من العلمانية إلى الخلقانية

العنوان: من العلمانية إلى الخلقانية: قراءة في كفاءة مصطلحات الفصل الديني واستحقاقاتها في السياق الإسلامي.

المؤلف: نايف بن نهار الشمري.

الطبعة: ط. 1.

مكان النشر: وهران.

الناشر: ابن النديم للنشر والتوزيع.

تاريخ النشر: 2024.

عدد الصفحات: 299 ص.؛ 24 سم.

الترقيم الدولي الموحد: 6-207-466-614-978.

في ظل فوضي الجدل الفكري الدخيل على مجتمعاتنا الإسلامية والذي يدور حول موقع ودور الدين من الواقع السياسي والاجتماعي ومن الحياة برمتها، وذلك في إطار هيمنة الحضارة الغربية المادية وسطوة ثقافتها العلمانية الغالبة، يأتي هذا الإسهام المهم للدكتور نايف بن نهار والذي هو بمثابة ترتيب الأوراق المبعثرة ووضع الأشياء في نصابها حتى يتسنى قراءة المشهد بصورة صحيحة. ويقوم هذا الكتاب على تحقيق هدفين رئيسيين: الأول ضبط مفاهيم الفصل الديني بمستوياته المختلفة، انطلاقًا من أهمية الضبط المفاهيمي في الخلافات الفكرية، تحقيقًا لمنع توهم الاختلاف وتيسير الوصول لأحكام صحيحة ومنضبطة، ومن ذلك ضرورة تنحية مصطلح العلمانية في السياق الإسلامي واستبداله بمصطلح الخلقانية لأنه هو الذي يعبر عن طبيعة الصراع في العالم الإسلامي. والثاني تحرير محل النزاع في جدل الدين والسلطة داخل السياق الإسلامي، وما يترتب على ذلك من مقاربات مختلفة الاتجاهات. وفي هذا الإطار يجيب الكتاب ضمنًا على سؤال لماذا ينبغي وصل الدين بالسلطة؟.

مقدمة

في مقدمة الكتاب يبين الكاتب أن مفهوم العلمانية بات مصطلحًا ضبابيًا، حيث أصبح يضم في كنفه كل صور الفصل الديني بمختلف تصوراته ومستوياته. وحتى في السياق الغربي ذاته فإنه يعاني أيضًا من الضبابية والغموض نظرًا لاختلاف تطبيقاته في الواقع عن معطاه النظري. وبالتالي فهو يحتاج إلى ضبط وإعادة نظر حتى نحسن تحرير محل النزاع.

يوضح الكاتب في هذا السياق أن الشرط الموضوعي للعلمانية هو وجود السلطة الدينية، وغياب الشرط يستلزم غياب المشروط. ولما كان هذا الشرط منتفيًا في السياق الإسلامي كانت المطالبة بالمشروط مطالبة بلا معنى. وأما المطالبة بفصل الدين عن السلطة فهذا لا يصح أن يسمى علمانية، وإنما الأدق – كما يرى- أن تسمى السلطة اللادينية أي السلطة التي لا تتقيد بالدين، وقد عبر عنها بمصطلح السلطة اللادينية التي حصرت مرجعيتها في الخلق فهي إذن”خلقانية”. ومن هنا يسك الكاتب هذا المصطلح بديلًا عن مصطلح العلمانية وذلك لسد فجوة دلالية لا مصطلح لها في نظره، لأن العلمانية فصل لرجال الدين عن السلطة لا للدين نفسه، أما فصل الدين نفسه فهو تعبير عن “الخلقانية”.

الفصل الأول: مع العلمانية

يشير الكاتب في بداية الفصل إلى إشكالية المصطلحات في العالم العربي والتي نشأت نتيجة الفجوة بين الأفكار الغربية المستوردة وبين مصطلحات اللسان العربي الذي يعبر عنها، فللغرب أفكار ولنا مصطلحات وإذا لم تكن مصطلحاتنا على مقاس أفكاره تكون هناك فجوة تنشأ عنها إشكالية المصطلحات.

ومن هنا يقف الكاتب في هذا الفصل مع مصطلح “العلمانية” باعتباره أحد تجليات هذه الأزمة، فهو مصطلح يعبر عن حالة مركبة في الخبرة الأوروبية لا نظير لها خارج هذا السياق، وبالتالي كان من الصعب إيجاد مصطلح عربي يعبر عن هذه التجربة الأوروبية الخاصة تعبيرًا دقيقًا.

وفي هذا السياق يؤكد الكاتب على الفكرة المركزية للكتاب التي تدور حول ضرورة تنحية مصطلح العلمانية في السياق الإسلامي واستبداله بمصطلح الخلقانية، لأنه هو الذي يعبر عن طبيعة الصراع في العالم الإسلامي والذي يدور حول: هل تكون المرجعية التشريعية العليا للخالق أو للخلق، وليس حول الخلاف في شأن حكم علماء الدين من عدمه فهذه حالة غير متحققة في السياق الإسلامي.

أما فيما يتعلق بمصطلح العلمانية في السياق الغربي فهو معقد وملتبس، ولذلك يبدأ الكاتب بتناوله من الناحية التأريخية أولا، فيؤكد الكاتب في البداية على نقطة أساسية وهي أن العلمانية باعتبارها مفهومًا معنيّ بفكرة الفصل بمختلف أنماطها – كما سيأتي- فإنها مرتبطة بصورة خاصة بالسياق الغربي المسيحي، ومنبثقة عن تجربته، ولذلك فإن البحث عن تاريخها لابد أن يكون داخل هذا السياق. من هنا ومن أجل الخوض في أسس مصطلح العلمانية يحاول الكاتب الإجابة ابتداءً عن سؤال “ما شكل العلاقة التي اختارها المسيحيون الأوروبيون لعلاقة السلطة الكنسية بالسلطة الزمنية؟” ويجيب عن ذلك من خلال سبع مراحل تاريخية:

المرحلة الأولى: مرحلة المسيح عليه السلام التي كانت في ظل سلطة سياسية تتمثل في الإمبراطورية الرومانية، وكان موقف الدين يتجسد في الانعزال التام عن السلطة حيث كان الدين شأنًا فرديًا.

المرحلة الثانية: مرحلة بولس الرسول وكانت امتدادًا للمرحلة الأولى من حيث تمايز مساري الدين والسياسة.

المرحلة الثالثة: مرحلة اتحاد المسيحية مع السلطة الدينية وذلك حين اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية، حيث أصبحت المسيحية دين الدولة، وامتدت هذه المرحلة حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية.

المرحلة الرابعة: مرحلة هيمنة الكنيسة على السلطة السياسية نفسها فصارت السلطة السياسية تحت قبضة رجال الدين، وقد عانى الإنسان الأوروبي في هذه المرحلة من استبداد وتسلط رجال الدين.

المرحلة الخامسة: مرحلة النمط التبادلي الخدمي بين السلطتين، حيث تزود السلطة السياسية الكنيسة بالنفوذ والقوة على شبكات المجتمع مقابل قيام السلطة الكنسية بتزويد السلطة السياسية بكل ما تحتاجه لشرعنة وجودها وسلوكها السياسي. وتسمى هذه المرحلة “مرحلة النهضة” والتي بدأت في القرن السادس عشر، ووُجد في هذه المرحلة تنظير فكري مناوئًا للسلطتين راغبًا في توسيع دائرة المجتمع على حساب دائرة السلطة، وهو ما قاد للمرحلة السادسة.

المرحلة السادسة: مرحلة الثورة الفرنسية، وفي هذه المرحلة بدأت المطالبة الشعبية بالتخلص من هيمنة السلطتين الكنسية والزمنية وتفكيك العلاقة بينهما، ولكنها – كما يبين فلاسفة الغرب أنفسهم الذين قادوا حركة التنظير الفكري لهذه الثورة- لم تكن ضد الدين، بل ضد هيمنة رجال الكنيسة، ولذلك يقول مؤرخ الثورة دوتوكفيل “أن التمرد على الدين لم يكن سببًا للثورة الفرنسية، بل كان نتيجة لها”. 

ولذلك يؤكد الكاتب هنا على أن الوعي الأوروبي في تلك المرحلة كان لا يزال يُكِن احترامًا للدين نفسه خلافًا لموقفه من رجال الدين، ولكن هذا الموقف لم يستمر، بل أصبح الدين نفسه محل اعتراض بعد ذلك.

المرحلة السابعة: مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية، حيث بدأ التمرد على الدين وظهور ما يسمى بالتيارات “الإنسانوية” وغياب الدين عن المجال العام كليًا وليس فقط عن السلطة السياسية، وهو ما أدى إلى ميلاد الأيديولوجيات التي تسابقت لتحل محل الدين في الفضاء العام، كالليبرالية والماركسية، والشيوعية، والنازية، وغيرهم.

ويخلص الكاتب مما سبق إلى أن البحث عن تأريخ العلمانية لا يصح منهجيًا أن يبدأ إلا بعد تنصر قسطنطين، أي من القرن الرابع عشر، وتبنيه المسيحية على مستوى السلطة. فهذه هي مرحلة الإمكان المنطقي لميلاد العلمانية، وقد تحول هذا الإمكان إلى واقع مع إطلاق مارتن لوثر شرارة الإصلاح الديني والمطالبة بالخلاص الفردي واستقلالية الفرد المسيحي في فهم دينه بعيدًا عن سلطة الكنيسة.

ينتقل الكاتب من هذا البحث التأريخي إلى البحث في مفهوم العلمانية ذاته، مبينًا أن مدلولاته مختلفة وملتبسة ليس فقط في السياق العربي والإسلامي، بل في السياق الغربي ذاته. ولكن بالطبع تزيد إشكالية الباحثين المسلمين مع العلمانية أكثر من غيرهم نظرًا لأن بعض المثقفين في السياق الإسلامي إما يريدون وصل أو فصل العلمانية عن الإسلام، وعلى هذا الأساس أعادوا إنتاج مفهوم العلمانية بما يحقق غايتهم، فباتت الرغبة وليس المعرفة هي المحرك في صناعة تعريف العلمانية عند هؤلاء. هذا فضلًا عن إشكالات أخرى تتعلق بما إن كان لفظ “العلمانية” يعود إلى العلم أو العالم، إلى غير ذلك من الاختلافات التي تعود في أصلها إلى إشكاليات منهجية، فالكثير من الباحثين يخلط بين مرحلة وصف العلمانية كمفهوم في سياقه التأسيسي وبين مرحلة تقييمه، فيقيّمون المفهوم وهم لا يزالون في معرض تصويره، وهذا يؤدي إلى وصول المفهوم إلينا بحسب ما أراده هؤلاء لا بحسب ما هو عليه بالفعل.

ثم ينتقل الكاتب إلى تقديم مقاربة لتعريف العلمانية تقوم على ثلاث حقائق تشكل مقدمات من شأنها أن توصل إلى النتيجة المرجوة.

أولًا- أن العلمانية منتج أوروبي حصرًا. ثانيًا- أن المسيحية هي دين أوروبا. ثالثًا- أن الدين المسيحي لا علاقة له بالسلطة.

ويوضح الكاتب أن المقدمتين الأولى والثانية بديهيتين، أما الثالثة وهي أهمهم – في نظره- فإنه يبرهن عليها أولًا قبل البناء عليها. وفي سياق البرهنة على هذه المقدمة يذكر الكاتب نصوص من الإنجيل تؤكد اعتزال المسيحية للسياسة، بل ابتعادها عن استعمال مطلق القوة، ومن ذلك قول المسيح في إنجيل متى: “من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر”، وغير ذلك من النصوص، ويرد على الاعتراضات التي أثيرت من البعض على هذه الفكرة لإثباتها.

ثم بعد إثباته لفكرة خلو المسيحية من السياسة يرتب على ذلك أن المناداة بالفصل بين الدين والسلطة ليست بدعة في الدين المسيحي، بل هي الأصل، إذ جاء الدين معزولًا عن السلطة ابتداءً، وأما عملية الاتصال بين الدين والسلطة فقد جاءت لظروف تاريخية ابتداءً من تنصر قسطنطين، وهذا ما يجعلنا نقول إن الغرب بعد الثورة الفرنسية تمرد على “التاريخ المسيحي” لكنه لم يتمرد على “الدين المسيحي”، فقد عاد إلى منطق الدين المسيحي الذي يفصل بين ملكوت الله وملكوت الأرض.

ومن هنا يبين الكاتب أن المقدمات الثلاث ينتج عنها أن العلمانية لم تكن تعني فصل الدين عن السلطة لأن المسيحية أصلًا مفصولة عن السلطة فلا يصح فصل المفصول، وبناءً على ذلك ينفي معنى العلمانية السائد ويضيف مقدمة رابعة ستقودنا للتعريف الذي يقترحه الكاتب وهي “أن الكنيسة مسيطرة على المجتمع ومستغَلة من السلطة” ليكون تعريف العلمانية الذي يفترضه الكاتب في هذا الكتاب هو فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية.

وهذا يثبت أن الإشكال الذي تسبب في ظهور العلمانية كان إشكالًا سياسيًا وليس دينيًا في المقام الأول، فالعلمانية ابتداءً لم تسع لمواجهة الدين، بل سعت لتنظيم السلطة بعيدًا عن استغلال الدين من لدن الكنيسة والسلطة المطلقة، وبالتالي كانت العلمانية فكرة إجرائية لحل إشكالية واقعية تتمثل في ارتباط السلطة السياسية والسلطة الدينية، لكنها لم تقف عند هذا الحد الإجرائي، بل طرأ عليها تحولات إيديولوجية فيما بعد.  وهنا يقف الكاتب عند تعريف العلمانية عند الدكتور عبد الوهاب المسيري لأهميته وشهرته، حيث يرى الكاتب أن الدكتور المسيري – رحمه الله – في تقسيمه للعلمانية الى علمانية جزئية وشاملة، قد وقع في إشكال إخراج العلمانية عن موضوعها الذي هو الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، حيث ضخم العلمانية حتى جعلها مدخلًا تفسيريًا لجميع سلوكيات الإنسان الغربي، كما أنه في تعريفه لها يتحدث عن الدين وليس عن السلطة الدينية. ويبين الكاتب في هذا السياق أن اعتراضه على تعريف المسيري للعلمانية لا يُنقص من الأهمية الكبيرة لدراسة المسيري، وإنما هدفه الاعتراض على إخراج العلمانية عن حدودها الموضوعية السياسية والتاريخية وتحميلها أعباء مصطلحات أخرى.

ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى فك الاشتباك بين مفاهيم فصل الدين، فيقسم مستويات فصل الدين عن السلطة إلى خمس مستويات:

– المستوى الأول: الفصل السلطوي أي فصل رجال الدين عن السلطة السياسية (العلمانية).

– المستوى الثاني: الفصل التشريعي، أي فصل التشريع الديني عن السلطة. (السلطة اللادينية/ الخلقانية)

– المستوى الثالث: الفصل السياسي، أي فصل الدين عن المجال السياسي. (السياسة اللادينية)

– المستوى الرابع: الفصل المجتمعي، أي فصل الدين عن الفضاء العام. (اللائكية)

– المستوى الخامس: الفصل الفردي، أي فصل الدين عن الأفراد. (اللادينية)

ويبين الكاتب أن المستوى الأول من الفصل هو الذي يسمي “علمانية”، وهو الذي كان يُطالًب به قبل الثورة الفرنسية. أما بعد الثورة الفرنسية أصبح العداء موجه للدين نفسه، وبدلًا من ابتكار مصطلح جديد يعبر عن هذا المفهوم الجديد كان الحاصل إضافة هذا المفهوم الجديد للعلمانية، فصارمصطلح العلمانية يطلق على الفكرتين على اختلافهم الدلالي والوظيفي والتأثيري.

ومن أجل هذا يؤكد الكاتب على فكرة أن العلمانية لابد أن تطلق على فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، أما فصل الدين نفسه فهذا يجب تسميته “السلطة اللادينية”.

وبناءً على هذا التأصيل يوضح الكاتب أن الدولة التي ليس فيها سلطة دينية لا يصح أن يطالب فيها بالعلمانية، لأن وجود العلمانية فرع عن وجود السلطة الدينية، فإذا انتفى الأصل انتفى الفرع. ولما كان العالم الإسلامي بلا سلطة دينية فهذا يعني تلقائيًا إخراج مصطلح العلمانية من الفضاء الثقافي الإسلامي.

ويخلص الكاتب من هذا إلى أن السلطة الدينية (حكم رجال الدين) يقابلها السلطة العلمانية (أي تنحية رجال الدين). والسلطة اللادينية/الخلقانية (أي تنحية الدين نفسه عن المرجعية) يقابلها السلطة المتشرعة (أي السلطة المقيدة دستوريًا بالدين بوصفه أحكامًا قطعية).

بعدما قام الكاتب بفك الاشتباك بين مفاهيم الفصل الديني يعود لاستكمال رحلة البحث في العلمانية وتحولاتها، فيقسمها إلى قسمين: علمانية إجرائية وعلمانية مؤدلجة. أما العلمانية الإجرائية فتشير إلى حالة العلمانية الأصلية حين تكون في مواجهة خصمها التقليدي المتمثل في السلطة الدينية دون تبني أي مقاربات أيديولوجية. أما العلمانية المؤدلجة فهي تعبر عن حالة متقدمة للدول التي تحتضن سلطة دينية فهي لا تكتفي بالفصل بين السلطتين وإنما تربط ذلك بأيديولوجيات مختلفة.

وهنا يقرر الكاتب أنه إذا كانت العلمانية حلًا إجرائيًا لمشكلة تغول السلطة الدينية، وإذا كانت أوروبا نفسها – منشأ العلمانية- لم تعد تعاني من مشكلة تغول السلطة الدينية، فالعلمانية إذن أصبحت حلًا لمشكلة غير موجودة، فهي تعبير عن مرحلة تاريخية انتهت معطياتها. أما العالم الإسلامي فهو لم يعرف تلك المعطيات أصلًا، إذ لا يوجد في العالم الإسلامي سلطة دينية، وبالتالي ليس هناك مسوغ منطقي لاستدعاء العلمانية في السياق الإسلامي. وهنا يثير الكاتب السؤال التالي: إذا كانت العلمانية حلًا لمشكلة السلطة الدينية وإذا كان العالم الإسلامي ليس فيه سلطة دينية فلماذا يصر بعض المثقفين على استيراد العلمانية إلى العالم الإسلامي؟

وهنا تكمن لب الفكرة التي يريد الكاتب إيصالها، وهي أنه لا يمكن تفسير المطالبة بالعلمانية في العالم الإسلامي إلا أنها مطالبة بتنحية الدين نفسه، وإقصاء التشريع الديني بحيث تكون السلطة لادينية وليس أن تكون السلطة علمانية.

ولما كان الإسلام هو الدين المقصود في السياق الإسلامي فإن من يطالب بالعلمانية في العالم الإسلامي هو في الحقيقة يرفض أن يكون الإسلام موجهًا لقرار السلطة ومرجعًا لها، وهذا ما يطلق عليه الكاتب مصطلح “الخلقانية” لأن هذا التوجه يصر على حصر المرجعية في الخلق دون الخالق.

وهنا ينتقل الكاتب للدفاع عن مصطلح “الخلقانية” كبديل عن مصطلح “العلمانية” في السياق الإسلامي، ويبدأ ببيان أهمية المصطلحات في التأثير على وعي الإنسان لأن المصطلحات هي الصوت الناطق عن تصورات معينة، وهذه التصورات مجتمعة تشكل ما نسميه بـ “الوعي”، فإذا صحت التصورات وصح التعبير الناطق “المصطلحات” عنها يكون الوعي سليمًا حينئذ، والعلاقة بين المصطلحات والوعي علاقة متشابكة، فالمصطلح إما أن يصنع وعيًا أو يعبر عنه بالضرورة.

وبالتالي إذا استوردنا مصطلحًا من الخارج فإنه يكون مقترنًا بالوعي الذي أنتجه، فمصطلح العلمانية يوضح الكاتب –كما هو مشهور- أنه يحيل إلى “العالم” أي الدنيا والدهر، وهذه الإحالة تكشف عن العلاقة بين مصطلح العلمانية والوعي المسيحي الذي أنتجها، لأن العالم يختلف في التصور المسيحي عن المسلم، فالمسيحي يؤمن بالفصل بين مملكة السماء ومملكة الأرض، وبالتالي فإن المسيحي المتدين هو المنعزل عن هذا العالم خالصًا للآخرة. أما التصور الإسلامي فيختلف عن ذلك، فالمسلم يؤمن بضرورة تحقيق فاعلية شاملة بين الإنسان والعالم والقيام بالأمر الإلهي بالأمر بالمعروف ومحاربة المنكر والتدافع مع بقية البشر لنشر الحق.

وبالتالي نحن أما وعيين مختلفين تمامًا تجاه العالم، وهذا يكشف لنا أننا عندما استوردنا مصطلح العلمانية لم نستورده وحده، بل استوردنا الوعي الذي أنتجه، فصرنا نفكر بظاهرة فصل الدين عن السلطة بتوسط الوعي الغربي/ المسيحي لا بوعينا الذاتي. وهنا يشير الكاتب أن الإقرار بهذه العلاقة بين الوعي والمصطلح تجعل من المنطقي أن نبتعد عن مصطلح العلمانية، لأنه يحكي قصة وعي آخر، ونتبنى مصطلحًا يعبر تعبير مباشر عن وعينا الإسلامي دون توسط ثقافة أخرى لفهم واقعنا كما يضطرنا مصطلح العلمانية.

 ولذلك فإن مصطلح “الخلقانية” كبديل، والذي يعني به الكاتب الاعتقاد بأن المرجعية التشريعية محصورة في الخلق دون الخالق، هو مصطلح مستمد من قوله تعالى: “ألا له الخلق والأمر”، ففي هذه الآية نص على أن الخلق والأمر لله تعالى، فلله الخلق والأمر الذي يحكم الخلق، وهذا يعنى أن له سبحانه المرجعية العليا في التشريع، والذين يطالبون بفصل الدين عن السلطة هم في الحقيقة يطالبون بأن يكون الأمر إليهم لا إلى الله تعالى.

وبالتالي يكون مصطلح “الخلقانية” تعبير عن الفكرة من حيث نتيجتها ومآلها، وهذه أهم نقاط قوة المصطلح لأنها تجعل الفكرة مرتبطة بنتيجتها، وهو ما ينقلنا من دائرة التصورات إلى الأحكام المعيارية، وهذا ما لا يوفره مصطلح العلمانية الذي حار الباحثين في مطاردة سرابه دون نتيجة حقيقية.

فمصطلح الخلقانية – في نظر الكاتب – يحقق مهمتين: الأولى: الإحالة المباشرة إلى محل الخلاف في العالم الإسلامي، وهو جدل التشريع بين الخلق والخالق. والثانية: أنه يؤسس الإحالة إلى الذات لا إلى الآخر.

بعد هذا البيان يستدعي الكاتب أحد الاعتراضات التي يمكن أن تثار على مصطلح الخلقانية، وهو إمكانية الإبقاء على مصطلح العلمانية مع الإقرار بأنه قد تطور دلاليًا، هنا يوضح الكاتب أن هذا لا يمكن منهجيًا لأن المصطلح يمكن أن يتسع إذا بقي أصله، فمثلًا التوسع في مصطلح الديمقراطية لتصبح ديمقراطية ليبرالية وديمقراطية اشتراكية توسع مقبول لأن أصل المدلول مازال موجودًا وهو “سلطة الشعب”،  أما العلمانية فقد تغير مدلولها القائم على فصل السلطة الدينية، لأن السلطة الدينية لم تعد موجودة، فالحديث اليوم عن فصل الدين وليس فصل السلطة الدينية، وهذا معنى مختلف فهنا حدث تغيير في المدلول وليس تطوير، بما يتطلب مصطلح جديد.

ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى عرض مجموعة من النماذج التي تعاطت مع العلمانية بصور مختلفة:

1- فرنسا: من العلمانية إلى اللائكية

يبين الكاتب أن النموذج الفرنسي الذي لا ينكر أحد أهميته عند الحديث عن تأريخ العلمانية إلا أنه – وخلافًا لما يروج له أنصاره في العالم العربي – نموذج شاذ في السياق الأوروبي نفسه، لأن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي تبنت نموذج اللائكية الذي يقوم على الفصل بين الدين والفضاء العام فصلًا حادًا.

وعلى الرغم من قيام فرنسا بتحييد الدين لكنها في المقابل فرضت الهوية الفرنسية، ولذلك يضيق الفرنسيين ذرعًا بمسلمي شمال إفريقيا حين يرونهم يأكلون ويلبسون بطريقة مختلفة. يشير الكاتب إلى أن مفهوم العلمانية في فرنسا مختلف عليه بصورة كبيرة، وهو عادة ما يتحدد بحسب نوع الخصم، فلما كان الإسلام اليوم هو الخصم الأبرز فقد أصبحت العلمانية الفرنسية عند بعض الفرنسيين علمانية مرتبطة بالهوية لا بالسياسة.

يؤكد الكاتب على تطرف النموذج الفرنسي الذي يعبر عنه طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من المجلس الإسلامي في فرنسا أن يؤسس ميثاقًا يضمن انسجام الإسلام مع العلمانية، وهذا – كما يبين الكاتب- تجاوز خطير لأن فرنسا في هذه الحالة لم تكتف بتحييد الدين، بل أرادت الحديث باسمه، أي أنها تريد إعادة إنتاج الدين وفقًا لشروط الجمهورية، فلم تعد تفرق بين احترام القانون والإيمان به. فلفرنسا الحق في إلزام المسلمين بقوانين العلمانية لكنها في هذه الحالة تريد منهم أن يؤمنوا بالعلمانية، وهذا ليس من حقها أبدًا.

وهنا يحث الكاتب على ضرورة مراجعة النموذج الفرنسي لنفسه، خاصة وأنه لا يذهب بفرنسا إلا إلى الأسوأ بشهادة الكثير من المفكرين الفرنسيين أنفسهم، ومن ذلك إصابة الفرنسيين بالانغلاق الفكري الذي بات يعيقهم عن الاندماج الثقافي مع من يختلف معهم ثقافيًا، بالإضافة إلى ذلك فإن موقف فرنسا المحايد دينيًا أوقعها في انحياز أيديولوجي متمثلًا في تحرير الفضاء العام من الدين، وهذا حكم أيديولوجي خليق بإخراجها من حالة الحياد.

2- منطقية العلمانية في السياق الإسرائيلي

ينتقل الكاتب إلى النموذج الثاني وهو النموذج الإسرائيلي، فيؤكد ابتداءً أن اليهودية والنصوص التوراتية لا تؤمن بفصل الدين عن السلطة، هذا بالإضافة أن السلطة في التصور التوراتي هي سلطة ثيوقراطية أي يحكمها الكهنة، وهذا – كما يوضح الكاتب – يعطي المشروعية المنطقية للوجود العلماني في السياق الإسرائيلي، وهنا يثير السؤال التالي: هل إسرائيل علمانية أم لا؟

والجواب أنه لا يمكن الجزم في هذه المسألة لأن المشهد الإسرائيلي يتأرجح بين موقفين فهناك مؤسسات وتيارات دينية تسعى لفرض هيمنتها على السلطة، وتقابل السلطة ذلك بمرونة تجعلها تمرر أحيانًا أجندة المتدينين، ويقابل ذلك وجود تيار علماني يؤمن بأن الإنسان هو مصدر السلطة.

وهنا يبين الكاتب أن المطالبة بالعلمانية مشروعًا ومنطقيًا، لأن خصم العلمانية – المتمثل بالسلطة الدينية – يسعى بقوة للتموضع في دائرة التشريع السياسي.

3- منطقية العلمانية في السياق الإيراني

يذكر الكاتب أن المطالبة بالعلمانية في السياق الإيراني لا يختلف عن السياق الإسرائيلي، لأن خصم العلمانية حاضر في السياقين، فهناك ثلاث سلطات دينية في النظام الإيراني: مؤسسة القائد الأعلى، ومجلس الخبراء، ومجلس صيانة الدستور، فالسلطة العليا في إيران للمؤسسة الدينية وليس للشعب.

الفصل الثاني: مع العلماني

يبدأ الكاتب هذا الفصل بتأسيس لفكرة غياب جدل العلاقة بين الدين والسلطة في التاريخ الإسلامي قبل سقوط الدولة العثمانية، مبينًا أن هذا عائد إلى قناعات عاش بها العقل المسلم حالت دون حصول هذا الجدل وتتمثل في الآتي:

– القناعة الأولى: أن السيادة التشريعية لله تعالى وحده، ولم تدعِ سلطة في التاريخ الإسلامي أن تشريعها يعلو على الوحي حتى إن كانت عمليًا لا تلتزم بذلك.

– القناعة الثانية: أن الثيوقراطية مرفوضة، فلا وجود لحاكم بتمثيل إلهي أو رجال دين كما كان الحال في أوروبا، ذلك أن المسلمين يؤمنون أن علماء الشريعة ليسوا ممثلين عن الله، والسلطة في الإسلام تعاقدية.

– القناعة الثالثة: أن الدين الإسلامي ليس معاديًا للعلم والعلماء، فلم يعش المسلمون أزمة مع العلم.

– القناعة الرابعة: أن الدين الإسلامي لم يتخذ موقفًا سلبيًا من العقل، فقد قدم الإسلام نفسه على أنه دين منسجم مع العقل.

ولكن بعد سقوط الدولة العثمانية ووقوع العقل المسلم في حالة الانبهار بالعقل الغربي بدأ يتبنى أسئلة العقل الغربي النابعة من مشكلاته هو، والأسوأ من ذلك أنه استورد الأجوبة كذلك، فالإجابة التي قدمها العقل الغربي لسؤال العلاقة بين الدين والسلطة تبناها كما هي ضاربًا بعرض الحائط كل استحقاقات اختلاف السياقات ودلالات المفاهيم.

ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى العلمانية في السياق العربي حيث يقف الكاتب وقفة مع العلماني العربي وأوهامه ومغالطاته التي يقدمهما على أنها مسلمات، ومنها:

– الوهم الأول: أن فصل الدين عن السلطة هو الهم العربي الأول، وهو بالطبع هم اصطنعه هؤلاء وهو غير موجود في الوعي العربي.

–  الوهم الثاني: أن العالم الغربي كله تجرد من الدين ورماه وراءه ظهريًا ولم يبق في ذلك الأمر سوى عالمنا الإسلامي. وهذا التصور لا تثبته الأدلة التي تشير إلى أن الإنسان الغربي بدأ مؤخرًا بالسعي لإحضار الدين في المشهد السياسي، ويظهر ذلك على سبيل المثال في كتاب صمويل هنتنغتون “من نحن” الذي ضم مبحث تحت عنوان “تحول الأمريكيين إلى الدين”، ومبحث آخر بعنوان “صحوة الدين عالميا”، والعديد من الدراسات والكتب الأخرى في العالم الغربي تحدثت عن عودة الدين إلى المشهد السياسي العالمي. وإن كانت هذه العودة من بوابة الهوية أكثر منها من بوابة التشريع.

– الوهم الثالث: الربط بين التقدم وتنحية الدين، وهذا وهم يخالف الواقع والتاريخ.

بالإضافة للأوهام السابقة فإن هناك مغالطتين أساسيتين يقع فيهما العلماني العربي بحسب ما يطرح الكاتب وهما:

المغالطة الأولى: القياس على السياق الغربي المسيحي مع الفارق بينه وبين الإسلامي من حيث المعطيات والتحديات والخصائص، فالجدل في الغرب حول دور الكنيسة، أما في العالم الإسلامي فهو حول الدين نفسه، وهذا فارق جوهري، لكن خطأ بعض العلمانيين أنهم عولموا معطيات النموذج المسيحي بلا مراعاة لخصائص السياقات الأخرى.

المغالطة الثانية: الخلط بين النص والتاريخ، ويتمثل ذلك في عدم التمييز بين معطى الوحي ومعطى التاريخ الإسلامي، فالتاريخ – كما يبين الكاتب- الذي لا يتجاوز دوره أن يكون محلًا لتفاعل الإنسان مع معتقداته أصبح هو نفسه معتقدًا، فمن الخطأ الذي يقع فيه كثير من الكتابات الغربية والعربية أن ينقدوا الإسلام ثم يأتوا بدليل من التاريخ لا من نصوص الإسلام.

يتناول الكاتب بعد ذلك مساحة أخرى من مساحات الإشكالات التي يقع فيها التيار العلماني في العالم العربي، ويسلط الضوء هنا بصورة خاصة على فئة من العلمانيين علا صوتها في السنوات الأخيرة وهي الفئة التي تطالب بأن يكن فصل الدين عن السلطة خيارًا تفرضه السلطة دون أية مراعاة لإرادات الشعوب التي قد تختار وصل الدين بالسلطة.

وهؤلاء كما يوضح الكاتب يقعون في مجموعة من الإشكالات:

1- يقعون في إشكال مع القانون الدولي نفسه الذي ينص على احترام حق تقرير المصير، أي أن الشعب له أن يقرر مصيره بما يسمح له تحديد شكل اجتماعه السياسي.

2- ويقعون في إشكالية مع تصور المسلم عن الضبط الاجتماعي الذي تقوم به السلطة من خلال وجود الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الخمور، والدعارة، والربا.

3- ويقعون كذلك في مشكلة في البحث الاجتماعي نفسه من خلال غياب الكيفية التي يمكن الحكم من خلالها على الظواهر الاجتماعية ومدى انحرافها، لأن هذا الحكم لا يكون إلا من خلال اعتبار أغلبية المجتمع كما هو متقرر عند علماء الاجتماع.

4- ومن أكبر الإشكالات التي يقع فيها دعاة الفصل القهري للدين هي أنهم برفضهم إرادة المجتمع يطعنون في النموذج المعياري الذي يروجون له، وهو النموذج الديمقراطي الغربي.

أيضًا من الإشكالات التي تناولها الكاتب فيما يتعلق بالتيار العلماني أنه يحتكر لنفسه العقلانية، وذلك من خلال تصورهم أن خيار فصل الدين عن السلطة هو الخيار العقلاني الوحيد، وأن أي خيار آخر هو خيار عاطفي لا عقلاني، ويظهر ذلك بوضوح في ممارسات المنظمات الدولية التي تسعى لفرض ما تعتقده عقلانيًا على مختلف الشعوب مثل فرض ما يسمى ب “حقوق الشواذ”.

ويفصِّل الكاتب في هذه النقطة ببيان أن الحكم على فكرة فصل الدين عن السلطة لا نستطيع منطقيًا أن نحكم عليه بالعقلانية إلا بطريقتين:

– الأولي: أن يدل على ذلك المنطق البدهي وهذا غير متحقق، فالعقل لا يلح علينا لقبول فكرة الفصل كما يلح علينا لقبول فكرة العدل، أو الإنصاف، أو الصدق، أو الوفاء، فكل هذه الأفكار لا تكابر عقولنا في أنها تمثل الخيار العقلاني البدهي. بل إن فكرة تقييد السلطة بالدين أكثر عقلانية من فكرة الفصل، لا سيما إذا كانت غالبية المجتمع متدينة، فالمنطق يقتضي حينها أن يكون سلوك الدولة معبرًا عما تؤمن به ضمائر المجتمع. وتتعزز عقلانية هذه الفكرة بالنظر إلى الوظيفة الاجتماعية للدين وأهمها تحقق قدر من اليقين لدى الإنسان فيورثه الطمأنينة، ومن ثم يساهم ذلك في استقرار المجتمع على عكس لو كانت المرجعية للعقل الذي يورث النسبية المطلقة ويوقع الإنسان في الحيرة والقلق.

الثانية: أن يثبت الواقع أن فصل الدين ينتج سلوكًا عقلانيًا أكثر من الوصل. وهذه الطريقة ليست صالحة كذلك، فالقرن العشرين الذي يعد “عصر اللادينية” كان من أشد القرون دموية، وإن كل الجرائم التي ارتكبت في القرن العشرين والإبادات العرقية كانت جميعًا من نواتج الأيديولوجيات العلمانية الحديثة، ولكن هذه الحقيقة يتجاهلها الأوروبيون.

يناقش الكاتب بعد ذلك إشكالية أخرى تتعلق برغبة التيار العلماني في التحدث باسم الدين، أي أنه بمناداته بإخراج الدين من المجال السياسي يجعل عقله هو البديل، وبالتالي لا يقبل من الدين إلا ما يناسب عقله، يظهر ذلك فيما يحكيه تشارلز تايلور أحد أشهر منظري العلمانية في العصر الحديث عن اعتقاد بعض اتجاهات العلمانيين بأن المناسب من الأديان فقط هو ما يثبت العقل وحده أنه النظام المناسب للمجتمع، فإذا كان المجتمع رأسماليًا يقوم على الفردانية فيجب على الدين أن يؤكد على ذلك وإلا فهو دين غير صحيح. وهذا يعني أننا أمام دين إنساني وليس دينًا إلهيًا. من هنا يجب أن يكون النقاش مع العلماني دينيًا قبل أن يكون سياسيًا.

يختم الكاتب هذا الفصل بالبحث عن السياق الذي يمكن أن يفسر لنا الإلحاح على فكرة فصل الدين عن السلطة، ويرى أن الفرضية التي تصلح لذلك هي ما يسميه ب “اللاقيدية”، ويعني بها رغبة الإنسان المعاصر بالتمرد على كل ما فيه قيد، ولأن الدين بصورته التشريعية يعد قيدًا فقد برزت ظاهرة التمرد على الدين، ونتيجة للتمرد على الدين ظهر التمرد على حاكميته في المجال السياسي، وإذا تساءلنا عن جذور الظاهرة نجد الإجابة تكمن في الفردانية، والتي تعني في حدها الأدنى – كما يبين الكاتب- تمحور الفرد حول مصالح ذاته أو إنكار أي مبدأ أعلى من الفردية على حد تعبير الفرنسي رينيه جينوه.

الفصل الثالث: مع الخلقانية

يبدأ الكاتب الفصل بمناقشة فكرة العولمة التي هي في حقيقتها “غربنة” للعالم، أي عولمة الإنسان الغربي بكل تجلياته وجعله نموذجًا لبقية العالم، وفي سياق هذه العولمة يبين الكاتب أنه تم عولمة فرضيتين:

الفرضية الأولى: عولمة التصور المسيحي عن السلطة، أي تبني موقف المسيحية تجاه السلطة وتعميمه على كل الأديان.

الفرضية الثانية: عولمة الوعي الإنساني، أي الاعتقاد بوجود موقف موحد في الوعي الإنساني تجاه مستوى حضور الدين في المشهد السياسي، فكأن المجتمعات الإنسانية تمالأت جميعًا واستقرت على رفض الحضور الديني في المجال السياسي. وهذه فرضية يخبرنا الواقع المعاصر بعدم دقتها.

وفي هذا السياق يذكر عالم الاجتماع الأمريكي بيتر برغر أننا لو نظرنا إلى المشهد الديني العالمي لرأينا الحركات الدينية هي التي تشهد صعودًا وازدهارًا في كل مكان. ثم يذكر أنه مهما يكن من أمر فإن الحد الأدنى الذي لا يصح إنكاره أن الاتجاه المضاد للعلمنة أصبح ظاهرة لا تقل أهميتها عن العلمنة نفسها.

ينتقل الكاتب بعد ذلك لمناقشة ما تخفيه “الخلقانية” من فرضيات على مستوى المرجعية، فيبين أن فصل الدين عن السلطة يقتضي وجود مرجعية بديلة عن الدين وليس هناك بديل عن الدين إلا الإنسان، والإنسان لا يمكن أن يكون بديلًا عن الدين إلا إذا امتلك “الراشدية المطلقة” أي اختيار الأصلح دائمًا وهذا يستلزم أن نقر بفرضيتين:

الفرضية الأولي: أن الإنسان كلي العلم، أي يعلم دائمًا ما هو الأصلح.

الفرضية الثانية: أن الإنسان كلي الخير، اي أنه بعد تمييزه الخير من الشر يختار الخير دائمًا.

ومن البدهي أن لا أحد يقر بهاتين الفرضيتين.

والإشكال الذي تواجهه الخلقانية أنه لا يستقيم لها إعطاء الإنسان دور المرجعية المطلقة إلا إذا اعترفت له بالراشدية المطلقة، ولا أحد يقر بأن الإنسان أو حتى المجتمع بأكمله يملك الراشدية المطلقة، وإذا كان ذلك كذلك فالمنطقي أن تكون مرجعية الإنسان نسبية لتتلائم مع راشديته النسبية، ولذلك يقع القائلون بفصل الدين عن السلطة في مأزق حين يؤمنون بنسبية الراشدية الإنسانية وفي الوقت نفسه يؤمنون بأن الإنسان هو المرجع النهائي. وفكرة الراشدية المطلقة لازمة للتصور الليبرالي الذي لا يعترف بالحرية إلا إذا عكست انتفاء مطلقا لكل القيود على الفرد، وبناءً على ذلك لا يمكن للدولة أو المجتمع أن يتدخلوا في حرية الفرد بحجة أنهم يعرفون مصلحته أكثر منه. هذا التصور الليبرالي للحرية الفردية هو متكأ فكرة الراشدية المطلقة، وهو تصور يستبطن تناقضًا مع نتيجته، فهو يعطي الإنسان دور المرجعية المطلقة مع إقراره بأنه لا يمتلك الراشدية المطلقة.

لكن إذا جئنا للإسلام سنجد انسجامًا بين التصور والمطلب، فالإسلام لم يسلب الإنسان أصل راشديته بل ولم يمنحه الراشدية المطلقة وإنما جعله بين ثنائية العلم الإلهي والتكليف الإنساني. فالإسلام يؤمن براشدية الإنسان لكنها راشدية ناقصة تؤهل الإنسان ليكون حرًا في اختياراته ومسؤولًا عنها، لكنها لا تؤهله ليكون مرجعية مطلقة في إدارة الاجتماع الإنساني، تمامًا مثل الفرد في الدولة له حرية المعتقد والسلوك ومع ذلك هذه الحرية لا تعني تحوله إلى مرجعية، وإنما المرجعية تكمن في قانون الدولة، فالإنسان حر ما لم تتعارض حريته مع القانون فالقانون مقدم. ولأن راشدية الإنسان ناقصة فقد أنزل الله تعالى الذي هو كلي العلم وكلي الخير الوحي ليستكملها فيكون الوحي قانونًا إلهيًا يبين أصول الخير وأصول الشر ليتحاكم إليه الأفراد والمجتمعات.

وبناءً على ما سبق يعود الكاتب مرة أخرى لمأزق المرجعية عند الخلقانيين، ويناقش إجاباتان محتملتان لديهم، الأولى مرجعية العلم، والثانية مرجعية العقل.

أ- العلم باعتباره مرجعية

يوضح الكاتب أن العلم ليس مرادفًا للحقيقة، بل هو أحد صورها لأن الحقيقة أعم من العلم، فالحقيقة تشمل مبدأ التواتر، وتشمل الأحكام العقلية، وتشمل الوحي عند المؤمنين به، لكن ليس كل حقيقة تسمى علمًا “بالمفهوم المعاصر”، فالعلم يُنتج يقينًا لكن ليس كل يقينًا يُنتجه العلم.

ويرى الكاتب أنه لا يمكن للعلم أن يؤدي دور المرجعية في المجال السياسي، لأن العلم يعمل في بيئة التجربة والحس، وإدارة السلطة تعمل في بيئة الآراء والظنون والتوقعات، فالعلم لا يمكن أن يحسم الجدل السياسي في دور المصلحة في العلاقات الدولية، أو في خلافاتنا حول غايات المجتمع، ولا حول السياسات الاقتصادية، لأن كل هذه قضايا نسبية لا يستطيع العلم أن يعمل في ضوئها فضلًا عن يستأثر بها. وإذا كان العلم لا يستطيع أن يحسم جدل الموضوعات السياسية فإنه لا يستطيع بالتالي أن يؤدي دور المرجعية، إذ من شروط المرجعية القدرة على الحسم.

وفي هذا الإطار يشير الكاتب إلى علاقة العلم بالإسلام مبينًا أن العلاقة بينهم علاقة تكامل، إذ إن كلًا منهما يسد فراغًا لا يسده الآخر، فالعلم يملًا الدائرة المعرفية الوصفية، والإسلام يملًا الدائرة المعيارية.

ب- العقل باعتباره مرجعية

يناقش الكاتب هنا قول القائلين “العقل يكفي بديلًا عن المرجعية الإسلامية”، حيث يبين الكاتب أن هذا القول يستبطن فرضية وجود تعارض بين العقل والإسلام، ولأجل ذلك يوضح الكاتب موقف الإسلام من العقل، مبينًا أن القرآن مليء بمطالبة مخالفيه بالتحاكم إلى العقل فمن البديهي إذن أنه لا يرفضه ولا يتعارض معه.

بناءً على هذا يتطرق الكاتب للإشكال الذي أثاره الإيراني عبد الكريم سروش بقوله: “إذا كان الدين موافقًا للعقل فلماذا إذن لا نستغني بالعقل عن الدين؟”. فيبين الكاتب أن منشأ الخطأ في هذه الفرضية أنها تجعل موافقة الشئ لشئ آخر تعني استغناء أحدهما عن الآخر، وهذا غير صحيح، فالعلم مثلًا موافقًا للعقل فهل يسوغ ذلك الاستغناء عن العلم، ونكتفي بالعقل فقط! إذن فالموافقة لا تعني المساواة، وبالتالي لا تعني الاستغناء، بل احيانًا الموافقة تقتضي التلازم والاحتياج بين المتوافقين.

ينتقل الكاتب بعد هذا البيان إلى الحديث عن العقل نفسه حيث يبين أن الكثير مما يُنسب إلى العقل من تصورات ما هو إلا آراء شخصية وظنون، وهذا يقود للسؤال التالي: كيف نميز الحكم العقلي الذي لا تصح مخالفته من الرأي الشخصي؟ أو بمعنى آخر: ما العقل الذي نقول إن الإسلام لا يخالفه؟

يجيب الكاتب عن السؤال، فيذكر أن العقل ينتج نوعين من المعرفة:

1- معرفة بدهية وهي كل معرفة لا نحتاج إلى الاستدلال للإقرار بها، وهي نوعان:

– المعرفة الضرورية، وهي الأفكار التي نؤمن بصحتها بضرورة العقل، مثل الواحد أقل من الإثنين، والكل أكبر من الجزء وهكذا.

– معرفة مسلًمة: وهي كل معرفة يسلم بها البشر بمجرد سماعها مع إمكانية معارضتها، مثل أن الصدق عمل حسن، والخيانة عمل قبيح، الدخول في مشروع تجاري دون تخطيط فعل خاطئ، وهي قضايا مسلمة لا يقاوم قبولها عموم العقلاء.

2- المعرفة الاستدلالية (النظرية)، وهي كل فكرة لا يدرك العقل صحتها وحسنها إلا بالاستدلال، فتحتاج إلى أدلة مستقلة لإثبات صحتها. وهذا النوع مثل القول إن فصل الدين عن السلطة أفضل أو العكس، فهذه المسائل ونحوها لا يحكم العقل بداهة بحكم معين، بل يحتاج إلى سَوق الأدلة على صحتها.

وبناءً على ذلك يكون رأينا مخالفًا للعقل حين نخالف النوع الأول من المعرفة العقلية. أما النوع الثاني فهو أفكار نسبية وخاضعة لنوعية الأدلة التي تبرهنها.

إذن لا يوجد توافق إنساني على ما هو عقلاني فيما يزيد على المعرفة البديهية، وإذا كان الأمر كذلك: فكيف يصح أن يكون العقل مرجعية وحيدة للدولة؟، لأن العقل السياسي ليس عقلًا مطلقًا، بل عقل نسبي لأنه لا يمتلك إنتاجًا محددًا في إدارة الدولة يتفق عليه العقلاء حتى نطالب بأن يكون مرجعًا ومعيارًا وحيدًا.

فالعقل هو منطلق التفكير وليس موقفًا بعينه، ولذلك لا نجد إجابة موحدة لكثير من القضايا التي تشغل المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ فمثلًا ما موقف العقل من قضية المتاجرة في الجنس؟ هل يرفضها لأنها تسلع الإنسان أو يقبلها من باب أن رذائل الخاصة منافع العامة؟، والكثير من القضايا الأخرى ينطبق عليها نفس الأمر.

هنا تبرز الحقيقة الواقعية، وهي أن مرجعية العقل تعني عمليًا مرجعية الأغلبية لا سيما في النظم الديمقراطية، فالعقل المقصود في السياق الغربي السياسي هو ما نشأ عن اختيار الأغلبية، لكن هذه الإجابة تنشأ عنها مشكلة أخرى وهي أن الإحالة إلى الأغلبية لا تستلزم الإحالة إلى العقل بالضرورة، فربما يكون حكم الأغلبية ناشئًا عن عاطفة مضادة للعقل، وبالتالي فحكم الأغلبية لا يرادف حكم العقل ولا يستلزمه.

وهنا يوضح الكاتب تحولين مهمين طرئا على السياق الغربي فيما يتعلق بالحديث عن مرجعية الأغلبية:

– التحول الأول: هو التحول من العقلانية إلى ما يسميها الكاتب “الرغبانية”، أي أن الرغبة فقط أصبحت المعيار على صحة الأفعال من خطئها لدى الإنسان الغربي، وانتشار مختلف صور الرذائل في الواقع الغربي يشهد لذلك.

التحول الثاني: التحول من الأغلبية الشعبية إلى الأغلبية البرلمانية، فباستثناء التجربة السويسرية فإن العالم يعيش ديمقراطية غير مباشرة يتوسط فيها البرلمان بين الشعب والسلطة، وهذا يعني أن الأغلبية التي نتحدث عنها هي الأغلبية البرلمانية، وهذه الأغلبية ربما تكون في نفسها أقلية شعبية إذا أخذنا في الاعتبار تدني نسب التصويت وطبيعة قواعد التصويت البرلماني.

ويخلص الكاتب مما سبق أن أزمة المرجعية لا تزال مستمرة، وأن القول بكفاية العلم والعقل على المستوى المرجعي قول متوهم عند مواجهته، فالواقع أكبر من أن يتفرد به العلم أو العقل، وهذا ما يدفعنا إلى تبني خيار آخر وهو “المرجعية المتكاملة” التي تضمن تكامل كل مصادر المعرفة والخير على المستوى الجماعي دون إفراط في أحد المصادر ولا تفريط به.

ولا نجد غير الإسلام نموذجًا لمرجعية متكاملة، فالإسلام يدعو إلى تآزر كل من الوحي والعقل والعلم، فالعلم لا يستطيع الاستغناء عن الوحي لأن العلم مجرد أداة، والأداة تحتاج إلى توجيه في استعمالها، والتوجيه إن لم يكن راشدًا فإن العلم يستحيل إلى أداة ضارة، وكمال الرشد في الوحي لا في العقل.

والعقل كذلك لا يستطيع أن يستغنى عن الوحي، لأن الوحي مرشد للعقل حين يكون العقل عاجزًا عن إيجاد متحدث رسمي باسمه. الوحي لا يغني عن العلم، إذ ليس في الوحي عناية بالتجريبيات، ولا يستطيع الوحي أن يستغني عن العقل، إذ العقل هو الذي دلنا على صحة الدين نفسه، ولأن العقل يسد منطقة المسكوت عنه في النص الإسلامي. مع الإشارة هنا إلى أن التكامل لا يعني التساوي، فللوحي السيادة على ما سواه، لكن التكامل يعني أن كل مصدر يسد مسدًا لا يسده الآخر.

والإسلام يمتلك القدرة الموضوعية على تأدية دور الضابط في المرجعية المتكاملة لأن في التشريع الإسلامي خاصيتين مهمتين:

الأولى: أن الأحكام الشرعية ثابتة بنصوص إلهية دون أي تدخل بشري.

الثانية: أن الأحكام الشرعية فيها ما هو ثابت لضبط حركة التاريخ بالتشريع، وفيها ما هو متغير لاستيعاب حركة التاريخ في التشريع.

وهاتين الخاصيتين لازمتين لكون الإسلام خاتم الرسالات.

الفصل الرابع: مع الإسلام

في هذا الفصل يحاول الكاتب الإجابة عن سؤال الخصوصية الإسلامية في فكرة ظهور الخلقانية (فصل الدين عن السلطة) وتبوأها سلم الأولويات لدى الكثير من النخب العربية.

وهذه الخصوصية جاءت نتيجة لاختلاف السياق الإسلامي في طبيعة نصوصه، وفي محتوى نصوصه، وفي جدل الدين والسلطة عبر التاريخ، وفي طبقاته الاجتماعية، وكذلك في طبيعة الوعي الفردي والجمعي تجاه الدين، وكل هذه الاختلافات تقتضي خصوصية في جوابه عن علاقة الدين بالسلطة:

– من حيث طبيعة النص: فإن القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو نفسه القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، في حين التوراة والإنجيل كُتِب كثير من نصوصهما بعد رحيل موسى وعيسى عليهما السلام وهذا ما تنبئ به نصوص العهدين نفسهما وأنها تحتوي على اجتهادات بشرية، وهذا الفارق جوهريًا وليس هامشيًا، وله انعكاس على طبيعة الوعي الإنساني تجاه النص الديني نفسه، فالمسلم يؤمن بأن كل نصوص القرآن وحي إلهي ولا علاقة للنبي صلى الله عليه وسلم به إلا من حيث النقل حصرًا.

– من حيث محتوى النص: فالمسلم يجد القرآن مليئًا بالنصوص التي تحدد أحكامًا سياسية، في حين لا يجد المسيحي حضورًا للمسألة السياسية في الإنجيل، فالمسيحي لا يشعر بتناقض حين يفصل الدين عن السلطة، إذ إن ذلك لا يتعارض مع دينه، أما المسلم فدينه يأمره بأحكام لا تكون إلا على مستوى السلطة، فإما أن يطبقها أو سيشعر بخيانة الضمير.

– من حيث الذاكرة التاريخية: فالإنسان المسيحي حين يُذكر له الدين فإنه يستحضر تاريخًا أسود لرجال الدين في معاداة الحريات والعقل والعلم، لكن المسلم لا يملك في ذاكرته حضورًا سلبيًا للدين، فلم يكن الدين ولا علماؤه ضد العقل أو العلم، ولم يكن التاريخ الإسلامي محاكم تفتيش.

– من حيث التعاطي مع النص: في السياق المسيحي يؤدي القسيس وساطة إجبارية بين المسيحي والكتاب المقدس، أما في السياق الإسلامي فقد كان الأمر متاحًا للجميع، ووجود العلماء لم يكن يعني منع سواهم من قراءة القرآن والتعرف على موضوعاته وأحكامه، فقول العالم المسلم غير ملزم فيمكن لأي مسلم يمتلك الأهلية العلمية أن يستنبط الحكم مباشرة.

ويخلص الكاتب مما سبق أن للإسلام خصوصية في مسألة فصل الدين عن السلطة تجعل من المتعذر منهجيًا قياسه على السياق المسيحي أو الهندوسي أو غيره من السياقات. وفي هذا الإطار يشير الكاتب إلى أمر هام حيث يرى أن أول استحقاقات هذه الخصوصية أن ننتقل من لفظ “ديني” إلى لفظ “إسلامي” عند الحديث عن فصل الدين عن السلطة، لأن العكس لا يصح إلا إذا كنا نؤمن أن الإسلام لا يختلف عن المسيحية أو الهندوسية أو البوذية.

يناقش الكاتب بعد ذلك اعتراض قد يثيره البعض على مسألة الخصوصية الإسلامية بقولهم إن المجتمعات المسلمة نفسها لها أنماط مختلفة في تعاملها مع مسألة فصل الإسلام عن السلطة، لا سيما إذا نظرنا إلى التجربتين التركية والتونسية، فكيف يُدَّعى اتحاد السياق الإسلامي؟ ويجيب الكاتب بصحة القول بتباين المجتمعات المسلمة في مسألة الإسلام والسلطة، ويذكر أمثلة على ذلك، وخلاصة إجابته المفصلة أن وجود تجربتين مختلفتين لا يصح منهجيًا أن يكون سببًا في نفي خصوصية السياق الإسلامي، كما أن التجربتان لا يتباينان تباينًا حقيقيًا عن بقية العالم الإسلامي وإنما هو تباين مفتعل، لأن قرار الفصل جاء من السلطة، ولأنه في الحقيقة لا يمس الجوهر وهو الاعتقاد بعلاقة النص الإسلامي نفسه بالسلطة، فالمسلم – سواء كان ينادي بفصل الدين عن السلطة أو وصله- لا ينكر في نهاية المطاف أن دينه يتضمن نصوصًا تأمره بأحكام على مستوى السلطة كالشورى، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعاقبة الزاني والسارق والقاذف إلى غيرذلك من الأحكام، أما رفض ممارستها فهذا يعود إلى مسوغات واقعية في الغالب.

ينتقل الكاتب إلى الحديث عن مقاربة الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا في كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة” والتي تعد أبرز النماذج التي تمثل تجاوزًا للخصوصية الإسلامية، وتُعد مصدر إلهام لمؤيدي أسلمة فصل الدين عن السلطة. وهذا الموقف ينسحب على جميع الفلاسفة الذين يعتقدون بمعتقد سبينوزا من عدم وجود علاقة بين الدين والسلطة على مستوى النص، فمثل هؤلاء لا يمكن أن ننسب لهم اختيار مبدأ فصل الدين عن السلطة، إذ إن هذا هو ما يقرره الإطار الديني الذي ينتمون إليه، على خلاف حال المسلم الذي يختار فصل الدين عن السلطة في حين دينه يقرر العكس.

ينتقل الكاتب هنا لتناول المسوغات التي يقدمها القائلين بفصل الدين عن السلطة في السياق الإسلامي ويبينها ويرد على كل منها كما يلي:

– المسوغ الأول: يدور حول القول بأن المرجعية الإسلامية تؤدي إلى ثيوقراطية السلطة، ويرد الكاتب على هذا الادعاء ببيان أن السلطة المتشرعة هي السلطة التي لا تخالف الدين (أي لا تخالف القواطع المعروفة للمجتمع المسلم وليس الأحكام الاجتهادية) وليست السلطة التي يحكمها علماء الدين.

المسوغ الثاني: تحكيم الإسلام يؤدي إلى منع حقوق الأقليات. يناقش الكاتب هذا الاعتراض فيرى أنه اعتراض غير ديمقراطي لأنه يقدم حقوق الأقلية على حقوق الأكثرية، فلماذا كان واجبًا على الأكثرية أن تتنازل من أجل حقوق الأقلية وليس العكس، فللأكثرية الحق ديمقراطيًا في اختيار النظام العام للدولة. الأمر الثاني أن الإسلام لا يمنع الأقليات من أي حق من حقوقها الدينية ما دام لا يعود بالضرر على المجتمع كتعاطي الخمور، والسحر والفحشاء.

المسوغ الثالث: معارضة الدين للعلم، يفكك الكاتب هذا الادعاء ويناقشه عبر مستويين: الأول على مستوى مفهومي منطقي. والثاني على مستوى واقعي.

وبناءً على هذا التأصيل العام فإن موقف الإسلام واضح في تقدير العلم والحث عليه، وإذا كانت حركة العلم في الغرب لم تنطلق إلا بعد تنحية الدين، فإن حركة العلم عند العرب لم تنطلق إلا بعد مجئ الدين. ويذكر الكاتب ذهول عدد من المفكرين الغربيين من كثرة الموضوعات العلمية والكونية في القرآن ومطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم والتي لم يكن ممكنًا لأي إنسان في عصر النبوة أن يكون لديه أية فكرة عنها.

وأخيرًا يقف الكاتب مع الحركة العلمية في التاريخ الإسلامي مع ذكر أمثلة وشهادات من مفكري الغرب كدليل على إيجابية الموقف الإسلامي من العلم، ثم يختم الفصل بالإلتفات إلى ما ينسب لأبي حامد الغزالي من تحريمه للفلسفة وأن ذلك أدى إلى عدم ازدهار العلوم، وذلك لكثرة ما يحتج بهذه الدعوى على توتر العلاقة بين الإسلام والعلم، حيث يبين الكاتب من خلال محاكمة هذه الدعوى أن الغزالي لم يكن معارضًا للعلم البتة، بل كان مؤيدًا له ومحرضًا عليه، لكنه كان يمارس حقه الطبيعي في إقامة مثاقفة منهجية مع الثقافات الأخرى، وقد كان رحمه الله بنقده لا يستهدف الفلسفة بقدر ما كان يستهدف الفلاسفة وأراؤهم المصادمة لمحكمات الشريعة الإسلامية.

الفصل الخامس: مع الأسلمة

في هذا الفصل يتناول الكاتب بعض المقاربات التي تقدم بها الباحثون للبرهنة على أن الخلقانية منسجمة مع المنطق الإسلامي، في محاولة منهم لأسلمة الخلقانية.

يبدأ الكاتب بمناقشة من يستندون في دعوى أسلمة الخلقانية من نصوص الإسلام نفسه:

النص الأول: حديث “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، يستدلون بهذا الحديث على أن الخلقانية منسجمة مع المنطق الشرعي، لأن الحديث ينسب أمور الدنيا للناس وليس للدين. وفي هذا الإطار يبين الكاتب أن موطن الخلل يعود إلى عدم الدقة في فهم مدلول كلمة “الدنيا”، مبينًا أن المعيار الفاصل بين الديني والدنيوي هو ورود الحكم الشرعي لا مجال الحكم، فالمجال السياسي فيه ما هو دنيوي (أي ما لم يرِد فيه حكم شرعي) وفيه ما هو ديني (ورد فيه حكم شرعي)، وبالتالي فالأحكام الشرعية الواردة في المسائل السياسية هي من الدين، ومخالفتها مخالفة للدين.

النص الثاني: ما روي أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم “إن كنت تطلب الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا” ويستشهدون بهذه الرواية لإثبات أن السياسة ليست مطلوبة شرعًا لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا النص رفض العرض المقدم من قريش. ويبين الكاتب هنا ما في هذه الدعوى من مغالطات، ومنها أن رفض النبي- عليه السلام – لعرض قريش لا يدل على انعدام السياسة في المشروع الإسلامي، بل يدل على أن النبي رفض السياسة في مقابل التخلي عن الدين نفسه.

على صعيد آخر تأتي المقاربة البراغماتية لأسلمة الخلقانية، وترتكز هذه المقاربة على أن الاشتراك المبدئي بين الإسلام ومبادئ النظام الدولي الحديث يغني عن الإصرار على مرجعية خاصة بالإسلام. يبين الكاتب عدم دقة هذا الاستدلال لأن الاشتراك في المبادئ العامة لا يستلزم الاشتراك في مصاديقها العامة. فالدول جميعًا تنص في دساتيرها على أهمية العدل لكن السؤال هل الربا من العدل أو من الظلم؟.

ولذلك لابد من مرجعية حاكمة تحدد لنا مصاديق هذه المبادئ العامة.

وأخيرًا يقف الكاتب مع المقاربة المنطقية في أسلمة الخلقانية، واختار لتمثيل هذا النموذج من المقاربات أطروحة الباحث اللبناني المتخصص في حقل الفلسفة عادل ضاهر، حيث يقرر أن الإسلام يقتضي العلمانية اقتضاءً ذاتيًا، وأن التشريع السياسي نشأ بسبب الواقع لا النص، وبالتالي فهو مرتبط بسياق تاريخي، وأنه أتى عرضًا لا أصالة، وعلى هذا الأساس يسوق استدلاله كالآتي:

السياسة ليست جوهرية في الإسلام وكل ما ليس بجوهري فهو مؤقت والنتيجة أن السياسة حكم مؤقت. يقف الكاتب عند الإشكالات المنهجية والتأسيسية في هذه الأطروحة مبينًا أن ضاهر لم يحدد بالضبط المقصود بالجوهرية، إلى أن اللازم العقلي يقتضي أن ينسحب هذا الحكم على جميع الأحكام الشرعية، فيكون كل ما هو غير جوهري مؤقت بحسب ضاهر، من ناحية أخرى يرى ضاهر انعدام الضرورة المنطقية عن التشريع السياسي، ويذكر أن هذا دليل على عدم وجوبه شرعًا بنحو دائم، وهذا يلزمه كما يوضح الكاتب أن يقر بأن جميع أحكام الشريعة ليست واجبة دائمًا لأنها كلها أحكام جائزة ليست ضرورية، وهكذا ينتهي الأمر بنا من إنكار التشريع السياسي إلى إنكار التشريع الإسلامي بأكمله.

وفي الختام يؤكد الكاتب أن الإسلام لم يأتِ بأحكام سياسية تفصيلية لا تترك مجالًا للمساهمة الإنسانية، بل ترك للإنسان كامل الحرية أن يبتكر من الإدارة ما يشاء ما دام يعمل في إطار موجهات الوحي.

عرض:

أ. يارا عبد الجواد*

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحثة في العلوم السياسية.

عن يارا عبد الجواد

شاهد أيضاً

الفكر المقاصدي والمقاربة العلمانية

عارف بن مسفر المالكي

يدور منشأ اصطلاح العلمانية حول «اللادينية» أو «الدنيوية»، «لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص: هو ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد».

العلمانية تحت المجهر: المفهوم والإشكاليات

أ. د. عبد الوهاب المسيري

العلمانية الجزئية: هي رؤية جزئية للواقع (إجرائية) لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية. أما العلمانية الشاملة: رؤية شاملة ذات بُعد كلي ونهائي، تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات بكل مجالات الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.