د. رشدي فكار ومواجهة الانهزامية الحضارية

د. رشدي فكار

ومواجهة الانهزامية الحضارية

أ. يارا عبد الجواد*

إن الأزمة التي تعيشها أمتنا منذ عقود طويلة وحالة الاستضعاف العامة التي تحيط بها في ظل غلبة وهيمنة الغرب وسطوة حضارته المادية، استنهضت جهود الكثير من العاملين الصادقين الذين لم يضِنوا بجهودهم في سبيل النهوض بأمتهم التي شهد التاريخ عزها وإشراقها لقرون طويلة، وذلك على مستوى الفكر والحركة معًا. وفي هذا الإطار نقف عند أحد أبناء هذه الأمة من أصحاب الجهود الفكرية “الدكتور رشدي فكار” المفكر الإسلامي الذي لم يدخر جهدًا فكريًا في السعي نحو إعادة الثقة في روح الذات المسلمة التي استحوذ عليها شعور الانهزامية وحكم عليها الغرب بعدم الصلاحية في القرن العشرين، فهو كان يعمل دائمًا على تقديم المسلم والعربي كمساهم فعَّال في الحضارة الإنسانية.

أولًا: النشأة والخلفية:

لعل أبرز ما يلاحظه المتأمل في كتابات ورؤى الدكتور رشدي فكار أنه على الرغم من حياته الطويلة في الغرب ومعايشته للفكر الغربي وروافده المختلفة، فقد كان عصيًا على الذوبان فيه، بل كان ينظر إليه من أعلى، نظرة الفاحص الناقد المنصف لا المغلوب المنبهر، منطلقًا من شعوره بالعزة من أصالة عقيدته وتميز منهجه ومنظومة قيمه الإسلامية، فكان على بينة وبصيرة من أمره، ممتثلًا قول الله تعالي: “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله، على بصيرة أنا ومَن اتبعني..” [يوسف-108].

ولد الدكتور رشدي فكار عام 1928 في قرية الكرنك الواقعة في شمال محافظة قنا، وينتمي إلى قبائل عربية تعرف بقبائل “هوارة”. درس في الأزهر حيث حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة إلى جانب متون الفقه حتى ألفية ابن مالك.

أثرت النشأة القروية البسيطة والتعليم الأزهري وحفظ القرآن مبكرًا كثيرًا في مسيرة الدكتور رشدي فكار، فقد كان لاعتزازه بأصوله أثر كبير في خلق مناعة نفسية قوية لديه من الانبهار بالوافد الغربي الذي عاش فيه ومعه، بل على العكس من ذلك كانت مسيرته وإسهامه الفكري مُركَّزًا على تفنيد أصول بعض المذاهب الفكرية الغربية الكبرى في مقابل بيان قوة العقيدة والمنهج الإسلامي والحرص على استنهاض الأمة وإعادة ثقتها بذاتها التاريخية والحضارية.

 تابع الدكتور فكار مسيرته الدراسية في الأزهر لينتقل إلى السوربون التي حصل منها على دبلوم في علم الاجتماع ودبلوم آخر في العلاقات الدولية، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة باريس مع مرتبة الشرف الأولى عام ١٩٥٦. ثم انتقل إلى جنيف محاضرًا وباحثًا علميًا ليحصل على درجة دكتوراه أخرى مع مرتبة الأستاذية من جنيف عام ١٩٦٧.

حاضر الدكتور رشدي فكار وتقلد الأستاذية في كثير من الجامعات الأوروبية والعربية، ثم انتخب عضوًا في العديد من الجمعيات والهيئات والأكاديميات والمؤتمرات العلمية العالمية، نخص بالذكر منها على سبيل المثال لا الحصر عضويته عام 1973 كأول عربي في أكاديمية العلوم بفرنسا (مَجمع الخالدين)، وهي العضوية التي لا تُمنح إلا للعلماء المتميزين على مستوى العالم.

هذا إلى جانب عضويته في الهيئة العالمية للكتاب بالفرنسية بباريس وجمعية “استرنبرج” الإسكندنافية بالسويد. كما أنه أول مصري وعربي وأول مفكر من العالم الثالث بعد الشاعر الهندي طاغور تُقر الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل في الآداب ترشيحه رسميًا لجائزة نوبل عام 1976. هذا فضلًا عن انتمائه لمؤسسات علمية عالمية أخرى كأحد المتخصصين المتميزين في المدارس الوضعية التي تنتمي لسان سيمون أو ماركس أو كونت، بالإضافة إلى تخصصه الأكاديمي في علوم الإنسان الأساسية: السوسيولوجيا والسيكولوجيا والأنثروبولوجيا الاجتماعية. كما كان عضوًا في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.  

وبعد مسيرة علمية طويلة اختار الدكتور فكار المغرب لتكون موطنه الثاني بعد مصر حيث عمل أستاذًا في جامعة محمد الخامس.

توفي الدكتور رشدي فكار في 5 أغسطس 2000 بالمغرب تاركًا خلفه إرثًا علميًا قيمًا، بالإضافة الى صرح علمي إسلامي للتعليم الإعدادي والثانوي قام بتأسيسه عام 1996 في مسقط رأسه في قرية الكرنك في محافظة قنا ليكون صدقة جارية له.

ثانيًا: المنطلقات الفكرية

 لقد كان المنطلق الفكري الأساسي للدكتور فكار – باعتباره متخصصًا في علوم الإنسان- متمثلًا في رفض النظرة الغربية للإنسان، وهي حصر الإنسان في بعده المادي فقط، حيث يرى الدكتور فكار – رحمه الله – أنه لا يمكن أن يُعزل عطاء الإنسان الروحي والمعنوي عن متطلباته ومعطياته المادية، وأن إنسان القرن الواحد والعشرين الذي تمركز حول ذاته وحول قدراته ومنجزاته عليه أن يتواضع قليلًا أمام حقائق قصوره وضعفه المتأصل فيه وأمام الحقائق الكبرى التي لم يستطع علمه أن يصل إليها كالقضايا الوجودية الكبرى.

 وفي هذا الإطار حاول الدكتور فكار أن يطرح في العديد من مؤلفاته معيارية لعلاقة العلم بالدين، باعتبار أن الدين أسمى من العلم ولا يمكن أن ينزل إلى مستوى المضاربات المعملية والمخبرية لأنها مضاربات تتغير بتغير الأزمنة، فإن كان ولا بد من فتوى فليس العلم صاحبها ليُحتكم إليه في صلاحية الدين أو عدم صلاحيته، وإنما العكس في أغلب الأحيان صحيح.

 فالدين له الحق ممثلًا في الإسلام – وهو خاتم الرسالات وبه كمُل الدين الشامل – أن يتدخل ليُحتكم إليه في مدى صلاحية العلم انطلاقًا من دوره في البناء الصالح للإنسانية، كما أن له الحق أن يتحفظ على مسيرة علوم تتبنى التدمير والقهر وتعميم التلوث والاستغلال باسم الهيمنة والسيطرة.

 وبناء على هذا الأساس ساهم الدكتور فكار بفكره النقدي وجدد في النظريات العالمية الإنسانية المعاصرة من موقعه كمسلم معتز بعقيدته الإسلامية وكعربي معتز بعربيته، ففي أثناء طرحه للنظرية الاجتماعية المعاصرة قام الدكتور فكار بإعادة النظر في الماركسية وأصولها، ما لها وما عليها، وكذلك أعاد النظر في أزمة الحضارة الغربية، واستلاب الإنسان من قِبل ما يسميه بالمراهنة الصناعية والتقدم التكنولوجي والعلمي، داعيًا إلى وضع العلم ضمن إطارًا قيميًا يتحاكم له.

وقد أسس الدكتور فكار منهجه النقدي على رفض التطرف في التعامل مع الحضارة الغربية، سواء بالرفض الكلي أو التصنع والتملق الذي لا يعتمد على أسس علمية، بل يرى أن علينا أن نواجه حضارة الغرب ونتعامل معها. وفي المقابل لا يقدم المسلم نفسه في صورة المدافع الأهوج الذي لا يملك رسوخًا علميًا في معرفته بالإسلام، والذي يتخذ موقفًا غير متوازنًا من الآخر فيسيئ للإسلام من حيث يريد أن يصلح، وهذا ما انعكس في جهده وإسهامه الفكري الثري.

أما على صعيد رؤية الدكتور فكار للفكر العربي والإسلامي المعاصر وذلك في إطار معاناته ومواجهته للاستعمار ومواجهته للإشكاليات المفروضة عليه – وهو أمر لا يمكن لأى مفكر منصف أن يتجاوزه- يرى الدكتور فكار أن ثبات الفكر العربي المعاصر وصموده – في ظل ما تقدم – هو في حد ذاته إنجاز، ولكنه أيضًا في حاجة إلى إعادة النظر في مقوماته، حيث يرى فكار أن الفكر العربي المعاصر يعيش فيما يسميه ثالوث الغيبة، ويعني به غيبة التعرف على ماضيه الحضاري بعمق وموضوعية، وأن هذا التعرف سوف يمنحه الثقة في الذات لأنه سيكتشف أن الحضارة العربية الإسلامية أكثر عطاءًا في إطارها التاريخي مما نتصور، ولذلك لابد من إخضاع هذا الماضي الحضاري والذات التاريخية إلى فلسفة التاريخ وعلميته وتنقيته مما علق به من رواسب ومن انفعالات شخصية جاءت نتيجة لأهواء المؤرخين وانتماءاتهم.

أما الغائب الثاني فيتمثل في التعرف على المعاصرة بعمق، ويعني به التعرف على الحضارة الغربية بشقيها الماركسي والليبرالي، مما سيوصلنا في النهاية إلى الإقرار بأن عقيدتنا الإسلامية هي المعيار الحقيقي والوحيد للذات المسلمة. وأخيرًا يرى الدكتور فكار أن الغائب الثالث يتمثل في غياب توظيف الفكر العربي في الواقع المجتمعي والتفاعل معه.

ثالثًا: الإسهام والنتاج الفكري

لقد قدم الدكتور رشدي فكار ما يزيد عن إثني عشر مؤلفًا يهتم بطريقة أو بأخرى بالعالم العربي والإسلامي إلا أن مؤلفاته بمجملها تربو على الـ ١٤٠ مؤلف بين كتب وأبحاث ودراسات أغلبها بالفرنسية أو بالإنجليزية وبعضها بالعربية وتتعلق جميعها بشتى علوم الإنسان. وانطلاقًا من تخصصه في المذاهب والمدارس الوضعية، فقد عالجت هذه الدراسات مواضيع متعددة من الفكر الاجتماعي، منها على سبيل المثال مدرسة توسكان الاجتماعية في إيطاليا، واسترند برج والمجتمعات الاسكندنافية، واليسار الهيجلي وعلاقته بالفكر الفرنسي، وأصداء الفكر الاجتماعي الأوروبي في أمريكا اللاتينية بما في ذلك حركة الأرجنتين، هذا بالإضافة إلى انعكاسات الفكر الوضعي في المكسيك وارتداد الفكر الاشتراكي في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر بما في ذلك تجربة “الايكوري لكابيه”، وهى أول تجربة شيوعية فشلت في الولايات المتحدة. كما تطرق إلى دراسة هيجل والفكر الوضعي في أسبانيا وأثر الفكر التقدمي في المشرق وانعكاسات المدرسة السانسيمونية في الخلافة العثمانية من مصر حتى الجزائر، هذا إلى جانب دراسات أخرى عن الابستمولوجيا والتقنين المعرفي والمنهجية.

ومن المؤلفات المهمة لمفكرنا الدكتور فكار “المعجم الموسوعي العالمي من أربع أجزاء” الذي قُدم بثلاث لغات الفرنسية والإنجليزية والعربية في ثلاث تخصصات علمية السوسيولوجيا والسيكولوجيا والأنثروبولوجيا الاجتماعية، وذلك عن دار النشر العالمية “جتنير” بباريس. وهذه الموسوعة العالمية تعالج مضامين علم الإنسان في محاوره الثلاثة: الإنسان كنتاج تراثي يضم التقاليد والعادات والأعراف وهي الأنثروبولوجيا الاجتماعية، والإنسان في علاقاته البيئية كمؤثر ومتأثر وهي السوسيولوجيا، والإنسان كأغوار شعورية ولا شعورية وهي السيكولوجيا. وفى كل مضمون من هذه المضامين الثلاثة كان الدكتور فكار يعرض معطيات هذا المضمون كما قدمته حضارة الغرب، ثم يستقى من حضارة الإسلام ليصل إلى المضمون الشامل للإنسان.

فمثلًا موضوع الدين، طرحته الحضارة الغربية انطلاقًا من نشأته في الأديرة وغيرها وغاصت به في ضباب التجريد واللا ملموس لكي يأتي عصر النهضة ويتجاوزه بعد أن تحرك العقل وتمرد، لتصل إلى اعتبار الدين مرحلة تاريخية تأزمت وحوصرت تحت ضغوط العلمانية. ثم تأتى المدارس الوضعية وتصفى كل الحسابات مع هذا الدين، سواء كانت وجودية غير إيمانية، أم ماركسية أو تطورية أو فرويدية… إلخ. إن الدين بالنسبة للحضارة الغربية المعاصرة نسق مضلل ظل ألف عام يحتكر الإفتاء في كل قضايا الإنسان وما حوله، وجاءت ثورة العقل الإنساني لتضع حدًا له وتعطي البدائل في انتظار قدوم الإنسان الخارق.

أما في حضارة الإسلام فالدين لا يتضمن تصفية حسابات أو ثأر، هذا من خطأ تعميم هموم الغرب على البشرية جمعاء، فحضارة الإسلام تعني ألف عام من الإشراق أو يزيد، وبقدر ما يتنكر أو يلتزم بها صاحبها وحاملها بقدر ما ينتكس أو يُشرق، فإشراق الدين في حضارة الإسلام كان هو المنير لمسيرتها. وهكذا كان الحال في بقية مضامين علوم الإنسان عبر هذه الموسوعة العالمية والهامة للدكتور رشدي فكار.

بناءً على ما سبق نستطيع القول إن إسهام الدكتور رشدي فكار الفكري ومؤلفاته تنقسم إلى اتجاهين:

أ- الاتجاه الأول: اتجاه نقدي يتماس مع الفكر الغربي دراسة وتحليلًا ونقدًا وبيانًا لمواطن ضعفه وقصوره، وأيضًا جوانبه الجيدة وعطاءاته التي لا يمكن إنكارها، مبينًا أنه ينطوي على قصور بنيوي لا يستطيع أن يتجاوزه.

 ونذكر هنا ما يعكس هذا الاتجاه مما قدمه الدكتور فكار، وهو ما يظهر -على سبيل المثال- في كتابه “نهاية عمالقة في حضارة الغرب” والذي تناول فيه بالنقد عمالقة الفكر الغربي من “سان سيمون” – عميد مؤسسي السوسيولوجيا الحديثة، والمنظر للمذهب الصناعي ولليبرالية والاشتراكية على حد سواء -، حتى “جان بول سارتر” – أحد منظري الوجودية المعاصرة – مرورًا بـكارل ماركس – الذي يُعتبر امتدادًا لـ “سان سيمون” اجتماعيًا، ولليسار الهيجلي فلسفيًا، والفكر الإنجليزي اقتصاديًا -، وكذلك “أوجيست كونت” – كاتب “سان سيمون” وتابعه ومنظر الوضعية -، و”هربرت سبنسر” – مؤسس النظرية التطورية الاجتماعية -، و”نيتشة” – كعميد من عمداء فلسفة الغرب المعاصرة – ، و”فرويد” – كمؤسس من مؤسسي التحليل النفسي، و”ماكس فيبير -فيلسوف الليبرالية الشهير-، و”أوجيست ستراند برج” – عميد المسرح العالمي وبخاصة المسرح الباطني-.

ففي هذا الكتاب يقر الدكتور رشدي فكار بأن هؤلاء المفكرين هم عمالقة في الفكر، وأن عطائهم الفكري بلا شك له نقاط قوة، لكنه يسلط الضوء على الصورة التكاملية لشخصية كل من هؤلاء المفكرين الغربيين وتحولاتهم الفكرية، وإنصاف بعضهم تجاه الإسلام وعدم انخراطهم في الحملة ضده مثل أوجست كونت، وكذلك أثر حياتهم الشخصية في فلسفتهم، وكيف أن جميعهم لهم نقاط ضعف ولهم نقاط قوة. وانتهى الكتاب بسؤال هو: هل هي نهاية عمالقة حضارة الغرب؟ باعتبار أن العقل في إبداعه وإشراقه إن لم يتحل بقناعة الإيمان متواضعًا أمام خالقه الذي هو فوق كل ذي علم عليم، قد يقوده تبجحه وتكبره ومغالاته واستعلاؤه إلى الطريق المسدود، أو المأزق، أو التراجع والارتداد، أو الهزيمة والانكسار، فبقدر ما أوتي من علم، بقدر ما عليه أن يكتشف وبكل تواضع حقيقة جهله بما لم يعلم.

وفي نفس هذا السياق أيضًا نذكر ما بينه الدكتور فكار في كتابه “تأملات إسلامية في قضايا الإنسان والمجتمع” في مبحث بعنوان “في الماركسية والدين من ماركسية الرفض إلى ماركسية الارتداد عبر الحوار والاجتهاد”، والذي يتناول فيه إشكالية تقييم موقف ماركس من الدين، بناءً على كونه – أي المؤلف – له باعًا طويلًا في دراسة أصول ومنطلقات الفكر الماركسي، ليس ماركسية التطبيق – حسب تعبيره – وإنما ماركسية ماركس، مشيرًا إلى اختلاف موقف ماركس من الدين وتحوله من موقف الرفض الذي تبناه في المرحلة الأولى، حيث يشير الدكتور فكار أن رفض ماركس لم يكن رفضًا فلسفيًا وإنما كان رفضًا سياسيًا، حيث رفض دور الدين في بنية المجتمع، ووصفه بأنه دور سلبي، وصنفه بين الأيديولوجيات الاستلابية التي تمارسها البنية الفوقية للمجتمع كمخدر تبريري، ثم يرصد الدكتور فكار حسب دراساته وملاحظاته تحولًا عند ماركس في مرحلة متقدمة، ولا يستبعد في ذلك التأثير الفرنسي من خلال مدارسه الاجتماعية وخاصة مدرسة سان سيمون – التي كان ترفض المجازفة بالدين باسم العلم – ويذكر على ذلك مجموعة من البراهين شاركه فيها أيضًا روجيه جارودي ومنها سخرية ماركس من الملحدين.

وهنا يعتبر الدكتور فكار أن هذه التساؤلات حول موقف ماركس من الدين وتحوله النسبي تمثل إطارًا هامًا في إعادة للتأمل وإعادة النظر على مستوى إمكانية الحوار حول الدين، وهي فكرة أساسية في منهج الدكتور فكار، فهو يرى أننا في حاجة لمنهجية علمية للحوار والمواجهة الجادة بين الإسلام وبين هذه المذاهب وأن من يتنكرون للدين وللإسلام عليهم أن يحاورونا محاورة هادئة منصفة إن كانوا يريدون بذلك الوصول الى الحقيقة.

ب- الاتجاه الثاني: يتعلق بالذات المسلمة ومحاولة إعادة الثقة لها، ومواجهة الانهزامية النفسية لدى المسلمين، وذلك ببيان علو العقيدة الإسلامية وقوة المنظومة والمنهجية الإسلامية، بالإضافة إلى إرشاده لما تحتاجه الأمة اليوم من مقومات النهوض خاصة على مستوى الفكر.

ونذكر هنا على سبيل المثال لا حصر ما يعكس هذا الاتجاه في كتابات الدكتور فكار، ومن ذلك كتابه “لمحات عن منهجية الحوار والتحدي الإعجازي للإسلام في هذا العصر”، وهو كتاب يتلمس قارؤه قلمًا مفعمًا بالإيمان بالله عزوجل، ممتلئًا باليقين من هذا الحق الذي يدعو له على بينة وبصيرة منه، وقد سلط فيه الدكتور فكار الضوء على علو الإسلام منطقًا ومنهجية وعقيدة وتشريع، وتحديه الإعجازي المستمر حتى يومنا هذا، والذي بدأ بإعجازه البياني الذي أقام الله به الحجة على العرب، ثم التحدي العقلاني لفلاسفة الإغريق، واستمر هذا التحدي إلى يومنا هذا الذي يواجه فيه الإسلام الحضارة الغربية المدعمة بالأسس العلمية والمعرفة التكنولوجية، حيث يجيب الدكتور فكار عن سؤال المنهج والكيفية التي يواجه بها الإسلام هذه الحضارة، متجاوزًا إياها متحديًا لها، وذلك مع تأكيده على استبعاد كل الأطروحات المتعجلة التي تسعى لإحلال العلم محل الدين أو العكس، أو تبرير الدين بالعلم الدنيوي النسبي المحدود دون وعي بتسامي الدين في كماله وشموله من منطلقه وعبر مسيرته وغائيته الخالدة، ساعيًا من خلال هذا الطرح أن يبين أن الإسلام يواجه ويتحدى ما حققه العلم اليوم بعد أربعة عشر قرنًا من ظهور الإسلام، مبينًا عجز مسيرة العلم الطويلة هذه أن تنال من القرآن أو أن تأتي بحقيقة علمية قطعية تخالف نص القرآن أو الأحاديث النبوية الصحيحة.

ومن واقع اختصاص الدكتور فكار فإنه لا يركز هنا على العلوم الطبيعية وإن كان يشير إليها فقط، وإنما جعل المواجهة بين الإسلام وبين العلوم الثلاثة التي تمثل صدارة العلوم الغربية المتخصصة في الإنسان (السوسيولوجيا، والأنثروبولوجيا، والسيكولوجيا)، حيث يبين الدكتور فكار في إطار العلوم الثلاثة كيف وقف مؤسسوها وكبار علمائها من الوضعيين موقف التنكر للدين، ثم ما لبثوا أن أتوا مذعنين له بعد أن واجهوا قصور علمهم، حتى أن الكثيرين منهم قدم على الانتحار في محاولة للخلاص من الحياة العدمية التي يعيشها. وفي المقابل يبين الدكتور فكار الفرق الشاسع بين المسلم المتبع للوحي الإلهي وبين متبعي المذاهب الوضعية البشرية من حيث الاستواء الفطري والسلامة النفسية وتماسك المجتمعات، كما يبين أن هؤلاء المشككين لم يستطيعوا أن يسجلوا خللًا واحدًا متماسكًا في بنائه ضد ديننا الحنيف، وإنما غاية فعلهم رفع شعارات القطيعة وإصدار تعميمات باطلة، وأن من صور إعجاز الإسلام في عصرنا هذا هو ثباته وصموده على مدار قرون تتقدم فيها العلوم فلا تصيب منه، بل نزداد بها يقينًا في صحته وربانيته. فنظرة الإسلام للإنسان تتجاوز الأنثروبولوجيا وما فيها من تخبط، وكذلك نظرته لنفس الإنسان وأغوارها تتجاوز علم النفس، وتشريعات الإسلام للفرد والأسرة والمجتمع القائمة على الحق والعدل تتجاوز علم السيكولوجيا.

يرى الدكتور فكار أن السبب وراء توجه العلوم الغربية نحو استئصال جذور الروحانية وتصفية الحسابات مع الدين يعود بشكل أساسي إلى كونها “هموم غربية” تزينت بزي المشروعية الكونية نظرًا لتفوق الحضارة الغربية وتسلطها وسطوتها، حيث تبلورت هذه الهموم في بعض مراحلها في شكل مؤامرة تسعى لتعرية العالم الثالث المتمحور حول الأمة العربية والإسلامية إنسانيًا وروحيًا بعد أن عرته من خيراته الطبيعية، أما المسلمون فليست هذه همومهم وليس لدى الإسلام أزمة كما يزعم صانعوها من الجاهلين به أو المعادين له.

وقد برز هذا الاتجاه أيضًا في كتابات أخرى للدكتور فكار منها على سبيل المثال ما جاء في كتابه “تأملات إسلامية في قضايا الإنسان والمجتمع”، وهو كتاب يضم مجموعة من الأبحاث للدكتور فكار، وقد ناقش فيه تحت عنوان “الإسلام بين دعاته وأدعيائه وخصومه وأعدائه” إشكالية متكررة تتعلق بتعامل الإنسان المسلم المنهزم نفسيًا مع قضاياه المعاصرة من تكيف ومعايشة ومواجهة حضارية، باعتبارها أزمة الإسلام في حين أنها أزمته هو، وهنا يبين الدكتور فكار أنه على المسلم المعاصر أن يواجه مشكلته الحضارية بقوة بدلًا من حال الوهن والشك في صحة ما لديه. أما الإسلام فباق بحفظ الله وقوة وصلابة أسسه ومبادئه وصلاحية وجوده وبقائه، لا يضره وهن الواهنين وضعف المنتسبين، فهو الدين الشامل المتجاوز لكل الفلسفات التي ابتكرتها العقول البشرية قبله وبعده، وعلى هذا الأساس يؤكد الدكتور فكار على ضرورة أن يحمل المسلم القضية باعتبارها قضيته، بمعنى أن يعرف كيف يفهم الإسلام وكيف يعرِّف به بمقتضى المنهج الذي حدده والذي يعتمد على الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وهذا يتطلب في نظر الدكتور فكار ضرورة تحديد الدعاة وتمييزهم عن الأدعياء والخصوم والأعداء، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة في الدعوة ومنهجها التطبيقي الذي يجب أن نقتفي فيه خطاه، ويأتي هذا في سياق تناول الدكتور فكار لقضية مواجهة أزمة الحضارة المعاصرة.

وفي مبحث آخر تحت عنوان “إنسان القرآن من خلال أبعاده الاجتماعية” يبين الدكتور فكار أثر القرآن على الإنسان ككائن اجتماعي، وكيف أن العرب الذين عاشوا في الجاهلية تحولوا تحولًا جذريًا في تعاملاتهم الاجتماعية بعد ما اعتنقوا الإسلام، رافضًا موقف بعض المستشرقين الذين ينفون عن القرآن هذه الأصالة وعلو مستوى تشريعاته، ويعتبرون أن العرب آلوا لما آلوا إليه بصورة تطورية طبيعية. وفي المقابل يرفض موقف بعض المسلمين الذين يصورون مجتمع ما قبل القرآن باعتباره مجتمعًا بدائيًا همجيًا بصورة تعميمية ليؤكد الدكتور فكار على أن القرآن أكد – من خلال قصص الأنبياء- على وجود نماذج إنسانية صالحة أبقى على الخير، وذلك على مستوى الفرد والأسرة والدولة والأمة جميعًا

وفي ضوء هذا يقول الدكتور فكار: “إن إنسان القرآن اجتماعيًا جاء نموذجًا مستوعبًا لما صلح من ماضي الإنسان، متجهًا به إلى الكمال بما يتماشى، ومتطلبات الحياة الاجتماعية المتجددة، نموذجًا خرج بالإنسان من نمط المجتمعات المحلية إلى النمط المجتمع العالمي، شرع للإنسان الشامل في كل زمان ومكان، تاركًا لمبادئه أبعادًا مرنة، مبسطة، هي مصدر قوته الاجتماعية”.

خاتمة:

وفي الختام يمكننا القول بأن الدكتور رشدي فكار في كلا الاتجاهين السابق ذكرهما ركز على موقع الإنسان في كل من النموذجين، مبينًا إشراقه الحضاري والثقافي والوجداني واستوائه الفطري ومعرفته بالحقائق الكبرى والكلية في إطار العقيدة والمنظومة القيمية الإسلامية، في مقابل الغرب الذي تتمثل أبرز وأجلى مواطن قصوره في تشيئ الإنسان واختزاله في بُعده المادي فقط وسلبه قيمته الحقيقية. ونحن اليوم ومن واقع معايشة ما تلا هذه الحقبة الحداثية التي عايشها الدكتور رشدي فكار إلى ما بعد الحداثة التي اعلنت موت الإنسان فإننا نستطيع أن نرى لإسهاماته أثرًا أكبر مما تصور.

لقد قدم الدكتور رشدي فكار بأعماله نموذجًا للمسلم صاحب الأصالة الفكرية الذي ينبع شعور العزة من ثنايا قلمه، ولعل هذا هو أكثر ما يحتاجه أبناء أمتنا اليوم في ظل هيمنة الشعور بالنقص والمغلوبية.

وفي هذا السياق نختم بكلمات جامعة للدكتور رشدي فكار يتحدث فيها عن واجب الوقت على الأمة فيقول: “في هذا المعترك الساخن الذي فُقد فيه الاحتكام الحق عند الأقوياء والضعفاء على حد سواء، وأصبحت العلاقات ليست فقط بين الأفراد وإنما بين الأمم علاقة الذئاب بالذئاب، يأتي الإسلام مجسدًا في دعاته، معتمدين على سلامة المنطلق بصدق مبادئه وسموها، وملتزمين بصلاحية التطبيق بفضل الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، واثقين من صحة الهدف الذي هو إسعاد الإنسان بتعادله، وتوازنه بفضل سلوكه الوسطي وبعده عن التطرف والمغالاة والاستلاب، وفي الآخرة بضمان استقرار وجدانه وحمايته من القلق وربط مصيره بما هو أسمى من متاع الدنيا الزائل. نعم يأتي الإسلام بدعاته، وهم أكثر إصرارًا على المواجهة في سبيل الحق يحاورون الخصوم بالحكمة والإقناع لا يرهبونهم، يجادلون الأعداء بكلمة الحق، ويكشفون الأدعياء بتعرية زيفهم، وارتزاقهم لا عن طريق معارك كلامية وطنطنة بالألفاظ، ولكن بكسب الأرض من تحت أقدامهم في كل يوم. ليتقدم الإسلام في كل القارات كمنقذ للإنسان من الضلال، والاستلاب، والطغيان بكلمته الطيبة المتجهة إلى الضمير والوجدان، واضعًا في حسابه إعاقة الأدعياء ومجادلة الخصوم، ومنازلة الأعداء، معتمدًا على منهج واعي وعلى تعبئة أصيلة للملايين الباحثة عن الحق والعدالة.

___________________________________

* باحثة في العلوم السياسية.

عن يارا عبد الجواد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.