نقد مناهج العلوم الإنسانية من منظور إسلامي
وخطوات صياغة مناهج إسلامية للعلوم الإنسانية*
د. محمد أمزيان **
المنهج الغربي في إطاره التاريخي:
من المهم جدًا أن نضع المنهج الغربي الذي طبق في مجال العلوم الإنسانية والطبيعية على السواء في إطاره التاريخي؛ لكشف الحيثيات التاريخية التي كان لها النصيب الأوفر في توجيه هذا المنهج إلى الاستقرار في صياغته الأخيرة، وهي صياغة ذات بُعد أيديولوجي أكثر منه علمي.
لقد استقر اليوم عند كثير من الباحثين أن السمة التي طبعت العقلية الغربية في فترتها القروسطية هي: سمة الوهم والخرافة، ومضايقة الفكر العلمي الحر، وكل ذلك كان يتم باسم الحفاظ على قدسية الدين والخضوع لسلطة النص المقدس، مع العلم أن النصوص المقدسة كانت تتداخل مع تفسيرات رجال الدين التي اعتُبرت بدورها مقدسة، وكان هذا التداخل قويًا جدًا بحيث يتعذر الفصل بينهما.
وكنتيجة مباشرة لهذا التداخل احتكرت الكنيسة مجال التفكير، وحرمت كل تفكير يخالف تقاليد البابوية، وسادت النزعة النصية، أو ما يسميه بعض مؤرخي الفكر الغربي بالتقديس العقلي للكلمة المنقولة[1]، وفرضت حلولها الوهمية ليس فقط في مجال الفكر والعلم بل أيضًا في مجال الحياة، حيث تميزت فترة الألف عام التي حكمت فيها الكنيسة (500 – 1600م) بتدخل الكنيسة قهرًا في تنظيم كل ما يتعلق بحياة الإنسان إلى درجة أن تمتع الإنسان بحقوقه في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية كان مشروطًا بأن يكون كاثوليكيًا، وبتبعيته للكنيسة الرسمية، وبقبوله لكل الأحكام والتعاليم والأوامر غير الدينية التي كانت تصدر عن هذا الجهاز.
لقد كان الفكر الديني ممثلًا في المسيحية الكاثوليكية، وكان رجال الدين يعبرون أصدق تعبير عن هذا النظام الفكري البابوي. وعندما بدأت أوربا تسير في طريق التحرر وقامت الثورة ضد تعاليم رجال الدين وكل ما يُنسب إليهم من ثقافة وفنون، كان من المنطقي أن تتجه المقاومة إلى الدين نفسه، فقد استقر في أذهان “المفكرين الأحرار” وجود تلازم بين الدين ورجاله، خاصة وأن البابا كان يعتبر نفسه نائبًا عن الله في الأرض.
فإذا كانت الكنيسة قد فرضت النمط الديني في السياسة والاجتماع والتعليم والفن والبحث العلمي… إذا كانت قد فعلت كل ذلك باسم الدين، فإن حركة علمانية الحكومة والمؤسسات الإدارية والتشكيلات الاجتماعية يُعني تحويل المجتمع والحياة الاجتماعية إلى حياة إنسانية، وتجعل من الإنسانية شرطًا في الحياة بدلًا من الإنسان الكاثوليكي، ومن هنا فإن المحتم والمنطقي أن المفكر المحب للإنسانية لا يسعه إلا أن يكون علمانيًا[2].
لقد استمرت المواجهة بين النظام الديني القديم المتداعي وبين الحركة العلمانية الناشئة قرونًا من الزمن، انتهت لصالح هذه الأخيرة بقيام الثورة الفرنسية سنة 1789. ولقد كانت هذه الثورة أعظم سند للحركة العلمانية في صورتها الوضعية، وقد قال عنها “كونت ” – رائد الوضعية آنذاك – “لولاها – يقصد الثورة الفرنسية – لما أمكن أن توجد نظرية التقدم، ولما أمكن تبعًا لذلك أن يوجد العلم الاجتماعي، ولما أمكن بالتالي أن توجد الفلسفة الوضعية”[3].
وإذا كانت مرحلة الثورة الفرنسية مرحلة انتقالية كانت لا تزال فيها الأوضاع الفكرية والسياسية مضطربة بين النمطين الديني والعلماني، فإن مرحلة ما بعد الثورة شكلت مرحلة الحسم وإعادة البناء الاجتماعي والسياسي والفكري…. حتى غدت العلمانية وبتعبير أدق الوضعية روحًا سارية وتيارًا جارفًا ترك أثرًا قويًا في المفكرين، وانعكس على إنتاجهم العلمي والأدبي والفني.
هذه الشروط الثقافية التي أصبحت تحكم وتؤطر البنية الفكرية للغرب، وهي شروط تجد لها جذورًا عميقة في التاريخ الثقافي والسياسي والديني للغرب، هي التي كانت وراء صياغة المناهج التي تحكم البحث العلمي في شقيه الإنساني والطبيعي؛ فجاءت هذه المناهج انعكاسًا طبيعيًا لتلك المؤثرات.
ولم يكن بالإمكان أن تخضع هذه المناهج لتعديل ممكن خارج البنية الفكرية الغربية بحكم الظرف التاريخي والشروط الحضارية التي طبعت القرن التاسع عشرة (الفترة التي تحددت فيها هذه المناهج) والتي تميزت بالهيمنة الغربية سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا، مما أدى إلى تدويل هذه المناهج، وفرضها على أجزاء واسعة من العالم بما في ذلك العالم الإسلامي.
القسم الأول
نقد منطلقات الفكر الغربي في صياغة مناهج العلوم الإنسانية
لا يمكن فهم واستيعاب أخطاء المناهج التي تحكم سير العلوم الإنسانية في صيغتها الحالية ما لم نقف على الخلفيات الفكرية التي توجهها داخل بنيتها الأصلية التي أفرزتها.
إن مناهج العلوم الإنسانية في صورتها الحالية هي بحق إنتاج غربي مرتبطُ أشد الارتباط بالتاريخ الثقافي للغرب، يعبر عن خصوصياته ومشكلاته الفكرية. وقد كان تسرب هذه المناهج إلى جامعات ومراكز البحث العلمي في العالم الإسلامي أمرًا تفرضه الحاجة، نتيجة الفراغ العلمي مع شدة الحاجة إلى التجديد، فكان لابد من استيراد العلوم الغربية، أو استيراد مناهجها الجاهزة بدون تعديل أو تغيير.
ومع التحولات الثقافية والفكرية والاجتماعية التي أصبحت تفرض نفسها على الساحة الإسلامية أصبح التفكير في تطور مناهج العلوم أمرًا ضروريًا يفرضه الواقع الجديد، هذا الواقع الذي أصبح يعي ذاته ويعي موقفه من الصراع الحضاري.
ولعل الخطوة الأولى في هذا السياق هي ضرورة استيعاب أخطاء هذه المناهج، وهي تعود في غالبها إلى الظروف التي تبلورت فيها. وقد بات مسلمًا به أنها لم تنشأ نشأة طبيعية بقدر ما كانت إفرازًا لردود فعل قوية اتجاه الواقع الثقافي القائم آنذاك، ومن هنا ضرورة كشف المنطلقات الفكرية التي أسست هذه المناهج، وضرورة التركيز على الفترة التي نضجت فيها هذه المناهج: القرن التاسع عشر.
1- تضخم العقائدية العلمية أو تحويل العلم إلى موقف عقائدي:
في التاريخ الثقافي الوسيط للغرب، كان الدين يمثل مذهبًا عقائديًا يفسر كل شيء في الوجود، ويعطى تصورًا كاملًا حول الكون والإنسان، ومع سيادة الفلسفة الوضعية وتراجع الفلسفات الدينية اللاهوتية والميتافيزيقية العقلية أصبح المنهج العلمي يفرض نفسه كخيار وحيد تُوكَل إليه مهمة تفسير مظاهر الوجود وظواهر الحياة.
ولكن العلم لم يُطرح كبديل منهجي أو طريقة في البحث فحسب، بل اعتُبر وريثًا للدين وبديلًا عنه. ولم يخف أقطاب الوضعية آنذاك قناعتهم بهذا الموقف العقائدي للعلم، فقد قال دوركايم: “إن العلم وحده هو الذي أعد المفاهيم الأساسية التي تهيمن على تفكيرنا… وقبل أن تتكون العلوم كان الدين يقوم بنفس المهمة، لأن كل ميثولوجيا تشتمل على تصور مهيأ مبدئيًا للإنسان والكون، وقد كان العلم وريثًا للدين“[4].
وعند هذا الموقف العقائدي للعلم يقول الكاتب الفرنسي إيميل بوترو: “من المهم أن نقف عند التغيير الذي حدث في العصر الحاضر في الموقف العلمي الصحيح، فالعلم إلى أيامه الأخيرة كان أو أراد أن يكون دجماطيًا، واعتبر أن بعض أجزائه المحكمة قد تكونت نهائيًا، وتطلع إلى بلوغ مثل هذا الكمال في البعض الآخر”[5].
إن هذا التغيير الجذري للموقف العلمي من أسلوب في البحث إلى دعوة عقائدية قد جعل العلم محل تهمة لا تقل خطرًا عن التهمة التي وجهها هو نفسه إلى العقائد الدينية، فقد كان يُنكر على الدين ادعاءه أنه وحده الذي يملك الحقيقة والقادر على تفسير كل شيء في الكون…. وهي نفس التهم التي توجه إلى العلم الوضعي، فهو يسير في نفس الطريق الذي سار فيه المنهج اللاهوتي الذي عمل على نقضه.
2- اختزال المنهج العلمي في عناصره التجريبية الحسية:
منذ انطلاقتها الأولى، كانت مناهج العلوم تهدف إلى مقاومة كل تفكير يخرج عن دائرة الحس سواء كان تفكيرًا دينيًا، أو ميتافيزيقيًا أو عقليًا، فهي لا ترى المنطلق السليم سوى في المعرفة الواقعية المنتزعة من الحس. ومصطلح الوضعية الذي أطلقه كونت نفسه يدل على أن “كونت كان يرغب في إشباع الحاجات الواقعية للعقل البشري وأن يقف عند هذه الحاجات فقط”[6].
وتأكيدًا على هذا المنحى الحسي سعت العلوم الإنسانية لاستعارة مناهج العلوم الطبيعية والفيزيائية منذ تأسيسها، فابتداءً قرر كونت: إننا ما دمنا نفكر بشكل وضعي (حسي تجريبي) في مادة علم الفلك أو الفيزياء، لم يعد بإمكاننا أن نفكر بطريقة مغايرة في مادة السياسة أو الدين، فالمنهج الوضعي الذي نجح في علوم الطبيعة غير العضوية يجب أن يمتد إلى كل أبعاد التفكير[7].
إن هذه النزعة التجريبية التي سادت مناهج العلوم الإنسانية أصبحت منتشرة، ولها ممثلون في مختلف المدارس، وقد اصطُلح على تسميتها “بالتجريبية العلمية” وتسير في طريقها مذاهب ونظريات منها الوضعية المحدثة، والنقدية، والتجريبية، والوضعية التجريبية المنطقية، والإجرائية، والسلوكية.
ولا شك أن الاستعانة بالمنهج التجريبي بالشكل الذي يوافق طبيعة العلوم الإنسانية في بعض جوانبها أمر مطلوب، ولكن التجريبية الوضعية لا تعنى مجرد أداة معرفية فحسب، إنها تستعمل التجربة كأداة أيديولوجية لسد الطريق أمام التفكير الديني الذي قامت على أنقاضه. ولقد تنبه نقاد الفكر الغربي أنفسهم إلى هذا المنزلق، يقول هنري أيكن: “إن تجريبية كونت وضعية، وهو يستعملها بوضوح وصرامة كأداة أيديولوجية لتهديم أغاليط التفكير غير العلمي بأجمعها، كان يهدف كفيلسوف إلى غرس عقلية لا تفكر باصطلاحات غير علمية، وترفض قضايا اللاهوت التقليدي والميتافيزيقي بكل بساطة على أساس أنها غير علمية”[8].
من القواعد المنهجية التي استقرت عليها العلوم الإنسانية أن تتحرر بحوثها العلمية من كل فكرة سابقة، وتتجنب الملاحظات الداخلية[9]، وهذه المقولة ليست خاطئة في أساسها، فهي واحدة من مقومات المنهج العلمي الصحيح، ولكنها في صورتها التطبيقية تعني ضرورة سد الطريق أمام كل تفكير لا يستند إلى الحس والتجربة، واعتبار كل مصدر معرفي مخالف – بما في ذلك الدين القائم على الوحي وما يقدمه من حقائق إنسانية – تفكيرًا داخليًا استبطانيًا يخرج عن دائرة العلم لكونه ينطلق من مقولات جاهزة سلفًا.
إن وظيفة هذه التجريبية وظيفة عقائدية، توظف المفاهيم العلمية لعلمنة أساليب التفكير وإعادة تفسير كل الظواهر الإنسانية بما في ذلك الدين والأخلاق.. وفق المنطق الوضعي.
3- اختزال الحقيقة الإنسانية في جوانبها المادية:
هذا المنطلق المنهجي هو في النهاية نتيجة مباشرة للمنطق السابق، فإذا كان المنهج التجريبي لا يؤمن إلا بالحقائق الحسية، فمن الضروري أن يختزل الكلية الإنسانية ومجموع العناصر المتفاعلة والفعالة في الحياة الإنسانية في عناصرها الحسية الملموسة.
إن النظرة الوضعية للإنسان تكمن في إدراك جانبه الفيزيقي وسلوكه الواقعي. وإذا كانت للإنسان حقيقة أخرى غير جانبه الفيزيقي وسلوكه الواقعي كالعاطفة الدينية والتعلق بالمُثل الأخلاقية وغيرها من العناصر التي لا تخضع للقياس الكمي فهي ليست نابعة من مصادر خارقة وفوق طبيعته.
ولقد لخص كونت نظرة الوضعية إلى الحياة الداخلية للإنسان في هذا النص الوجيز: “إن الوضعية تطرح بشكل منهجي كل ما هو خارق وفوق طبيعي، وترفض قبول كل نظام خاص بالحياة الداخلية مجرد من تبريراته العقلية”[10].
إن مناهج العلوم الإنسانية المتشبعة بهذه الروح الحسية لا تعترف بأي شعور أو نظام خاص بالحياة الداخلية للإنسان إلا ما كان قابلًا للإدراك، فهي قادرة على إعطاء تفسير عقلي مقبول لسلوك الإنسان الداخلي والخارجي معًا. ونستطيع أن نعثر على نماذج من هذا الاختزال في الكتابات النفسية والاجتماعية والأخلاقية الغربية. فعلى مستوى الدراسات النفسية مثلًا نجد فرويد في كتابه (المحاضرات التمهيدية الجديدة في العلاج النفسي) يقول: “إن الظواهر الدينية تُفهم من خلال نموذج الاضطرابات العصبية المألوفة تمامًا والتي تعتبر صدى لأحداث ماضية طواها النسيان ترجع إلى التاريخ البدائي للعائلة الإنسانية”[11]. وعلى مستوى الدراسات الاجتماعية والأخلاقية تختزل العلوم الإنسانية الظواهر الدينية والأخلاقية في بعض مظاهرها السلوكية، فالدين لم يعد مصدر إلهام للإنسان يتجاوز حدود الزمان والمكان، بل إن الإنسان ذي العقل العلمي – كما يقول كونت- “لم يعد بإمكانه الإيمان بالوحي والتعليم المسيحي للكنيسة أو بالألوهية وفق المفهوم التقليدي”[12]. ولكن هذا ليس مدعاة لإنكار ظاهرة التدين فهي موجودة ونحس بها، “والإنسان نفسه في حاجه إلى الدين؛ لأنه في حاجه إلى شيء يتجاوزه، والمجتمعات في حاجة إلى دين، لأنها في حاجة إلى سلطة روحية، والدين الذي يستجيب لهذه الحاجات الثابتة للإنسانية، ويسعى إلى تحقيق الحب والوحدة – سيكون دين الإنسانية نفسها”[13].
وكذلك الشأن في الدراسات الأخلاقية، لقد تعرضت الدراسات الأخلاقية التقليدية لنقد شديد لا يخلو من عنف وتعسف؛ ليتم اختزال الظواهر الأخلاقية في بعدها السلوكي كما يمثله واقع الناس، مع استبعاد القيم والمُثل التي يتعلق بها الناس والتي لا تنبع من واقع حياتهم الاجتماعية. فالمثل الأخلاقية الجديرة بالاهتمام والدراسة هي المثل التي تفرزها تفاعلات الناس ويصنعها الحدث اليومي بما يفرضه من حاجات، وليست تلك المثل المطلقة والمبادئ الأخلاقية الكلية التي كان يتحدث عنها فلاسفة الأخلاق.
4- تعميم المنهج الوضعي في دراسة الجوانب الميتافيزيقية للعلوم الإنسانية:
تتحدد العلوم الإنسانية في شقين متباينين في موضوعاتهما:
الأول: يتعلق بالوقائع الاجتماعية الحسية القابلة للإدراك الحسي والملاحظة المباشرة والإحصاء، وهي دراسة تتعلق بالعلاقات الاجتماعية، والمظاهر السلوكية، والعلاقات المهنية، والصناعية، والعسكرية، وعادات الناس المختلفة.
والثاني: منها يتعلق بقضايا لا يمكن إخضاعها لنفس طرائق البحث العلمي، لاختلاف موضوعها، كالبحث في أصل اللغات، ونشأة النظم الدينية والأخلاقية والقانونية والاجتماعية، ونظم الأسرة والزواج، فضلًا عن البحوث التي تتصل بفلسفة التاريخ، والتي تتعلق بتخمينات علماء الاجتماع والتاريخ حول ماضي الإنسانية والمراحل التي قطعتها اعتمادًا على بعض الشواهد الأنثروبولوجية والتاريخية والايتنوغرافية، وكذلك تنبؤاتهم حول مستقبل المجتمع البشري اعتمادًا على دراسة التطور التاريخي للمجتمع الإنساني من جهة ومعطيات الحاضر من جهة أخرى.
إن هذا اللون من الدراسات لا يمكن أن يكون علميًا دقيقًا لتعلقه بقضايا هي في حكم الغيب الذي لا يمكن كشفه إلا بدرجة نسبية، لتعذر الحصول على بيانات كافية في الموضوع، وهذا اللون من الدراسات هو الذي كان غالبًا على الجيل الأول من علماء الاجتماع الذين جعلوا موضوع اهتماماتهم الشعوب البدائية باعتبارها تمثل أقدم صور الحياة الإنسانية، ويمكن اعتبارها نقطة انطلاق لفهم نظمنا المعاصرة، لافتراضهم أن الشعوب البدائية لم تخضع في نظمها لعوامل التأثير وتحتفظ بالصور الأولية لهذه النظم، وهو افتراض لا أساس له.
وقد ظهرت في هذا المجال عدة دراسات منها: القانون القديم لهنري مين، والمدينة القديمة لفوستيل دوكولين، والثقافة البدائية لإدوارد تايلور، وكتاب مرجان عن المجتمع القديم، وكتب فريدريك أنجلز عن أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة، وكتاب فريزر الشهير عن دراسة السحر والدين، فضلًا عن دراسات كونت ودوركايم وليفي بريل، وغيرهم كثير من مختلف هذه النظم.
ولقد تعرضت هذه الدراسات للنقد من قبل الغربيين أنفسهم. فقد أكد أحد نقاد علم الاجتماع الديني روجي باستيد الفرنسي أن المجتمع (البدائي) الذي يُتخذ نقطة بدء للدراسة، مجتمع فرضي على وجه العموم أكثر من أن يكون مجتمعًا حقيقيًا[14]. ومع كثرة النقد الذي يوجه إلى هذه الاتجاهات فقد فشلت هذه الدراسات في تقديم بدائل منهجية ناجحة؛ لأنها تبقى في نهاية المطاف عاجزة عن إدراك أبعاد التطور الإنساني الضارب في التاريخ ما دامت تصر على ضرورة الاعتماد على وسائلها النسبية المحدودة.
لقد قال روجي باستيد: “ليس من الممكن أن ينشأ علم اجتماع ما إلا بالقدر الذي يمكننا الوقوف فيه بوسائلنا الخاصة في البحث على هذه العلاقات الضرورية”[15]، يقصد العلاقات بين الأسباب ونتائجها.
وهذا القيد – رغم أهميته العلمية – فهو لا يستوعب كل حالات البحث العلمي على الإطلاق. فهناك حقول معرفية كثيرة لا تثبت حقائقها بإدراك الروابط الضرورية بين الأسباب ونتائجها، وفى كثير من الأحيان تقدم كمعطيات جاهزة. وقد كان هذا القيد عاملًا حاسمًا في فشل جهود علمية مضنية في تحقيق أهدافها، فقد حرمهم من الاهتداء إلى كثير من الحقائق التي لا يعتبر الحصول عليها من قبيل المستحيلات. فهذا القيد يستبعد الوحي كمصدر معرفي مهم جدًا في كثير من الجوانب الميتافيزيقية لمشكلات علم الإنسان سواء تعلق الأمر بالماضي أو المستقبل، فبإمكان الوحي أن يقدم كشفًا دقيقًا حول هذه المشكلات على الأقل في بعض جوانبها، وهذا كفيل بأن يجعل هذه الدراسات تتجاوز الحيرة التي انتهت إليها، وهي الحيرة التي عبر عنها روجي باستيد بعد استعراض مفصَّل لمختلف النظريات المتضاربة التي صيغت حول أصل بعض النظم وانتهى إلى هذا التساؤل: فأي النظريات نرتضي من هذه النظريات المختلفة إلى أكبر حد؟ ليس من الممكن أن نقتنع بأي برهان جدلي، هذا إلى أن المنطلق يعجز أمام الظواهر[16].
وهنا يتحتم على العلوم الإنسانية أن تبحث عن مصدر معرفي آخر غير المعلومات التاريخية والأثنوغرافية والأنثروجولوجية، فمهما كانت طبيعة هذه المعلومات فإن نسبة اليقين فيها حد نسبي، وهذا المصدر المعرفي لن يكون سوى الوحي الصحيح الذي يملك إمكانية تقديم معلومات مهمة ويقينية تغطي الحقبة الماضية للإنسانية وتفسر تحولاتها ونظمها، كما تقدم مؤشرات واضحة حول مستقبل المجتمع البشري يناقض تمامًا تخمينات علماء الاجتماع وفلاسفة التاريخ، وهي تخمينات لا تخلو من نقمة أيديولوجية تكرس مفاهيم عقائدية جاهزة[17].
إن قبول العلوم الإنسانية بهذا المبدأ سيمكنها من تنوع طرقها في إدراك الحقيقة العلمية، ويفتح المجال أمام مناهج علمية أخرى طالما وصفها علماء الإنسان بالميتافيزيقية والأسطورية، كما يمكنها من التمييز الواضح بين المجالات المعرفية التي يستوعبها المنهج الوضعي الحسي، وتلك التي يعجز عن إدراكها، وبذلك تضع حدًا لهذا التعميم الذي أفرزته شروط ثقافية تاريخية قبل أن يكون اختيارًا علميًا مدروسًا.
5- انعدام إطار مرجعي موحد وتقطيب الاتجاهات والمذاهب المتباينة:
إن التشتت الذي تعاني منه النظريات المختلفة حول قضايا الإنسان هو في الواقع انعكاس طبيعي للتشتت الذي تعاني منه الحضارة المادية ككل، حيث عجزت المناهج الوضعية عن تقديم بديل موحد تخضع له كل الأطراف. لقد حصل تصدع هائل في المنطلقات الفكرية الغربية بعد أن تولت الرؤية الدينية التي فتحت الطريق أمام التيارات الذاتية والنزعات الشخصية، وهي حقيقة يعترف بها المنصفون من مفكري الغرب أنفسهم. لقد اعترف مؤرخ الفكر الغربي لوى ورث: “أن انقسام العالم الغربي إلى أجزاء مبعثرة لا عد لها ولا حصر يطابق التفكك الذي طرأ على الحضارة الغربية والتصدع الذي حدث في الأواصر التي كانت تشد الفئات الاجتماعية وتؤكد انسجامها. ولم يفلت النشاط العقلي من هذه التأثيرات، فالمراحل الماضية في تاريخ الغرب تميزت بوجود إطار مشترك استطاع أن يقدم معيارًا للتثبت من صحة الحقائق. أما العلم المعاصر فلم يعد نظامًا كونيًا شاملًا ومشتركًا، وإنما هو بالأحرى يمثل مشهدًا لساحة قتال تصطرع عليها أضراب متنازعة لكل فئة صورتها الذهنية على العالم، تَصبغ على نفس المواضيع معاني وقيم مختلفة كل الاختلاف، فكان من الطبيعي أن يهبط الاتفاق في عالم كهذا إلى الحد الأدنى”[18].
هذا النص في الواقع نراه في غاية الأهمية، فهو يكشف عن جوهر القضية. لقد اتجهت العلوم الإنسانية منذ نشأتها إلى اتخاذ العلم سلطة مرجعية تشكل الخلفية المعرفية التي تصدر عنها، وهي مهمة يعجز عنها العلم لطابعه النسبي. إن العلم وسيلة للبحث في عالم الممكن بقدر الجهد البشرى، ولكنه لا يملك أن يتحول إلى عقيدة تفسر كل شيء في الوجود.
إن العلم لا يمكنه أن يحقق نجاحه الفعلي في عالم الإنسانيات إلا إذا كان يتوفر على رصيد هائل من المعلومات التي يجب التسليم بصحتها، لتكون منطلقًا في البحث، وتشكل القاعدة الأساسية والإطار المرجعي الذي يجب أن تتمحور حوله الأبحاث.
والمشكلة الكبرى التي تعاني منها العلوم الإنسانية الغربية ليست في كونها لا تملك مثل هذا الإطار المرجعي الموحد فحسب، – رغم ما تدعيه من إمكانية ذلك – بل إنها تنكر أن يكون هناك منهج علمي آخر يملك هذه الخاصية.
لقد كادت الأهداف التي رسمتها مناهج العلوم الوضعية وناضلت من أجلها بكل قوة أن تزحزح مجموعة من المسلمات الفكرية التي كانت تشكل قاعدة للتفكير في الساحة المعرفية، ولقد نجحت بالفعل في إحداث تصدع عميق في الفكر الديني الذي كان يمثل تلك القاعدة، وجعلته يتولى عن تقديم تلك الرؤية الشاملة التي كانت تخضع له كل العقول والفئات داخل المجتمع الغربي. ولكن العلوم الإنسانية التي قدمت نفسها بديلًا عن النظام الفكري السابق عجزت عن الوفاء بإيجاد هذا المطلوب البديل. لقد راهنت العلوم الإنسانية على العلم بمعناه الإنساني المحدود زمانًا ومكانًا، ولكن طبيعة هذا العلم النسبية جعلها تخسر الرهان.
لقد جاءت النتائج معاكسة لتوقعات الوضعيين، نظرًا لشدة التناقضات التي شهدها النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والانقسام الهائل في النظريات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وما صاحب ذلك من تطبيقات علمية إضافة إلى الصراع الأيديولوجي الحاد الذي ميز القرن العشرين، وما تمخض عنه من انقسام العالم إلى معسكرين متصارعين، فضلًا عن استعمار شعوب العالم المغلوبة، وهو أمر لعبت فيه هذه العلوم الدور الأكبر.
إن النقد الغربي المتخصص في هذه العلوم يؤكد بما فيه الكفاية حاجة العلوم الإنسانية إلى مثل هذا الإطار المعرفي الموحد، لتحقق لنفسها قدرًا من المعقولية والانسجام، وهو أمر يتطلب حتمًا عودتها إلى أحضان الدين الحق المؤسس على الوحي، وليس الدين الذي غارت عليه وقامت على أنقاضه.
إننا نلمس في النقد الغربي نفسه حاجته الملحة إلى هذه القاعدة الصلبة، لتكون المنطلق الفكري. فهذا ميشيل ديون يقول: “إن علم الاجتماع تجتازه التيارات الفكرية الأكثر اختلافًا تتحول فجأة إلى حزبية، ويمكن أن نقول: يوجد تقريبًا من أنواع علم الاجتماع بقدر ما يوجد من علماء الاجتماع”[19]. وهو ما يؤكده نيقولا تيماشيف أحد النقاد المتخصصين يقول: “انقسم علم الاجتماع خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بصورة تدعو إلى اليأس إلى مدارس رئيسية وفرعية، بحيث أصبح من العسير أن نجد أي قدر من الالتقاء بين علوم الاجتماع المتعددة”[20]، وهو نفسه ما عبر عنه بوتو مورو إذ يقول: ” ألا يوجد في هذا الوقت (في السبعينات) بناء متكامل لنظرية علم الاجتماع حظى بالصدق أو القبول العام..“[21]. وما يقال عن العلوم الاجتماعية يقال عن بقية العلوم الإنسانية التي تشاركها في نفس الحقل المعرفي ونفس المنهج العلمي وإن كان بدرجات متفاوتة.
6- التوظيف الأيديولوجي لنتائج الأبحاث:
لقد وُظفت العلوم الإنسانية توظيفًا أيديولوجيًا يخدم الأهداف القومية للغرب على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، بل والثقافي، وظهر هذا التوظيف سافرًا مكشوفًا في كثير من النتائج التي انتهت إليها الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية.
لقد وُظفت هذه الدراسات بشكل مباشر أو غير مباشر في تبرير مشروعية استغلال الاستعمار الأوربي في مرحلته العسكرية السابقة، كما في مرحلته الثقافية والاقتصادية الحالية. وجاءت نتائج كثيرة من هذه الدراسات لتعكس نظرة الرجل الغربي المثقل برواسب التاريخ إلى غيره من أجناس العالم، وظهرت النزعة العنصرية التي تعمل على تمجيد ثقافته كنسيج حضاري نموذجي ينبغي أن يهيمن على بقية الحضارات والثقافات.
نجد أن هذه النزعة العنصرية تطبع أبحاث العاملين في العلوم الإنسانية في بداية تأسيسها كما في مراحل لاحقة من تطورها. فنجد جوبنو – وهو واحد من المؤسسين الأوائل – قد كرَس أبحاثه لإثبات فرضية تفوق الأجناس الشمالية والآرية صانعة الحضارة وضرورة الحفاظ على نقائها وعدم اختلاطها بغيرها من الأجناس المتدنية، باعتبار ذلك يهدد العقلية الخلاقة والفردانية للجنس الأبيض الذي تدين له الحضارة المعاصرة بوجودها[22]. وهي نفس الفكرة التي نجدها عند لابوج الذي أعطى للجنس الآرى كل الصلاحيات ليتصرف في العالم كيف يشاء، والأرض كلها أرضه، والعالم كله وطنه[23]. ولم تختف هذه النزعة العنصرية حتى عند المعاصرين، فماكس فيبر – من كبار رواد علم الاجتماع الألمان – يؤمن بتفرد الحضارة الغربية والنمط الثقافي الغربي، والعلم في نظره لم يتم إلا في الغرب، وهو وحده الذي صاغ تاريخًا علميًا، وهو وحده الذي يتمتع بنظم سياسية وقانونية واقتصادية مبنية على أسس عقلية متينة. ولقد انتهى به الأمر إلى التساؤل عن إمكانية عزو هذه الأصالة إلى صفات وراثية نظرًا لما نصادفه في الغرب وحده دون انقطاع من تعقيل أنموذجي إلى حد بعيد[24].
ولم يخف مارسل موس هذه النزعة الاستعلائية فأن الشعب الأوروبي في نظره هو وحده الذي يستحق أن يسمى أمة من بين شعوب العالم، فالأكرانيون لم يكونوا أبدًا أمة، وكذلك البولونيون لم يكن لهم وجود مستقل، وكل شعوب آسيا… وتبقى أوربا. وهنا تأسس القانون العام القومي والعالمي لهذه الأشكال من المجتمعات حيث ظهر عدد من الحكومات التي تستحق لقب الأمة[25].
ولم يكن ريمون آرون الناقد الاجتماعي الفرنسي مغايرًا في موقفه، كما لم يكن أقل مثالية من سلفه أوجست كونت حينما قرر أن المجتمع الصناعي وهو مجتمع أوربا الغربية يتمتع بخاصية نموذجية وسيصبح مجتمع الإنسانية كلها… فالتنظيم العلمي للعمل هو خاصية مميزة للمجتمع الأوربي، وهو بالتأكيد أكثر فعالية من كل التنظيمات الأخرى، حتى أنه ابتداء من الوقت الذي اكتشف فيه السر قِبل شعب؛ كان على كل أطراف الإنسانية أن تأخذ به، لأنه شرط الازدهار والتقدم[26].
هذه بعض المنتخبات التي تؤكد مدى تغلغل الخلفيات الأيديولوجية التي تصدر عنها العلوم الإنسانية مما يفقدها طابعها العلمي. ولعله من المسلم به حتى عند النقاد الغربيين أنفسهم أن الأهداف الأيديولوجية من أخطر العقبات التي تعترض طريق هذه العلوم في تحقيق علميتها.
إن العلم حينما يتحول من أداة معرفية إلى أداة أيديولوجية يفقد أخص خصائصه، ويبتعد عن أهدافه، ويتحول إلى دعوة عقائدية، وفى أحيان كثيرة إلى جدل عقيم.
إن هناك اختلافًا جوهريًا بين العلم والأيديولوجيا، فالعلم – كما يقول أحد النقاد – يحصر مهمته في الكشف عن الحقيقة، بينما يبحث الأيديولوجي عن الحقائق التي تثبت عقيدة اختارها ووافق عليها سلفًا. فالنزعة الأيديولوجية سواء كانت محافظة أو ثورية تسعى إلى تحقيق مصالح أو المحافظة على مصالح معينة، على خلاف العلم الذي لا نجد لديه أي التزام سياسي؛ لأنه حصر مهمته في الكشف عن الحقيقة[27].
لقد وُظفت العلوم الإنسانية توظيفًا أيديولوجيًا يخدم أهداف الدول الاستعمارية سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
7- تعميم مبدأ النسبية في مجال الثوابت:
لا نجانب الصواب إذا قلنا: إن شعار الحياد الأخلاقي في العلم قد وُضع أساسًا لتبرير الواقع الاجتماعي بكل انحرافاته، وفرض القيم السائدة التي تظهر في أعراف الناس، والبرهنة على مشروعية العادات الاجتماعية كما هي في المجتمع بغض النظر عما تحمله من معاني خلقية مستحسنة أو مستهجنة، فالمجتمع أو الوسط الاجتماعي هو الذي يحدد سلوكنا وأخلاقياتنا، والعرف هو منبع مُثلنا.
8- الفصل بين العلم والقيم وتحرير البحث العلمي من التوجيه الأخلاقي:
لقد فصل المؤسسون لمناهج العلوم الإنسانية بين البحث العلمي وبين مجال القيم، أو بين ما يسمونه بأحكام القيمة وأحكام الواقع، وذلك لاعتبارات منهجية، فقد كانت القيم تمثل أخطر عائق في سبيل تقدم البحث العلمي، حيث اعتقدوا أن البحث العلمي لابد أن يكون بحثًا محايدًا ومجردًا من كل القيم والمعايير الأخلاقية بحيث يقتصر فقط على الوصف، وصف ما هو كائن دون التعرض لما ينبغي أن يكون.
إن الالتزام الأخلاقي في نظرهم يعبر عن ميولات إنسانية ذاتية، وعلى الباحث أن يتخلى – إذا أراد أن يكون نزيهًا وعلميًا وموضوعيًا – عن كل القيم والأفكار التي يعتنقها. وكل التزام قيمي يعتبر خروجًا عن المنهج العلمي.
إن العلم – كما يقول بعض الرواد المؤسسين للعلوم الإنسانية – ينبغي له ألا يبحث عن الغايات التي نسعى وراء تحقيقها، وهو لا يميز بين الخير والشر؛ لأنه لا وجود للخير والشر في نظر العلم، وهو لا يتدخل في تحديد الغايات التي ينبغي تحقيقها ويجب أن تقلع عن تلك العادات التي ما زالت شديدة الانتشار، ونعني بها تلك العادات التي تدعونا إلى الحكم على النظم والتقاليد الاجتماعية والحكم على العادات الخلقية كما لو كانت حسنة أو قبيحة في ذاتها، وفى جميع النماذج الاجتماعية دون تفرقه ما[28].
إن الدوافع إلى اتخاذ هذا الموقف المنهجي تجد لها جذورًا عميقة في التاريخ الفكري الغربي نفسه. لقد كان الفكر الغربي في المرحلة السابقة يترفع عن الأسلوب العلمي الذي يقوم على وصف الوقائع لفرض أفكار ومُثل معينة كما يتصورها الفلاسفة ورجال الدين. وفى ظل هذا النظام اللاهوتي والميتافيزيقي يعجز العلم عن التطور والنمو ويبقى محكومًا بتصورات قبلية ومفاهيم جاهزة. فقد كان المنهج السائد أحاديًا يهتم فقط بما ينبغي أن يكون عليه الواقع الاجتماعي كما يتصوره الفلاسفة في وقت يغيب فيه المنهج الوصفي التحليلي للوضع الاجتماعي السائد.
وكل عادة أقرها المجتمع فهي مشروعة، ومهمة العلم هو تتبع التقاليد والأعراف الشعبية بالدراسة والتفسير، وليس لهم أن يرفضوها استنادًا إلى مقاييس يؤمنون بها ويعتقدون فيها، فالمقياس الحاصل هو الوسط الاجتماعي وما يفرزه من أنماط السلوك والقيم.
في هذا الإطار يقول بعض الرواد المؤسسين لمناهج العلوم الإنسانية: إن المجتمع هو وحده الذي يشعر بذاته شعورًا يكفيه ليشَّرِع هذا النظام الذي يرمى به إلى التعبير عن نفسه على النحو الذي يدرك به ذاته. فالنتيجة التي تتحتم منطقيًا هي أنه إذا كان المجتمع هو غاية الأخلاق فإنه – أيضًا – مبدعها[29]، فإذا كان المجتمع هو منبع القيم ومبدعها فإن التعرف على هذه القيم ينبغي أن يتم بملاحظة ما تفرزه سلوكيات الناس.
فحسَب الوضعية لا يمكن أن تأتي المعرفة بالحقيقة الأخلاقية إلا عن طريق القواعد الخلقية التي تسود في بيئتنا والتي تقع تحت حواسنا فيتردد صداها في تفكيرنا على هيئة بعض المعاني العامة. فإذا كنا نريد معرفة المعتقدات والأخلاق الشعبية في مجتمع ما فما علينا إلا أن نأخذ في دراسة الأمثال والحكم الشعبية التي تعبر عن هذه الأخلاق والمعتقدات[30].
وإذا تتبعنا هذه الطريقة “العلمية” حسب الوضعية، فسندرك حقيقة أنه ليس هناك مثال تتعلق به الإنسانية قاطبة، والعكس هو الصحيح أن كل مجتمع يضع لنفسه مثالًا حول الإنسان، وما ينبغي أن يكون عليه سواء من وجهة النظر العقلية، أو المادية، أو الأخلاقية، وهو مثال إلى حد ما ثابت لكل المواطنين، وإن كان يختلف عند حد معين حسب الأنماط[31].
لم يعد ممكنًا في ظل هذا التوجه الجديد للعلوم الإنسانية أن نتحدث عن وجود نموذج اجتماعي مثالي نعتقد فيه ونتطلع إليه ونعمل على صياغة سلوكنا وفق أهدافه ومقرراته، فالنظرة النسبية تقتضي أن تثبت لكل نمط اجتماعي وثقافي مُثله وقيمه الخاصة التي تُحدد زمانًا ومكانًا، مادام مقياس الخطأ والصواب يخضع للمتواضعات الاجتماعية.
ولقد عملت مناهج العلوم الإنسانية على تكريس هذه النظرة الوضعية إلى أبعد الحدود حينما جعلت من المتواضعات الشائعة بين الناس مقياسًا للحق والعدل والخطأ والصواب والخير والشر، واعتبرت شيوع نمط أخلاقي معين دليلًا على صحته لاستجابة الناس له، وبالمقابل اعتبرت صور بعض القيم دليلًا على مرضيتها.
لقد كان لهذا التوجه نتائجه الخطيرة على المستوى العملي، فقد شكل قناعات الناس بضرورة الانصياع للقانون الأخلاقي السائد مهما كان موغلًا في الانحراف، بل إن البحث العلمي على المستوى الميداني تأثر بهذا التوجه تأثرًا بليغًا. وقد اعتُبرت البحوث التي قامت حول ظاهرة الزنا أن هذه الظاهرة سليمة ما دامت تجد قبولًا عند الناس، وكانت نتيجة البحث الجنسي المتحرر من القيم الذي أجراه الباحث الاجتماعي كينزي عن تحول الانتباه عن الزنا والتركيز على منع الحمل[32]، فالزنا في حد ذاته لا يشكل ظاهرة مرضية ولا يعبر عن سلوك مضاد للأخلاق، فالرزيلة في عُرف علماء الاجتماع تطلق على السلوك المنافي لعرف الجماعة في زمن معين ومكان معين، ولذلك يقول عالم الاجتماع سمنر: “إن العفة الجنسية هي التوافق مع تيار التحريم السائد في العلاقات الجنسية”، وهو نفسه يقول: “إن الأعراف تصنع المجتمع”[33].
9- خلخلة البنية الفكرية وتعميق نزعة الشك:
كانت المسيحية تقدم تصورًا موحدًا باعتبارها عقيدة وحيدة تشكل عقلية الناس وتصوراتهم حول الكون والإنسان والحياة، وكانت وحدة الحقيقة سمة من سمات العصر الوسيط الغربي المسيحي.
ولقد أكد هذه الحقيقة مؤرخو الفكر الغربي، كما عبر عنها كرين برنتن وهو يقول: “إن اللفظة التي ينتهي إليها المرء إن عاجلا أو آجلا عند البحث في العصور الوسطى هي الوحدة، في تلك السنوات كانت ثقافتنا الغربية في الواقع واحدة عندما كان هناك مجتمع مسيحي موحد يرتبط فيه الروحاني بالدنيوي بصورة لا تتجزأ، حيث لا توجد مذاهب دينية معارضة أو قوميات متنافسة”[34].
وعندما تولى النظام الديني أمام الصدمات العنيفة حلت محله مذاهب فلسفية ودينية واجتماعية شتى زعزعت النظام الفكري والاجتماعي السائد، وشككت في كل القيم السائدة، ولم يعُد هناك نظام يقيني ثابت يمكن للإنسان أن يطمئن إليه ويرجع إليه في حال الاختلاف.
لقد عملت الفلسفة الوضعية جاهدة لتقديم نظام يقيني موحد يقضي على الانفصام الموجود في الفكر الغربي بتعميم المنهج الوضعي في طرق التفكير وأساليب العيش والتشكيلات الاجتماعية والسياسية، مع استئصال وإقصاء كل مظاهر التفكير الديني عن تلك الميادين.
ولكن البديل الوضعي – مع تغلغله العميق في كل مظاهر الحياة الغربية – فشل في استيعاب كل الفئات والتيارات الفكرية والفلسفية والدينية، فقد ظل له معارضوه، وبالتالي ظل الانفصام قائمًا في الشخصية الغربية المسيحية. إن الرجل الغربي المسيحي لم يجد أمامه سوى أمرين: إما أن يرفض المسيحية ويحاول تكوين نظرة موحدة للكون دون الارتكاز على الأساس الديني، وإما أن يصبح شخصًا ممزقًا بين ما يؤمن به عقيدة وما يعيشه فكرًا واقعًا. وقد كتب جوليان هكسلي في تحليل هذا التمزق يقول: “إن مثلنا العليا تكون عرضة للهجوم؛ لأنها غير موحدة بما يكفي حتى تكون لديها أية قوة واقعية حقيقية وقوية، وطالما استمر انشقاقها إلى قسمين بين الطبيعي والخارق، بين الله والبشر، وبين المادة والروح، سوف تظل مدينتنا الغربية تعاني من انفصام بكل ما تعنيه الكلمة، وسوف تفشل مُثلنا العليا في تزويد القوة الفعالة للقيام بعمل هادف حقيقي”[35].
وهذا التمزق الذي عبر عنه هكسلى بين الطبيعي والخارق هو حصيلة التفكير الوضعي الذي استطاع فعلًا أن يهدم التصورات الدينية دون أن يوّطد بالمقابل البديل الوضعي الذي كان يحلم به. والرجل الغربي اليوم – كما عبر عن ذلك بعض مفكري الغرب – لا يأمل في التحرر من هذا الانفصام والتمزق. وقد عبر كرين برنتن عن خيبة الأمل هذه يقول: “إن الاحتمال بأن الأجيال المقبلة لن تشهد تحولًا في النظرة الكونية الغربية، وإننا سوف نستمر إجمالًا على قبول الإجابات عن المشكلات الكبرى التي نقابلها اليوم بكل ما فيها من تنوع يحير الألباب، إن هذا الاحتمال قائم دائمًا، واستمرار هذه الحالات العقلية القائمة ممكن بطبيعة الحال”[36].
10- تبرير مشروعية النزعة الإلحادية:
هناك من الغربيين أنفسهم من يقول: “إن الإلحاد والوثنية خاصيتان شكلتا المضمون الأساسي للفكر الغربي. ولم تكن المسيحية سوى طارئ عابر سرعان ما تجاوزه ليعود إلى أصله القديم، فإذا كانت مناهج العلوم المعاصرة تسعى إلى إزاحة الأسلوب الديني عن ساحتها وترسيخ المفاهيم المادية للكون والحياة، فهي إنما تعمل ذلك لتزيح عنها أسلوبًا غريبًا عن مزاجها وروحها، وتاريخها الثقافي، والفكري، والاجتماعي.
إن أصول الفكر الغربي الحديث والمعاصر لا تجد جذورها في الفكر الديني المسيحي بقدر ما هي متغلغلة في التاريخ تمتد إلى التراث الروماني واليوناني. وقد كانت هاتان الحضارتان متشبعتين بالروح المادية والإيمان بالمحسوس والاضطراب في العقيدة، وحتى الحياة الروحية صُبغت بالصبغة المادية وتحولت إلى حركة عقلية وذهنية محضة كما يقول الكاتب الغربي ليكي – صاحب كتاب (أخلاق أوربا): “إن المصريين كانوا يعظمون آلهتهم بالرقص والغناء، ولا نعلم دينًا من الأديان يزاحم دين اليونان وتقاليده في كثرة الأفراح والأعياد والألعاب”[37].
إن هذه الخاصية نفسها هي التي تميز الحياة الروحية في الغرب المعاصر، فقدماء اليونان لم تتسع عقولهم لتصور إله خارج الكون المادي ولم يستطيعوا أن يتصوروا صفات الله وقدرته إلا في شكل آلهة نحتوا لها تماثيل وبنوا لها الهياكل والمعابد، وهو ما انتمت اليه الفلسفات الأوربية الحديثة والمعاصرة.
لقد تميزت الحضارة الإغريقية بشدة إيمانها بالمحسوس، وقلة اكتراثها بالدين وشدة الاعتداد بالحياة ومنافعها، وشدة الاعتزاز بالقومية والتعصب لها[38]، وهي نفس المبادئ التي انطلقت منها وانتهت إليها النهضة الأوربية: إيمان عميق بالعالم الطبيعي على أنه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان، ويجد فيه مطالبه، ويلبى حاجاته المادية والروحية، إيمان عميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم، والعامل الفعال في التطور والإبداع، والإيمان بالعقل وحده على أنه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السيطرة على العالم وتسخير إمكاناته بالاعتماد على العلم وحده[39].
إن هذه النظرة المادية إلى الكون والإنسان هي سمة الفكر الغربي، وهي السمة التي ستحكم سير العلوم الإنسانية وتعمل على ترسيخها بطريقة علمية للوصول إلى مشروعية التصورات المادية للحياة الإنسانية.
لقد طرحت العلوم الإنسانية نفسها بديلًا للدين في تنظيم الشئون الحياتية والروحية للإنسان، فكان عليها أن تصبغها بقيمها ومفاهيمها الجديدة، لتعيد تشكيل تصوراتها ومعتقداتها وأخلاقياتها ومُثلها وفق معطيات العلم الذي لا يؤمن بغير المحسوس، ولا يعترف بوجود قوة خارقة تتجاوز قوة الإنسان كفرد إلا في إطار الإنسانية ككل، ككائن جماعي يسمو عن الفرد.
تلك كانت محور الفكرة التي حام حولها الرواد المؤسسون، وعبَّروا عنها بأساليب وصياغات مختلفة، ولكنها تلتقي حول نفس الأهداف: الصياغة المادية للمثل والقيم والأخلاقيات التي تؤطر سلوك الناس. وننقل هنا نصًا لأحد هؤلاء الرواد المؤسسين، وهو نموذج للتبريرات العقلية لمجموع التصورات المادية يقول فيه: “إذا كان أثر السلطة الأخلاقية في اعتقاد الناس راجعة إلى الإرادة الإلهية التي تفوقهم، فان استبعاد الإرادة الإلهية سيحل محلها إرادة الكائن الجمعي الذي يتميز بنفس القوة، وإذا كان الدين لا يصور الوجود الإلهي على أنه مشرع النظام الأخلاقي فحسب، بل وأيضًا المثل الأعلى للإنسان، وإذا كانت تلك هي النظرة في تحديد العلاقة بين الله والإنسان؛ فإن علم الاجتماع يطرح هذه العلاقة نفسها بين الفرد والمجتمع، حيث تتعلق الإرادة البشرية هنا بغاية فوق الفردية، وترتبط بمصدر أعلى تنبع عنه. وإذا كان الدين يلهمنا بمشاعر نحو أولئك الذين يسيرون معنا نحو تحقيق فكرة الله ويظل بيننا الله متمثلًا فيهم، فإن علم الاجتماع يلهمنا بمشاعر نحو أولئك الذين يسيرون معنا نحو تحقيق فكره الكائن الجمعي ويظل بيننا متمثلًا فيهم، وكما يرى المؤمن في الجزء الرفيع من ضميره قبسًا وشعاعًا من النور الإلهي، كذلك نرى نحن قبسًا وشعاعًا من المجتمع. إن التطابق بين النظرتين كامل إلى حد يجعله هو وحده، أبلغ دليل على ذلك الغرض الذي طالما أشرنا إليه هنا، أعنى به: أن الألوهية هي التعبير الرمزي عن روح الجماعة”[40].
لقد وجدت هذه النزعة الإلحادية المكشوفة معارضة داخل الأوساط الغربية نفسها، لكنها لم تكن قادرة على الوقوف ضد التيار الجامع، فقد غابت فكرة الإله عن ساحة العلوم الإنسانية ولم يعد مستساغًا أن يتجه البحث العلمي إلى التعرف على القدرة الإلهية المبدعة الفاعلة في الطبيعة والمجتمع، فالتحليل العلمي في شكله الوضعي لا يؤمن بوجود قوة فاعلة داخل حدود الواقع المحسوس، وهو يعتبر ذلك خروجًا عن اهتمامات العلم وميدان بحثه ودائرة اختصاصه.
القسم الثاني
مقترحات حول صياغة منهج إسلامي بديل
لقد شهدت الساحة العلمية في العالم الإسلامي محاولات نقدية متعددة تناولت مناهج العلوم الإنسانية، وقد استنفذت قواها دون أن تقدم بديلًا منهجيًا يسير بهذه المناهج نحو تجاوز أزمتها.
لقد تبلورت مناهج العلوم في صيغتها المعاصرة في أحضان الثقافة الغربية، ولا زالت جهود الغربيين مستمرة في تطوير مناهج هذه العلوم، وقامت هناك محاولات نقدية باستمرار غيرت كثير من المفاهيم التقليدية، ولكنها فشلت في إحداث تغيير جذري في مناهج هذه العلوم، لسبب وحيد وهو أن أزمة هذه المناهج جزء لا يتجزأ من أزمة الفكر الغربي والثقافة الغربية والقيم الغربية، وهي نتاج طبيعي لمنطلقاته تلك التي تشكلت في ظروف تاريخية وثقافية حرجة.
وإذا كانت المحاولات النقدية لمناهج العلوم قد فشلت على المستوى الغربي؛ لأنها تنبع من داخل المنظومة الفكرية الغربية نفسها، فقد كان من المنتظر أن تقوم محاولات نقدية خارج هذه المنظومة الفكرية تكون قادرة على إثرائها لما تقدمه من تجارب ثقافية ومفاهيم معرفية مغايرة للتجربة الغربية حتى يحدث التلاقح الفكري والتواصل المعرفي وتثمر الجهود في تصحيح مسيرة هذه المناهج.
ولقد قامت محاولات نقدية من هذا النوع في العالم العربي بعد نصف قرن مضى على اقتحام العلوم الإنسانية لجامعات العالم الإسلامي والعربي. فقد قامت بعض المحاولات النقدية في السبعينات من هذا القرن، ولكن تدويل المناهج الغربية وهيمنتها على مؤسساتنا الجامعية ومراكزنا العلمية جعل من تلك المحاولات النقدية مجرد صدى للتيار النقدي الذي نشأ في الغرب، فكان نقدًا من داخل المنظومة الفكرية نفسها يحرر مفاهيمها ويترجم مقولاتها ويقتطف بعض أزهارها دون أن تكون له القدرة على تمثلها وهضمها قصد تجاوزها. ولقد كان من الممكن أن تلعب الحملات النقدية في الجامعات والمراكز الإسلامية دورًا تاريخيًا حاسمًا في مناهج هذه العلوم لو أنها حققت لنفسها قدرًا من الاستقلالية الفكرية، وتحررت من ثقل التبعية المذهبية والمدرسية، واستثمرت ما تملكه من رصيد معرفي وفكري وعقدي غني زاخر يجاوز منطقة الظنون والنظريات إلى عالم اليقين والحقيقة، لانبثاقه عن أصول معرفية تتصل بالوحي الإلهي الصادق الثابت، وهو الأساس الذي تفتقر إليه المنظومة الغربية مما جعل أزمتها أزمة هيكلية، وجعل تجاوزها لهذه الأزمة مشروطًا بتلقيح التجربة الغربية – وهي تجربة رائدة في هذا الميدان – بعناصر فكرية ومعرفية مغايرة لما استقرت عليه من المناهج الغربية من مفاهيم مادية جاهزة.
تلك هي جوهر الأزمة كما أتصورها، وهذه بعض الخطوات المقترحة لإعادة صياغة هذه المناهج صياغة علمية خالصة بعيدة عن كل الضغوط التي تفرضها الخلفيات الفكرية الغربية.
أولًا- إعادة الاعتبار للوحى كمصدر معرفي في مجال علوم الإنسان:
إن الوظيفة التي يقوم بها الوحي في المجالات المعرفية المختلفة ليست على درجة متساوية، وحضور النص القرآني أو الحديثي ليست له نفس الأهمية المعرفية من حيث الوظيفة التي يؤديها. إن النص قد يستقل بإعطاء إجابات نهائية في بعض القضايا، ولكنه في قضايا أخرى قد يكون حضوره لمجرد التوجيه والترشيد، فحاجتنا إلى النص قد تقوى أو تضعف بحسب طبيعة المجال المعرفي الذي نعمل فيه.
وعلاقة الوحي بالعلوم الإنسانية علاقة متعددة الجوانب من الصعب أن نلم بمختلف أطرافها في هذا الحيز الضيق، وأهمية العلاقة بين الوحي والعلوم الإنسانية تكمن في أن كلاهما يعالج موضوعًا مشتركًا هو عالم الإنسان بكل أبعاده المادية والنفسية والعقلية والتنظيمية والأخلاقية، وهي مواضيع لابد وأن يقول فيها الوحي كلمته الفاصلة، ولا يتصور أن يستقل بدراستها الإنسان بمعزل عن رقابة الوحي وتوجيهه.
ويمكن تحديد طبيعة هذه العلاقة في اتجاهين: الأول: يخص بعض التوجيهات والقيود المنهجية التي يفرضها الوحي لتقترب هذه العلوم من الصواب. والثاني: يخص بعض المعلومات الجاهزة التي يكشف عنها الوحي، والتي من شأنها أن تعين هذه البحوث.
1- المستوى الأول: يمكن أن نستخلص من الوحي مجموعة من القواعد المنهجية تمكِّن هذه العلوم من تحقيق موضوعيتها؛ نعرضها مختصرة:
أ- شمولية الوحي واستيعابه لمختلف النشاطات الإنسانية المادية منها والروحية، هذا من شأنه أن يفتح آفاقًا واسعة أمام العلوم الإنسانية، لتخرجها من إطارها الضيق الذي وجدت فيه، والذي انتهت معه إلى اختزال الإنسان في جوانبه المادية مع إغفال جوانبه الروحية والنفسية والعناصر الجمالية.
ب- إن هذه الشمولية يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة بإمكانها أن تغير الصورة التقليدية لمفهوم “العلمية” الذي استقرت عليه هذه العلوم، فتُحرِر “العلمية” من سلطة النزعة التجريبية كما تمارس في العلوم الطبيعية والفيزيائية البحتة، وتعيد الاعتبار للأنساق المعرفية التي تعتمد الدين مصدرًا معرفيًا، وهنا فقط تتحرر العلمية من رواسب التاريخ الثقافي الغربي الذي يقيم تعارضًا بين الأسلوب العلمي والأسلوب الديني في البحث العلمي.
ج- إن الوحي من شأنه أن يحرر العلوم الإنسانية من المنحى المادي الذي يكرس النزعة الإلحادية، وهي إشكالية غربية محضة ارتبطت بتاريخ الغرب الثقافي.
وفى أفق التوحيد الذي يفرضه الوحي تتحول العلوم الإنسانية من مهمة تبرير مشروعية التصورات المادية حول الإنسان والمجتمع إلى العمل على اكتشاف القدرة الإلهية المبدعة في الإنسان والمجتمع.
د- إن تعاليم الوحي التي تدعو إلى الصدق، والأمانة، واحترام الحقوق، وحسن الجوار يمكن أن تلعب دورًا أساسيًا في إنقاذ العلوم الإنسانية من التوجيهات الأيديولوجية التي كرست العلوم الإنسانية لأهداف قومية وحكومية واستعمارية. والعلوم الإنسانية لن تتحرر من ثقل الأيديولوجيا الذي يفرضه الوضع الطبقي للباحث وانتماؤه الاجتماعي والقومي والسياسي إلا في ظل عقيدة التوحيد التي ترتفع عن مجموع هذه الانتماءات.
ه- العلوم الإنسانية تفصل بين أحكام الواقع وأحكام القيمة، بين مجال البحث العلمي ومجال القيم، وذلك لأسباب منهجية، باعتبار أن القيم التي يدين بها الباحث تقف حائلًا دون تحقيق الموضوعية العلمية المرجوة. والمنهج الإسلامي الذي يرتبط بالوحي يربط الباحث بقيم الحق والعدل، ويحرره من ثقل العادات والتقاليد التي يمليها وسطه الثقافي والاجتماعي، ويجعله يحتكم إلى القيم العادلة التي تأخذ شرعيتها من الوحي، وبذلك تتحقق المعادلة الصعبة في الجمع بين البحث العلمي الموضوعي والاحتكام إلى القيم العادلة التي يفرضها الوحي، وهي المعادلة التي فشلت العلوم الإنسانية في تحقيقها في ظل القيم الذاتية المنحازة.
و- العلوم الإنسانية تُحكِّم المتواضعات الإنسانية بما فيها من أعراف وتقاليد، وهي بذلك تعمل على تبرير الواقع الاجتماعي الفاسد، وتعطى للسلوكيات المنحرفة شرعية الوجود، لافتقارها إلى المقاييس التي تضبط بها قيم الحق والعدل والجمال، والتي تتيح لها التمييز بين الثوابت والمتغيرات، وهي ثغرة لن نتمكن من سدها إلا في ضوء حقائق الوحي الذي يفصل بين المجالين، فيحترم الثوابت ويفرض ضرورة الخضوع لها، ويكيف المتغيرات وفق مقتضيات الحق.
هذه القواعد المنهجية التي نستخلصها من الوحي سنعود إلى شرحها بصورة مفصلة ضمن حديثنا عن البدائل المطروحة لتجاوز أزمة العلوم الإنسانية.
2- المستوى الثاني: أما عن المستوى الثاني في علاقة الوحي بالعلوم الإنسانية، فإن اعتبار الوحي ضمن المصادر المعرفية للعلوم الإنسانية يمكن أن يصحح كثيرًا من نتائج هذه العلوم، ويقدم معلومات جزئية إضافية تعين على كشف حقائق قد لا يتوصل إليها بمعزل عن الوحي.
إن الوحي يستوعب التاريخ الإنساني في خطوطه العريضة ويرسم حركته على الأرض ليس فقط في ماضيه، بل في مستقبله أيضًا، وتلك خاصية من خصائصه لا تشاركه فيها المعارف الإنسانية باعتباره “أحكامًا إلهية نهائية تظهر في صيغة الخبر عما كان وسوف يكون”، ولقد أخبر الوحي عن قطعية الوحي كمصدر معرفي في أكثر من مناسبة، كما تدل على ذلك هذه الآيات، قال تعالى: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ) [الأعراف – 61]. (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى) [طه 50 – 51]. (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ) [هود – 100].. إلى غير ذلك من الآيات.
وخلاصة ما تفيده هذه الآيات أن الوحي يمكن اعتباره وثيقة تاريخية فريدة في تغطية حياة الإنسان الممتدة في أعماق التاريخ، وهذا أمر له أهميته في إضاءة جوانب باتت غامضة في تاريخ الإنسان الاجتماعي، والسياسي، والمالي، والقانوني، والأخلاقي، والأسري، والديني، وهذه أمثلة توضح ذلك:
أ- يقدم القرآن طرحًا مفصلًا عن الجوانب المتعلقة بالحياة الدينية، وأنواع العبادات، والمعتقدات، والصراع الذي اشتد بين أنصار العقيدة القائمة على التوحيد وأصحاب العقائد الوثنية، وأنواع الممارسات التعبدية، وأنواع العبادات القائمة على الوحي كالصلاة والصيام والحج، وعبادة الأصنام والكواكب.
ب- يكشف القرآن عن النظم القانونية التي كانت سائدة عند الأمم السالفة كالقصاص في التشريع، وبعض المعاملات المصرفية في البيوع، وبعض الأخلاقيات التي تميزت بها بعض الشعوب وأصبحت ظاهرة تستحق التسجيل كالعادات السيئة التي انتشرت بين قوم لوط، وبعض الجوانب النفسية التي حددت شخصية بعض الشعوب عبر التاريخ وتوارثها جيل بعد جيل، كما هو الحال مع بني إسرائيل الذين رسخت فيهم الوثنية، وسفك الدماء، وقتل الأطفال، وإباحة الحرمات، وشدة الكراهية، والحسد.
ج- يكشف القرآن عن بعض الظواهر الاجتماعية التي سادت تلك المجتمعات كظاهرة التقليد، والترف، والظلم، والاستبداد في الحكم، والإجرام، ووأد البنات، واحتقار المرأة، وظهور الطبقية: طبقة رجال الدين، طبقة الحكام المستكبرين، طبقة المستضعفين.
د- يكشف الوحي عن الصور الأولية لنشأة النظم الاجتماعية التي سادت عند الإنسان الأول، وقد اعتقدت النظريات الأنثروبولوجية أنها نظم بدائية في أصلها نشأت بصورة تلقائية، واعتبرت المجتمع بعاداته وتقاليده هو المسؤول الأول عن إيجادها.
وهذه الصور المشوهة يعاكسها الوحي كلية، إذ يؤكد أن الأصل في النظم التي عرفها الإنسان الأول ليس الصورة التي تعكسها مظاهرها المرضية؛ لأن هذه المظاهر تعتبر أمرًا طارئًا في حياة الشعوب والمجتمعات، لم تتجدر فيها إلا بعد ما فقدت الفطرة قوتها الدافعة لتبتدع أشكالًا من النظم المنحطة، كما يُنكر الوحي تجاهل الأصل الإلهي لهذه النظم.
و- بخصوص تطور المجتمعات البشرية، حاول علماء الاجتماع اكتشاف القوانين الاجتماعية التي تخضع لها المجتمعات البشرية في مراحل تطورها، فظهرت نظريات متعددة متضاربة: كنظرية الانتقاء الطبيعي، ونظرية كونت في قانون الأحوال الثلاثة، والنظرية الماركسية، وكلها تقع في التعميم، إذ أن صياغة قانون من هذا النوع يُعد ضرب من الوهم عبَّر عن ذلك منتقدوهم.
وحينما نعود إلى الوحي نستقرئ من خلاله القانون المحنك في سير المجتمعات، وضبط حركتها عبر التاريخ، والموجه لمؤسساتها ونظمها في رسم أفاقها المستقبلية؛ نجده يرتبط بوجود عقيدة دينية، فنقطة الانطلاق في تكوين المجتمعات كانت عقيدة دينية، كما أن الثورات الاجتماعية العظمى والانقلابات التاريخية الكبرى في تاريخ الإنسانية كانت مرتبطة بالأنبياء والرسالات السماوية.
وقد سجل القرآن العلاقة الطردية بين سلامة العقيدة واستقامة الناس عليها وبين توازن واستقرار المجتمعات، وبالعكس، وفى مجموع الأحداث التاريخية التي عرفتها البشرية في نهوضها ونكوصها، يسجل القرآن سننًا مطردة تحكم بسير هذه الحركة، وهي لا تخرج عن كونها سننًا هادية أو مدمرة.
ثانيًا: اعتبار التوحيد أساسًا نظريًا ومنهجيًا في تأطير البحوث العلمية
يشكل مبدأ التوحيد الأساس الاعتقادي والإطار النظري الذي ينبغي أن يوجه البحث العلمي، وتنتظم فيه الدراسات الميدانية الجزئية، وتفسر في ضوئه كل الظواهر الاجتماعية والنفسية والتاريخية.
إن أية محاولة نقدية جادة تسعى إلى تخليص العلوم الإنسانية من نزعتها المادية والإلحادية لابد لها من إبراز الأساس الاعتقادي الصحيح الذي تنطلق منه وترتكز عليه في نظرتها إلى الإنسان والمجتمع والحياة ككل بدل الأسس الأيديولوجية المادية التي ظلت تحكم سيرها.
إنه من المسلم به أن كل مذهب أيديولوجي يرتكز على أساس فلسفي يقوم عليه بناؤه كله ويحدد تصوره للوجود ونظرته العامة إلى الإنسان والمجتمع والكون والحياة، وهذا الأساس الفلسفي تتفرع عنه نظمه، أي قواعد سلوك الإنسان فردًا وجماعة في الأخلاق والاقتصاد والسياسة والأسرة[41].
والتوحيد هو الأساس الفلسفي والاعتقادي الذي ترتكز عليه المذهبية الإسلامية، وتقيم عليه تصورها، وتحدد وفقه أهدافها ومناهجها. فالعلوم الإنسانية التي تتأسس فلسفيًا على العقيدة الإسلامية لابد وأن تعترف أن الإنسان يعيش في ملكوت الله، ويخضع لنظامه وسننه في الوجود والاجتماع، وأن كل ما في هذا الكون يرجع إلى الله في الخلق، والمعاد، والمبدأ، والمصير.. ومن ثًمّ فإن المهمة الأولى لهذه العلوم تعمل على اكتشاف النموذج الإلهي في الأخلاق والسياسة والاجتماع، وأن تعيد تنظيم نفسها في ضوء هذا المبدأ.
إن النظريات الفلسفية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية التي تهيمن على الفكر الإنساني اليوم – رغم ما بينها من اختلافات – تلتقي حول النظرة المادية لقضايا الإنسان والمجتمع والطبيعة، وهنا تكمن الفوارق الأساسية مع المذهبية الإسلامية التي تهدف إلى التأكيد على اكتشاف القدرة الإلهية المبدعة في الإنسان والمجتمع والطبيعة.
إذا كنا نحن اليوم بصدد التأصيل المنهجي للعلوم الإنسانية فإن مهمتنا الأساسية أن نعيد هيكلة هذه العلوم، ونعيد إعادة صياغة جهازها المفاهيمي في ضوء متطلبات النسق الفكري الذي تفرضه المذهبية الإسلامية.
إن إسلامية العلوم الإنسانية تقتضي ضرورة تحريرها من الأنساق المعرفية الأخرى التي تقف على النقيض تمامًا من نسقها الخاص، وبنائها من جديد على ضوء منطقها الداخلي وصياغة مفاهيمها في ضوء نظامها المعرفي ككل. إن الدعوة إلى تأصيل المنهج الإسلامي لعلوم الإنسان ينبغي أن يكون بالضرورة مؤسسًا بالشكل الذي يجعلها تنظر إلى مجموع القضايا التي تطرحها وفق النسق الداخلي للإسلام وفلسفته في الوجود، حتى لا تفقد خصائصها الذاتية، وتفقد هويتها، وتذوب في أنساق ومناهج أخرى معارضة لها.
إن العلوم الإنسانية قد كرست مفاهيمها المادية في إعادة صياغة مختلف المؤسسات الحديثة، وأخذت هذه المؤسسات طابعًا نضاليًا ضد كل ما يتصل بالمظاهر الدينية، وهو أمر كانت له نتائجه الخطيرة، فقد فرضت المنظومة العلمانية والمادية والإلحادية هيمنتها على كل المستويات، وأصبح النموذج العلماني للمجتمع يفرض نفسه بالقوة ويلغي كل تجربة اجتماعية ذات نسق مخالف.
لقد عملت العلوم الإنسانية التي تبلورت في الغرب وامتد تأثيرها إلى خارج حدودها الجغرافية، عملت على صبغ كل مظاهر الحياة أخلاقيًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وفكريًا وتربويًا بصبغتها المادية وتلوينها بلونها العلماني، ولم تنجُ مؤسساتنا على مستوى العالم الإسلامي من هذا التأثير الذي غيَّر بنيتها من أساسها، وحولتها من بنية دينية تقليدية هشة إلى بنية مدنية حديثة، ولكنها علمانية مناقضة لمبادئنا ومنظوماتنا الفكرية.
وإذا كنا اليوم على مستوى العالم الإسلامي نسعى إلى إعادة الاعتبار للنموذج الإسلامي، ونعمل على إعادة هيكلة مؤسساتنا على اختلاف تخصصاتها بما يتفق والنموذج الإسلامي؛ فإن أول خطوة في هذا الطريق ينبغي أن تمس الإحساس التصوري والجهاز المفاهيمي الذي أفرز هذه المؤسسات، أعني الأساس المعرفي، والفكري، والثقافي، وهو أمر يمس البنية المعرفية للعلوم الإنسانية المهيمنة على ساحتنا الفكرية. ولا أتصور إمكانية تغير جذري في مؤسساتنا مادامت البنية المعرفية التي تفرزها غير مؤسَسَة بالشكل الذي يرتضيه مجتمعنا الإسلامي.
ثالثًا: تحرير مفهوم “العلمية” من صيغتها الحسية الضيقة
(1) إسقاط المنهج التجريبي على العلوم الإنسانية:
في ظل الظروف الثقافية التي أفرزت مناهج العلوم أصبح مفهوم “العلمية” يحمل معنى خاصًا يتلخص في مجموع العمليات المرتبطة بالمجال المحسوس، واختزال المجالات ذات الطبيعة غير الحسية في جوانبها المادية. لقد فُرض النموذج التجريبي على العلوم الإنسانية كمنهج معرفي وحيد يستبعد كل نسق معرفي آخر. وحتى البدايات الأولى لمحاولات التأسيس المنهجي لهذه العلوم كانت تتجه نحو هذا الأسلوب، كما يدل على ذلك مصطلح “علم الفيزياء الاجتماعي” الذي أطلقه كونت ليصف به علمه الجديد. وربما كان السبق الزماني للعلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية وما حققته من إنجازات علمية تأثير كبير في السعي إلى تجاوز المنهج التجريبي مجاله الأصلي: من عالم الفيزياء والطبيعة إلى عالم الإنسان.
لم تكن هذه القناعة المنهجية عامة عند كل الباحثين في العلوم الإنسانية، ومع ذلك صُبغت هذه الدراسات بصبغتها الحسية إلى حد بعيد. وهذا الفريق من الباحثين الذين يسلكون هذا المسلك يفترضون أن الموضوعات التي يدرسونها لها طبيعة مادية صرفة، ويفترضون أفرادًا عديمي الإرادة يخضعون لجبرية القوانين الاجتماعية التي تقابل القوانين الطبيعية، وهم بذلك يتجاهلون الفوارق الموضوعية والمنهجية التي تفصل بين المجالين، مجال الطبيعة الجامدة ومجال الإنسان الحي بكل تفاعلاته وصراعاته ورغباته وميولاته وتقلباته….
إن الفوارق القائمة بين المجال الطبيعي والإنساني فوارق متنوعة وجوهرية تصادفنا على مستوى العلاقات المنظمة لكل منهما، كما تصادفنا على مستوى طريقة الإداري.
على المستوى الأول نجد أن العلاقات القائمة بين الظواهر الطبيعية تتميز بنوع السببية والعلية، وهي قابلة للقياس وتستعمل مصطلحات كمية وعددية تتصل بالحجم والمسافة.
أما في العلوم الإنسانية فمع أننا نسلم بكون الحوادث الإنسانية تمضي وفق سنن اجتماعية إلا أنه يتعذر استعمال وحدات قياسية مماثلة بالرغم من اعتمادها إجراءات مماثلة كالإحصاء والاستمارة… إن هذه الإجراءات لا تغير من طبيعة الموضوعات الإنسانية شيئًا، فنحن – على سبيل المثال – لا نستطيع أن نقدم قياسات كمية أو عددية لعادات الناس وأخلاقهم وسلوكهم وأفكارهم وتصوراتهم ومعتقداتهم، ولكننا في مقابل ذلك نستعمل تقويمًا مغايرًا يتصل بالكيف والنوع، وتبرز مقاييس أخرى تتصل بالواجب، والغاية، والدوافع، والأغراض.
ولقد ظهر في المهتمين بالعلوم الإنسانية فريق من العلماء اعترضوا على تطبيق المنهج الطبيعي في عالم الإنسان، ولعل العالم الألماني “فلهم دلثيى” من الأوائل الذين أثاروا هذا الموضوع. وفى رأيي أن العالم الطبيعي لا يمكن ملاحظته إلا من الخارج، وبالعكس لا يمكن أن نفهم العالم الإنساني إلا من الداخل. كما أن العلاقات الموجودة بين ظواهر العالم الإنساني ليست علاقات علمية آلية كما هي الحال بالنسبة للعالم الطبيعي، فهي تخضع للقيمة وترتبط بالهدف، وهو أمر يتعذر معه سعي الدراسات الإنسانية إلى صياغة قوانين اجتماعية عامة وشاملة[42].
ومع أننا نسلم مع دلثيى بكَون الفعل الإنساني ليس فعلًا آليًا سكونيًا بقدر ما هو فعل حر مبدع متغير وشديد التعقيد، إلا أن هذه الخصوصيات لا تنفي خضوع عالم الإنسان لقوانين اجتماعية عامة وشاملة، وإمكان صياغة هذه القوانين بالنظر إلى سير الحركة الإنسانية عبر التاريخ.
إن الحوادث الإنسانية إذا نظرنا إليها كأحداث آنية جسدتها فترة تاريخية معينة ستظهر – بلا شك – كأحداث فردية وفريدة لا تتكرر عبر التاريخ، ولكننا إذا نظرنا إليها في سياقها التاريخي الذي ينتظمها، ولاحظنا تماثل الأسباب، وما ينتهي إليه من تماثل في النتائج، أدركنا أن الحوادث الإنسانية تمضي وفق قانون عام ينظمها.
إن الوقائع الإنسانية تختلف عن بعضها البعض حسب الظروف الزمانية والمكانية التي تفرزها، وهذا ما يعطيها صورتها الفردية والفريدة في التاريخ الإنساني. ولكن استقراء هذه الحوادث في سياقها التاريخي العام يكشف عن الترابط المنطقي بين النتائج وأسبابها، وهذا الترابط هو الذي يتيح لنا استخلاص القانون العام الذي تخضع له هذه الوقائع التاريخية الجزئية.
وإذا عدنا إلى حديث القرآن عن تجارب السابقين نجد أنه يركز على هذه العلاقات السببية الكامنة بين ظاهرة وأخرى أكثر مما يركز على تقديم وصف لوقائع متناهية. فحديثه عن تبدل المجتمعات تغلب فيه الصبغة المجردة على ذكر الحوادث المنفردة. وفى مجموع هذه الحوادث التي تكررت وقائعها – مع اختلاف ظروفها الزمانية والمكانية – يسجل القرآن الكريم وجود قانون أو سنة اجتماعية تحكم سير هذه المجتمعات. ويذكر القرآن الكريم أن لله سننًا في الأمم والجماعات، ويدعو إلى التفكر فيها والتدبر لفهم مغزاها واستكشاف دلالتها الاجتماعية ولمس معانيها التاريخية، كما تسجل ذلك الآيات القرآنية التالية:
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب – 62] (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) [آل عمران – 137].
أما على المستوى الثاني – المتعلق بطريقة الإداري – فتظهر هذه الفوارق واضحة حيث تعتمد العلوم الطبيعية على الملاحظة المباشرة فتقدم المادة نفسها كمعطى خارجي، بينما تقدم الظواهر الإنسانية نفسها في صورة مجموعة تفاعلات ونظام من العلاقات شديد التعقيد لا يخضع لحركة جبرية ثابتة. ونتيجة لهذه الخصوصيات دعا بعض العلماء إلى ضرورة تجاوز الملاحظة الخارجية – في عالم الإنسان – إلى الملاحظة الداخلية، وهو ما أسماه لوى ورث “بالاستبصار[43]، وعبر عنه دليثى بالفهم[44]. وهذه الفكرة تقوم على أساس أن تصرفات الإنسان وتفكيره لا يمكن التعرف عليها بطريق الملاحظة الخارجية فقط، بل عن طريق الملاحظة الداخلية، أي بفهم المعاني التي تعبر عنها هذه التصرفات، وهي معاني نابعة من شعوره وإحساسه الداخلي.
ومن حيث الأدوات المستعملة نجد أن العلوم الطبيعية – كما تقول الناقدة مادلين جرافيتس- قد تطورت بفعل اكتشاف الأدوات المناسبة لنوع الظاهرة المشاهدة، وهو أمر لا نملكه في مجال الإنسانيات، فأدوات التسجيل المرئية والصوتية توفر لنا إمكانية إعادة التجربة وتمديد المشاهدة أكثر من التعمق في الكشف عن الظاهرة، وهي لا تسمح لنا بأن ندرك أمورًا أخرى، وأشياء أخرى أبعد[45].
2- تنوع الأساليب المنهجية العلمية:
ليس بإمكاننا أن نجعل مفهوم العلمية مقتصرًا على أسلوب معين دون آخر، وهذه الحقيقة يعترف بها الوضعيون أنفسهم. يقول د. زكى نجيب محمود: “الحق أننا لو أردنا أن نعطي للعلم تعريفًا جامعًا مانعًا بحيث يصْدُق على كل العلوم، ويمنع ما ليس علمًا من الدخول فيه لما وجدنا الأمر هينًا ميسورًا، شأنه شأن التعريف الجامع المانع بالنسبة إلى معظم الأشياء. فلأن رأيِنا أن ما يميز علمًا ما لا يميز علمًا آخر، فلن نعجزه عن حصر طائفة من الخصائص لابد أن تتوافر بعضها على الأقل فيما نسميه علمًا، وفيمن نسميه عالمًا، على أننا واجدون من الصفات الأساسية ما يصدق على كل علم، إلى جانب ما يميز العلوم بعضها عن بعض”[46].
وعلى مستوى الحضارات والمنظومات المعرفية التي شهدها التاريخ المعرفي الإنساني يعترف الكتاب والنقاد الغربيون أنفسهم أن كلمة “علم” لم يكن لها دائمًا المعنى الخاص الذي نفهمه في أيامنا هذه، وهو المعنى الحسي للكلمة. فأرسطو أكد أن العلم يتعلق بالضروري والخالد، والعصور الوسطى اعتبرت الحقيقة القصوى في النظام الديني، وتعني هذه الكلمة في الخطاب الديني (الكنسي) معرفة الله عن العالم. وفى القرن التاسع عشر أقصت الإبستيمولوجيا (الغربية) “الله” عن العلم. وهذا المنظور يسمح لنا أن نثبت بأن فكرة العلم متغيرة تاريخية، وأنه في الوقت الحالي يمكن أن نميز بين عدة تصورات للعلم[47].
إن اعتراف النقاد الغربيين باعتبار كلمة العلم متغيرة تاريخيًا يكفي للدلالة على أن الجمود على صبغة معينة للعلم ليس أمرًا إلزاميًا ولا مطلوبًا. وأنه بإمكاننا أن نبحث عن أنواع من الأساليب العلمية تختلف في طريق استدلالها وتتفق في أهدافها. والنتيجة التي يمكن أن نخلص إليها أن العلم أسلوب في المعرفة يهدف إلى اكتشاف الحقيقة، ولابد من أن تتوفر خصائص معينة في النتائج التي يقررها لكي تثبت العلمية كالصدق، والتعميم، والموضوعية.
إن فكرة ما أو نظرية ما تكون علمية إذا كانت مطردة مهما اختلت الظروف الزمانية والمكانية. وتكون علمية إذا كانت صادقة في إخبارها، بحيث تكون مطابقة للواقع. وتكون علمية إذا كانت موضوعية مجردة عن الأهواء الشخصية والتخمينات الذاتية بحيث تكون تأكيداتها مؤسسة على حجج أو أدلة، سواء كان هذا الدليل استنتاجيًا، أو استنباطًا، أو تجريبيًا، أو تاريخيًا مؤسسًا على الوثائق والشهادات[48].
ولقد أدرك علماء المناهج الفوارق الموجودة بين مجالات العلوم، ومن ثم ضرورة تنوع المناهج العلمية المتبعة في التحليل والدراسة، وهي مناهج متنوعة ومحل اختلاف بين المتخصصين. ومع ذلك يمكن أن نذكر بعضًا منها مما يعتبر محل اتفاق.
من هذه المناهج: المنهج الاستنباطي، وهو يعتمد على طريقة الاستنتاج المنطقي. ويعتمد على قرائن دالة وآثار معبرة، يسير فيه الباحث من مبدأ محدد مسلم به سلفًا إلى قضايا تنتج عنه بالضرورة. وهو المنهج المستخدم في الرياضيات على الخصوص.
ومنها المنهج الاستقرائي، الذي يعتمد على الانتقال من الحكم على البعض إلى الحكم على الكل على سبيل التعميم، وذلك بملاحظة الجزئيات، وإيراد التجارب عليها كلما أمكن ثم الارتقاء إلى نتائج عامة وصورة قوانين.
ومنها المنهج التاريخي أو الاستردادي، الذي يقوم على الوثائق ونقدها، وتحقيق الوقائع التاريخية، والتأليف بينها وتفسيرها.
ومنها المنهج الفلسفي، الذي يقوم على صياغة الفروض من أجل الوصول إلى تعميمات نظرية، وهو رغم ما يؤخذ عليه من تجريد يمكن اعتباره مكملًا للمنهج التجريبي، إذ يمكن أن تكون الحقائق العلمية أساس النظريات الفلسفية، كما تخضع هذه بدورها للبحث العلمي.
ومنها المنهج التجريبي، الذي يخضع للملاحظة والتجربة وقياس وضبط المتغيرات المختلفة.
ومنها المنهج النقلي، وهو يكاد يكون خاصًا بالحضارة الإسلامية، أصَّله علماء الحديث، وحددوا ضوابطه في الرواية والنقل، والتوثيق، والإسناد، وهدفه الوصول إلى تحقيق المرويات من جهة المتن والسند. وهو منهج اختصت به المنظومة المعرفية الإسلامية باعتباره مصدرًا معرفيًا تثبت عن طريقه كثير من معلوماتنا، ويكشف عن كثير من الحقائق في مجالات مختلفة إنسانية وطبيعية، ويتمتع بأكبر قدر من اليقينية والصدق والموضوعية[49].
وإذا كان غرض الرواد المؤسسين لمناهج العلوم من تمثل المنهج التجريبي هو تحقيق أكثر قدر ممكن من الموضوعية والعلمية في مجال العلوم الإنسانية، فإن الشيء المهم في المنهج التجريبي أكثر من علمية التجريب نفسها هو منطقها الذي لا يمكن أن يتوافق مع العلوم الإنسانية. فالمنهج التجريبي يهدف إلى دراسة علمية صرفة، وأي منهج علمي لا يُقصد به التزام قوالب وخطوات معينة لذاتها يلتزمها الباحث في كل الظروف، وإنما القصد من المنهج هو ترتيب خطوات البحث بالشكل الذي يضمن للباحث التوصل إلى نتائج علمية مهما اختلفت الوسائل المعتمدة، هذه القناعة كما تقول مادلين جرافيتس: لم تكن مقبولة دائمًا، غير أن أعمال وتأملات علماء الاجتماع حملت الباحثين في العلوم الاجتماعية على اعتبار أن منطق المنهج التجريبي يجب أن يُلهِم كل تفكير علمي، سواء في هذا المجال أو في غيره، سواء تمت التجربة أم لا[50].
والقاعدة العامة التي نصل إليها بعد هذا التحليل هو ضرورة التوسع في مفهوم العلمية، وتحرير البحث العلمي من نزعته الحسية التجريبية الضيقة التي فُرضت عليه لأسباب موضوعية، تعود إلى الحيثيات التي نما فيها الفكر الغربي، ولا يصح تدويلها وتعميمها.
رابعًا: تحقيق الالتزام العلمي، وتحرير البحث العلمي من الانحياز الأيديولوجي:
لقد قامت محاولات نقدية داخل الحقل المعرفي تسعى إلى تحقيق موضوعية البحث العلمي في العلوم الإنسانية بتجريدها من نزعتها الأيديولوجية. ولكن يبدو أن هذه المحاولات فشلت في تحقيق مهمتها الصعبة مما جعل البعض يعتقد أن العلوم الإنسانية علوم أيديولوجية بالضرورة، وأنه لا مناص من التخلص من النزعات الذاتية والأهداف الخاصة ما دامت هذه العلوم مرتبطة بالإنسان، وما دام الإنسان نفسه مرتبطًا بأهداف ومحكومًا بقيم تمليها مصالحه الطبقية والسياسية، ومتأثرًا ببيئته وظروف نشأته.
لقد ظهر تأثير مثل هذه المواقف الإنسانية على نتائج البحث بشكل حاد، إلى درجة أن بعض النقاد أعلنوا أن “الموضوعية الكاملة في العلوم الإنسانية مستحيلة التحقيق، ومن العبث أن نتوقع من العلوم الإنسانية أن تقدم إجماعًا أو اتفاقًا حول الوقائع وتفسيرها”[51].
عند هذا الحد من التحليل يظهر أن هناك تعارضًا بين الالتزام الأيديولوجي الذي يقتضي من الباحث أن يلتزم بالدفاع عن قضايا مجتمعه والاحتكام إلى القيم التي يدين بها، وبين الالتزام العلمي الذي يقتضي منه الحياد وعدم التحيز والتجرد من كل هذه المؤثرات.
إنه من المسلم به عند النقاد أن الإنسان محكوم بقيمه، وأن انسلاخه عن تكوينه المعرفي والفكري أمر متعذر تمامًا. وفى نفس الوقت هناك تأكيد وإصرار على ضرورة تحقيق الموضوعية العلمية في مجال الدراسات الإنسانية. والسؤال المطروح هو: كيف يمكن أن نحقق هذه المعادلة الصعبة؟ كيف يمكن أن نحقق موضوعية البحث العلمي دون أن نطالب الباحث بالانسلاخ عن مكوناته الفكرية والقيمية؟ قد يبدو هذا الأمر لأول وهلة من قبيل المستحيلات؛ لأنه جمع بين المتنافرات. ولكن النظرة التحليلية المتأنية تؤكد إمكانية تحقيق هذا الأمر إذا توافرت شروط ومواصفات معينة في القيم التي يدين بها الباحث ويحتكم إليها.
لا أحد ينكر كون القيم والمبادئ التي يعتنقها الإنسان ليست متجانسة ومتفقة في تصوراتها ونظرتها إلى مشكلات الحياة الإنسانية، ومن جهة أخرى نرى أنه من الخطأ أن نعتبر هذه القيم والمبادئ والمُثل على مستوى واحد ودرجة واحدة من الصدق واليقين، والتسليم بهذين المبدأين يترتب عليه بالضرورة أن نعيد النظر في التصور الغربي لتحقيق موضوعية البحث العلمي.
إن السؤال المطروح – هنا – لا يتعلق بتجريد الإنسان من قيمه ومبادئه باعتباره أمرًا مستحيل التحقيق، بل إن السؤال المطروح يتعلق بطبيعة تلك القيم والمبادئ التي توجه الباحث وتدفعه إلى تبني موقف أو إعطاء تفسير ما.
إن طرح السؤال بهذا الشكل يكشف عن الزيف الذي يكتنف كثيرًا من القيم التي يدين بها الإنسان، وهو الزيف الذي ينعكس بشكل سلبي على استنتاجاته وتخيلاته. وبالمقابل كشف عن مبادئ وقيم الحق والعدل التي تنعكس إيجابيًا على تفكيره ونتائج بحثه.
إن هذا التمييز على مستوى القيم يجد مبرراته داخل المنظومات الفكرية السائدة نفسها، لاختلاف الدلالة المعرفية والأيديولوجية التي تحملها كلمة القيم من بيئة إلى أخرى. إذا عدنا إلى القواميس الغربية المتخصصة نجد أن القيمة تطلق على “الاعتقاد أن شيئًا ما ذا قدرة على إشباع رغبة إنسانية، وهي صفة الشيء التي تجعله ذا أهمية لفرد أو جماعة. والقيمة على وجه التحديد حقيقة سيكولوجية، وليست قابلة للقياس بأية وسيلة من وسائل القياس التي توصَّل إليها العلماء حتى الآن[52].
والقيمة في معناها الغربي ترتكز أساسًا على عنصر التقدير الشخصي، فهي تعود إلى اهتمام الشخص وتقديره، أو اعتقاده ورغبته، واستهجانه وقبوله، أو رفضه ومفاضلته، أو اختياره وميوله، أو تصوره. وكل هذه المعاني تُعتبر عناصر شخصية وذاتية يحسها الإنسان على نحو خاص به، وهي عناصر وجدانية وعقلية غامضة تعتمد على الشعور الداخلي للشخص وعلى تأملاته الباطنية ومزاجه وذوقه وهواه، مما يجعل القيمة غير خاضعة للقياس[53].
إن أهم ما يميز القيم في عرفها الغربي أنها شخصية وذاتية، والمقياس فيها هو الشخص نفسه، وليست موضوعية ولا مستقلة عن ذاته وإحساسه ورغباته، ولا تتعلق بمقاييس خارجية تضبطها.
هذا المعنى الذي توحي به دلالة الكلمة في الثقافة الغربية يتصادم تمامًا مع المعنى الذي تحمله دلالة الكلمة في سياقها الإسلامي. إن القيم في الإسلام – إذا استثنينا دائرة المباح التي يملك فيها الإنسان حرية الأخذ والترك والقبول أو الرفض – قيم محكومة بمقاييس موضوعية خارجة عن رغبات الإنسان واختياره، واستهجانه أو استحسانه، فليس له أن يقبل شيئًا ما أو يرفضه، أو يُصدر حكمًا ما بالإيجاب أو السلب إلا إذا كان هذا الحكم مؤسسًا على قيمة موضوعية تجد شرعيتها في الوحي كمعطى خارجي مستقل عن ميولات الإنسان ورغباته.
في هذا السياق يمكن أن نستأنس ببعض الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في الموضوع، والتي ترجع مقياس الحب والكراهية إلى عناصر موضوعية تقع خارج دائرة الإنسان، من ذلك قوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء – 65]. (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) [المائدة – 49]. (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [الأحزاب – 36]. (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة – 214]. وفى الحديث الشريف “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به”..
فهذه النصوص وأمثالها كثيرة، تجعل مسألة القيم التي يتعلق بها الإنسان ويستوحى منها مثله مسألة خارجة عن ذات الإنسان، ورغباته، وميولاته، بل إنها على العكس من ذلك تمامًا قد تقف في أحيان كثيرة ضد هذه الميولات والرغبات.
ونفس الأمر يقال بالنسبة للميولات الأيديولوجية، إن الأيديولوجيا في معناها الغربي تعني نظامًا من الأفكار المتداخلة كالمعتقدات، والتقاليد، والمبادئ، والأساطير، التي تؤمن بها جماعة معينة، أو مجتمع ما، وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية، والأخلاقية، والدينية، والسياسية، والاقتصادية، والنظامية. وتقوم الأيديولوجيا بمهمة التبريرات المنطقية والفلسفية لنماذج السلوك، والاتجاهات، والأهداف، وأوضاع الحياة العامة السائدة[54].
إن الباحث الملتزم أيديولوجيًا حسب هذا المعنى هو الذي يلتزم بالقيم التي تمليها مصالحه الطبقية، ومن هنا يتحول عن البحث العلمي المحايد إلى تبرير مجموع الأفكار والمعتقدات والميولات التي يعتنقها، وهو أمر يتعارض بالضرورة مع الموضوعية العلمية لتعدد وجهات النظر الشخصية بتعدد الفئات الاجتماعية ومصالحها.
وهنا لا سبيل لتحقيق الموضوعية العلمية إلا في إطار “أيديولوجيا” ترتفع عن المصالح الطبقية والنزعات الشخصية والتي لا تعكس مصالح طبقة بعينها، ولا تخدم قومية دون أخرى، ولا تنتصر لفئة دون أخرى، ولا تتأثر بالبيئة الثقافية، ولا تخضع لمجموع التقاليد الاجتماعية. وليست هناك أيديولوجيا بشرية يمكن أن تزعم امتلاكها لمثل هذه المواصفات، وترتفع إلى مستوى هذا الحياد غير المذهبية الإسلامية باعتبار مصدرها الإلهي الذي يرتفع عن المصالح والأهواء البشرية، ويأخذ شرعيته مباشرة من المصدر الإلهي الحق الذي يقوم على الحق والعدل. وفى هذه الحالة فقط يكون الباحث الملتزم عقائديًا وأيديولوجيًا ملتزم كذلك علميًا، إذ أنه حينما يحتكم في تحليلاته وتفسيراته إلى مجموعة من المبادئ والقيم الموضوعية لا يكون معبرًا عن مصالح ذاتية، ولا يعكس مصالح طبقية، وإنما يهدف إلى إقرار الحق المجرد.
وفى ظل هذا التطور فقط تتحقق تلك المعادلة الصعبة التي سبق الإشارة إليها، والتي تقتضي رفع التعارض بين الالتزام الأيديولوجي والالتزام العلمي، وذلك من خلال التأكيد على أن تحقيق الموضوعية العلمية في العلوم الإنسانية لا يكمن في تجريدها من طابعها العقائدي، وإنما يكمن في تعيين المذهبية الصحيحة التي تتجاوز المذاهب وصراع المصالح. ويؤكد هذا المنطلق أن الإسلام لا يرضى لنفسه ولا لأتباعه أي عنوان عنصري، أو طبقي، أو محلي. فالمعتنقون للإسلام لا يتميزون عن غيرهم بعنوان معين كالعرب، أو الساميين، أو الشرقيين، أو الغربيين..[55].
إن هذه المذهبية الإسلامية تقوم في جوهرها على تجاوز التكتلات والتحيزات والخلافات كما تدل على ذلك نصوص الوحي الواردة في هذا الشأن: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران – 64]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات – 13].
خامسًا: إعادة الاعتبار للعنصر الأخلاقي في البحث العلمي:
سبقت الإشارة إلى أن فصل البحث العلمي عن التوجهات الأخلاقية كان لأسباب منهجية؛ باعتبار أن التوجهات الأخلاقية تعبر عن نزعة معيارية بمعنى مجموعة من المعايير التي يؤمن بها الباحث ويفرضها كمقياس للحقيقة، وهذا أمر ينأى به عن الموضوعية التي تقتضي التجرد من كل المؤثرات الذاتية، والوقوف موقف الحياد تجاه القضايا المطروحة.
لعله من المسلَّم به أن تجريد الإنسان من قيمه وميولاته أمر متعذر – كما أوضحنا ذلك في العنصر السابق- ويؤكد ذلك أن أكثر العلماء رفضًا للنزعة المعيارية كانوا في بحوثهم معياريين إلى حد بعيد. فقد كانوا في بحوثهم الاجتماعية والتاريخية ملتزمين بمعاييرهم، يحاكمون وفقها ثقافات الشعوب الأخرى وأخلاقياتهم وعاداتهم التي اعتبروها بدائية بالنسبة إلى نمطهم الحضاري والثقافي والاجتماعي. وعلى مستوى العالم الغربي نفسه كانت السمة التي تطبع الدراسات الإنسانية هي الانحياز والانقسام تبعًا للتوجهات الأيديولوجية التي يعتنقها أصحاب هذا المذهب أو ذلك.
ومن جهة أخرى لم تخل البحوث الإنسانية الغربية من نزعة إصلاحية وفق معايير جديدة تحل محل المعايير الغربية القديمة. في مجال العلوم الاجتماعية على سبيل المثال، وهي البحوث التي أصر روادها على تجنب المواقف المعيارية، نجد أن هذه العلوم منذ انطلاقتها الأولى قد حددت أهدافها في تحقيق إصلاحات اجتماعية تكون قادرة على القضاء على الفوضى الاجتماعية التي خلفتها الثورة الفرنسية، ولم تكن هذه الإصلاحات لتتم إلا وفق معايير آمن بها الإنسان الغربي الحديث. وقد رسَخت هذه النزعة عند الأجيال التالية، وحسب ما قال بعض النقاد: لم يملّ العلماء من التأكيد على أن المهام التي يرتكز عليها علم الاجتماع القيام بتقويم ما هو موجود من نظم وطقوس وعادات وأيديولوجيات وما شاكلها على أساس كفاءاتها الوظيفية وقابليتها للتحسن[56].
هذه المعطيات جعلت النقاد الغربيين يلحون على ضرورة ربط البحث العلمي بالتقويم، وعدم الاكتفاء بتقرير ما هو واقع. ولقد كتب أحد هؤلاء يقول: “إننا بحاجة إلى وجهات نظر على أن نسلِم بالتقويم. والعلم الاجتماعي الذي ينفصل عن التطبيق يعد من وجهة النظر هذه شيئًا فارغًا تمامًا، ولم يحدث أن وُجد هذا العلم كما لن يكون له وجود“[57].
ورغم هذه التأكيدات الداعية إلى إعادة الاعتبار للجانب التقويمي في البحث العلمي، فإن اتجاه العلماء إلى الفصل بين العلم والقيم كانت له مبرراته الموضوعية، وهذه المبررات لها جذور عميقة الصلة بالفكر الغربي الذي يعتبر القيم والمعايير الأخلاقية من قبل المتواضعات الاجتماعية، مما يعنى قابليتها للتغير والتلون حسب رغبات الناس وميولاتهم، وهذا يعنى بالضرورة تغليب ما هو ذاتي على ما هو موضوعي. وبمنظور إسلامي يتعذر إيجاد حل حاسم لعلاقة العلم بالقيم في نطاق الفكر الغربي. فقد وقف الغربيون تجاه المسألة بالقول بضرورة ربط البحث العلمي بالتقويم، وهو يقع بذلك في منزلق الذاتية لنسبة المعايير التي يحتكم إليها باعتبارها إفرازًا اجتماعيًا منحازًا.
إن الخروج من هذا الإشكال في المنظور الإسلامي يقتضي أن نميز بين نوعين من المعايير، الأولى: موضوعية مستقلة عن تأثيرات البيئة الفكرية والثقافية والضغوط الاجتماعية. والثانية: ذاتية مرتبطة بما يفرزه الوضع الاجتماعي من مُثل وأخلاقيات. وهذه الأخيرة هي التي تحكم الفكر الغربي فيعترف بها في الوقت الذي يستبعد الأولى وينكرها.
إن كلمة معيار في عرفها الغربي تطلق على النموذج المتخذ أساسًا للقياس، وما ينبغي أن يكون عليه السلوك العام والمواقف الجماعية بالنسبة للمشاعر السائدة في المجتمع[58].
ويطلق المعيار الاجتماعي على قاعدة أو مستوى سلوكي تحدده التوقعات المشتركة لشخصين أو أكثر اعتمادًا على السلوك الذي يُعتبر ملائمًا من وجهة نظر المجتمع[59].
وتحديد المعايير الخلقية بهذا المعنى يعود في نهايته إلى المتواضعات الاجتماعية، مما يفتح المجال واسعًا أمام وجهات النظر المتضاربة بتضارب المثل السائدة في كل وسط اجتماعي.
وبخصوص الدلالة المعرفية للمعيارية يستخدم هذا اللفظ في عرفه الغربي للدلالة على المنهج المعياري الذي يقابل المنهج الموضوعي العلمي. فلفظ ” المعياري ” – كما ورد في معجم العلوم الاجتماعية – صفة مشتقة من معيار، ويستخدم في وصف ما ليس تقريريًا أو واقعيًا، بل ما ينبغي أن يكون بالنسبة إلى مقاييس معينة. واستخدام هذا المصطلح في التقسيم التقليدي للعلوم، فهي إما علوم وصفية، أو علوم معيارية، الأولى تهتم بدراسة ما هو كائن، والثانية تهتم بدراسة ما ينبغي أن يكون[60].
هذا التصور يضع العلوم أمام خيار صعب، فهي إما أن تكون تقريرية وصفية، ومن ثم تكون علمية، وإما أن تكون معيارية، ومن ثم غير علمية. ولا يتصور إمكانية الجمع بين الاثنين في عُرف المناهج الغربية.
هذا التقابل من الوجهة الإسلامية يبدو مفتعلًا وغير مؤسس منطقيًا خاصة في مجال العلوم الإنسانية، حيث يشكل التقويم مستندها الأساسي. وهنا يتحول التقابل إلى التلازم بمعنى أن البحث العلمي في مجال الدراسات الإنسانية ينبغي أن يمر بمرحلتين متلازمتين، الأولى: وصفية تقريرية يجتهد فيها الباحث في تعرف أسباب الظاهرة، ونتائجها، والعوامل الفاعلة فيها. والثانية: تقويمية يحدد فيها موقفه منها، إما سلبيًا أو إيجابيًا[61]. وتظهر فعالية وأهمية هذه القاعدة في الدراسات الاجتماعية على الخصوص، فاكتشاف العيوب التي يعج بها المجتمع خطوة ضرورية نحو إصلاح حقيقي مبنيّ على تقديرات علمية ومؤثرات واقعية. وقد أدى إهمال هذه القاعدة عند الغربيين إلى تبرير الواقع الاجتماعي الفاسد، وإعطاء الشرعية لكل المظاهر الأخلاقية الفاسدة – كما سبقت الإشارة – وهذا الأمر لا يقره الإسلام.
إن مهمة العالم المسلم من هذه الزاوية إلى جانب كونها مهمة وصفية استطلاعية، وهي كذلك مهمة تقويمية، إصلاحية نقدية.
وهذه القاعدة ليست مجرد وجهة نظر قد تصيب أو تخطئ، بل إن نصوص الوحي ومبادئ الإسلام تؤكدها بكل، وضوح وجلاء وإصرار. فحديث القرآن عن الظواهر الاجتماعية يتجاوز تقرير الحقائق إلى تقييمها وتحديد موقف حاسم منها. وعلى سبيل المثال: فإن حديث القرآن عن تجارب السابقين فيه إخبار عن أحوالهم، ووقائع حياتهم، ولكنه سرعان ما يتجاوز هذا الموقف التقريري إلى الحكم القيمي.
وهاتان المرحلتان نقول إنهما متلازمتان وضروريتان لقيام بحث علمي جدير بهذا الوصف، لأنهما مرتبطان ارتباطًا عضويًا. فالاكتفاء بتحديد المثل والغايات وإصدار أحكام تقويمية عاطفية لا تستند إلى شواهد واقعية إخلال بالمنهج العلمي. كما أن الوقوف في حدود الوصف والتقرير فيه إقرار لكثير من المظاهر المرضية وإعطائها صفة الشرعية. إن الإسلام يفرض نمطًا اجتماعيًا مثاليًا ينبغي تحقيقه في عالم الواقع، كما يفرض نموذجًا للشخصية الإنسانية السوية التي ينبغي العمل على تجسيدها سلوكيًا وأخلاقيًا، وتحقيق هذا النموذج يتطلب عملًا نقديًا تقويميًا لطرح البديل النافع والتغيير نحو الأحسن. وكل عمل من هذا القبيل لن يتأتى إذا التزمنا مبدأ الحياد في البحث العلمي.
سادسًا: التمييز بين الثوابت والمتغيرات في مجال الدراسات الإنسانية:
المنهج الغربي يعتبر مسألة نسبية القيم مسألة مسلم بها على الإطلاق دونما تمييز بين مجال الثوابت والمتغيرات، مادام يعتبر القيم إفرازًا مجتمعيًا متجددًا تفرضه أعراف الناس وعوائدهم ومتواضعاتهم، حيث يستقل كل وسط اجتماعي يرسم مُثَله، وأخلاقياته، وما ينبغي أن يكون عليه من الناحية العقلية، والمادية، والأخلاقية، والدينية.
هذه الوجهة – رغم التأييد الذي لقيته على مستوى الكتابات الغربية – تتعارض مبدئيًا مع الموقف الإسلامي من المسألة. إن الإسلام كدين ينظم حياة الإنسان في جوانبها المادية والروحية، العقلية والأخلاقية، ويقوم على مجموعة من الثوابت التي لا تقبل بطبيعتها أي شكل من أشكال التطور أو التغيير باعتبارها تمس الوضع الإنساني بغض النظر عن زمان ومكان وجوده.
لقد طرحت المناهج الغربية مسألة المعتقد والأخلاق والقوانين التي تمس مختلف الجوانب الحياتية على أنها مسألة ثقافية تخضع لاجتهاد الإنسان، وهي بذلك قابلة للتجدد غير المشروط وممكنة التجاوز مع الزمن.
أما في المنظور الإسلامي فإن المسألة تأخذ أبعادًا أخرى تقف على النقيض تمامًا من وجهة النظر الغربية. إن المنهج الإسلامي يستمد معرفته من الوحي المنزل، واعتبار الوحي ضمن الأصول المعرفية للمنهج الإسلامي يفرض عليه ضرورة التكيف والانسجام مع مبادئ الإسلام في كل أبعاده، في ثوابته ومتغيراته، فهو لا يملك أن يتجاوز الثوابت الى أقرها الإسلام إذ يعتبر كل اجتهاد فيها إهدار للوحي، ومصادمة لليقينيات التي أثبتها، وهو في مجال المتغيرات يملك أن يجتهد ويبدع، ولكن عملية الاجتهاد والإبداع تظل بدورها مشروطة بموافقة الحق، ومحكومة بالمقاصد العامة التي أراد الإسلام تحقيقها.
انطلاقًا من هذا الموقف المنهجي الواضح فإن الباحث المسلم لن يطرح قضية المعتقد كظاهرة ثقافية عايشتها مختلف شعوب العالم في القديم والحديث، ولن يطرح قضية القيم والمثل والقوانين الثابتة – أيضًا – كقضية ثقافية اجتماعية تفرضها الأوضاع المستجدة، بل إنه يميز في هذه المجالات كلها بين جوانبها الثابتة والمتغيرة.
1- قضية المعتقد:
في قضية المعتقد ركز علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا اهتمامهم على مظاهر التدين كمعطيات خارجية يمكن ملاحظتها، وانتهوا إلى اعتبار العقائد الدينية ظاهرة اجتماعية تنمو في وسط ثقافي واجتماعي معين، وتعد جوابًا عن مشاكل تعترض جماعة ما، ولهذا يتعذر في نظرهم فهم عقيدة ما بمعزل عن شروط نموها وبمعزل عن بيئتها الاجتماعية والثقافية.
ولقد أدى هذا المنهج في دراسة العقائد على الخلط بين ما هو أساسي وجوهري وثابت في الدين، وبين مظاهر دينية مرتبطة بتقاليد الناس وممارساتهم التعبدية، وهي تختلف زمانًا ومكانًا.
ولتجنب هذا الخلط الذي تقع فيه هذه الدراسات، ينبغي التمييز في دراسة العقائد بين مستويين متباينين: الأول مستوى العقيدة من حيث أصلها الإلهي على أنها وحي ثابت يعلو على الزمان والمكان، مستقل عن تقلبات أحوال الناس. والثاني مستوى التدين الذي يجسده تطبيق الأفراد في عبادتهم، وهو قابل للتبديل والتغيير والتعديل. وبمقتضى هذا التمييز فإن الصورة التي تنتهي إليها العقائد الدينية بفعل التبديل لا يجعل منها عقائد شرعية تحل محل العقائد السابقة.
2- قضية القيم والأخلاق:
لتجاوز أطروحات المنهج الغربي الذي يعتبر مسألة القيم متغيرات نسبية، ويمحو كل قيمة موضوعية للأخلاق، يجب أن نميز في المسألة الأخلاقية بين مستويين متباينين: الأول أصولي معياري يتعلق بأصول الأخلاق وقيمتها في ذاتها، وهو عبارة عن المبادئ الأخلاقية العامة التي لا تختلف العقول البشرية السليمة على صدقها وثبات صحتها. وهذه المبادئ تتردد بين مجموعة من الأوامر والنواهي التي يحددها الشرع وتوافق الفطرة، كضرورة التزام الصدق والإحسان والحفاظ على العهود وأداء الأمانات والتزام العفة… والثاني يتعلق بالجانب السلوكي، وهو ما يعبر عنه الفعل الإنساني، ويظهر من خلاله تفاعلاته وعلاقاته. وهذا الجانب هو الذي يمكن إخضاعه للدراسة الإمبريقية الوضعية باعتباره واقعًا حيًا حركيًا ملحوظًا يمكن استقصاؤه وتتبعه باعتباره يعكس تصرفات الناس وسلوكهم الاجتماعي.
ولقد ميز النقاد بين هذين الجانبين، فاعتبروا الجانب المعياري فعلًا أخلاقيًا، بينما اعتبروا الثاني فعلًا اجتماعيًا. وكان خطأ الوضعيين أنهم خلطوا بين الاثنين فأفقدوا بذلك الأخلاق مصداقيتها وثباتها[62].
والذي يجب تثبيته هو تأكيد الفصل بين الجانبين، فالأخلاق تتصل من جهة بالمُثل العليا، تأخذ أصولها من الدين، ومن ثَمّ تكتسب صفة الثبات، وتتصل – من جهة أخرى – بسلوك الناس، ومن ثم تعتبر ظاهرة حسية قابلة للملاحظة والإدراك.
وإذا كان المنهج الوصفي قد حدد اهتمامه بهذا الجانب السلوكي المادي، واختزل الجانب المعياري، واعتبر الأخلاق متغيرات اجتماعية، فإن المنهج الإسلامي يلتقي معه في دراسته الجانب السلوكي دراسة وصفية، ولكنه لا يعمل على تبرير المظاهر المرضية للأخلاق، وهو يعمل من أجل تحسين هذه السلوكيات وفق قيم الحق والعدل.
3- قضية النظام التشريعي:
النظام التشريعي هو الذي يحدد للمجتمع صيغته وشكله، فهو يفرض سلوكيات معينة يجب التزامها. والمنظور الوضعي يعتبر النظام التشريعي متغير اجتماعي، أفرزته ظروف ثقافية واجتماعية وسياسية… وهو يتجدد حسب تجدد هذه المعطيات، فلا شيء يمكن أن يوصف هنا بالثبات.
أما في المنهج الإسلامي فهو لا ينطلق من هذه المعطيات المتجددة فحسب، إنه يعترف بها ويأخذها بعين الاعتبار، ولكنها ليست كل شيء، فالوحي المنزل يعتبر الركيزة التي تؤسس النظام التشريعي. واعتبار المتغيرات الاجتماعية في تنظيم النواحي التشريعية لا يأخذ صفة مطلقة كما هو الحال في المنهج الغربي، بل إن هذه المعطيات معتبرة في حدود انسجامها مع أهداف الوحي ومقاصده، حتى لا يكون اعتبارها طريقًا لتبرير السلوكيات الخاطئة والمصالح المتوهمة.
وهنا يعود المنهج الإسلامي ليميز في النظام التشريعي بين ثوابته ومتغيراته، وهو يعتبر الثوابت قضايا مسلمة لا يلتفت إليها، وعمله ينحصر في جانب المتغيرات، ومهمته فيها ضبطها بمجموعة من المعايير تضمن لها مصداقيتها وتحميها من الانحرافات التي قد تنجم عن ضغوط المجتمع، وهي ضغوط تفرضها المصالح الطبقية أو القومية او الشخصية ومن شأنها أن تنحرف عن المقاصد التشريعية.
ولقد استقرت هذه الحقيقة في الضمير الإسلامي، وعبَّر علماء التشريع عن ضرورة هذا التمييز الفاصل بين الجانبين؛ صيانة للثوابت، وضبطًا للمتغيرات. وهذا نص كلام الشاطبي لخص لنا هذه الفكرة يقول: “إن العوائد المستمرة ضربان: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي، أو نفاها… والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي، فأما الأول: فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية، وأما الثاني: فقد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل”[63].
هذه جوانب من الحقل المعرفي الذي تنشط فيه العلوم الإنسانية ووظيفتها، لا تعدو أن تكون توجيهات منهجية يلتزمها الباحث في هذا المجال، حتى يتسنى له تجاوز السلبيات التي تعاني منها هذه الدراسات، وتحقيق قدر كبير من العلمية والموضوعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* النص الكامل للمقال منشور في:
محمد أمزيان (1994). نقد مناهج العلوم الإنسانية من منظور إسلامي وخطوات صياغة مناهج إسلامية للعلوم الإنسانية. مجلة المسلم المعاصر. ع. 71- 72. ص ص.99- 154.
** أستاذ بكلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية. الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.
[1] أفكار ورجال – قصة الفكر الغربي – كرين برنتن، ترجمة محمود محمود – مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1965.
[2] على شريعتي العودة إلى الذات ص: 51، 252، ترجمة إبراهيم دسوقي شتا مكتبة الزهراء الإعلامي الغربي ط1، 1406.
[3] ليفي بريل، فلسفة أوجست كونت ص2، ترجمة د. محمود قاسم و د. سيد بدوي – مكتبة الأنجلو المصرية، 1953.
[4] Education et Sociologie, Emile Durk, p. 56, 4em Édition 1980, (P.U.F.).
[5] العلم والدين في الفلسفة المعاصرة ترجمة أحمد فؤاد الأهواني ص41 الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973.
[6] المرجع السابق: ص41.
[7] Les étapes de la pensée sociologique, R. Aron, p. 86 -87 Édition: Gallimard, 1967.
[8] عصر الأيديولوجيا، ص143، ترجمة محيي الدين صبحي – منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1981.
[9] ينظر شرح هذه القاعدة عند دوركايم: قواعد المنهج في علم الاجتماع: ص9، ترجمة محمود قاسم، مكتبة النهضة المصرية، 1950، ط2.
[10] Méthode et intuition chez Auguste Ceinte par pierre Ducasse Librairie Felix Alcan, Paris, 1919, p.38.
[11] نقلاً عن مقال بعنوان” علماء النفس المسلمون في جحر الضب” مالك بدري، المسلم المعاصر ع15، ص11، سنة 1983.
[12] Les étapes de la pensée socioloquep.122.
[13] Les étapes de la pensée socioloquep.122.
[14] مبادئ علم الاجتماع الديني ص234، ترجمة محمود قاسم، مكتبة الأنجلو المصرية، 1951.
[15] المرجع السابق، ص 264.
[16] المرجع السابق، ص 233، 252.
[17] على سبيل المثال: نظرية كونت حول مراحل تطور الإنسانية، ونظرية روستو عالم الاجتماع الغربي حول حتمية تحول المجتمع الإنساني إلى الرأسمالية، والنظرية الماركسية حول حتمية المرحلة الشيوعية.
[18] ينظر مقدمة ترجمته لكتاب كارل مانهايم: أيديولوجيا والطوبائية مقدمة في علم اجتماع المعرفة ص 47 – 48 يتصرف ترجمة عبد الجليل ماهر مطبعة الإرشاد، بغداد، 1998.
[19] Sociologie et idéologie, Michel Dion, p. 43, édition sociales, paris,1973.
[20] نظرية علم الاجتماع طبيعتها وتطورها ص: 205، ترجمة محمد عودة وآخرين، دار المعارف القاهرة، 1970.
[21] تمهيد في علم الاجتماع ص45 ترجمة محمد الجوهري وآخرون – سلسلة علم الاجتماع، الكتاب الرابع ط4، دار المعارف، القاهرة، 1980.
[22] Histoire de la philosophie, E. Bréhier, Tome I, p. 1941 (P.U.F.) paris, 1944 وكذلك Histoire de la sociologie, G. Bouthoul, p. 82 (P.U.F.) paris, 1961.
[23] عن تمهيد في علم الاجتماع عبد الكريم الباقي، ص328 مطبعة جامعة دمشق، ط3، 963.
[24] علم الاجتماع عن ماكس فيبر، جوليان فروند، ترجمة تيسير شيخ الأرض منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1967، ص 23 – 135.
[25] Mauss. Par Hean Cazeneuve, p. 53 – 55 (P.U.F.) 1968, er Édition.
[26] Les étapes de la pensée sociologique, p.86.
[27] البنائية الوظيفية في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا المفاهيم والقضايا، ص 58، د. على ليلة، طبعة دار المعارف، 1982.
[28] ينظر هذا المجال: ليفي بريل الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية، ص66، ترجمة محمد قاسم، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1953.
[29] دوركايم التربية الأخلاقية، ص85.
[30] دوركايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ص59، 60، 91 بتصرف.
[31] Durkheim, éducation et sociologiem p. 50.
[32] عن مجلة المسلم المعاصر ع 20، ص34.
[33] نقلا عن فوزي دياب: القيم والعادات الاجتماعية ص56، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1966.
[34] أفكار ورجال قصة الفكر الغربي، ص139.
[35] الدين بلا وحي، ص8، نقلا عن المسلم المعاصر ع17، 12.
[36] أفكار ورجال، ص667.
[37] نقلا عن كتاب أبى الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص156، دار الكتاب العربي، ط9، 1387.
[38] المرجع السابق، ص157.
[39] قسطنطين زروق، مقال بعنوان المنهج العصري محتواه وهويته، إيجابياته وسلبياته، ص 107 مجلة المستقبل العربي، عدد 59.
[40] دوركايم، التربية الأخلاقية، ص101.
[41] في هذا المجال ينظر محمد المبارك، مجلة المسلم المعاصر، ع ص17.
[42] تمهيد في علم الاجتماع، ص68، بوتومورو.
[43] ينظر مقدمة ترجمته الانجليزية لكتاب كارل مانهايم الأيديولوجية والطوبائية مقدمة في علم اجتماع المعرفة، ص 43.
[44] Introduction a I’étude des sciences humaines, p. 15 Dilthey (P.U.F.).er Édition, Paris 1942.
[45] Méthodes des sciences sociales, p. 358.
[46] المنطق الوضعي 3/24.
[47] Méthodes des sciences sociales, p. 27-28.
[48] . J. picard et G. pascal, Cours de philosophie, La logique et la morale, Tome 2, p. 136, Ed. Bordes, 1964.
[49] لمزيد من التفصيل ينظر المصادر الآتية: عائشة عبد الرحمن مقدمة في المنهج، صفحات 56، 57، 79، معهد البحوث والدراسات العربية، 1971 وأحمد فؤاد باشا، فلسفة العلوم بنظرة اسلامية، ص114 – 117. أحمد بدر: أصول البحث العلمي ومناهجه، ص223 وكالة المطبوعات الكويت، ط4، 1978 عبد الرحمن بدوي: مناهج البحث العلمي ص5، دار النهضة العربية، 1963.
[50] Méthodes des sciences sociales, p. 359.
[51] Méthodes des sciences sociales, p. 312.
[52] فريتشلد وآخرون، قاموس علم الاجتماع، ص 331 نقلا عن: فوزية دياب القيم والعادات الاجتماعية، ص26، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1966.
[53] المرجع السابق، ص25.
[54] قاموس علم الاجتماع، محمد عاطف غيث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979، ص 304.
[55] الشيخ مرتضى المطهري المجتمع والتاريخ، ص182، مؤسسة الوفاء، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1983.
[56] مجلة الثقافة الجديدة، عدد 5، ص24.
[57] ألكس أنكلر، مقدمة في علم الاجتماع، ص188، ترجمة وتقديم محمد الجوهري وآخرون ط 4، دار المعارف – القاهرة 1980.
[58] معجم العلوم الاجتماعية، ص556، تأليف مجموعة من الأساتذة، مراجعة إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975.
[59] قاموس علم الاجتماع، ص304، محمد عاطف غيث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979.
[60] معجم العلوم الاجتماعية، ص757.
[61] في هذا المجال ينظر على شريعتي، العودة إلى الذات، ص312.
[62] ينظر المجمل في تاريخ علم الأخلاق، د. ه. سد جويك، مقدمة الترجمة العربية ج 1/19 ط1، 1449، دار النشر الثقافية الإسكندرية.
[63] الموافقات في أصول الأحكام، ج 2/170. تعليق محمد حسين مخلوف، دار الفكر.