعدة الكلية ومناقضة الضرورة، فإن استعانة الظَّلَمة في القتل ليس عسيراً، وفي درء القصاص عند فرض الاجتماع خرم أصل الباب”[39].
والمالكية يتجاوزونه عملاً بمنهجهم في تقديم الاستدلال المرسل على القياس. وقد يعبرون عن هذا الاستدلال المرسل بالاستحسان أيضاً. وفي الحالتين فإن مرادهم حفظ المقاصد والمصالح الشرعية وتقديمها على القياس إذا خالفها. قال الشاطبي: “ومقتضاه (أي الاستحسان) الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشَهِّيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك”[40].
وعلى منهج هذا الاستحسان المصلحي المقاصدي، فرَّع الشاطبي قاعدة أخرى مفادها أن السعي في تحصيل المصالح الشرعية إذا شابَـتْـه مفاسدُ عرَضية لا مفر منها، فإن ذلك لا يمنع من تحصيل تلك المصالح، بشرط اجتناب المفاسد المعترضة قدر المستطاع. “كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال، مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيراً ما يُلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز. ولكنه غير مانع لما يئول إليه التحرز من المفسدة الـمُرْبية على توقع مفسدة التعرض. ولو اعتُبِر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله، وذلك غير صحيح. وكذلك طلب العلم، إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهودُ الجنائز وإقامةُ وظائف شرعية، إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضي فلا يُخرِج هذا العارضُ تلك الأمورَ عن أصولها، لأنها أصول الدين وقواعد المصالح، وهو المفهوم من مقاصد الشارع. فيجب فهمها حق الفهم، فإنها مثار اختلاف وتنازع”[41].
وقد استعرض السرخسي عدة تعريفات توضيحية لمغزى الاستحسان، ثم قال: “وَحَاصِلُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ تَرْكُ الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: {خَيْرُ دِينِكُمْ الْيُسْرُ}، وَقَالَ لِعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا حِينَ وَجَّهَهُمَا إلَى الْيَمَنِ: {يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا قَرِّبَا وَلا تُنَفِّرَا} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: {أَلا إنَّ الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ وَلا تُبَغِّضُوا عِبَادَ اللَّهِ عِبَادَةَ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لا أَرْضًاً قَطَعَ وَلا ظَهْراً أَبْقَى}…”[42].
الاجتهاد فيما لا نص فيه:
أعني بـ (ما لا نص فيه): القضايا والوقائعَ والتصرفاتِ والأشياءَ، التي لم يرد في حكمها نص خاص بها، وأيضاً ليس لها نظير مطابق منصوص على حكمه، بحيث تدخل في معناه وحكمه. فهي إما أمور جديدة لا ذكر لها في النصوص أصلاً، وإما أمور مختلفة اختلافاً كبيراً وجوهرياً عما ورد حكمه في النصوص.
فمثلاً: السير على الطرق بواسطة السيارات والقطارات والدراجات النارية والهوائية، وكذلك السير في الهواء بواسطة الطائرات، وتلويث البيئة الطبيعية وتدميرها على النحو الذي يقع في زماننا، وأسلحة الدمار الشامل صُنعاً واستعمالاً، وكذلك وسائل الاتصالات الحديثة وما يتبعها من معاملات واستعمالات، وأيضاً بنوك الحليب والأعضاء البشرية والحيوانات المنوية، ومثل ذلك التحكم الطبي في جنس الجنين، ومشاهدة التلفزيون وغيره من الصور، على اختلاف مضامينها وأغراضها… هذه كلها مستجدات لا سابق لها ولا نص فيها بخصوصها.
وهناك قضايا لا تقل كثرة ولا أهمية، ليست جديدة تماماً، بل لها أصول وأشكال قديمة، ولكنها تطورت بدرجة كبيرة، واتخذت أحجاماً أو أشكالاً أو أغراضاً تجعلها أقربَ إلى أن تُعَدَ جديدة ولا نص فيها، من أن تحشر في نصوص جزئية، أو أقيسة وتخريجات فقهية لم توضع لها. ويدخل هنا كثير من التطورات الحديثة التي عرفتها المعاملات المالية والقضايا الاقتصادية والأنظمة الاجتماعية. كما يدخل فيها كثير من القضايا السياسية والعسكرية، الداخلية والدولية.
هذا النوع من القضايا والذي قبله – ويجمعهما وصف (ما لا نص فيه) – هو أوسع المجالات وأحوجها إلى الاعتماد على مقاصد الشريعة ونصوصها العامة الكلية، عند أي نظر فيه أو اجتهاد له. وهو المجال الرابع من مجالات الاجتهاد الخمسة التي ذكرها الشيخ ابن عاشور، وذَكَر احتياج المجتهد فيها إلى معرفة المقاصد ومراعاتها. وعند شرحه لهذه المجالات الخمسة، بدأ بهذا المجال الرابع فقال: “أما النحو الرابع فاحتياجه فيه ظاهر، وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع، والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا. وفي هذا النحو أثبتَ مالكٌ رحمه الله حجية المصالح المرسلة، وفيه أيضاً قال الأئمة بمراعاة الكليات الشرعية الضرورية، وألحقوا بها الحاجية والتحسينية، وسمَّوْا الجميع بالمناسب”[43].
وأما الشيخ ابن بية، فجعل هذا المجال هو المنحى التاسع من مناحي الاستنجاد بالمقاصد، وعرَّفـه ومثّلَ له بقوله: “إحداث حكم حيث لا توجد مناسبة معتبرة، وهو ما يسمى بالمناسب المرسل، الذي ترجع إليه المصالح المرسلة؛ كإحداث السجون من قِبل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لردع المجرمين…”[44].
الاجتهاد المقاصدي في هذا المجال – كما نلاحظ في تعبيرات العلماء عنه – يكاد يكون مرادفـاً لمراعاة المصلحة والاحتكام إليها. ومن أقوى المستندات لهذا المسلك الاستصلاحي المهتدي بمقاصد الشريعة، عمل الصحابة ومنهجهم، كما قال إمام الحرمين: “فقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم ينوطون الأحكام بالمصالح” وقال: “والذي تحقق لنا من مسلكهم: النظر إلى المصالح والمراشد والاستحثاث على اعتبار محاسن الشريعة”[45].
غير أن المصلحة المقصودة هنا، إنما هي المصلحة بمعانيها ومعاييرها ومراتبها الشرعية، فهي المصلحة بمضامينها الدينية والدنيوية، المصلحة المادية والمعنوية، المصلحة العاجلة والآجلة، هي مصلحة الأرزاق والأخلاق معاً، هي مصلحة عموم الأمة ومصلحة فئاتها وأفرادها، هي مصلحة الحاضر والمستقبل، وهي حفظ الضروريات الخمس، التي تبدأ بالدين وتنتهي بالمال.
وفي ِشأن هذه الضروريات الخمس، قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: “فَكُلُّ مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الأُصُولِ الْخَمْسَةِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ، وَكُلُّ مَا يُفَوِّت هَذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة”[46].
وهكذا يقال في جميع أجناس المصالح التي عُلم قصد الشارع إلى جلبها وحفظها، وفي جميع أجناس المفاسد التي علم قصد الشارع إلى إبطالها ودرئها. فأيُّما مسألة ليس فيها نص يشملها حكمه الخاص، فحكمها إلى القياس المصلحي والميزان المصلحي.
والقياس المصلحي – أو القياس المرسل – يقتضي أن كل ما فيه مصلحة شرعية محققة وراجحة، فهو مشروع ويجب الحكم بمقتضى مشروعيته ومصلحيته: إما بالندب إن كان من التحسينيات، وإما بالندب أو الوجوب إن كان من الحاجيات، وإما بالوجوب حتماً إن كان من الضروريات. والوجوب هنا قد يكون عينياً وقد يكون كفائياً.
ويقتضي أيضاً أن كل ما فيه مفسدة ومضرة، فهو ممنوع غير محمود شرعاً، إما على وجه الكراهة، إن كان ضرره يصيب التحسينيات، وإما على وجه الكراهة الشديدة أو التحريم إن كان ضرره يصيب الحاجيات، وإما على وجه التحريم إن كان ضرره يصيب الضروريات.
قال الشهاب القرافي رحمه الله: “المصلحة إن كانت في أدنى الرتب كان المرَتَّبَ عليها الندبُ، وإن كانت في أعلى الرتب كان المرتب عليها الوجوب. ثم إن المصلحة تترقى ويرتقي الندب بارتقائها، حتى يكون أعلى مراتب الندب يلي أدنى مراتب الوجوب. وكذلك نقول في المفسدة التقسيمَ بجملته. وترتقي الكراهة بارتقاء المفسدة، حتى يكون أعلى مراتب المكروه يلي أدنى مراتب التحريم”[47].
ومعنى هذا أن الاجتهاد بمقتضى الميزان المصلحي يستلزم الدراية العالية بالمصالح والمفاسد، وأصنافها ومراتبها، سواء من الناحية النظرية المبدئية أو في حالتها الواقعية التطبيقية.
وهذا يقودنا إلى استحضار ما قاله الشاطبي من أن الاجتهاد إذا تعلق بتقدير المصالح والمفاسد خاصة، فإنه يحتاج بالدرجة الأولى، وبصفة خاصة، إلى العلم بمقاصد الشريعة جملةً وتفصيلاً، ولا يضر في هذه الحالة الجهل باللغة العربية. قال الشاطبي: “الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها، أو مسلَّمة من صاحب الاجتهاد في النصوص، فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلاً خاصة “[48].
ثم قال معللاً ذلك: “وأما المعاني مجردة، فالعقلاء مشتركون في فهمها، فلا يختص بذلك لسان دون غيره، فإذاً مَنْ فَهِمَ مقاصد الشرع مَن وضع الأحكام، وبلغ فيها رتبة العلم بها، ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي، فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي”[49].
على أن الحد – أو السقف – الذي يقف عنده اتباع الاستنباط المصلحي المستمد من المقاصد الشرعية، هو التصادم مع أصول الشريعة، كما قال الجويني رحمه الله: “إذا وجدنا أصلاً استنبطنا منه معنى مناسباً للحكم، فيكفي فيه ألا يناقضه أصل من أصول الشريعة. ويكفي في الضبط فيه استناده إلى أصل متفق الحكم. ومرجوعنا في ذلك وجداننا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترسلين في استنباط المصالح من أصول الشريعة، من غير توقع وقوف عند بعضها”[50].
الاجتهاد في الأحكام التطبيقية:
هذا المجال الاجتهادي قريب مما يسميه الأصوليون (تحقيق المناط) مضافاً إليه ما سماه الشاطبي (تحقيق المناط الخاص)[51]، وأعني به الأحكام الاجتهادية التي يستلزمها أو يستتبعها تطبيق الحكم، ولا يكون الشرع قد نص عليها.
فالحكم الأصلي هنا يكون معلوماً ومسلَّماً، ولكن عند الأخذ في العمل به نجد أنفسنا أمام تفصيلات تبعية غير محددة في أصل الحكم، أو نجد أمامنا عدة صور تنفيذية، لا ندري أيها المتعين، أو هل يمكننا التخير بينها. وقد نجد مشاكل وموانع أمام تنفيذ الحكم جزئيًا أو كلياً… إلى غير ذلك من القضايا المرتبطة بالتنفيذ.
ففي مثل هذه الحالات يكون التعويل أساساً على مراعاة مقاصد الشرع في ذلك الحكم، لتحقيقها أو تحقيق أكثر ما يمكن منها بأفضل الصور والدرجات، وتلافي أكثر ما يمكن من الأضرار العرضية.
من أمثلة ذلك ما تقرر بأدلته من مشروعية هجر العصاة المجاهرين بمعاصيهم، والمبتدعين المعاندين ببدَعِهم، وخاصة ذوي المعاصي والبدع المغلظة. فكيف يكون هذا الهجر؟ تاماً أم جزئياً؟ وإذا كان جزئياً، ففيم يكون وفيم لا يكون؟ وهل يكون للقريب والبعيد، أم لأحد الصنفين دون الآخر؟ وهل يكون الهجر بغض النظر عن نتائجه المتوقعة؟ وكذلك الواقعة؟ أم ينظر إلى ذلك ويؤخذ بعين الاعتبار، خاصة إذا كانت هناك نتائج عكسية؟
ومن أجود ما قيل في تحرير هذه المسألة، جوابٌ مطول لابن تيمية، جاء في آخره: “وَهَذَا الْهَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الهاجِرِين، فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ وَرُجُوعُ الْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِ حَالِهِ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِحَةً، بِحَيْثُ يُفْضِي هَجْرُهُ إلى ضعف الشَّرِّ وخفته كَانَ مَشْرُوعًا. وَإِنْ كَانَ لا الْمَهْجُورُ وَلا غَيْرُهُ يَرْتَدِعُ بِذَلِكَ، بَلْ يُزِيدُ الشَّر، وَالْهَاجِرُ ضَعِيفٌ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَفْسَدَةُ ذَلِكَ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يَشْرَعْ الْهَجْرُ؛ بَلْ يَكُونُ التَّأْلِيفُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنْ الْهَجْرِ. وَالْهَجْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعُ مِنْ التَّأْلِيفِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفُ قَوْمًا وَيَهْجُرُ آخَرِينَ.” إلى أن قال: “وَإِذَا عُرف مقصود الشَّرِيعَةِ سُلك فِي حصوله أَوْصَلُ الطُّرُقِ إلَيْه”[52].
وهكذا نجد أن كثيراً من الأحكام الشرعية المقررة والمعلومة، تحتاج إلى اجتهادات ـ أي إلى أحكام – تطبيقية، أو إلى أحكامِ حُسن التطبيق – والبوصلة الهادية في هذه الأحكام، هي مقاصد الحكم المراد تطبيقه، ومقاصد الشريعة بصفة عامة.
ومما يدخل في هذا النوع من الاجتهاد التطبيقي المقاصدي، تحديدُ الوسائل التي لم يحددها الشرع، لاتخاذ أنسبها لمقصود الحكم. والنظرُ – أحياناً – حتى في الوسائل التي حددها الشرع، لمعرفة ما إن كانت مطلوبة بعينها أم أنها وسائل ظرفية، ويمكن الانتقال إلى غيرها من الوسائل المستجدة، مما قد يكون أَوْصَلَ إلى المقصود وأبلغ في تحقيقه[53].
ويدخل فيه أيضاً ما ذكره العلامة الشيخ عبد الله بن بية في المنحى العاشر من مناحيه الثلاثين، حيث قال: “يُحتاج للمقاصد في الحماية والذرائع والمآلات، وهو المعَبَّـرُ عنه بسد الذرائع والنظر في المآلات”[54]، وكأنه يشير إلى قول الشاطبي في هذا الموضوع: “النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعاً كان لمصلحة فيه تُستجلَب أو لمفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قُصد فيه. وقد يكون غيَر مشروع، لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى اسـتجلاب المصلحـة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعيته، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسـدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة “[55].
ومعلوم أن التطبيق الفعلي للأحكام، بصيغه التنفيذية، ووسائله المعتمدة، ونتائجه المحققة، هو الذي يحدد لنا ما إن كان الحكم الشرعي قد تم تنفيذه وتحصيل مراده، أم تم إفراغه من محتواه ومقاصده، أم تم تشويهه وإخراجه عن وجهه.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بحث مقدم إلى الدورة الثامنة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقدة بماليزيا في رجب 1428/ يوليو 2007، ومنشور في:
أحمد الريسوني (2008). المقاصد الشرعية ودورها في استنباط الأحكام. مجلة المسلم المعاصر. (128). ص ص. 13- 42.
** أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة محمد الخامس بالرباط، ومدير مركز المقاصد للدراسات والبحوث.
[1] علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، ص 133.
[2] انظر الغياثي، فقرة 367، وينظر ما بعدها إلى نهاية الكتاب.
[3] الذخيرة 13/ 232.
[4] كلمة لأبي سعيد بن لب، مفتي غرناطة وشيخ الشاطبي. وقد كانت موضوع خصومة وسجال بين الرجلين.
[5] الموافقات 4/ 63.
[6] مقاصد الشريعة الإسلامية ص 174.
[7] نفسه 183، 184.
[8] نفسه 184.
[9] مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 55، 56.
[10]نفسه 47.
[11] علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، ص 95.
[12] نفسه.
[13] نفسه، ص 99.
[14] هذا خلافُ ما ذهب إليه الشيخ ابن عاشور، من الدعوة إلى تأسيس علم مستقل لمقاصد الشريعة. والذي أراه في هذا الموضوع هو أن (الفكرة المقاصدية) لا يمكن أن تنفك عن علم أصول الفقه، على نحو ما قرره وبينه الشيخ ابن بية. لكن (الدراسات المقاصدية) شيء آخر، وهي آخذة طريقها، بنمو واطراد، نحو ما بشر به ابن عاشور.
[15] نفسه، ص 131.
[16] سورة الأنعام، الآية 90.
[17] الموافقات 4/ 101.
[18] انظر (القواعد الفقهية والأصولية على مذهب الإمامية) 1/ 17، إعداد لجنه علمية بإشراف محمد علي التسخيري.
[19] الإحكام 2/ 0.
[20] الموافقات 3/ 276.
[21] أعلام الموقعين 1/ 219.
[22] سورة البقرة، الآية 275.
[23] تفسير الطبري، عند تفسير الآية المذكورة (البقرة: 275).
[24] التحرير والتنوير، عند تفسير الآية 173 من سورة البقرة.
[25] سورة المائدة، الآية 55.
[26] الإشارات الإلـهية إلى المباحث الأصولية 2/ 124.
[27] الحديث في الصحيحين وغيرهما، في أبواب الجنائز.
[28] فتح الباري 4/ 371.
[29] صحيح ابن حبان، باب الصحبة والمجالسة.
[30] فيض القدير 6/ 525، وانظر تحفة الأحوذي، للمباركفوري 6/ 184.
[31] مجموع الفتاوى 4/ 363 والنص بتمامه عند ابن القيم أيضا: إعلام الموقعين 2/ 57.
[32] أعلام الموقعين 1/ 59.
[33] أحكام القرآن 1/ 29.
[34] البرهان 2/ 875.
[35] انظر إعلام الموقعين، خاصة الجزء الثاني منه.
[36] الإحكام في أصول الأحكام، 6/ 757.
[37] انظر: سبل السلام، كتاب الجنايات، 1/ 176.
[38] المبسوط 12/ 355.
[39] البرهان 2/ 604، وانظر: تخريج الفروع على الأصول، للزنجاني، ص 322.
[40] الموافقات 4/ 205- 206.
[41] الموافقات 4/211.
[42] المبسوط 12/ 355.
[43] مقاصد الشريعة الإسلامية، ص184.
[44] علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، ص 110.
[45] البرهان 2/ 548.
[46] المستصفى 1/ 438.
[47] الفروق 3/94.
[48] الموافقات 4/162.
[49] نفسه 4/ 163.
[50] البرهان 2/ 783.
[51] يقسم الشاطبي تحقيق المناط إلى قسمين: ” أحدهما ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص كتعيين نوع المِثل في جزاء الصيد، ونوعِِ الرقبة في العتق في الكفارات، وما أشبه ذلك…
والضرب الثاني ما يرجع إلى تحقيق مناطٍ فيما تَحَقَّقَ مناطُ حكمه. فكأنَّ تحقيق المناط على قسمين: تحقيق عام وهو ما ذُكر، وتحقيق خاص من ذلك العام…
وعلى الجملة فتحقيق المناط الخاص، نظرٌ في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل…
فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرَها على حمل أعبائها أو ضعفَها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها. فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف” الموافقات 4/ 97.
[52] مجموع الفتاوى 6/351.
[53] انظر توضيحات وأمثلة تطبيقية في هذا الباب عند أستاذنا العلامة يوسف القرضاوي في كتابه: دراسة في فقه مقاصد الشريعة، ص 174 إلى 189.
[54] علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، ص 110.
[55] الموافقات 4/ 194.