عَقَدَ مركز خُطوة للتوثيق والدراسات يوم السبت الموافق 14/ 09/ 2024 الساعة 11 صباحًا، حلقة نقاشية حول الورقة التي أعدتها الأستاذة منال يحيى شيمي الباحثة بالمركز بعنوان “ما بعد الإنسانية: الفرص والتحديات”. وقد حضر الحلقة النقاشية كلٌ من:
أ. د. شريف عبد الرحمن سيف النصر “مدير الجلسة”
أ. د. أماني صالح.
أ. تقى محمد حسن.
أ. عمرو نبيل الحكمي.
أ. محمد الديب.
د. مدحت ماهر الليثي.
أ. مهجة مشهور.
د. هاني محمود حسن.
أ. وليد محمد القاضي.
أ. يارا عبد الجواد.
أولًا: الورقة التي أعدتها أ. منال يحيى شيمي لهذه الحلقة النقاشية
ما بعد الإنسانية: الفرص والتحديات
أ. منال يحيى شيمي *
يشهد العالم اليوم ثورة تقنية وتكنولوجية هائلة، ورغم ما تحمله هذه التكنولوجيا من إمكانات وفرص لتحسين جودة الحياة وحمل القدرات البشرية إلى أفق جديد، فإنها وبنفس القدر تهدد الحياة البشرية والطبيعة الإنسانية بالمعنى الذي نعرفه. حيث تسمح التكنولوجيا الحديثة بدمج الإنسان والآلة معاً على نحو يهدد باختزال الإنسان أو تحويله إلى آلة. تتيح التكنولوجيا كذلك إجراء تعديلات في طبيعة الإنسان —عبر الهندسة الوراثية— بالشكل الذي يصعب معه التعرف على الإنسان بسماته الفيزيائية والعقلية المعهودة.
يشير البعض إلى هذا الجانب من آثار التكنولوجيا على الإنسان بمفهوم ما بعد الانسانية. وقد ولّـد هذا المفهوم مخاوف (دينية وفلسفية) لدى الكثيرين في الشرق والغرب على مستقبل الإنسان، حيث أكد البعض على ضرورة التمييز بين التكنولوجيا التي تساعد الإنسان، والتكنولوجيا التي تسعى إلى تغييره بالكامل. ولكن في الوقت نفسه نجد أن أفكار “ما بعد الانسانية” تحظى بتأييد واسع في أوساط علمية وتكنولوجية، تنظر إليها بوصفها المرحلة الطبيعية التالية من تطور البشرية.
ما المقصود بمفهوم “ما بعد الإنسانية” Post humanism؟
ما بعد الإنسانية هي اتجاه فلسفي وثقافي ونظري متعدد الأبعاد، يهدف إلى إعادة النظر في المفاهيم التقليدية للإنسانية وللطبيعة البشرية، وإعادة النظر في الحدود بين الإنسان والتكنولوجيا والبيئة والعلاقة بينهم. بهذا المعنى فإن المفهوم له عدة أبعاد، فلسفية، وعلمية تكنولوجية، وأخلاقية، وبيئية.
فلسفياً: تقوم ما بعد الانسانية على نقد وتفنيد الإنسانية التقليدية التي تركز على تفوق الإنسان الفطري وأفضليته على سائر الكائنات وعقلانيته ومركزيته في الكون، وتشكك في النظر الفلسفي الذي يضع الإنسان في قمة الوجود، وتهدف إلى تفكيك هذه المركزية للذات البشرية من خلال التأكيد على الترابط والتعاضد بين البشر والكائنات غير البشرية، بما في ذلك الحيوانات والآلات والنظم البيئية.
علمياً وتكنولوجياً: تقوم أفكار “ما بعد الإنسانية” على التكامل بين الإنسان والآلة، أو التكامل التكنولوجي البيولوجي، وذلك من خلال استخدام التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية على البشر، عبر إضافة شرائح إلكترونية أو من خلال التعديل الجيني أو أي وسائل أخرى، حيث تؤثر هذه التقنيات في الإنسان وتغيره، مما يفضي إلى حالة “ما بعد الإنسانية” والتي يتم فيها تجاوز القيود البشرية التقليدية، ويظهر هنا مفهوم السايبورغ الذي يعبر عن جانب مهم من “ما بعد الإنسانية”، فهو مزج الكائن الحي بالآلة، على نحو يجسد تلاشي الحدود بين البيولوجيا والتكنولوجيا.
وتعد الهندسة الوراثية أحد التقنيات الأساسية التي تعتمد عليها “ما بعد الإنسانية”، حيث أدت التكنولوجيا الحديثة في الهندسة الوراثية واستخدام النانو تكنولوجي إلى طفرة كبرى في هذا المجال، فقد أصبح من الممكن فصل الجينات الخاصة بصفات معينة أو المسؤولة عن وظيفة ما وتبديلها أو التعديل فيها. كما أصبح من الممكن تخليق أنسجة بشرية نوعية من الخلايا الجذعية، وكل هذا يفتح آفاقاً واسعة أمام إمكانية ادخال تعديلات على البشر!
أخلاقياً: تقوم ما بعد الإنسانية على توسيع النطاق الأخلاقي ليشمل الحيوانات والذكاءات الاصطناعية والبيئة، وتنادي بأخلاق أكثر شمولاً حيث تعترف بحقوق وقيمة جميع أشكال الحياة وجميع الكائنات الحية وغير الحية. وتشدد “ما بعد الإنسانية” على أهمية أخلاق التعاون والرعاية بين البشر وغير البشر من أجل تحقيق مستقبل مستدام ومتكامل. نحن هنا لا نتحدث عن حقوق وقيمة للحيوان والبيئة فحسب، وإنما عن حقوق مساوية لحقوق الإنسان فهو ليس مفضلاً على غيره من الكائنات. في هذا الإطار أيضا يتم تجاوز حقوق الكائنات الحية والبيئة إلى الحديث عن حقوق وأهمية الكائنات غير الحية مثل الآلات والذكاء الاصطناعي.
بيئياً: تركز “ما بعد الإنسانية” على نقد تأثير البشر السلبي على البيئة والكوكب، وتستكشف طرقًا للتعايش المستدام مع أنظمة الأرض. وتطرح فهمًا أعمق للبشر كجزء من الشبكة البيئية الأوسع.
تؤكد كل هذه الأبعاد على تجاوز مركزية الإنسان وتدعو إلى تبني رؤية عالمية تحترم قيمة كل الكائنات الحية وغير الحية، البشرية وغير البشرية، وتسعى إلى إقامة علاقات أكثر مساواة بين البشر والعالم غير الإنساني.
في هذا السياق يجب التنبيه على أهمية التمييز بين مفهومين يتم استخدامهما أحياناً بنفس المعنى في الأدبيات ذات الصلة هما: ترانس-هيومانزم (transhumanism)، وبوست-هيومانزم (post humanism). فالأول (ترانس-هيومانزم) يشير إلى حركة فلسفية وعلمية تهدف إلى تحسين وتعزيز القدرات البشرية من خلال التكنولوجيا والعلوم المتقدمة، وتسعى هذه الحركة إلى تجاوز الحدود البيولوجية الحالية للبشر عن طريق استخدام الذكاء الاصطناعي، والهندسة الوراثية والتكنولوجيا العصبية، والنانو تكنولوجي وغيرها. يشمل مفهوم “التحسين” تعزيز القدرات الجسدية، على سبيل المثال زيادة القدرة على الإبصار، أو السرعة، أو زيادة المناعة ضد الأمراض، أو القدرة على تحمل المجهود. والقدرات العقلية مثل زيادة القدرة على التعلم وسرعته، وإجراء العمليات الحسابية وغيرها. ويشمل أيضاً الغاء الصفات “غير المرغوبة” مثل الغباء، والمرض، والشيخوخة، والموت. يمكن القول إن ترانس-هيومانزم تركز أكثر على تحسين القدرات العقلية والجسدية من خلال الاندماج بين الإنسان والآلة، أو من خلال أدوات التكنولوجيا الحديثة مثل الهندسة الوراثية والنانو تكنولوجي. أما المفهوم الثاني (بوست-هيومانزم) فيعبر عن تجاوز الحالة الإنسانية، والدخول في مرحلة جديدة تماماً، عالم “ما بعد الإنسان”.
هذا ويرتبط مفهوم الترانس-هيومانزم غالبًا بتعزيز قدرات البشر فهو غالباً ما يستخدم بمعنى إيجابي، في حين يرتبط مفهوم الـبوست-هيومانزم بالتأمل في التبعات الفلسفية والأخلاقية لهذه القدرات والافتراضات الكامنة وراءها فهي تستخدم غالباً للنقد. وبشكل عام فإن كلا المفهومان يشتركان في الاهتمام بمستقبل الإنسان في العلاقة مع التكنولوجيا، لكن الـبوست-هيومانزم يعد أوسع وأكثر شمولاً للأبعاد الثقافية والبيئية والفلسفية. وكلاهما يترجم الى العربية “ما بعد الإنسانية”.
لماذا يجب أن نهتم بمفهوم “ما بعد الإنسانية” Post-humanism؟
تكمن قوة وأهمية مفهوم “ما بعد الإنسانية” في الترسانة العلمية والتكنولوجية التي يرتكز اليها، وتركُز تلك الترسانة في يد عدد محدود جداً من الناس، وفي عدد محدود جداً من الدول، وهو ما يثير القلق حول استخدام هذه الإمكانات بشكل غير عادل وغير أخلاقي. هذا ويعد الاهتمام بمفهوم “ما بعد الإنسانية” ضرورياً لعدة أسباب أهمها:
أولاً- قيامه بإعادة تعريف الهوية البشرية مما يؤثر على المجتمع والبيئة والعلاقات الإنسانية والدولية، كما يؤدي لتغيرات جذرية في الطريقة التي نعيش ونعمل ونتفاعل بها مع بعضنا البعض، ومع العالم من حولنا، ويفرض تحديات أخلاقية جديدة ليس على منظومتنا المعرفية فحسب، بل على كل النظم المعرفية، وهو بذلك يهدد تفرد الإنسان وتنوعه وإبداعه وتكوينه العاطفي والنفسي وكلها تغيرات غير منضبطة الآثار.
ثانياً- يتحدى مفهوم “ما بعد الإنسانية” كذلك المفاهيم التقليدية للجنس ويدعو للاعتراف بتنوع الهويات الجندرية وتعددها بما يتجاوز الثنائية التقليدية بين الذكر والأنثى، بما يعني الاعتراف بأنواع جديدة من البشر.
ثالثاً- يتحدى مفهوم “ما بعد الإنسانية” كذلك الحدود الفلسفية والوجودية، حيث ينكر فكرة التفوق البشري على الكائنات الأخرى. وبدلاً من النظر إلى البشر ككيانات منفصلة ومستقلة عن باقي العالم، يروج لفكرة التكامل بين البشر وغير البشر، ويتحدى الفصل بين العقل والجسد، وبين البشر والآلات، وبين الإنسان والطبيعة.
يتضمن كل ما سبق إعادة تعريف للهوية البشرية، ويهدد الجانب الإنساني بفقدان طبيعته، فلن يعود الإنسان هو الإنسان كما نعرفه، ذلك الكائن الذي يتعرض للضعف والخوف والتردد، ويشعر بالألم والحزن والحنان والتعاطف وغيرها من الصفات الإنسانية البيولوجية والنفسية والعقلية المعهودة. ويبرز هنا سؤال متى يعد الإنسان إنساناً؟ أو ما الذي يجعل الإنسان إنساناً؟ ماهي المعايير المقبولة وغير المقبولة تجاه الآلات والإنسان والسايبورغ، وإلى أي مدى يمكن التحكم في الإنسان من خلال “التلاعب” في الجينات بما ينتج تغيرات عقلية وجسدية. ومن الذي يحدد ما يُعد “تحسيناً” وما يُعد “إفساداً” في الجسم البشري؟ وكيف سيكون التعامل بين البشر العاديين، والبشر المعدلين، والبشر الآليين؟ وما خطورة ذلك وآثاره على العلاقات بين المجتمعات بعضها البعض، خاصة إذا امتلكت بعض الدول هذه التكنولوجيا “التحسينية” وحرمت منها أخرى؟ إلى أي مدى يمكن أن تؤثر تلك التعديلات على التنوع البشري بحيث تختفي صفات إنسانية تماماً وتصبح أخرى سائدة؟ ما الذي يمنع محتكرو هذه التكنولوجيا الفائقة من تكوين جيش كامل من البشر المعدلين أو الآليين، وإلى أي مدى يملك هؤلاء مفهوم “الإرادة”؟
مما سبق ندرك أن فهم “ما بعد الإنسانية” يساعدنا على التعامل مع هذه التغييرات بطرق واعية مسؤولة وأخلاقية، بدلاً من الخضوع والاستسلام لها كجزء من الواقع، خاصةً أننا نلاحظ تسرب العديد من الدعوات والتوجهات التي قد تكون تمهيداً لعصر “ما بعد الإنسانية”، مثل التوجه العالمي نحو الدفاع عن المثلية والـ transgender وانتشار ظاهرة التفكك الأسري التي تؤدي إلى حالة من السيولة في المجتمعات واستعدادها لتبني كل ما هو جديد أو غير مألوف، فضلا عن ظاهرة إدمان التعامل مع التكنولوجيا التي تفتح الباب لاستيعاب ما هو أخلاقي وما ليس كذلك والتطبيع مع أفكار صادمة للفطرة.
إن مفهوم “ما بعد الإنسانية” يعبر عن الإنسان وهو يريد أن يقوم بدور “الإله” في الكون، ويتعدى كل الحدود ويدخل في كل المساحات الممنوعة. فهو يمثل المادية في أقصى صورها. فإن كانت الحداثة بدأت بـــــ “إعلان موت الإله” ومركزية الإنسان في الكون، فها هي تصل الى إعلان نهاية الإنسان نفسه. “نسوا الله فأنساهم أنفسهم”.
كما تعبر “ما بعد الإنسانية” عن التفكيكية في أقصى مداها. فهي تتعامل مع الإنسان كمادة بحتة خاضعة للتصرف وتتجاهل تماماً الروح. وذلك بعد عقود من ممارسة المناهج التفكيكية على كل الثوابت، الدينية منها والاجتماعية والأخلاقية ثم الجنسية المتعلقة بالنوع الذكر والانثى. تبدو “ما بعد الإنسانية” إذن كاستمرار لممارسة التفكيك على الإنسان نفسه وعلى هويته البشرية.
ونحن إذ نتعرض لهذا الموضوع فإننا نؤكد أننا نتناوله من منطلق إيماني يختلف عن تناول الآخرين له، فالإسلام يؤكد على كرامة الإنسان وأفضليته على سائر الكائنات، ويؤكد كذلك على تسخير الكون له بهدف تحقيق وظيفة الاستخلاف في الأرض والإعمار فيها. والنظرة الإسلامية لعلاقة الإنسان بالكون تقوم على مفهوم “الأمانة” كفلسفة عامة تحكم الوجود الإنساني في هذا الكون (انظر: طه عبد الرحمن ونظريته الائتمانية). ويسري مفهوم الأمانة على علاقة الإنسان بكافة الموجودات والأشياء بما فيها جسده الشخصي. فهو لا يمتلكه امتلاكاً تاماً، وليس من حقه الإضرار به أو إفساده. وينتظم ذلك كله ضمن مسئولية الإنسان أمام الله (عز وجل).
في إطار ما سبق يمكن طرح عدد من الإشكاليات والأسئلة ليدور حولها النقاش، مثل:
- هل تحسين جودة الحياة وزيادة القدرات البشرية واطالة العمر وتحسين البيئة وتعزيز التعاون والمشاركة وغيرها من أهداف معلنة تروج لها “ما بعد الإنسانية”، هل هي الأهداف الحقيقية؟ أم أن هذه الأهداف تخفي وراءها أهدافاً أخرى للسيادة والرغبة في التحكم والسيطرة التامة عليه؟
- تتحدى “ما بعد الإنسانية” الحدود التقليدية للبشر كما ذكرنا، الحدود البيولوجية، الحدود التكنولوجية والفلسفية والأخلاقية، ألا يمكن أن يؤدي كسر كل هذه الحدود إلى فوضى حقيقية على كل تلك المستويات؟
- ألا يبشر ذلك بميلاد حدود أخرى جديدة نابعة من النظام الجديد على وفق هوى سدنته وصانعيه؟
- هل يمكن أن تتجاوز قدرات الذكاء الاصطناعي فعلاً القدرات البشرية؟ وهل يمكن أن يؤدي ذلك الى فقدان السيطرة عليه؟ بمعنى آخر، ما مخاطر أن ينقلب هؤلاء البشر المعدلون وراثياً أو آلياً على البشر التقليدين فيقرروا إبادتهم مثلاً لأنهم كائنات “أدنى”؟
وعلى مستوى الداخل الإسلامي يمكن طرح مزيد من الأسئلة:
- إلى أي مدي يجب أن يقلقنا كمسلمين مفهوم “ما بعد الإنسانية”؟ هل نحن ما نزال بعيدين جداً عن هذه التكنولوجيا؟ هل نحن بمعزل آمن منها؟ أم أننا سنعاني من آثارها وما ترتبه من سياسات على كل أشكال الحياة شأنها كشأن كل أشكال التقدم التقني التي فوجئنا بآثارها الراديكالية على حياتنا منذ مطلع الألفية؟
- هل نحن على استعداد -على الأقل “فكرياً ومعرفياً وأخلاقياً”- لمواجهتها؟ وهل لدينا الأساس المعرفي والاجتماعي والأخلاقي الذي يمكننا من مواجهتها؟
- ما الذي يمكن أن يضيفه الفكر/الفقه الإسلامي لهذا الجدل الدائر حول مفهوم “ما بعد الإنسانية” بما يساهم في وضع حدود آمنة له؟
- كيف يقدم التصور الإسلامي المؤسس على مفهوم الأمانة النموذج الوسط بين رؤيتين ماديتين متطرفتين؛ الأولى ترى أن الإنسان سيد في هذا العالم ومركزه ومحوره يتصرف فيه كيف يشاء، والأخرى ترى أن الإنسان مجرد عنصر عادي في هذا الكون وكسائر العناصر الأخرى ليس له أي أفضلية عليها؟
- كيف يمكن أن تتسع مفاهيم الضرر والفساد في الفقه الإسلامي لتشمل أشكالاً جديدة متطورة من الضرر والفساد التكنولوجي؟
- ما هو موقف الفقه الإسلام من التعديلات الجينية العلاجية وغير العلاجية، ومن استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، متى يمكن قبولها ومتى يجب أن تُرفض؟ ما الموقف الإسلامي من إكساب البشر قدرات خارقة جسدية ومعرفية وما أثر ذلك على مبدأ المساواة والعدالة بين الناس، وتكافؤ الفرص؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحثة بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وحاصلة على ماجستير في العلوم السياسية. جامعة القاهرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانيًا: تفريغ لمناقشات الحلقة النقاشية
د. شريف عبد الرحمن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بداية نرحب بحضراتكم في مركز خُطوة للتوثيق والدراسات ونشكر لكم مشاركتكم في مناقشة هذه الورقة المقدمة من أ. منال بعنوان “ما بعد الانسانية الفرص والتحديات”. وهذا العنوان هو امتداد لسلسلة موضوعات اهتم بها المركز أخيرًا تناقش علاقة الإنسان بالتقانة أو بالتكنولوجيا. ونحن إذ ننظر للموضوع من زاوية محاولة التأصيل وليس فقط التعامل من السطح، فإننا ننافش هنا تحول التقانة إلى أيديولوجيا.
لو بحثنا في الجذور التاريخية للموضوع نجد أنه في أعقاب أزمة الفساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، بدأ عدد من التكنوقراط النظر للسياسة بشيء من التبرم، وشعروا أن السياسيين غير قادرين على إدارة المجتمع بشكل فعال، ونشأت حركة عرفت باسم “اتحاد التكونقراط” في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، حيث حاولوا استبدال سلطة السياسيين بسلطة التكنوقراط، ونشأت حركة معروفة تاريخيًا بـ”ذوي السترات الرمادية”، وراحوا ينتشرون في شوارع الولايات المتحدة الأمريكية محاولين نشر أفكارهم، وهي أن تحل منتجات التقانة محل المنتجات السياسية، أي أن يصبح التكنوقراطي هو المسؤول عن إدارة المجتمع. لم يُكتب لهذه الفكرة الاستمرار لكن تداعياتها على المجتمعات لا تزال موجودة. وما نطرحه اليوم يتماس مع هذه الفكرة بدرجة كبيرة، فنحن نتحدث عن التقانة وهي تحاول أن تعاود السيطرة على المجتمع، أي أن يكون المجتمع مدارًا من خلال التقانة وليس فقط بالاستعانة بها. فكرة “ما بعد الإنسان” تعبر عن دخول التقانة إلى حرم الإنسان، ووصول فكرة الهندسة الاجتماعية الى أعلى درجاتها فيُدار المجتمع البشري بالكامل كما يُدار مجتمع الآلات. هذه الفكرة بالطبع لها أنصارها ولها معارضوها، وسوف تتولى أ. منال عرض الفكرة بأبعادها المختلفة.
أ. منال يحيى
يُعد موضوع “ما بعد الإنسانية” من الموضوعات الهامة والعاجلة الجديرة بأن تحتل موقعًا متقدمًا على الأجندة البحثية للجماعة العلمية في العالم العربي والإسلامي. وأثناء الإعداد لهذه الورقة لاحظت أن الموضوع مطروح بكثافة أكثر في دول المغرب العربي والخليج العربي أكثر منه لدينا هنا في مصر. لكن من المهم النظر في كيف يتم طرح هذا الموضوع.
على سبيل المثال نجد أنه عُقد منذ عدة أيام فقط مؤتمر في المملكة العربية السعودية بعنوان “قمة الرياض للذكاء الاصطناعي” تم التركيز فيه على كيفية الاستفادة من ثورة الذكاء الاصطناعي، وخرج بعدة توصيات أهمها: تعزيز التعاون الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي، وزيادة الاستثمارات وتطوير المواهب وتدريب الكوادر في هذا المجال، ونشر الوعي حول فوائد وتحديات الذكاء الاصطناعي، ووضع إطار تنظيمي يضمن استخدامه بشكل مسؤول وأخلاقي، وأخيرًا وضع معايير دولية لأخلاق الذكاء الاصطناعي تخدم الخصوصية وتعزز الشفافية.
إذن جاء كل التركيز على كيفية الاستفادة من ثورة التقانة والذكاء الاصطناعي، والعمل على ألا نتخلف عن ركب ما يُعتقد أنه ” التقدم”.
لكن هل نفهم حقًا ما نحن مقبلون عليه؟ هل نفهم حقًا أبعاده وتداعياته العلمية، والاجتماعية، والأخلاقية، والدينية؟ نحن نقدم في هذه الندوة محاولة لتحقيق جزء من هذا الفهم، ومحاولة طرح بعض الأسئلة الصحيحة في هذا السياق.
وقد تناولت الورقة التي بين أيديكم تعريف “ما بعد الانسانية”: فهي فلسفة وأيديولوجية كاملة ذات أبعاد سياسية وعلمية وأخلاقية وبيئية خطيرة، وخطورتها تستند في أحد جوانبها الى الإمكانيات العلمية الهائلة التي تجعل كل ما تقوله تلك الأيديولوجيا ممكنًا وقابل للنفاذ من خلال تكنولوجيا الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي، ودون وجود أي وازع، أو ضابط ديني، أو أخلاقي، أو أي نوع من الضوابط الأخرى، فالحدود غير موجودة تمامًا.
من أمثلة ما أتحدث عنه: إدخال شرائح إلكترونية على المخ الإنساني بما يُكسبه قدرات أعلى حسابيًا أو معلوماتيًا. كذلك إدخال تعديلات جينية على الإنسان بما يؤدي لتغيير بعض صفاته الخِلقية، قد يكون بغرض العلاج مثل التعديل في الجينات المسؤولة عن بعض الأمراض الوراثية، وقد يكون لأغراض ليست علاجية وإنما تحسينية لتغيير بعض الصفات غير المحببة الى أخرى محببة، مثلا تركيب أطراف ذكية لها قدرات غير عادية (الأذرع، الأرجل، أو زيادة القدرة البصرية عن طريق إدخال بعض التعديلات في العين البشرية وغيرها من الإمكانات التكنولوجية التي تجعلنا نستطيع أن نقول أننا مقبلون على تخليق السوبرمان).
الحقيقة أن فتح هذه البوابة من إمكانية إدخال تعديلات على الإنسان في عقله وجسده دون أي ضوابط أثار مخاوف عديدة في الغرب نفسه، فقد أعلن المتخصصون في هذا المجال أننا مقبلون على صندوق أسود لا نعلم الى أين يقودنا. يقول “إيلون ماسك” صاحب أحد أكبر الشركات في مجال ما بعد الإنسان وتطوير مجال الذكاء الاصطناعي: أن الذكاء الاصطناعي يُعد أخطر على البشرية من القنبلة النووية. وتعمل شركته حاليًا كما هو مُعلن في إدخال تعديلات على المخ البشري لأغراض علاجية وتحسينية.
وفي شهادة أمام الكونجرس استُدعي لها “سام ألتمان” أحد أكبر المتخصصين في نفس المجال وهو مدير شركة Open AI، أعلن ألتمان عن مخاوفه من التطور السريع غير معلوم العواقب للذكاء الاصطناعي وطلب من الحكومة ضرورة وضع ضوابط على عملية تطويره لأنه يسير في طريق يهدد المجتمعات ويهدد حياة البشر.
ما يثير الاهتمام لدينا كمسلمين وكدول نامية عمومًا عند سماع مثل هذا الحوار في الغرب هو حجم المُعلن وحجم المسكوت عنه في هذا الحوار؟ فإذا كان ما ذكرته هو المعلن، فما هو حجم ما توصلوا اليه ولم يُعلن عنه بعد؟ ما هي الآثار غير المعلنة للتكنولوجيا المكتشفة وللشرائح المضافة وللتعديلات الجينية؟ إذا كنا نناقش حاليًا استخدام الرأسمالية لعلم النفس في السياسات الإعلانية لفرض نمط استهلاكي معين على العالم بأسره، واستخدام شركات الأدوية للفيروسات والدعاية التخويفية لنشر أمصال معينة، ثم الآثار المخفية لتلك الأمصال، فما بالنا ونحن نتحدث عن شرائح يتم زراعتها داخل الإنسان، وتعديلات في الجينات قد تؤثر على أجيال مقبلة.
شيء آخر يثير القلق لدينا كمسلمين وهو البعد الأخلاقي لكل هذه التغييرات، وأثرها علينا وعلى العالم بأسره. ما تأثير هذه التغييرات والتعديلات البشرية على العدالة بين البشر، على الخصوصية، على حرية الإرادة؟ ومن يتحمل المسؤولية عن النتائج التي تحدثها تلك التغييرات على البشرية عمومًا؟
ما خطورة هذه التغييرات من زاوية تنميط البشر ومحو تفردهم؛ تنميطهم فيزيائيًا وعقليًا. فيزيائيًا من خلال انتخاب صفات واستبعاد أخرى. وعقليًا من خلال تقديم محتوى واحد للجميع والإغراق بسيل من البيانات والمعلومات من مصدرأو مصادر مثل “الشات جي بي تي” لا نعرف مرجعيتها.
ما أريد أن أثيره هو أنهم في الغرب مستعدون بخطاب يوجهونه للعالم على كافة المستويات بشأن “ما بعد الإنسانية” فهل نحن في المقابل مستعدون؟ مستعدون على مستوى المعرفة؟ على مستوى الوعي؟ على مستوى البناء القيمي والأخلاقي الداخلي لمجتمعاتنا؟ على مستوى تكوين تصور ورؤية قائمة على الثوابت الإسلامية؟ ماهي المسؤولية التي تقع علينا في هذه المرحلة؟
قامت الحداثة على رؤية للإنسان جعلته مركز الكون، ثم جاءت ما بعد الحداثة فأكدت النسبية والفردية في كل شيء. والآن تأتي “ما بعد الإنسانية” فهل هي “مزيد من تمكين الإنسان بل تأليهه”؟ أم أنها إعلان عن نهايته والقضاء على أفضليته، بل ومساواته ببقية الكائنات والأشياء، بين هذين النقطتين المتطرفتين: الإنسان كمركز للكون، والإنسان كشيء من الأشياء، تأتي الرؤية الإسلامية لتقدم لنا الإنسان المكرم المستخلف في الكون المستأمن عليه. فهي تتأسس على مفهوم “الأمانة”. لذا فمن المسائل المهمة التي أرجو التركيز عليها أثناء النقاش هو كيف يمكن أن تقدم الرؤية الإسلامية طريقًا رشيدًا بين هذه الرؤى المتطرفة للإنسانية.
وشكرًا لحسن استماعكم.
د. شريف
أ. منال دومًا يشغلها سؤال الموقف، وهل نحن مستعدون؟ وهي ليست مبالِغة في هذا القلق. لأننا كحضارة إسلامية فقدنا الصدارة في هذا العالم – في وقت ما – نتيجة خطأ أو تأخر تقني. تحرَك التاريخ ولم يرحم مَن لم يستعد بالإجابات المناسبة. هناك أسئلة كثيرة أثارتها أ. منال تحتاج أن نستعد لها تتعلق بالعلاقة بالافتراضي، وبتشكيل الوعي، وبالموقف من الخوارزميات.
نحن في إطار مسار بدأ منذ فترة طويلة يدَّعي أنه يستطيع أن يصل بالتقدم الى منتهاه. والتقدم هو مرادف للتنمية، وهو مرادف لتجاوزالحدود وهدمها، فالحضارة الغربية تسعى دائمًا الى كسر الحد وتجاوزه، وتطور الأمر الى ما نحن بصدده الآن من إزالة الحد في علاقة الإنسان بالمادة، وعلاقة الإنسان بالآلة، والإنسان بالحيوان، من خلال استخدام أفكار الهندسة الوراثية.
إزالة الحدود أخذت أشكالًا كثيرة مثل موضوع الشفافية وإزالة خصوصيات الإنسان. إزالة الحدود بالمعنى التجاري وفتح الأسواق بين الكل. إن فكرة إزالة الحد بشكل مطلق هي التي وصلت بنا الى الجنسانية او المثلية؛ إزالة الحدود بين الذكر والأنثى. ففكرة “ما بعد الإنسانية” هي فكرة أصيلة وامتداد لهذه الأفكار التي عُرِف بها هذا التشكيل الحضاري الذي يسعى باستمرار من خلال كاسحة ألغام فكرية لإزالة كل أشكال الحدود.
وهذا ما جعل أ.منال تتخوف وتثير تخوفنا بشأن الخطابات المعاصرة التي تتحدث عن حقوق الإنسان المعدل، حقوق الآلة، حقوق السايبورغ الخ… فهذا خطاب مرعب وقريب جدًا منا وينبغي أن تكون الجماعة البحثية على الأقل جاهزة بردود وأفكار عملية لمواجهته وليست تنظيرات بعيدة عن الواقع.
والآن أترك الكلمة لمن يطلب المداخلة من السادة الحضور.
أ . مهجة مشهور:
أريد أن أوجه الانتباه إلى أن ما نراه اليوم من فكر “ما بعد الإنسانية” هو شيء تم التمهيد له على مدار عقود سابقة من خلال منظومة قيم سائلة كانت تبدو بريئة في بداية الأمر ولكنها كانت ملغمة بمعاني سمحت بالوصول الى ما نراه اليوم من أن يكون الرجل امرأة والإنسان آلة وغيرها. وأهم ما يعنينا في هذا الأمر هو كيف يتم الحفاظ على المجتمع وعلى الإنسان بحيث يكون له موقف مقاوم لهذا السيل من القيم الجارفة. كيف يتم إنقاذ المجتمع؟ نحن لسنا شركاء في هذا السباق التكنولوجي ولكن فقط تأتينا نتائجه، لكن هل نحن قادرين على استقبال هذه النتائج بمجتمع مفكك ومهلهل ومغيب؟ نحن نمتلك ثروة قيمية كبرى إن لم ندافع عنها فسوف ننجرف مع الآخرين.
أ. عمرو نبيل:
السلام عليكم ورحمة الله. بداية أشكر لكم طرح هذا الموضوع المهم للنقاش. أنتمي لمجتمع الريف، لذلك سوف أتحدث عن آثار التكنولوجيا على الريف. لقد حدثت نقلات تكنولوجية كبرى عندنا أدت لنقلات ثقافية كبرى لم نكن على استعداد لها وكانت آثارها الاجتماعية شديدة. من الستينات تقريبًا شهدنا دخول ثقافة التلفاز، ثم من 2010 تقريبًا انتقلنا من ثقافة التلفاز إلى ثقافة الإنترنت، ظهرت إثر ذلك مشكلات اجتماعية كثيرة جدًا منها مثلًا مشاكل الطلاق. فآثار التكنولوجيا على المجتمع واضحة جدًا ومنها تقليل الرصيد القيمي بشكل ملحوظ. الناس عندنا ليس لديها ثقافة كيفية التعامل مع التكنولوجيا الجديدة، فبدأت تواجه وحدها موجة عالية من القيم الغريبة، فشهدنا انتشار الإلحاد والتغريب ومشاكل الجنسية. أحد الأصدقاء من الريف أول ما اشترى سمارت فون فُتحت عليه الدنيا، وعندما دخل بالصدفة على منتديات تتحدث بشكل عقلاني بحت في الدين ألحد، فقد واجهته أسئلة لم يستطع الإجابة عليها، وطرَحَها على شيوخ القرية وهم من الشيوخ البسطاء فلم يستطيعوا الرد على أسئلته العقلية. لذا فان إعداد المجتمع ثقافيًا لاستقبال التكنولوجيا الحديثة بما يتفق مع قيمه أمر بالغ الأهمية.
وأخيرًا: لديّ سؤال يتعلق بما أثاره د.شريف في كلمته حول تأخر المسلمين عن ركب الحضارة: هل تخلف المسلمون عن ركب التقدم التكنولوجي بإرادتهم أم أن المستعمر منعهم من ذلك؟ ومن ناحية أخرى هل هذا التأخر عن التقدم لم يدخل فيه حرص المسلمين على الجانب الأخلاقي والقيمي لأي اختراع تقني جديد. فالدكتورة هبة رؤوف تقول أن السيارة إذا كانت من اختراع المسلمين كانوا سيراعون فيها تجنب تلوث البيئة لمسئوليتهم عن الحفاظ عليها.
د. شريف: أ. عمرو طرح مشكلات على أهميتها تنتمي الى عالم الإنسان وليس ما بعد الإنسان. فمشكلات الطلاق بسبب الخيانات الزوجية من خلال الإنترنت والإلحاد وغيرها كلها تنتمي لمشكلات الإنسان، لكن أ. منال تثير مخاوف أكثر تعقيدًا تنتمي للإنسان المعدل تكنولوجيًا.
الجانب الأخلاقي هل هو مُعطِل أم محفز للتطور التكنولوجي؟ طبعًا هذا سؤال مهم. كذلك دور المستعمر في تعطيل المشروع النهضوي الإسلامي أمر يستحق المناقشة حوله.
د. أماني صالح
بداية اتوجه بالشكر لمركز خطوة على دعوته لي للمشاركة في المناقشة حول هذا الموضوع المهم الذي أتوقع أن يحتل مكانًا مهمًا على أجندة الخطاب العولمي خلال العقدين القادمين.
كما أشكر الأستاذة منال على اختيار الموضوع وعلى الورقة الخلفية التي قدمتها. والورقة من وجهة نظري جامعة مانعة استوعبت وأحسنت شرح مفهوم “ما بعد الإنسانية” وأبعاده، كما ألقت الضوء على خطورة الفكرة وتداعياتها المستقبلية. وأُثمن تأكيدها على أهمية استدعاء الموقف الإسلامي من هذا الموضوع، وهو موقف ذو عناصر واضحة محددة ومترابطة تتعلق بالنظرة إلى الإنسان والكون ودور الإنسان في هذا الكون وعلاقته بالكائنات الأخرى التي تتأسس على عناصر مثل الأمانة والاستخلاف، والتسخير، وأفضلية الإنسان المرهونة بالإصلاح والتزكية والعمران والمسئولية أمام الله.
في هذا الإطار لدي عدة ملاحظات تتماس بشكل أو آخرمع الأسئلة التي طرحتها الأستاذة منال في نهاية الورقة الخلفية. وتركز تلك الملاحظات على ثلاثة عناصر: الأول الجوانب الأيديولوجية للمفهوم. الثاني الأبعاد الفلسفية وراء للفكرة. ثم الثالث حول بعض التداعيات الأخلاقية والتشريعية المتوقعة.
فيما يتعلق بالبعد الأيديولوجي لفكرة ما بعد الإنسانية، لدي عدة ملاحظات:
الملاحظة الأولى حول العلاقة بين الأيديولوجيا والعلم.. لفترات طويلة كنا نتوهم أن أهم ما يميز النموذج الحضاري والمعرفي الغربي هو سيادة الطابع العلمي التطبيقي وأن العلوم التجريبية تقود الأيديولوجيا والفكر، لكن ربع القرن الأخير كان صادمًا وجعل هذا التصور محل شك كبير من عدة زوايا؛ في تصوري أن هذه الفترة كشفت بوضوح أن الأيديولوجيا أو التصور العقائدي بشأن المجتمع والعالم هو الذي يقود العلوم الاجتماعية وحتى الطبيعية والتجريبية أحيانا!! والمؤشرات على ذلك عديدة؛ لننظر مثلًا إلى تطور فكرة الجندر التي نمت وتبلورت في رحم الخطاب التفكيكي وخطاب النسوية الراديكالية والخنثى حتى صارت أيديولوجية متكاملة، ثم انتقلت بعد ذلك ليس فقط لتحكم التشريعات والمؤسسات والسياسات الاجتماعية وإنما كذلك لتحكم المراكز البحثية والعلمية، فانهالت علينا تلك المراكز بوابل من البحوث والتجارب الموسومة بالعلمية الموجهة لإثبات أن النزعات والميول المثلية هي نزعات طبيعية بيولوجيًا. أعتقد أن الثقة في علمية البحوث التطبيقية ونزاهتها قد صارت محل شك كبير بينما يتزايد الاعتقاد بتسييسها. ولعل ما يدعم هذا الاعتقاد هو التضارب الشديد والتناقض في نتائج بعض تلك البحوث حسب الجهات الممولة والصناعات المستفيدة. كما كشف النقاب مؤخرًا وبشكل فضائحي عن حقيقة أبحاث وتجارب مهمة لها تأثيراتها الخطيرة، حيث ثبت أن تلك الأبحاث لم تستوف الشروط العلمية سواء من حيث عدد الحالات والعينات اللازم لتعميم نتائجها أو مدى استيعابها لكافة المدخلات اللازمة أو حتى كونها نتائج فاشلة لم يتم التأكد من نجاحها؛ ويكفي في هذا الصدد مراجعة ما كشف عن نتائج التجربة الفاشلة التي قام بها عالم النفس الكندي جون ماني Money بشأن التحول الجنسي وأن الميول الجنسية هي مسألة لا تتعلق بالجنس البيولوجي بل تتشكل اجتماعيًا وثقافيًا من خلال التنشئة.
مثل هذه العلاقة الملتبسة بين العلوم والتجارب الطبيعية من جانب والأيديولوجيا من جانب آخر ربما تدفعنا لإعادة النظر في بعض مسلمات وقضايا تاريخ العلم.. من المشروع أن نسأل مثلًا هل بالفعل قادت نظرية النشوء والتطور الحركة اللادينية وشجعتها في الغرب أم أن هذه النظرية ذاتها كانت مدفوعة بتيارثقافي قوي في الحداثة الغربية يتجه بقوة نحو الإلحاد ويبحث عن إثبات لمقولاته الأيديولوجية؟
في هذا السياق وفي إطار أيديولوجية “ما بعد الإنسانية” التي هي في طور التشكل نلاحظ أنه ولأول مرة يتم الاعتراف داخل أدبياتها بأن “ما بعد الإنسانية” هي النظرية الاجتماعية والفلسفية التي تقود وتتحرك من خلالها شركات البيوتكنولوجي وأبحاث النانوتكنولوجي والخلايا الجزعية في مشروعاتها الخاصة بالهندسة الوراثية لتقديم تصور لمخلوق جديد هجين يجمع بين الإنسان من جانب والتكنولوجيا والحيوان من جانب آخر. وهذا الاعتراف يعني من وجهة نظري وصول النزعة الحضارية الغربية الملحدة الى ذروة الإحساس بالثقة بالذات والغرور، فلم تعد تتمسح أو تتكئ على ما يسمى بالعلوم التجريبية المحايدة بل تسفرعن وجهها الأيديولوجي الصريح.
الملاحظة الثانية بشأن أيديولوجية “ما بعد الإنسانية” تتعلق بتسكين الفكرة في سياقها. يمكن القول أن نظرية “ما بعد الإنسانية” هي امتداد على استقامتها لأفكار المدرسة التفكيكية ما بعد الحداثية، فهي تحمل كل خصائصها وعلى رأسها أنه ليس هناك ما هو “طبيعي” و”عام” أو “ثوابت” أو “حتميات”، ورفض تحديد الهوية من خلال تمييز الأنا والآخر. كما تتبني موقف ما بعد الحداثة في مسألة الاختلاف من حيث رفض “الثنائية” الحدية المعهودة والتي تنطبق هنا على التمييز بين “الإنساني واللاإنساني” والترويج لفكرة وجود متصل من الهويات المهجنة العابرة للحدود والفواصل؛ ومنها هنا الحدود بين الإنسان من جانب والحيوان والآلة من جانب آخر. وعليه فإنهم يعتبرون أن الأب الشرعي المباشر لفكرة “ما بعد الإنسانية” هي أفكار نظرية الجندر والخنوثة التي تصنف هنا بوصفها “ما بعد الإنسانية التفكيكية” deconstructive post humanism
في إطار الملاحظات الأيديولوجية أيضًا لا بد من الإشارة الى أسطورة التنوع والتعددية. فكثيرا ما يشار إلى الغرب باعتباره يعكس التنوع والتعدد في الخيارات والنماذج الفكرية، بينما يُنظر إلى النماذج التي تطغى عليها ألوان غالبة باعتبارها نماذج بعيدة عن الهوى الغربي تلصق بالشرق الجانح نحو الشمولية والديكتاتورية، سواء كان الشرق أوروبيًا أو آسيويًا أو إسلاميًا. مع صعود فكرة “ما بعد الإنسانية” ومن قبلها أيديولوجية الجندر وفكرة معاداة السامية نرى الغرب يتخلى عن هذا الادعاء ويتبنى أيديولوجيات يمنحها صفة الهيمنة والتغلب باعتبارها منظومات فكرية عُليا وجوهرية لا يجوز مخالفتها. توضح الأدبيات الصاعدة لـ”ما بعد الإنسانية” كيف تُعبِّر هذه الأيديولوجية عن نفسها في كافة مناحي الحياة سواء كحركات اجتماعية مثل حركات الجندر وأنصار حقوق الحيوان والبيئة ودعاة الإنسان الجديد المميكن ( مثل إيلون ماسك وغيره) أو دينيًا مثل ديانة السينتولوجي، أو حتى فنيًا مثل أعمال الخيال العلمي.
ملاحظة رابعة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسابقة، محورها أن مسألة التطويع والهيمنة القسرية الكامنة في واقع ومجريات الثقافة الغربية خلف قناع التعددية تتم من خلال خلق وترسيخ النماذج الثقافية التي يلح عليها الإعلام لزرع الأفكار. تكتسب هذه النماذج الثقافية أهمية خاصة في موضوع “ما بعد الإنسانية”. تتحدث أدبيات “ما بعد الإنسانية” عن أهمية الدراما في ترسيخ الفكرة خاصة أفلام الخيال العلمي، وبصفة خاصة سينما الأطفال مثل طوفان الأعمال التي تقوم بأنسنة الكائنات الأخرى أو تعطي الاعتبار لكيانات مثل الألعاب والحيوانات والمسوخ والروبوتات التي تمنحها تلك الأعمال كامل الوعي الإنساني والتفاعل الإنساني. ترى أدبيات ما بعد الإنسانية أن تلك الأعمال تعيد تعريف وتأهيل صورة الكيانات غير الإنسانية، وتكرس نموذجًا ثقافيًا ينهي فكرة تفوق أو تميز الإنسان، كما تهدف إلى تنشئة أجيال على قيم مثل البحث عن الأرضية المشتركة بين الإنسان وغيره من الكائنات، وتأهيل الأجيال الجديدة لإنشاء روابط معنوية مع الآخر غير الإنساني، تخطي حدود الالتزام بالذات الإنسانية وتبني نوع من الرؤية الهجينة بين الأنا والآخر.
الملاحظة الخامسة والأخيرة فيما يتعلق بـ “ما بعد الإنسانية” كأيديولوجيا أنه طالما نتحدث عن الأيديولوجيا كمفهوم سياسي فلابد من البحث عن القوة المستفيدة والدافعة وراءها. قديمًا كانت هناك القوى الإمبريالية المهيمنة على التجارة العالمية، ثم الرأسمالية الصناعية، واليوم يمكن الإشارة إلى النخبة بل لنقل الأولجاركيا أو الطغمة السيبرانية التي تعمل على تطوير وترويج الشرائح المزروعة في البشر وعلى الذكاء الاصطناعي والعوالم الافتراضية مثل تجمع (جوجل/ مايكروسوفت/إكس/ميتا). ثم هناك طغمة شركات الأدوية واللقاحات وبحوث الهندسة الوراثية التي مارست أكبر مناورة لإخضاع العالم بأسره خلال فترة جائحة كورونا. وما عداهم فهناك نخب خادمة مثل النخب السياسية الحاكمة في الغرب خاصة من الديمقراطيين الراديكاليين، والنخب الإعلامية المسيطرة على الدراما والصحافة من ذات التيار.
إذا انتقلنا من منظور الأيديولوجيا الى منظور آخر هو الفلسفة الكامنة خلف فكرة “ما بعد الإنسانية” وسياقاتها.. ففي رأيي أن هذه الفكرة هي مرحلة جديدة من مسار قديم قِدم الإنسان. إنه غرور الإنسان القاتل وطموحه المدمر نحو الخروج من حدوده الإنسانية والقفز على دور الإله الخالق الخالد. قديمًا لم يقنع آدم أبو البشر عليه السلام بمجرد “ألا يجوع ولا يعرى وألا يظمأ ولا يضحى” كما وعده الخالق، وطمح فيما هو أكبر من ذلك.. أراد “الخلد وملك لا يبلى” وهي من صفات خالق الكون. ورغم توبة آدم فإن أبناءه لم يتوقفوا عن سعيهم لبلوغ تلك الغاية.. وقد جسدت الحضارة الغربية الجامحة منذ نشأتها تلك الرؤيا وذلك الطموح.. في نسختها الأولى خلق الإغريق آلهة أرادوا أن يكونوا آثمين ضعاف النفوس متقاتلين لا يختلفون عن الإنسان في نقاط ضعفهم.. وعندما استقبلت تلك الحضارة دينا سماويًا استقبلته بشروطها، فنظم أباطرتها المجامع التي جعلت البشر يحددون بأنفسهم وبشكل قسري صورة وصفات الإله الذي يريدون عبادته وهجنوا الرسالة السماوية بفلسفاتهم.. وادعت كنيستهم لنفسها القداسة والقدرة على مغفرة الذنوب وصكوك الغفران… وعندما قامت حضارة الغرب الجامعة الكبرى في العصر الحديث تأسست على نقض الدين ونفيه بدعوى العلمانية، وبدأت مسيرتها نحو مدنية جديدة لا دينية تقوم على الإلحاد باستخدام أدوات العلم التجريبي الذي جعلوا منه الحقيقة الجديدة البديلة لمفهوم الخلق والخالق. وأنشأت تلك الحضارة نظرياتها وفلسفاتها التي تقوم على نفس الفكرة من النشوء والتطور الى فلسفة موت الإله الى محاولة بناء منظومات أخلاقية وعقائد بشرية كالوجودية لتصل الحضارة الآثمة الغرورة الى ذروة طغيانها مع أيديولوجية الجندر وإعلان اختيار الإنسان لجنسه وخروجه عن ثنائية الذكر والأنثى الى الأجناس الهجينة.. والآن تطرح “ما بعد اإلإنسانية” طموحًا أعظم هو خلق جديد لم يوجده الله بل ادعاه الإنسان يجمع بين الإنسان والحيوان أو الإنسان والآلة أو يقبع كلية في العالم الافتراضي أو في عالم الآلات يحمل إمكانية الفعل غير المبرمج وفق حسابات تحددها الخوارزميات المعقدة. ويقنع الإنسان نفسه أنه قد اقترب من تحقيق غايته (أو خطيئته) الكبرى في التشبه بالإله الخالق رغم أنه لا يزال بعيدًا عن الخلود وغريبًا عن سر الروح.
خلال متابعة ذلك التطور، لم يدهشني الطموح الآثم القديم المستمر، بل وقفت مشدوهة أمام شيء آخر هو الخطابات التي قدمها الإنسان في كل مراحل ذلك الطموح من 3 جوانب: أولًا قدرة حضارة الغرب الغرورة على إنتاج بنية خطاب منطقي يبرر ويفسر ويقدم ويزين لمجموعة الأفكار التي أنتجها تباعًا تعبيرًا عن نفس الغاية رغم تباين وتناقض تلك الخطابات بين مرحلة وأخرى.
ثانيًا تذهلني تلك الجرأة في محاولة إحاطة تلك الغايات – التي يقع كثير منها خارج النظام الأخلاقي- بإطار أخلاقي؛ فمن النفعية، الى اللذة، الى العنصرية وتفوق الجنس، الى القومية الشوفينية، الى الفردانية والوجودية … إلخ وصولًا الى “ما بعد الإنسانية” التي تدثر خطابها الذي يضع حدًا للإنسان ذاته بشعارات إنسانية أقل ما توصف به هي السذاجة والتناقض، مثل القول بأن ما بعد الإنسانية يعبر عن “منظور أخلاقي أكثر شمولًا يعترف بحقوق كافة أشكال الحياة وجميع الكائنات الحية، كما يقر حقوقًا للحيوان والبيئة مساوية للإنسان”!!
وينقلنا هذا الى قضية ثالثة هي وجود تناقضات هائلة داخل الخطاب، والأخطر من ذلك هو تمرير تلك التناقضات والضرب صفحًا عنها وإسكات الأصوات الناقدة لما يحتويه الخطاب من فجاجة من خلال آلية الإعلام ومسح العقول. وإذا كان ذلك ما يحدث على ساحة “العالم الأول” فإنه يحدث أيضًا على المستوى العولمي من خلال الاستمرار في نزع فرص العوالم “الأخرى” الأدنى المذهولة والمقهورة في المشاركة في الحوار والتساؤل والنقد خاصة منذ إقرار أيديولوجية الجندر ومحاولة فرضها قسرًا عبر آليات الأمم المتحدة ووثائقها.. والحقيقة أن هناك شعورًا متفاقمًا بأنه قد فاض الكيل وأصبح لزامًا على شعوب العالم غير الغربي أن تتحرك للانسلاخ من الأطر الثقافية والسياسية العولمية الحالية الخاضعة تمامًا للهيمنة الغربية، وبناء مسار مواز يعبر عن رؤيتها المختلفة للإنسانية والحياة بعيدًا عن عبثيات الغرب. إن الخروج من الأسر الثقافي والفكري هو بداية الخروج من الأسر الحضاري لتلك الحضارة الاستعمارية غير الإنسانية التي طال أمد بغيها. وأعتقد أن العالم الإسلامي مؤهل بدرجة كبيرة – إذا توفرت له الإرادة – للقيام بدور ريادي في عملية نقد الحضارة الغربية ومساراتها الأيديولوجية القامعة وكشف ما بها من عوار خاصة وأن المنظور الإسلامي واضح في طرحه لقضية الحياة والإنسان.
النقطة الأخيرة التي أود تناولها هي التداعيات المتوقعة لفكرة “ما بعد الإنسانية” على الصعيد الأخلاقي والتشريعي. فمن متابعة النهج الغربي خلال الموجات أو الصرعات السابقة على مدى نصف القرن الماضي خاصة الصرعة (الموضة) الأخيرة المتعلقة بأيديولوجية الجندر، فأتوقع أن يتم سريعًا ترجمة تلك الفكرة الى تشريعات وسياسات حتى قبل أن تكتمل أبعادها الفكرية باعتبارالأداة السلطوية وسيلة مضمونة لحفز الغالبية الصامتة والقواعد الجماهيرية محدودة الرأي والفكرعلى التماهي مع الفكرة مما يُسرع من انتشارها ويسرع في الوقت نفسه انتقال تلك الحضارة الى مزيد من الانحراف والشذوذ الحضاري المرادف لتدهورها. ومن بين تلك السياسات والتطبيقات التي يمكن تخيلها أو حتى توقعها:
- من المتوقع أن يمهد ويبرر نزع صفة الأفضلية الإنسانية عن البشر لأشكال وأنماط مختلفة من عمليات الإبادة الجمعية لأعداد كبيرة من الناس بحجة حماية الأرض وحماية الحيوانات وتحسين شروط البيئة.
- أن تحدث تعديلات تشريعية شاذة لتقنين الفكرة من بينها مثلا تقنين زواج الإنسان بالحيوان (وهو مرض أو انحراف إنساني قديم سيتم إعادة الاعتبار له وتقنينه كما حدث في تقنين الشذوذ الجنسي) كما يتوقع كذلك تقنين زواج الإنسان بالآلة (وقد استبقوا ذلك باختراع الروبوتات الجنسية والعمل على تطويرها باستمرار)
- السماح بتجارب استنساخ وتكاثر معملية بين نطف إنسانية وحيوانية.
- تحريم ذبح الحيوانات وفرض الفيجانيزم Veganism كفلسفة حياة عامة.
- فتج الباب أمام الاختيار الطوعي لأن يخلق الإنسان نسخًا افتراضية له تستمر بعد موته من خلال تقنيات العالم الافتراضي والذكاء الاصطناعي ومنحها الشخصية القانونية.
- تقنين العمليات التي بدأت بالفعل في الغرب لإجراء عمليات تحويل (في الشكل) لمن يرغب من البشر الى سمت الحيوانات.
وشكرًا لحسن استماعكم
د. شريف: شكرًا للدكتورة أماني، وكعهدنا بها كل مرة نستفيد ونتعلم كثيرًا من مداخلاتها ونتطلع الى المرة التي تكون فيها المتحدث الرئيسي..
الإطار الذي نتحدث فيه يتحدى كثير من التصنيفات التقليدية التي درجنا على العمل والتفكير في إطارها. مثلًا فكرة التمييز التقليدي بين اليمين واليسار.. نحن نتحدث عن خطاب يتجاوز هذا التقسيم. فرغم أن هذه الأفكار تنتمي لتيار اليسار الا أن القوة الأيدولوجية الداعمة لهذه الأفكار تنتمي لليمين الذي يهتم بالسيطرة والهيمنة على الآخرين.
د. أماني: يصنفونه على مستوى اليسار الديمقراطي، مؤسسات تمويلية كبرى مثل black rock وغيرها تمول مؤسسات الجندر وتمول كل تلك الاتجاهات اليسارية.
د. شريف: هذا يدفعني لسؤال كنت قد وجهته للأستاذة منال: هل نحن أمام post أم trans ؟ وقد اجتهدت أ.منال في توضيح الفارق بين الإثنين، ووجدت أن استخدام الPost يأتي عدةً على سبيل الإدانة، بمعنى تجاوز مفهوم الإنسان وإلغاء وجوده، حيث يزيد الحيز الآلي على الحيز البيولوجي فيه. لكن المؤيدين للـ trans human يرون أن لا قلق إطلاقًا، حيث يستخدم الإنسان منذ سنوات طويلة النظارات لتحسين الرؤية وسماعات الأذن لتحسين السمع ومنظم ضربات القلب، فالعلاقة بين الآلة والإنسان كانت دائمًا علاقة حميدة، إلا أننا سنقوم فقط بمد الخط على استقامته، فوضع شريحة في المخ لمَن يعاني من الشلل الرعاش أو غيره من العلاجات، هذا يجب أن يُنظر اليه على أنه مزيد من التمكين للإنسان، وهو أمر إيجابي.
لكن تظل هناك تناقضات فجة جدًا في فكرة ما بعد الإنسانية. هل نحن أمام ظاهرة تستهدف تمكين الإنسان والوصول به الى مرتبة الألوهة؟ أم هي ظاهرة تستهدف تهميش الإنسان والقضاء على وجوده المتعين؟ فهناك خطابان متناقضان تمامًا. فقد سمعت مَن يتحدث عن الذكاء الاصطناعي بمنتهى النشوة ويدَّعي أنه سوف يقضي على مركزية الإنسان المزعومة، ويعتبر ذلك إضافة حقيقية للعالم والتاريخ. وفي حقيقة الأمر هو خطاب يضحد التاريخ الكنسي الذي ينادي بمركزية الإنسان ومحوريته في إطار سيناريو الخلق. فزعزعة مركزية الإنسان باستخدام الآلة هو امتداد لكوبرنيكس وجاليليو وداروين. وتبدأ هنا مجموعة من المغالطات كالقول إن الإنسان ليس هو الكائن الواعي الوحيد، ولكن ممكن للآلة أن تفكر مثل الإنسان وتتفوق عليه، ويعتمد مؤيدوا هذا الرأي على تفوق الآلة حسابيًا على الإنسان وغيرها من الأمثلة.
د. أماني: هل ممكن تأتينا الآلات من خلال الخوارزميات بنتائج غير متوقعة وغير محسوبة الآثار؟
د. شريف: مصطلح الذكاء الصناعي نفسه غير صحيح، ونسبة الذكاء للآلة من البداية كانت خطأ أدى لتداعيات من الأخطاء في الفكر، فنحن لا نستطيع حتى الآن أن نعرِّف ما هو الذكاء الطبيعي؟ هل هناك مثلًا ذكاء عاطفي؟ أو ذكاء في التخيل؟… ومن هنا يمكن القول أن معنى الذكاء مختلف عليه وبالتالي لا يمكن أن ننسب الذكاء للآلة؟.
د. أماني: أريد أن أضيف أمرًا، كانت أ. منال أشارت لأهمية دور الفقه لتحديد الموقف من هذه الأفكار، أرى أن الموضوع يتجاوز الفقه، فهو ينتمي الى علم العقيدة وعلم الكلام.
د. شريف: أحد مظاهر تهميش الإنسان في مجتمع ما بعد الإنسان ومجتمع الذكاء الاصطناعي، أنه مجتمع المراقبة المستمرة. هناك ضغط كاسح ومستمر لفرض فكر الذكاء الاصطناعي. فهناك تمهيد للأرض لفرض هيمنة الخوارزميات، فجميع أفعالي يتم تغذية الخوارزمات بها حتى تستطيع الآلة بعد ذلك أن تُمدني باقتراحات وحلول وتصورات ملائمة لي. الفكرة إذن تُطرح بشكل وظيفي فهي تُطرح أولًا كفكرة مبهرة حتى تحقق القبول ثم يتم تغذية الخوارزمات بكل بيانات الفرد بما يُعرف “بذاته الرقمية”، حتى تتمكن الآلة من التنبؤ بسلوكيات، وكل هذا يخدم مشروع “ما بعد الإنسانية”.
كل هذا يدفعنا كما أشارت أ.منال الى أهمية دراسة هذه التداعيات والأخطار على المستوى القانوني والإنساني وما شابه، وأهمية صياغة رؤية تعبر عن ذاتنا الحضارية المسلمة. نحن لدينا معظم الوقت إشكالية أن كثيرًا من مخاوفنا يتقاطع في جزء كبير منها مع خطاب معسكر ترامب (اليمين المحافظ)، ومعسكر ترامب يذهب بها الى مربع نظريات المؤامرة، وعلينا أن نحترس من الدخول في هذا المربع الذي يبالغ في إرجاع كل شيء الى المؤامرة. لذا من المهم أن نُثير سؤال ما هي الحدود الفاصلة بيننا وبين خطاب اليمين المحافظ الذي أشعر أننا ينبغي أن نحرص على المفاصلة بيننا وبينه.
د. أماني: ليس هناك مبالغات في خطورة الذكاء الاصطناعي، ولكنها أخطار حقيقية وعملية حالية وقادمة، فمثلًا على مستوى الجامعات أغلب الأبحاث الآن أصبحت تُكتب بالذكاء الاصطناعي. ونحن نتحدث عن أهمية وضع كود أخلاقي أو ما شابه، فهل قامت الجامعات بالحد الأدنى من واجبها بوضع قواعد ومعايير جديدة لتقويم الطلاب وفق هذه التغيرات؟
ثم إننا لا نتقاطع مع اليمين في هذه القضية فقط ولكن في عدة قضايا أخرى مثل مواقفه من الإجهاض والجندرة وغيرها.. السؤال هل ممكن الاستفادة من هذا التقاطع في المواقف بيننا وبينهم وعمل نوع من التحالف؟ لكن في نفس الوقت يجب أن نضع نصب أعيننا مواقفهم السياسية من قضايا الأمة: غزة وفلسطين. فكرة أن أفلام سينما الأطفال موجهة لنشر فكر معين والتمهيد لما بعد الإنسانية هم من ذكروا هذا ويسمونه hyperpolic posthumanism
د. شريف: أ. وليد القاضي يتفضل بمداخلته.
أ. وليد القاضي:
فى الواقع، لديَّ نظرة متشكِّكة في نظرية أو فلسفة “ما بعد الإنسانية”، وأعتقد أنها مراوغة وغير متوازنة. وشعرتُ خلال قراءة الورقة المفاهيمية والبحث حول ماهية هذه المسألة أنها تحاول إيجاد شرعية ما للآلة، وإرساء ما يمكن تسميته تجاوزًا “حق الآلة في الوجود”؛ باعتبار ذلك تطورًا طبيعيًا وحتميًا للتكنولوجيا في التاريخ والحضارة البشرية، وذلك بغض النظر عمَّا تحمله هذه التكنولوجيا أو المدى الذي يمكن أن تصل إليه من خلال الإنسان.
والحقيقة أن هناك عددًا من الأسباب الدافعة لتبنِّي هذه النظرية المتشكِّكة، أُوْجزها فيما يلي:
- إذا كان صحيحًا أن هذه الفلسفة تحاول خلق توازن وتكامل مزعوم بين الإنسان والآلة والبيئة وغيرها؛ انطلاقًا من رغبتها في التخفيف من حدة مركزية الإنسان، فهي لم تضمن بعدُ حقَّ الإنسان ذاته في حال طغت الآلة عليه. والواقع أن ذلك الضامن مفقود؛ لأن مصطلح “ما بعد الإنسانية” ذاته يعني في أحد معانيه السبعة على الأقل، وفقًا للفيلسوفة فرانشيسكا فيراندو، “مناهضة الإنسانية” و”سيطرة الذكاء الاصطناعي”. وكأننا أصبحنا في معركة وجودية بين الإنسان والآلة؛ فإما الإنسان أو الآلة. وهذه بالطبع نظرة متطرفة للغاية، وتزداد سوءًا مع التطور الهائل في الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، والذي يسابق الزمن بطريقة غير محسوبة العواقب، على ما يبدو. فمؤخرًا استطاع إنسان آلي مدَّ فترة عمله المقرَّرة له، عن طريق قراءة وتطوير خوارزمياته بشكل مستقل عن مُشرفِه الآدمي.
- غياب معايير الفائدة والضَرر المرتبطَين بالآلة، وكيف يمكن تصنيفها مفيدة وغير مفيدة، وإلى أي مدى يمكن للإنسان أن يتفاعل معها وبها.
- أعتقد أن هؤلاء المدافعين عن هذه النظرية لم يأخذوا في الاعتبار – أو تعمَّدوا التغاضي عن – التأثيرات السلبية الملحوظة التي أحدثتها الآلة على مدى المائتي عامًا الماضية على نحوٍ خاص؛ إذ إن معظم مشكلات العالم الراهن الجديدة هي مشكلات ولَّدتها التكنولوجيا السابقة. فمنظومة النقل على سبيل المثال تقتل أكثر من مليون شخصًا سنويًا، والاحتباس الحراري والسموم البيئية والبدانة والسِمنَة والإرهاب النووي وانقراض الأنواع، كلها مشكلات نتجت عن التكنولوجيا. وقد أشار الناقد التكنولوجي Theodore Roszak إلى أنه “ما مقدار ما نعتبره بسهولة في المجتمع الصناعي المتمدِّن “تقدمًا” هو شيء ناجم عن تخريب شيطاني حقيقي موروث من الجولة السابقة من ابتكار التكنولوجيا”. والواقع أنه حتى بالنسبة لهؤلاء، فإن التكنولوجيا ومجالها الكاسح لا تنمو إلا باستهلاك الموارد غير القابلة للتعويض، وبقضْم البيئات القديمة وعدد لا يُحصَى من الكائنات، ولا تعيد للعالم سوى التلوث والقاذورات، كما أنها تأخذ من الضعفاء في العالم، أي الأمم التي هي أغنى بالموارد الطبيعية وأضعف اقتصاديًا، وتعطي للأقوياء لتجعلهم أكثر غنىً. والعجيب أن كثيرًا من أصحاب الاختراعات السابقة كانوا يعتقدون أنها ستؤدي إلى تعزيز أواصر السلام والأخوة، وأنها ستمنع الحروب بين الأمم، وذلك على غرار ألفريد نوبل مخترع الديناميت، وهيرام مكسيم مخترع البندقية الآلية وغيرهما.
- ارتباطًا بذلك، وباعتباري أميل للنظرية الواقعية في السياسة الدولية، فإنه سيكون هناك حتمًا توظيف وتوسُّع في استعمال الإنسان الآلي والهندسة الوراثية لتحقيق مصالح وطموحات سياسية أنانية، خاصة وأنها ستكون فعَّالة إلى حدٍ كبير. كما أن هذا المسلك يصبح مُعتادًا عليه بشكل تدريجي. وبالإمكان هنا استدعاء قيام العديد من الأفلام الأجنبية، الغربية بالأساس، على مدى العقدين الماضيين على نحوٍ خاص، كما في سلسلة Marvels، بالتمهيد لذلك، كما طُرِحَت بعض الألعاب للأطفال تشجعهم على محاولة تخليق “مسْخ” عبر حقن الآدمي بمواد معينة، تجعل له رقبة زرافة أو وجه تمساح مع أرجل غزالة، وهكذا. ولا شك أن عالم “الميتافيرس” سيُسهِّل الكثير في هذا الصدد.
- وعليه، فإن الإشكالية الكبرى التي يمكن الخلوص إليها من ذلك هي “الإشكالية الأخلاقية”، ومدى تحلِّي القائمين على هذه التكنولوجيا بالإنسانية والأخلاق، وكذا مدى خضوعهم لنفوذ القوى السياسية، وأيضًا مدى طموحهم. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى تراجع الملياردير الأمريكي إيلون ماسك عن وعده بتوفير خدمة الاتصال لمنظمات الإغاثة المعترف بها دوليًا في قطاع غزة، بل وقيامه بزيارة إسرائيل بعدها، مُعلِنًا أنه “يهودي طموح”، هذا فضلًا عن دعمه المطلق للرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئيسية الأمريكية الجديدة دونالد ترامب، والذي يُعرَف بمدى دعمه اللامحدود لإسرائيل والصهيونية. وتتزايد المسألة الأخلاقية بحق ماسك على وجه الخصوص، باعتباره مؤسسًا لشركة نيورالينك، المتخصصة والرائدة في مجال التكنولوجيا العصبية، والتي تعمل على توصيل الشرائح الإلكترونية بالمخ لتعزيز قدرة المريض على التعامل مع العالم المحيط به، وتوفير معالجة تلقائية كلما أمكن. ولكن ما يُلاحَظ أنه لا يوجد ضامنٌ حتى الآن يحول دون إمكانية استخدام هذه التكنولوجيا في جمع المعلومات والتحكم بالأفراد.
د. شريف: قد يحتاج الإنسان بعد قليل أن ينزل على نفسه antivirus حتى لا يتم اختراقه أو التحكم فيه. ولنفترض مثلا أن منظمة الصحة العالمية أعلنت أن البشر جميعًا في حاجة لزراعة شريحة للوقاية من فيروس معين فماذا سوف نفعل؟.
د. أماني: فكرة انتشارفيروس عالمي مصنع جديد مثل كورونا واردة جدًا. وقد أٌعلِن عنها أو بَشر بها البعض بالفعل مثلما جاء في خطاب بايدن وتصريحات منظمة الصحة العالمية.
أ. وليد القاضي:
فيما يتعلق بالحلول، ربما يكون ممكنًا النظر في عمل وقف أو صندوق إسلامى عربي على مستوى الدول لتعزيز التعاون وتنسيق الجهود في مجال الذكاء الاصطناعي، سواء كان ذلك لتطويره وتعزيز الاستفادة منه أو لحمايته من هجمات الغير أو للحماية من مخاطره أو على الأقل للتخفيف من حدة الاعتمادية على الغير فيه قدر الإمكان. هذا بالطبع إلى جانب دعم وتشجيع المتخصصين في هذا المجال، وقد يكون من بينهم على سبيل المثال الفريق العربي الذي نجح منذ ثلاثة أشهر تقريبًا في ابتكار شريحة “نانو بلاتينم” المتقدمة عن تلك الخاصة بشركة نيورالينك، من حيث عدم اختراقها لخلايا المخ، وتغطيتها جزءًا أكبر منه مقارنة بشريحة ماسك.
من جهةٍ أخرى، يجب العمل على صياغة ميثاق شرف أو كتاب أبيض لتنظيم العمل في هذا المضمار، بما في ذلك إبراز الرؤية الإسلامية في هذا المجال ومدى توافقه مع الشريعة، وضرورات ذلك وأحكامه الأخلاقية… إلخ، مع تعميم ذلك في البلدان الإسلامية والعربية. هذا بالتوازي مع أهمية توسيع رقعة ورش العمل الخاصة بالبرمجة، ومحو الأمية الرقمية في المؤسسات المختلفة، بحيث نكون مستعدين لمثل هذه التغيرات العالمية.
وشكرا جزيلا لكم .
د. شريف: شكرًا جزيلًا أ. وليد. وتعليقًا على كلامه، العقل المسلم لا يؤمن أبدًا أن الآلة سوف يدب فيها الوعي.
أ. وليد: على أقل تقدير أقول إنها تُخرج نتائج غير متوقعة وتخرج عن المسار المحدد لها.
د. مدحت: هل ممكن للإنسان أن يخلق مادة غير موجودة؟ علماء المسلمين قالوا هذا غير ممكن. لكن تحويل شيء لشيء ممكن أو تطوير شيء من شيء. الإنسان ينتج ولا يخلق كما قال بيجوفيتش. فالإنسان لا يخلق أي شيء.
د. هاني: ولهذا حرَّم ابن تيمية علم الكيمياء، نظرًا لأن البعض كان قد بدأ تجارب تحويل النحاس الى ذهب، وسمى ذلك كيمياء. وقد أخذ الغرب على ابن تيمية تحريم هذا العلم رغم أهميته، إلا أن علم الكيمياء في عهد ابن تيمية لم يكن يعني المعنى المتداول اليوم.
د. أماني: هل خيار التحريم هو أول الخيارات التي تكون مطروحة أمام المسلمين؟ أظن أن الموضوع فلسفي بالأساس وليس فقهي. فلماذا عجز المسلمون عن تبني فكرة الآلة وتخلفوا عن ركب الحضارة؟ هل القصة قصة تحريم؟ هل هذه نقطة الضعف عندنا، وربما نقطة القوة في النموذج الغربي أنهم يمضوا بالأشياء الى منتهاها. أنت كمسلم كلما جاءك تطور ما كيف ستتعامل معه؟ كيف تطور أدواتك؟ هنا نحتاج للحديث عن تطور الفقه؟ مثلًا الموقف من “البت كوين” bit coin حاليًا، هل نأخذ الطريق الأسهل ونحرمها فحسب، أم أنها تحتاج دراسة معمقة وتحليل للتداعيات ثم تحديد الموقف الأمثل حسب الحاجة والظروف. الفقيه يحتاج رؤية تحليلية متطورة.
د. شريف: ليتفضل د. مدحت ماهر بمداخلته.
د. مدحت ماهر:
أرجو تكرار مثل هذه اللقاءات والأبحاث على هذا المستوى من التفكير فهي مطلوبة ومفتقدة جدًا. أشكر المركز و أ. منال على هذا الجهد وهذه الورقة النافعة وعلى إلقاء الضوء على هذا الموضوع المهم.
قرن كامل تقريبًا من المابعديات، خاصية المابعديات خاصية غربية لم تعرفها الحضارات السابقة في حدود ما أعرف، الغرب اختار اللادين فيبدو أن هذا مرتبط بذاك. الغرب تجاوز الإنسان منذ زمن، وقد نبه الدكتور المسيري – رحمه الله – لذلك، حيث أشار إلى إشكالية تعامل الغرب مع الإنسان، وتحدث عن الإنسان أحادي البعد وعن “تشيؤ” الإنسان. فهو مشروع استبدال الإله فعلًا كما أشارت أ. منال ود. أماني فبما أنه أعلن في مطلع القرن العشرين على لسان نيتشه موت الإله، فطبيعي أن يعلن بعد حين موت الإنسان، ثم موت الحياة، ثم موت الموت… إلخ. من عجائب الأمور أن فكرة أن يكون الإنسان موتًا موجودة عند علماء الإسلام في قوله تعالى: “قل كونوا حجارة أو حديدًا او خلقًا مما يكبر في صدوركم…”، فالمعاني سوف تتجسد يوم القيامة، الموت سيكون كبشًا، الدنيا ستكون على شكل امرأة..، فتجسد المعاني أمر موجود. كذلك تحول الإنسان الى مسخ موجود ومفهوم في الثقافة الإسلامية أيضًا وهو مسخ اليهود الى قردة وخنازير، وطبعًا تحول الشيء الجامد الى شيء حي موجود، كل هذا موجود. ونحتاج جهد فكري لأن نمسك بلب الإنسان فعلًا حتى نكون على بينة وسط هذا العبث.
نحتاج أن نتحرك على مستوى فلسفي كلي (كلامي)، ومستوى آخر اجتماعي عملي (فقهي)، والمستويان مطلوبان حتى نحافظ على أنفسنا وسط عالم المسوخ هذا.
هناك ثلاث تقسيمات يمكن أن نذكرها في عالم الذكاء الاصطناعي:
الجزء الbio أي جسد الإنسان: والإنسان قابل لاستقبال الأشياء (النظارات، منظم ضربات القلب، المفاصل الصناعية) لكن كلها على سبيل التوظيف، فهي مسخرة له. والجزء الثاني هو العقل والقلب: لو كان هذا الجزء الذي سيضاف سوف يؤثر على جانب العقل والقلب هنا يكون له حكم آخر. أن تشاركني الآلة في مساحة الفهم ليس فيها مشكلة. لكن العبرة في مسألة الإرادة. الجزء الثالث هو الإرادة: في الإسلام علاقتنا بالأشياء أنها مسخرة لنا ونتعامل معها وفق قيم محددة منزلة. أما إذا كانت هذه الأشياء محملة بمعانٍ ورؤى مصادمة لرؤيتنا فأهل التخصص يجب أن ينبهوا الى ذلك.
يشهد التاريخ بأننا لم نخترع شيئًا مدمرًا، ولنا اختراعات كثيرة كانت الأمم المتحدة قد احتفت بها منذ فترة قريبة. فإطارنا الحاكم مختلف عن إطار الغرب، وإنتاجنا كان مختلف، فلم يُذكر أن المسلمين أنتجوا أدوات قتل، وكانوا يستخدمون الرماح والسيوف وغيرها. وجاء اختراع الغرب للبارود فارقًا، فحضارة الغرب قابلة لإنتاج كل ما يدمر ويضر الإنسان. هذا على مستوى الإنتاج. أما على مستوى الاستهلاك نجد أن من قرون ونحن في طور الاستخدام فقط لما ينتجه الغرب. الفقيه خلال هذه الحقبة معروض عليه قضية الاستخدام، ودومًا ليس هناك رأي واحد وإنما ثلاث آراء على الأقل: التحريم المطلق، الإباحة المطلقة، أو حلاله حلال وحرامه حرام. فالفقيه لديه أريحية، والاتجاه الوسطي هو غالبًا الذي يسود، اتجاه التفصيل، لا القبول المبدئي الكامل ولا الرفض المبدئي الكامل. الدعاة والفلاسفة هم مَن يتصدون للأمور المستحدثة في البداية، أما أحكام الفقهاء عادةً تكون بَعدية في انتظار وقوع الجزئيات للحكم عليها. أحكام الفقهاء عادةً تكون بَعدية وهناك مَن يُطالب بعودة الفقه الافتراضي أو الاستباقي أو التقديري كما يسميه الإمام الجويني الذي يجب أن يُستلهم في هذه المساحة، فهو مَن افترض إمكانية خلو العالم من الشريعة، ويطرح كيفية التصرف في الأمر.
أرى أن دراسة موضوع الذكاء الاصطناعي مهم جدًا، ولكن أدعو عدم تناوله بفزع أو ذعر، لأن لهذا الموقف أضرار كبيرة.
د. شريف: شات جي بي تي حساب شخصي. يفهم الشخص المستخدم له. ويقدم له ما يناسبه من معلومات. فهو يقدم لي الإجابات التي تلائمني أنا شخصيًا. ويقدم إجابات ذات طابع آخر لشخص آخر وفق البروفايل الخاص به. هو يكتشف العلاقات بين الأشياء التي تثير إعجابك، أو تقوم بالبحث عنها. ثم يقدم لك المزيد منها.
لكنه أبدًا لن يرتقي الى مستوى الوعي، كل ما يقدمه الذكاء الاصطناعي من أشياء مبهرة هو فهم ولكنه ليس وعي. هو قادر على ربط الأشياء مع بعضها البعض وعمل علاقات بينها. لكنه غير قادر على بناء تصور. ولذلك يقال أن الذكاء الاصطناعي لا يتمتع بالsingularity التي يتمتع بها الإنسان، لكن علماء الغرب يراهنون الآن على تطوير الذكاء الاصطناعي لتحقيق هذا الأمر. ولكنهم غير قادرين على الجزم بأن الآلة سيكون لها وعيها الخاص لأنهم حتى اليوم هم غير قادرين على تعريف الوعي الإنساني. لكننا نحن نقول إنه لن تطور الآلات وعي أبدًا.
د. مدحت: أحد إجابات السؤال الذي طرحته أ.منال ماذا سنفعل في مواجهة هذا التطور؟ هو: سوف نسأل أهل الذكر في هذه المسألة. فمثلا الجماعة العلمية الأكاديمية كيف ستتصرف اذا قدم لها بحث كامل أو رسالة ماجستير مكتوبة بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي؟
د. أماني: الجماعة العلمية حتى الآن غير جاهزة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي ولم تضع معايير خاصة بها. فنحن بحاجة ملحة لأن نجتمع ونبحث المعايير المقترحة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي في الأبحاث العلمية وكيف يكون تحكيمها، على الأقل نكون نحن كجماعة علمية جاهزين بالمعايير أو بالكود الخاص بنا للتعامل.
د. شريف: هناك بعض الإسهامات من اليونسكو في هذا الأمر الخاص بالمعايير، ولكن يجب أن يكون لدينا معاييرنا الخاصة أيضًا. الذكاء الاصطناعي أصبح ضرورة ولا مفر من الاستعانة به، وعلى الباحث أن يبدأ بحثه من حيث انتهى الذكاء الاصطناعي، فالذكاء الاصطناعي يقدم لنا State of the Art فيبدأ الباحث على مستوى أعلى وليس عليه أن يبدأ من الصفر. ومن هنا يجب قبول مساهمة الذكاء الاصطناعي في أي دراسة، ثم وضع معايير للمساهمة الخاصة للبحث في الخطوة التالية من بحثه. معايير الوعي والإضافة Added Value.
سنمر بمرحلة انتقالية حتى يستوعب الطلاب فكرة التعامل المختلف مع الذكاء الاصطناعي. مثلًا، أطلب من الطلبة عمل حساب على شات جي بي تي، ثم أطلب منهم طرح سؤال محدد عليه، وفي المرة القادمة نتناقش معًا فيما قدمه لهم من إجابات. وفي الأبحاث ممكن أن نطلب من الطالب شرح جزء مما كتبه أو تقديم رؤية للتسلسل المنطقي للأفكار أو غيرها من التساؤلات حتى نتأكد أنه لم ينقل نقل أعمى من شات جي بي تي. علمًا بأن أحيانًا الشات جي بي تي قد يكون غير دقيق في المعلومات التي يقدمها.
أ. عمرو: تعليقًا على كلام د. مدحت فيما يتعلق بالآراء الفقهية، غالبًا الفقيه يأخذ نقطة وسط بين الحلال والحرام، وتغيب مساحة التقوى. فالتقوى تأتي من الرصيد الديني والاجتماعي والأخلاقي. نحن مجتمع مستهلك متأثر بالحضارة الغربية، والكلام عن الحلال والحرام في مجال الذكاء الاصطناعي يجب أن يأخذ في الاعتبار مكانة التقوى في ظل ما هو مشاهد من فتور الشريعة.
أ.منال: هناك ما هو أعقد من شات جي بي تي الذي أعتبره أبسط الأخطار. فأنا أطرح بجوار ذلك فكرة أن مصدر التكنولوجيا غير موثوق فيه لأن ليست له مرجعية معروفة. وغير موثوق من حيث الشفافية وصدق المعلومات المقدمة عن هذه التكنولوجيا التي سوف نستخدمها دون إدراك لكامل آثارها. فالعلم منبثق عن أيديولوجيا كما ذكرت د. أماني.
وتعقيبًا على كلام د. مدحت بشأن أن العبرة بالإرادة، وأن الآلة يمكن أن تشارك في مساحة الفهم أتساءل: هل تتأثر الإرادة بكم المدخلات التي يتلقاها الإنسان عبر حياته والتي يمكن أن تتلاعب بإدراكه وتجعله يتخذ الموقف غير المناسب؟
لم نذكر كذلك فكرة التعديل الجيني، وكيف سيكون التعامل الشرعي معها إن كانت علاجية أم كانت تغيير لخلق الله؟
د. مدحت: التعديل الجيني مرفوض من حيث المبدأ لو أنه تغيير في الخلق؟ نبحث هل هو تحسين فعلا أم لا. ما أقصده أن هناك إجابات ولن يقع الفقه في فراغ. فالفقه بناء قوي وآلية قوية لن تعجز عن تقديم إجابات. إجابات بعضها أرجح من بعض.
أ. منال: ما الفرق بين التحسين والتعديل في خلق الله؟ فإذا أُعطي الإنسان قدرة سمع أقوى من تلك التي خُلق عليها، أو قدرة رؤية أبعد مما يراه في واقع الأمر، هل هذا من التحسين أو التعديل في خلق الله؟
د. مدحت: سبحان من جعل لنا حدودًا للسمع والبصر والإدراك، هناك دراسات تقول إن الإنسان لو زادت حدة سمعه عن مستوى معين يفقد صوابه أو يجن. تجاوز الحدود يأتي على حساب قدرات الإنسان ويرهقه وقد يموت. ما يحدد هذا الأمر الطبيب وعالم الاجتماع وليس الفقيه. ما أقصده أن آلة أصول الفقه قادرة على إخراج إجابات عدة في ضوء ما يقدم من معلومات. الفقيه مثل الجراح يجب أن يكون هادئًا ويدرس الأمور بتأني لأن كلمته سوف تؤثر على الأمة بأسرها.
أما موضوع توثيق المعلومات، فالثقة في المصادر قضية أزلية، وقد شاهدنا هذا الأمر في علم الجرح والتعديل وغيرها من العلوم التي تتحرى صحة الأحاديث النبوية. أما بالنسبة لثقتنا في الغرب لدينا موقف مما ينتجه، لا هو رفض مطلق ولا هو قبول مطلق. فهو يأتي بالنافع والضار، نحن حتى الآن لم ننسحق تمامًا أمام الغرب، لا تزال لنا شخصيتنا وفكرنا.
د. شريف: طرحنا أثناء التحضير لهذه الجلسة الخوف من أن يكون الموضوع مجرد نوع من الرفاهية الفكرية أو اليوجا الشرعية (التأمل في اللاشيء). لكن بعد هذا النقاش نسأل الله عز وجل أن يكون طرح هذا الموضوع نوع من أداء واجب الوقت وإلقاء الحجر في الماء الراقد.
أ. تقى محمد:
بعض الأسئلة التي طُرحت في الورقة تتعلق بالعدالة: تحقيق العدالة بين مَن سيملك قدرات الذكاء الاصطناعي وبين مَن لا يملكه، وكذلك حجم المسئولية تجاه الكائنات الناتجة عن التزاوج بين الإنسان والآلة. أشعر أن هذه الأسئلة غربية بامتياز لأنها تعتبر أن الأمر أصبح واقع وتناقش توابعه، وكيفية التعايش معه بشروط عادلة؟ أرى أننا لو نتحدث من رؤية إسلامية علينا أن نسأل بشكل مختلف تمامًا.
الرؤية الاسلامية موجودة بالفعل بتفاصيلها، وما نحتاجه هو تسكين هذا الموضوع الجديد داخلها، لدينا النصوص القرآنية والأفكار الأساسية، ما ينقصنا هو التفعيل والتشغيل.
فنفس هذه الصدمة التي نحن فيها الآن بسبب الذكاء الاصطناعي واجهها المسلمون منذ قرنين أثناء الحملة الفرنسية. الفرق هو في المستحدثات المختلفة.
العناصر الأساسية للرؤية الإسلامية طرحها د.المسيري في حديثه عن النموذج المعرفي الإسلامي. النموذج المعرفي الإسلامي يتضمن الانطلاق من البُعد الغيبي بجانب البُعد المادي، الأخذ في الاعتبار الجانب القيمي والأخلاقي، عدم الاقتصار على الجانب الفقهي فقط (الحلال والحرام) بل يجب التأكيد على جانب التقوى والتزكية.
د. شريف: الرؤية مكتملة نعم، لكن تحتاج الى كشف. مثلًا جزء كبير من إنتاج الإمام الشافعي هو عبارة عن اكتشاف مفاصل في هذه الرؤية، بمعنى أن الرؤية تحتاج لتطوير أدواتها حتى يمكن أن تجابه المستجدات.
من ناحية أخرى يجب أن تقومي بالتفكير في طرح أسئلة من داخل الرؤية الإسلامية مقابل الأسئلة الغربية، بحيث لا يكون التصور أننا قبلنا بالأمر الواقع بكل تفاصيله ولكننا نعمل على حل بعض المشاكل الناجمة عنه.
أ. تقى: أرى أكثر التركيز على موضوع إيجاد الحلول، وخاصة الحلول العملية التطبيقية التي يمكن تطبيقها من اليوم. وأشير بدايةً الى ضرورة وجود ثقافة معيارية واحدة يمكن أن نحتكم اليها، وهذا أمر غير متوافر في الواقع. ونلاحظ أن الثقافة المنتشرة في المجتمع بها فردانية كبيرة جدًا ورفض الأجيال الصغيرة للنصح أو رأي مَن هو أكبر سنًا. ولذلك أرى ضرورة وجود حلقة وصل بين الأجيال. ويتم ذلك من خلال نشر الوعي بين المعلمين والآباء لنشر ثقافة حول موضوع الذكاء الاصطناعي ومخاطره والفرص من ورائه.
أقصد أن شيء مثل hyper police posthumanism التي تحدثت عنه د. أماني والرسائل غير المعلنة في أفلام الكرتون يشير الى أهمية توعية الأهالي والمعلمين بها. ويمكن القول أن أول 5 سنوات في عمر الطفل هو لايزال فيها تحت رعاية الأم والأب بشكل كبير، فنحتاج لاستغلال هذه الفترة في غرس القيم الأساسية حتى تكون لديه ممانعة عندما يكبر، على الأقل سوف تكون لديه فطرة سليمة لما هو صواب وما هو خطأ.
د.شريف: نحتاج ثقافة عملية. لابد من الخروج ببرنامج عمل، كتيب إرشادي، أي حديث نظري بحت الآن لن يغني من جوع.
د. أماني: أرجو تنفيذ هذا لديكم في موقع خطوة، تحويل هذه الأفكار لثقافة عامة للقارئ العادي.
أ. منال: ممكن نبدأ بوضع الميثاق الأخلاقي الذي تحدثنا عنه للتعامل مع أفكار وتقنيات ما بعد الإنسانية، ثم تتولد عنه بعد ذلك كتيبات أصغر تتناول برامج عمل جزئية.
إن كل مرحلة جديدة تحتاج تهيئة مجتمعية واستعداد اجتماعي للدخول عليها بأقل خسائر ممكنة. نحتاج صياغة الرؤية الإسلامية في كل مجال، فكونها موجودة لا يعني أنها لا تحتاج الى عمل وكشف وتسكين.
أ. تقى: نحتاج بناء إنسان مبادر لديه عقلية نقدية ولديه من القوة النفسية التي تمنعه من التوحد مع كل ما يطرح له. مبادر بالعمل فهو ليس متلق فقط لكنه قادر على العمل.
د. أماني: من الممكن أن تقوم أ. تقى وشباب المركز بعمل فيديوهات ثقافية توعوية في هذا الأمر، ويتم نشرها على الموقع. كذلك يمكن عمل دراسة نقدية لبعض الأفلام الناجحة في السينما أو على المنصات، لتوضيح ما تتضمنه من أفكار كامنة. هل يعي المواطن المصري مثلا أنه باطلاعه على حرمات الآخرين من خلال التيك توك يساهم في دمار المجتمع؟
د. شريف: نحن في زمن يحتل أهل الترفيه الصدارة، المرشح لرئاسة أكبر دولة في العالم رجل ترفيه، يمتلك القنوات الفضائية والكازينوهات وغيرها. الموجة الثالثة هي الترفيه entertainment فكأن العالم يسير من السياسة الى الإدارة الى الترفيه: كيف تُحكم المجتمعات من خلال الترفيه؟
أرى أن الأداة تصبغ موضوعها بطريقة أو بأخرى، فالتيك توك كأداة سوف تصبغ العلم الذي يُعرض من خلالها بصبغة الترفيه. مثل برنامج الدحيح فلن يكون فعالًا.
د. هاني محمود:
بداية أشكر مركز خطوة على الدعوة الكريمة والنقاش الثري. أشير الى بعض النقاط إضافة الى ما قاله الأخوة المشاركون:
في إطار الإعداد لهذا اللقاء قرأت كتاب ما بعد الانسان لروزي بريدوتي، وفوجئت أن الكاتبة تنتصر للفكرة، وتبرر ذلك بأن ما بعد الإنسانية تهز المركزية الأوربية التي قامت عليها الفلسفة الإنسانية، وتنتصر لفكرة المساواة بين كافة الكائنات. إن فهم هذه الخلفيات مهم لفهم ما بعد الإنسانية وأصولها الفلسفية. واستعانت بريدوتي بفلسفة ميشيل فوكو، وهناك أيضًا كاتبة اهتمت بهذا الموضوع وهي أماني أبو رحمة ولها كتاب إسمه “أبعد من فوكو” تدرس فيه علاقة موضوعنا بالجينوم. كذلك تستعين بمقولة فوكو أن لا ذات قبل الخطاب، وأن الخطاب هو الذي ينتج الذات. وهي جعلت هذه الروافد مهمة في فهم قضية ما بعد الإنسانية. وهنا استدعيتُ مفهوم حفظ النفس، فإذا كانت الخطابات هي التي تنتج الذات، فأي مفهوم للنفس أو أي مفهوم للإنسان سوف يكون لدى هؤلاء الذي بنوا فلسفتهم على هذه الخلفيات.
د. شريف: في عصور النهضة تم استبدال فكرة أن الإنسان مجرد عبد لله (وهو فكر الكنيسة) بفكرة الإنسان مركز الكون (الهيومانية كما سماها المسيري). ثم تأت ما بعد الإنسانية إما لتؤكد تمكين الإنسان (ترانس هيومانزم) أو لتتجاوزه تمامًا (بوست هيومانزم).
د. هاني محمود:
هذا انقلاب على إنسان الحداثة، وبالتالي فهي فكرة ما بعد حداثية. نظرية التطور عند المؤلفة مسلَّمة من المسلمات التي قامت عليها رؤيتها.
فيما يتعلق بما هو مطلوب منا كمسلمين أرى أن هناك 3 مستويات أساسية ينبغي أن نتناول الموضوع من خلالها: المستوى الأول مستوى التصور، المستوى الثاني هو النقد، المستوى الثالث هو تقديم طرح بنائي. فيما يتعلق بالمستوى الأول ينبغي أن يكون لدينا تصور للظاهرة لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. ولنا كمسلمين مزية أن لنا مرجعية ثابتة يمكن الاحتكام اليها. ومحاولة الكشف عن التناقض داخل هذا الخطاب الغربي من رؤية إسلامية. كذلك محاولة الكشف عن المسكوت عنه في هذا الخطاب، ومآلات هذا الأمر من المسكوت عنه. هل يستطيعون تقديم أي ضمانات تطمئن الناس تجاه استخدام هذه التكنولوجيا. أم يحسبون أن الآثار أو المآلات سوف تعاني منها الأجيال القادمة ولا شأن لهم بها. لدينا في الفقه مسألة سد الذرائع اذا كانت المآلات مبهمة. لكن كما استخدم سد الذرائع ضد الفساد ينبغي أن يقابل ذلك فتح الذرائع الى الصلاح بحيث يكون هناك بحث عن البديل. لا يجب أن نتعامل مع ما بعد الإنسانية كما تعاملنا مع الهواتف الذكية من باب عموم البلوى. كان هذا المستوى الأول مستوى التصور، وأعتقد أن وجود ركائز مثل مرجعية التوحيد والفطرة تجعل التصور الإسلامي لمثل هذه الظواهر متميزًا.
المستوى الثاني هو مستوى النقد، وقد أشرت الى أهمية الانتباه الى التناقضات داخل الظاهرة والمسكوت عنه، لكن المساحة الأساسية للنقد هي مسألة المآلات المتعلقة بالظاهرة.
المستوى الثالث مستوى البناء، أرى أن الخماسية الإسلامية: العقيدة والسنن والمقاصد والأخلاق والفقه (خماسية فقه الحياة)، هي آلية جيدة للتعامل مع الظاهرة. ويأتي عنصر الفقه في النهاية بحيث يكون الفقيه مستوعبًا ونتاجًا لكافة العناصر الأربعة السابقة، فيمكن أن نستمد من هذه الخماسية منظورًا للتعامل مع هذه الظاهرة. والفقيه لا يجب أن يحمل ما لا يطيق بل نستدعي الفروع الإسلامية الأخرى ليعمل الفقيه في إطار بنية معرفية إسلامية متكاملة.
أ. منال: هل الجهل بالمآلات يفرض حكم فقهي بالتوقف عن الفعل؟
د. هاني: التوقف موقف فقهي نعم. وأحد الخيارات المتاحة. ما أقوله أن علينا أن ننتقل من الفقيه المضغوط الى الفقيه المتصور(الذي يتصور القضية بشكل جيد) ثم الفقيه الناقد المقاوم ثم الفقيه البناء. ويمكن أن نثير هنا قضية الأهلية، فهي مساحة قد تثري البحث في الموضوع بجانب سد الذرائع. والله تعالى أعلى وأعلم . وجزاكم الله خيرًا.
د. شريف: حضرتك اقترحت خماسية للتعامل مع الفكرة وهي خماسية فقه الحياة (نتاج أحد الأعمال البحثية التي نعتز بها في هذا المركز). واقترحت مدخل نقدي، وكلها تشكل برنامج للحركة كما كانت تطلب أ.تقى وليس فقط أفكارًا نظرية. موضوع ما بعد الإنسانية سوف يفرض نفسه وسوف يكون جزءا من الواقع الذي نعيشه ومن ثم التسلح بمثل هذه المواقف والأفكار يشكل واجب الوقت.
أ. محمد الديب:
أشكركم بداية على هذه الحلقة النقاشية، لا أستطيع اتخاذ موقف تجاه الموضوع لعدة مبررات، الأول أنه أمر تكنولوجي يسبق واقعنا هنا في مصر بكثير، أما في الخليج مثلًا يستقبلون هذه التكنولوجيا بالكامل كما هي.
أفلام الكارتون وما يُبث فيها تمثل خطرًا حقيقيًا، وأذكر قول أحد الأساتذة: لو أردتم معرفة ما سيحدث في المستقبل فشاهدوا أفلام الكارتون وأفلام الخيال العلمي.
د. مدحت استدعى الإمام الجويني وأتفق معه أنه من الشخصيات التي أفكارها استشرافية فهي صالحة وفعالة حتى هذا زماننا هذا وربما راجت أفكاره أكثر بعد وفاته.
وأستدعي هنا موقف الفيلسوف الفرنسي رينيه جينوه، لم أرى أحد ينقض الحضارة الغربية مثله، فهو يرى – وهو ربيبها – أن كل ما يأتي منها شر، ويرى أنها شقين شق مأخوذ من حضارة الشرق، وشق يأتي من الغرب نفسه وهذا الأخير شر محض.
أ. منال: جزاكم الله خيرًا على مشاركتكم جميعًا بهذا النقاش. وأتمنى أن نعقد لقاءً آخر حول الموضوع، وربما ساعتها قد نكون تحت ضغط أكبر لأن سرعة تطور هذه التكنولوجيا رهيبة. وأرجو أن نبدأ فعلًا في اتخاذ خطوات فعالة تجاه هذا الأمر على عدة مستويات علمية وثقافية واجتماعية.
د. شريف: في الختام نشكر لحضراتكم مداخلاتكم ونشكركم على هذا العصف الذهني الثري. ونرجو أن تكون الحلقة قد حملت قدرًا من الإفادة المتبادلة ونتطلع لحقات أخرى قادمة. وجزاكم الله خيرًا.