هل تدمر الحداثة العقل البشري؟*
عبد الحكيم مراد**
نندفع في عالمنا العربي والإسلامي بسرعة هائلة في طريق الحداثة، ويرى الكثيرون في طريقة الحياة الحديثة غاية يلهثون وراءها ويبذلون فيها أعمارهم، فنحن نبذل أوقاتنا ومجهودنا في سبيل امتلاك سيارة حديثة ومنزل حديث وأحدث هاتف وقضاء عطلة في أحدث فنادق.. الخ، في هذا البودكاست من قلب العالم الحديث (انجلترا) ومن وجهة نظر مسلم من الخارج، نطلع على وجهة نظر أخرى للحداثة ربما تساعدنا على رؤية الاشياء على حقيقتها، تصحيح المسار، وإعادة النظر فيما لدينا.
يثير محمد جلال -صاحب بودكاست “المسلم المفكر” – موضوع الحداثة وتأثيرها على العقل البشري مع المفكر الإنجليزي المسلم عبد الحكيم المراد في حوار قيم نعرضه في الصفحات التالية. وعبد الحكيم مراد أو الدكتور “تيم وينتر” هو مؤسس وعميد كلية كامبريدج الإسلامية، وأستاذ ومحاضر في الدراسات الإسلامية في كلية ابراهيم، وكلية وولفسون، وكلية اللاهوت في جامعة كامبريدج.
س: نظن أننا محظوظون إذ نعيش في عالم أصبحت تلبي فيه تقريبا كل رغباتنا بسهولة ويسر، لكننا نجد أنه كلما زاد ما نملك كلما قلت سعادتنا، كلما زادت البنايات الضخمة والفخمة كلما أصبحنا قلقين أكثر ومتوترين أكثر، فنحن نفتقد القدرة على التعامل مع هذه النعم، هل هناك مشكلة حقيقة في الطريقة التي نعيش بها؟ هل هناك مشكلة في الحداثة نفسها؟
تقول العديد من الآراء مؤخرا أننا كبشر أصبحنا ضعفاء جدا وغير قادرين على مواجهة الحياة المعاصرة، هل يمكن أن تشرح لنا السر وراء هذه الحالة من الهشاشة التي أصبح الانسان المعاصر يعانيها؟
هناك نظرة تشاؤمية في الأديان عموما لتطور التاريخ، لدينا في الإسلام حديث شريف يقول “خير القرون قرني، ثم الذي يلونهم ثم الذين يلونهم..” وحديث آخر “لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه”، هذه النظرة للتاريخ تتشاركها معظم الأديان. الحداثة كذلك لها نظرة تشاؤمية لسير التاريخ عدا اتجاه معارض داخل الحداثة له نظرة تفاؤلية وهو الماركسية التي ترى أن التاريخ يتقدم نحو الأفضل. لكن بعد انهيار الماركسية وكذلك المادية الجدلية اختفى هذا التفاؤل وتحول الى شيئين: الأول ثقافة العمل (وهي تحمل ركيزة ماركسية)، والثاني ثقافة فرانكفورت (وهي ماركسية في الأصل لكنها تخلت عن التفاؤل).
يعبر الفن عن الرؤية السائدة للنفس الانسانية، وعن للفلسفة المسيطرة على أوربا في حقبة ما، في بدء الحداثة كان الفن التقليدي يعبر عن الطبيعة الملائكية داخل البشر، بعد ذلك أصبح يعبر عن الجزء المظلم الأسود داخل الانسان. في البداية عبرعن التفاؤل تجاه تاريخ البشرية، ثم في الفترة بين الحربين العالميتين كان هناك تراجع كبير في هذا التفاؤل، وعلى العكس ساد إيمان بأن ما يعكس جوهر الانسان هو شيء مظلم، واستمر هذا حتى الآن. تعكس أعمال الفنانين البريطانيين مثال دميان هيرست، وتريسي أمين هذه النظرة السوداوية وتعبر عن مدى الخلل الذي أصبحت تشهده الانسانية.
يسير تشاؤم الحداثة جنبا الى جنب مع التشاؤم الذي أعتقد أنه جزء طبيعي وصحي من الدين الإسلامي.
س: العديد من الشباب اليوم يفتقدون بعض المهارات الاساسية والسمات الشخصية المهمة التي كان يتمتع بها جيل الآباء مثل المرونة والقوة النفسية. في رأيك ما السبب في ذلك؟
علينا أن نتجنب التعميم، فأنا أقابل العديد من الشباب الأذكياء جدا والمرنين جدا، لكن بالتأكيد هناك زيادة في الأمراض المتعلقة بالعقل مثل الاكتئاب والضيق والاضطراب النفسي والاغتراب، وأحد الأسباب الواضحة لذلك هو انهيار الإطار الروحي أو الماورائي التقليدي لحياة الناس. فقد آمن الانسان منذ العصر الحجري بالقوى الغيبية أو وجود قوى عليا الكامنة وراء أشكال الحياة والاشياء أيا كان تسميتها، فهذا فطري، والجهاز العصبي البشري يعمل بشكل طبيعي في هذا الإطار، أن يكون لديك شعور بوجود معنى وراء الاشياء.
كذلك العقل البشري مصمم على ما يلائم العصر الحجري، فالانسان في ذاك العصر ليس لديه كثير من المشتتات.. والفرق بين الجنسين واضح، واللعب أكثر من العمل هو طبيعة الحياة، والدين هو دليل كل شيء ومرجعية كل شيء. يعمل الدماغ بشكل صحيح في هذا الإطار وينتج افرازاته الصحية المختلفة من اندورفين وسيروتونين وغيرها في ظل هذه الطبيعة البشرية التي يسميها الإسلام الفطرة.
الحداثة تلغي كل ذلك وتبعدنا عنه تماما وتسمي كل ذلك تخلف أو بدائية، تريد الحداثة منا أن نعرف أنفسنا وأن نكتشف ذاتنا وسط عالم مُصنَّع بالكامل. ومن الواضح أن هذا غير ناجح بالمرة.
فرويد على سبيل المثال في عدد من كتاباته شديدة التشاؤم يرى أن النفس البشرية تسير نحو شكل من أشكال الانسحاق والدمار في ظل الحداثة، ويرى أن هذا الأمر لا مفر منه ولذا فإننا جميعا سوف نصبح أكثر فأكثر مرضى عقليين. هذا تشخيص سوداوي إلى حد كبير فلا توجد طريقة يمكننا من خلالها العودة لهذا العالم الطبيعي للملائكة والآلهة، والأرواح.
اذن الصحة العقلية سوف تصبح مشكلة متزايدة تدريجيا في ظل الحداثة، والصحة الجسدية مرتبطة بالصحة العقلية. نحن نرى الكثير من الشباب ضاعوا في ظل غياب الامل في الحياة بعد الموت، وغياب المعنى والهدف. فكل هذه الاشياء أحجار أساسية في انسانيتنا.
لذا فالسؤال الكبير الذي نواجهه الان هو: ما مدى المرونة العصبية التي نحتاجها لنتمكن من التكيف مع حياة أصبحت وبشكل متزايد بعيدة عن طبيعتنا كبشر؟ ما هي النقطة التي عندها سيبدأ الدماغ (وبالتالي كل شيء أخر في جسدنا) في الاختلال والخلل الوظيفي؟
لا أستطيع تقديم إجابة على هذا السؤال، لكننا بالتأكيد لسنا في موضع جيد الآن.
س: إلى أي مدى تعد الاستهلاكية المسيطرة على حياتنا اليوم واللهث وراء السلع المادية ضارا بحياتنا؟ وإلى أي مدي يعد ذلك عاملا في زيادة الأمراض المرتبطة بالعقل البشري؟
إن الجشع والأفراط والاسراف ليست أشياء جديدة، ولكن يبدو أن المشكلة تكمن فيما يمكن أن أسميه ” اضطراب عجز الطبيعة”، فنحن عندما نكون محاطين بالطبيعة نزدهر، نشرق نتفاءل وتنتعش صحتنا، وكلما تم إبعادنا عن تلك الطبيعة كلما ابتعدنا عن موطننا الأصلي وبالتالي نكون أكثر اعتلالا وأقل سعادة.
المشكلة ليست في الاستهلاكية ذاتها، لكن في تجاهل الرسائل اللا نهائية التي تأتينا عن خطورة الافراط في استهلاك سلع وخدمات معينة ورغم ذلك نقبل عليها. إن رغباتنا يتم التلاعب بها من قبل الشركات الضخمة التي تقوم بالتأثير علينا وعلى وعينا وعلى إحساسنا باحترام الذات أو فقدانه بناء على امتلاك أو استهلاك أشياء معينة، فالناس ينفقون مبالغ لا يمكن تصورها من المال على أشياء غبية مثل: العلامات التجارية، أماكن الترفيه، أحدث أجهزة الموبايل، وغيرها من الأشياء التي تعتبر تافهة في جوهرها وليست ضرورية في الغالب. هناك الكثير من الأموال يتم جنيها والقليل جدا من الحكمة العامة لتوجيه هذا المال، إن الشباب والناس عموما يضيعون أموالهم وحياتهم في أشياء نسبية وتافهة ونتيجة لذلك فإنهم يعانون على كل المستويات لأن تلك الأشياء لا تساهم في صحتنا وعافيتنا، بل على العكس.
ما هو أساسي لصحتنا وعافيتنا أشياء بسيطة جدا مثل: النظر الى الغروب، التأمل، الصلاة، الحب، الاهتمام بكبار السن، تلك هي الأشياء التي يجد فيها البشر اشباعا حقيقيا داخلهم. ورغم ذلك يتم إبعادنا عنها بشكل متزايد واستبدالها بالأشياء التافهة. وهذا بالطبع يؤدي إلى جميع أنواع الصدمات الداخلية ونوبات الهلع واضطرابات النوم واضطرابات التغذية، والأفكار الانتحارية والكثير من الأعراض. وكلها أعراض لهذا المرض الاساسي الذي هو الابتعاد عن الطبيعة البشرية، الذي يعد في الحقيقة نتاج للتحول البشري بعيدا عن المقدس.
س: مهم جدا ما تشير إليه عن الطبيعة البشرية والفطرة وكيف أبعدتنا الحداثة عنها، أريد أن أعرف أكثر عن مفهوم الفطرة، فلقد فهمت الفطرة دوما على أنها حالة تتحقق من خلال شهادة أن لا إله إلا الله فعندما تصير مسلما ساعتها تصبح متفقا مع فطرتك، ولكن ما تصفه أنت الان يعبر عن أكثر من ذلك، فالإنسان عليه أن يعيش حياة روحية وجسدية تتفق مع فطرته حتى يحقق الفائدة من الحياة ويحيى بالطريقة التي يرضاها الله تعالى.
الفطرة مفهوم مركب ومعقد، لا يجد المرء مرادفا له في الانجليزية، الفطرة تُعرف في الحديث النبوي الشهير في حادثة المعراج حين يعرض الملك على سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) كأسا من الخمر وآخر من اللبن فيختار صلى الله عليه وسلم اللبن فيقول الملك: قد أصبت الفطرة.
فالحليب غير ملوث وغير فاسد فهو رمز للطبيعة العذراء التي تدعمنا مباشرة، على عكس الخمر الذي تم التدخل فيه من قبل البشر فأفسدوه بانتاج شيء ضره أكبر من نفعه.
فالشهادة ليست تعريفا كافيا للفطرة، بل تشير الفطرة إلى الحياة الطبيعية. وعندما يقول الله تعالى في كتابه العزيز “فاطر السماوات والأرض” فإنها تعني من أوجدهما بصورتهما الطبيعية. والفطرة في أحد معانيها تشير إلى الحنيفية الإبراهيمية والدين الأصلي، لذا فهي قريبة من فكرة الاصالة، والعيش بطريقة تتناسب مع ما هو طبيعي بالنسبة للبشر.
س: يستطيع المرء أن يخرج من هذا بأن الحياة الحضرية الحديثة معادية للفطرة؟
نعم هذا صحيح، إن الفكرة الأساسية الكامنة وراء التنوير والثورة الصناعية هي إبعاد الطبيعة عنا حتى نكون في مأمن من اعتدائها. اليوم في عالمنا المعاصر يمكنك أن تمشي لأميال دون أن تحتك أو ترى شيئا طبيعيا أو حيا واحدا، كلها أبنية خرسانية ومتاجر، هذا ليس هو الوضع الصحي للانسان. فنحن جميعا نشعر أفضل عندما نكون في الطبيعة، على الشاطئ أو في الغابة، إنه شيء بدائي للغاية، ولكنه أصيل ويحفز الاندورفين بطريقة ما. بينما المرور عبر المتاجر والمولات لا يمكن أن يمدنا بمثل هذا الشعور. نحن في الحياة المعاصرة مثل سمكة خارج الماء، لسنا في بيئتنا الطبيعية، ولذلك نحن نشعر بالقلق، وحتى نتعامل مع هذا القلق نحاول أن نخدر أنفسنا ونسري عنها بالذهاب الى المولات، وامتلاك وتخزين الاشياء وكأن هذا من شانه أن يبعد الروح أو يلهيها عن شعورها وشغفها بالجمال والطبيعة، ولكنه مخدر ضعيف جدا في الحقيقة لا يغني عن الشيء الحقيقي.
ومع انتقالنا من العالم الصناعي الى عالم الميتافيرس الذي يبدو أنه المرحلة التالية، فاننا سنصبح أكثر غربة في هذا العالم، وسوف نشهد أشكالا أكثر غرابة من السلوك الانساني والعلاقات غير الطبيعية، لإننا سنكون أقل صحة وأكثر مرضا (عقليا وجسديا). ونحن نرى الآن أزمات الصحة العقلية المتزايدة وانهيار العلاقات، ويبدو أن هناك انهيارا في مستوى التوستيرون في الوقت الحالي ومعدلات المواليد تنخفض بشكل كبير.
س: هل الإسلام يوفر حلولا للبشر؟ هل يوفر حلولا لسلامتنا الذهنية؟ ما هي الأسس التي تنمي مهاراتنا وقدراتنا الشخصية وتجعلنا أكثر قدرة على مواجهة هذا الضرر؟ ما هي آثار اعتناق الإسلام على شخصيتنا وقدرتنا على مواجهة آثار الحداثة والعيش في هذا العالم بشكل مناسب وصحي؟
يتعلق الدين أكثر بالأشياء العملية، القيام بأشياء أكثر من التمني فقط، هنا نذكر المنحة الإسلامية العظيمة وهي الصلاة، تلك المنحة التي وهبها الله تعالى لنا في رحلة المعراج. فالصلاة طريقة للحفاظ على درجة معينة من الفطرة في خضم جنون الحداثة. الصلاة هي الفعل البدائي الذي يمثل كل الافعال البدائية، فهي عبادة مرتبطة بحركة الشمس والقمر.
إضافة إلى الصلاة لدينا السنة، فهي الحصن الذي يحمينا من الأخطار المحيطة بنا ويزيد من فرصنا في عدم التسمم بسموم الحداثة. السنة تعيد ربطنا بالمسارات التي تحيي وتشفي الانسانية بداخلنا. فنحن نصوم، ونصلي، ولدينا الأماكن المقدسة التي نزورها، هذه المسارات بدائية وأصيلة وفطرية. ولذلك نرى الناس لا يزالون يتدفقون الى المساجد، ويصومون في رمضان، نعم هم ربما يفعلون هذا كنوع من التقوى، لكنه أساسا مرتبط بفطرتنا، ويقدم لنا أسلوب حياة فطري أصيل مرتبط بالمدينة النبوية في القرن السابع الميلادي. فأنت حينما تتجول في مركز التسوق وسط كل المحلات الفاخرة وكل اغراءات الشراء، ما يبقيك متزنا عاقلا هادئا هو أنك لا تزال تسأل أين غرفة الصلاة، ومتى يحين وقتها؟ وتسأل ما هو الحلال وما هو الحرام؟
تزودنا السنة بشكل من أشكال الحياة يزيد من فرصنا في عدم التسمم بفعل عالم حديث خارج تماما عن السيطرة.
س: ما تصفه أمر عميق جدا في إعادة اكتشاف حياتنا وفي اكتشاف المعاني من وراء شعائرنا لكن هل هناك خطر في التفكير أن الطريقة الوحيدة لتكون مسلما صالحا هي أن تزهد في الحياة المادية وتتعفف عن المادة؟ بعض المسلمين يرون أن الزهد في الحياة المادية هو السبيل الوحيد للحياة على الطريقة التي يرضاها الله سبحانه وتعالى.
لا أظن أن هذه هي الطريقة النبوية في التعامل مع الحياة، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) بعد أن شرب الحليب في رحلة المعراج وبعد ان تلقى المنحة الالهية المميزة (الصلاة) عاد إلى الحياة الدنيا وانخرط فيها بكل تفاصيلها التجارية والاقتصادية والاجتماعية، فتزوج وأنجب الأطفال وتاجر ولم يعتزل الحياة أو يزهد فيها أو يتجنب العالم كما في الرهبانية. والإسلام يعني الحياة على منهج النبي (صلى الله عليه وسلم). ويؤكد علماء الإسلام باستمرار على أن الطريق الى الجنة يكون عبر المرور بالدنيا ومكابدتها وليس باعتزالها، وذلك لأن الدنيا جزء موجود بداخلك فالمادة والغريزة جزء من تكوين الانسان ولا يمكن محوهما بالكامل من فطرته. ونرى على سبيل المثال أن رمضان ورغم أن الصوم عبادة تقشفية لكنه مرتبط بالاحتفال والتواصل الاجتماعي الدافئ المذهل. لذا نجد فلاسفة مثل نيتشة يفضلون الإسلام على المسيحية بشكل كبير، ذلك لأنهم رأوا المسيحية تتنكر للطبيعة البشرية، وتدين الجسد والغريزة، بينما الإسلام يعترف بالطبيعة البشرية المادية ولا ينكرها ولا يحتقرها. نجد نيتشة أحب أسبانيا المسلمة، الشعر الرومانسي وقصر الحمراء، لقد رأى أن الإسلام لا ينكر الحياة الدنيا. مع ذلك نجد بعض الدوائر المسلمة المعاصرة المتزمتة تشعر بالقلق تجاه ممارسة الحياة العادية والتمتع بها، مثل التمتع بالزواج، والأبناء، وتناول الطعام مع الأصدقاء وغيرها وهذا نوع من الرهبانية أو التأثر بها.
س: كيف يمكن تسكين الإمام الغزالي في هذا الحوار؟ فمن الشائع أن الامام الغزالي واجه أزمة في الأربعين من عمره حيث اعتزل الحياة وهجر أسرته فما الدروس الممكن استفادتها من تلك التجربة؟
الحقيقة أن الامام الغزالي عاش بعد تلك الأزمة كما يعيش الناس، عادة يمر المخلصون وخاصة الأذكياء والمتميزون منهم بنوع من الأزمات كما حدث للامام الغزالي والأزمة المقصودة هنا هي المتعلقة بشكه وقلقه بشأن نيته. عانى الامام الغزالي من نوع من القلق، نوع يشبه المرض النفسي فاعتزل الحياة لفترة؛ لكن هذا لم يكن الطريق الذي توصل إليه كحل دائم، فهو لم يذهب الى دير مثلا كما في المسيحية، لكنه راح وارتبط بجماعة من الحكماء في الصحراء يتأملون ويمارسون نوعا من السياحة الدينية، وهو أمر قرآني مستحب؛ فالقرآن يأمرنا بالسير في الأرض والتفكر في خلق السماء والأرض والطبيعة. وعاد الغزالي مرة أخرى فمارس الحياة والتدريس وتأليف الكتب وهذا هو الفرق بين الخمر واللبن. أحيانا نمر في نفق فنيأس وننتظر الآخرة، لكن الواجب علينا في تلك اللحظة أن نواصل سعينا في الحياة على أمل أن يعافينا الله سبحانه وتعالى ويجبر كسرنا ويردنا إلى عائلاتنا وإلى حياتنا وإلى عملنا معافين.
س: سوف يعرض هذا الحوار خلال شهر رمضان المبارك، وقد تطرقت في حديثك للحكمة من وراء بعض الشعائر والممارسات خلال هذا الشهر الكريم، كيف يحتاج المرء أن يعظم تفاعله مع هذا الشهر؟ هل يمكن أن تخبرنا ببعض الفوائد التي يمكن أن تعود على بناء الشخصية من خلال شهر رمضان وممارسة الصوم؟
كما ذكرت سابقا فإن الصيام اعتبر شيئا مفيدا ونافعا في كل تقليد أو ممارسة روحية بشرية، كل العقائد حتى غير السماوية. وقد ثبت ذلك على مستوى الفوائد الطبية الحيوية، فالصيام المتقطع على سبيل المثال ثبتت فوائده الطبية المتعددة. ذلك مرتبط مرة أخرى بأن الصيام يعيدنا الى صورة من صور الحياة البدائية الفطرية، فالبشر لم يكونوا يأكلون باستمرار أو يتناولون وجبات خفيفة او يشربون القهوة على مدار اليوم، ولكن كانوا يتناولون الطعام أحيانا، وكانوا يشعرون بالجوع والعطش أحيانا، وعملية التمثيل الغذائي في أجسادنا مصممة على هذا الاساس. لذا فإننا عندما نعود إلى هذا النمط – نمط التجرد من الشهوات تلك لفترة مؤقتة هي فترة الصوم- نجد أن تركيزنا أفضل وصحتنا أفضل.
كذلك نحن غير مصصمين لتلقي آلاف الرسائل يوميا؛ فهذا مشتت ومدمر للعقل وللروح، وسيء لصحتنا عموما، فنحن مفطورون على اوقات السكون. وذلك السكون يوفر فرصة للروح لتهدأ وتنفتح على وظيفة القلب الأساسية وهي التبصر والفهم ورؤية ما وراء الأشياء.
لذلك في رمضان، عندما تتوقف كثير من رغبات الجسد من أكل وشرب وشهوة، ويستسلم الفرد لفكرة أن هذا غير مسموح الآن، تكون هناك فرصة للدماغ أن يفكر بشكل أفضل في أشياء أخرى. أيضا تغير عاداتنا في النوم خلال شهر رمضان مفيد جدا لعقولنا فنحن نغلق كل شيء بعد المغرب أو بعد العشاء ونتفرغ لصلاة التراويح هذا يمكّن الدماغ من العمل بشكل هادئ. علميا كلما كنت تشاهد الأشياء الصاخبة والصارخة وغيرها من الأحداث أثناء الليل، كلما زادت اضطرابات نومك. إن رمضان فرصة للعودة إلى الفطرة وإعادة توجيه أنفسنا نحو القبلة وإعادة الصلة بالقرآن الكريم، والسماح لذلك الخطاب الإلهي الأبدي بالتغلغل في أرواحنا. إنه فرصة للتأمل وإعادة التفكير ومحاسبة النفس، التفكير في أخطائنا وضعفنا وهشاشتنا النفسية، ومدى فقرنا واحتياجنا لله تعالى.
إن الحداثة تحاول أن تجعل الفرد مقياس كل شيء؛ فبعد الحداثة أصبح الدين خارج المعادلة وأصبحت المرجعية في الإنسان نفسه. لكن عندما نفكر فيمن نكون حقا ونكون صادقين مع أنفسنا يتبين لنا أن هذه الحداثة وهذا التنويرفي الحقيقة بناء فارغ وليس لديه ما يقدمه لنا، إن كل الأشياء التي نستخدمها للإحساس بذاتنا مثل السيارة الحديثة، الهاتف الذكي.. وغيرها كلها مجرد نوع من اللباس الذي نخفي وراءه ضعفنا واحتياجنا، ولا شيء من هذا يعد له معنى حقيقي عندما ندرك أننا معتمدون بالكلية على الله تعالى، فبعد بضع ساعات من عدم تناول الطعام نصبح متذمرين ضعفاء وعاجزين، وهذه كلها دروس أساسية في الانكسار لله. والانكسار لله أمر ضروري جدا فالكبرياء هو أسوأ الخطايا على الاطلاق لأنه لا يجتمع أبدا مع خشية الله، وهكذا فالكبرياء يتم سحقه تماما بالصيام.
الصيام فرصة عظيمة نحتاج أن نتفكرفيه بعناية ولا نعتبره مجرد حدث ديني يمر بنا مرة في العام وفرصة لزيارة الأقارب والأحباء، بل هو منحة إلهية تحمل لنا الكثير من الخير والجمال: هذا الجمال له بعد رأسي وبعد أفقي: البعد الأفقي يتمثل في جمال التواصل مع الأصدقاء والاقارب، جمال العيد؛ وغيرها من الطقوس. وكل هذا الجمال له بعد آخر رأسي يتمثل في كون الصيام بالأساس لله حيث يقول تعالى في الحديث القدسي “إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”، فهو أكثر العبادات الرأسية التي لا يعلم أحد أنك تمارسها، فقط الله وحده يعلم.
وقد أكد علماء وأولياء هذه الأمة على مدار التاريخ أن هناك الكثير من الفتوحات والتحولات والتوبات تحدث خلال هذا الشهر فهو فرصة عظيمة يجب أن نكون مستعدين لها.
س: أشعر أن ما تصفه هو الطبيعة الجوهرية للدين، وكيف يجب على البشر التفاعل مع رسالة الله سبحانه وتعالى لهم. نحن غالبا ما نغفل عن ذلك بسبب هذه الأشياء التي عدّدتها من الحداثة وطريقة الحياة التي نعيشها وغيرها، لكن من المنصف أيضا أن نقول إن هناك نقصا في الطريقة التي نشأنا بها ساعد على ذلك، فنحن في تنشئتنا لم نجد ذلك المكان أو المؤسسة التي تقوم ببناء شخصية الشباب بالشكل اللازم. أعلم أنكم، ونحن معا، تحاولون إصلاح الأمور وإعادة ترتيبها بشكل صحيح، ونحاول أن نستفيد كل عام من شهر رمضان في تحسين إيماننا وإصلاح قلوبنا. لكن أريد أن أسأل عن الوضع الأصح أو المثالي، ماذا يقدم لنا الإسلام وماذا يخبرنا السلف الصالح عن كيفية بناء الشخصية المسلمة ومن يفترض أن يكون مسؤولا عن ذلك؟
ما تذكره يعد أهم جوانب الدين، فالدين بالأساس هو حسن الخلق، الدين ينعكس في شخصية المؤمن، وإن لم ينعكس الإسلام على شخصيتك فأنت لم تفهم الإسلام.
في العالم الإسلامي توجد المدارس التي تعلم الفقه والتفسير والعلوم الاساسية في الشريعة، وتوجد أيضا الزوايا والمحافل الصوفية والخانقاهات، وهي الأماكن التي تذهب اليها إذا كنت تريد تربية نفسك من الداخل وتصحيح نيتك، فالمدرسة العادية لا تفعل ذلك، فهو ليس جزءا من المنهج الدراسي. ويعد هذا جزءا من الرؤية الغزالية، حيث يرى الغزالي أنه لابد أن يوجد تعليم منظم يتناول اضطرابات القلوب وآفات النفس وما يدور فيها والمعاملة مع الله، كما أن هناك تعليم منظم يتناول أفعال الجوارح.
لدينا في الغرب توجد مؤسسات دينية اسلامية تعلم العلوم الشرعية الأساسية أيضا لكن لا توجد لدينا المؤسسات الأخرى مثل الخانقاهات وحلقات الصوفية التي تتناول الجانب الآخر. ما لم يتم استيراده هو البنية التحتية للحياة الروحية الإسلامية. في شبه القارة الهندية مثلا يوجد الطريقة النقشبندية، السهروردية.. وغيرها، وهذه الطرق تتولى عالم الروح. لكن لدينا هنا ما هو المكان الذي يمكنك أن تذهب إليه إذا كنت تكافح من أجل الاستيقاظ للفجر! أين المعلم الذي يمكن أن يساعدك في هذا الأمر؟ هذه مشكلة نواجهها في الغرب حيث لا نملك سوى نصف البنية التحتية التربوية اللازمة لبناء الشخصية المسلمة.
السبب في غياب التصوف أعتقد يرجع الى تحالف عملي بين العلمانيين والأصوليين الإسلاميين لإغلاق مثل هذه الأماكن، في تركيا على سبيل المثال لا تزال إدارة حلقات التصوف تعد عملا غير قانوني، لقد كان هناك المئات منهما في اسطنبول أغلقها بالكامل أتاتورك، ولم تعد للعمل في عهد أردوغان. وفي مصر فعل عبد الناصر نفس الشيء.
إن حصر الإسلام وتقليصه في تعلم مظاهر خارجية (أعمال الجوارح) وإهمال إحياء القلب، وهو ما يحرر الانسان من الداخل ويعد أجمل جزء في الدين، أدى الى أشكال متنوعة من البؤس في الأمة، وأفقدنا كمًا هائلا من الحكمة النفسية الإسلامية. تلك الحكمة التي نجد آثارا منها في الكتب، وفي ذاكرة عدد قليل من كبار السن. لقد كان ذلك مذبحة بحق وخللا في التوازن الديني. التوازن الذي يتحقق من الدعم المتبادل بين الداخلي والخارجي، الروحي والظاهري.
ان كل ما نراه من جدل معاصرعلى غرف الفتوى الالكترونية وعلى الانترنت هو تعبيرعن هذا الاهتمام المبالغ فيه بالظاهر الخارجي وعدم تحقيق أي نقلة حقيقية على المستوى الروحي.
كذلك أرى أن أحد أسباب التطرف والأصولية العنيفة هو افتقاد مصادر القوة الروحية الداخلية للتعامل مع النوازل والكوارث والاحباطات المختلفة.
ما هو الحل؟ لا أعلم، ربما هذه إشارات نهاية الزمان، ربما هذا الذي نشهد هو بالفعل أعراض الانحدار الحضاري لأي مجتمع. التركيز على المظاهر وإهمال الجوهر.
رغم ذلك يجب أن أقول إن عددا متزايدا من الشباب يبدون اهتماما بما نتحدث عنه من استعادة هذا التوازن. على سبيل المثال هناك عدد من الشباب السعودي الذين التقيت بهم قريبا مهتمون جدا باعادة قراءة السنة وإحيائها بما تمثل من تربية داخلية وروحية إضافة الى التربية والتعليم الظاهريين. ألاحظ كذلك أنه على مستوى الأمة هناك عدد كبير من الأشخاص يسعون إلى استكمال دينهم ولا يريدون مجرد “سوفت وير” خارجي فحسب لمجموعة من المظاهر الدينية. لذا فان شاء الله ومع مرور الوقت تصبح هناك أكثر فأكثر حركة شاملة نحو استعادة هذا التوازن التقليدي.
س: اسمح لي بسؤال أخير مرتبط بما تقول، فمن يستمع لنا يمكن أن يتولد لديه نوع من النظرة التشاؤمية، فهل نحن في مرحلة انحدار حضاري حتمي أم أن هناك امكانية لاعادة إحياء الأمة واستعادة نهضتها؟ وأذكر هنا الحديث النبوي الشهير عن النبي (صلى الله عليه وسلم): “مثل أمتي مثل الغيث لا يُدرى أوله خير أم آخره”. فهل نحن في حالة انهيار تاريخي حتمي أم أن هناك طريق لتحسين وضعنا في رأيك؟
القرآن يخبرنا أن العالم – الدنيا- في انحدار مستمر، فهو يسير نحو نهايته، هذه هي الحقيقة. أعتقد أن المسلمين عامة يميلون الى الذعر المبالغ فيه من هذه الحقيقة، أنا من موقعي هذا أرى الناس من خلفيات دينية مختلفة وبناء عليه أرى أننا في نعمة عظيمة. على سبيل المثال كنت أجري حوارا مع محطة اذاعية مسيحية حول ما نفعله نحن المسلمون في رمضان، إنهم لا يستطيعون استيعاب أن الكثيرين منا يحزمون متاعهم إلى المساجد لطقوس طويلة حقا في هذا الشهر، يصومون طوال النهار ثم يقومون في الليل. لا يستوعبون حقيقة أن آلاف الاشخاص يقومون بذلك ويتخلون عن عاداتهم اليومية حتى عن فنجان القهوة أو كوب الشيكولاتة، حقيقة أن هناك أماكن عبادة لا تزال تكتظ بالناس -بل والشباب- كما كان في الماضي، بل ويقومون بأشياء “صعبة موضوعيا” هذا أمر مدهش جدا بالنسبة لهم.
والأكثر من ذلك حقيقة أن الأشكال الأساسية للعبادة في الإسلام لا تزال مستمرة سليمة مكتملة تماما كما هي، فأنت إذا نظرت لديهم تجد ما يفعله البابا في روما من تغيير جذري أو تدمير بمعنى أدق لآخر بقايا القداس اللاتيني التقليدي، وهو أقدس شيء لديهم. وهناك ألم كبير يعاني منه الكاثوليك التقليديون الذين يحبون تاريخهم نتيجة هذا التدخل.
لا أحد يمكنه أن يفعل مثل ذلك في العبادات الإسلامية، لا أحد يمكن أن يقول أنا كبير الأئمة وعليكم أن تفعلوا ما أقوله لكم. لا يمكن أن يحدث هذا في أي مكان في الأمة. فنحن محميون فيما يتعلق بشعائرنا الأساسية، نحن محميون بالسنة الشريفة.
أعتقد أن هذا أحد أسباب القوة المستمرة للاسلام، حيث يعرف الناس أن ما يمارسونه حقيقي ومأخوذ عن النبي (صلى الله عليه وسلم). نحن متحدون إلى حد كبير في أشكال عباداتنا الأساسية، وما زالت لدينا ثوابت. لقد أصبح العالم في حيرة متزايدة مع غياب المعايير واختلاف الأفكار عن أشكال الحياة البشرية وعن التكاثر. لذا فمن وجهة نظر المسيحيين المحافظين الذين تحطموا مع أنقاض المسيحية في أوربا يبدو الإسلام كقصة نجاح غريبة للغاية. نحن لا نرى الأمور بهذا الشكل لأننا نميل إلى التذمر طول الوقت، الكنيسة التي اعتاد أسلافي الذهاب إليها تحولت الآن إلى مسجد هذا تحول كبير في المجتمع البريطاني، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد أن هذا التحول لن يستمر، لدينا في الوقت الحالي ما بين ثمانية الى عشرة يتحولون إلى الإسلام في مسجد كامبريدج كل شهر. هذا على الرغم من الإسلاموفوبيا، وتنظيم الدولة (داعش) وغيرها من أشكال الدعاية السلبية.
أنا لست في الحقيقة متشائما، بل أنا مندهش نوعا ما من النجاح المستمر الذي يحققه جوهر هذا الدين، أتمنى فقط أن يتوقف الناس (المسلمون) عن الجدال مع بعضهم حول الأشياء التي ليست من جوهر الدين، وهذا يتطلب نوع من جراحة القلب (إذ إن هذا نتاج مشاكل هيكلية قلبية نفسية تجعلهم غير آمنين).
نسأل الله أن يعينهم ويعيننا ويوفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه. وجزاكم الله خيرا.
تحرير وترجمة:
منال يحيى***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تفريغ لحوار أجراه محمد جلال مع الدكتور الانجليزي عبد الحكيم مراد عبر ” “The Thinking Muslim Podcast. وهو بودكاست شهير في أوساط المسلمون في الغرب بعنوان:
Is Modernity Destroying the Human Mind? with Shaykh Abdal Hakim Murad. Available at:
https://www.youtube.com/watch?v=pbecQxYsLik
** أستاذ الدراسات الإسلامية.
*** باحثة بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وحاصلة على ماجستير في العلوم السياسية. جامعة القاهرة.