التدين الرقمي

التدين الرقمي

أ. مهجة مشهور*

 مع ظهور الثورة التكنولوجيا الرقمية أصبح الإنترنت بتطبيقاته الهائلة وإمكاناته اللامتناهية وبخدماته التي تتميز بالسرعة والدقة وسعة التخزين العالية جزءاً لا يتجزأ من مجتمعاتنا المعاصرة، فبسط نفوذه وسلطته على جميع مناحي الحياة، حتى صار مرتكزاً أساسياً لتشكيل وعي الأفراد والمجتمعات.

وقد ساهم الإنترنت في خلق أنماط غير تقليدية من الجماعات ومن العلاقات الاجتماعية والتفاعلات التي لا ترتبط بهوية أو قومية أو حدود جغرافية. وتتشكل هذه العلاقات ضمن الفضاء السيبراني بشكل حر وصريح، يقوم بتحديد معالمه أصحاب الاهتمامات المشتركة ضمن الفضاء المعلوماتي الواحد.

وقد ظهر ضمن هذا العالم الافتراضي الجديد نمط جديد من التدين يشار إليه باسم “التدين الرقمي”، وهو مصطلح يشير إلى ممارسة التدين عبر الأدوات والتقنيات الرقمية، حيث انتقلت العديد من الممارسات الدينية، من دعوة ومن تلقي للعلوم الشرعية ومن إدارة للنقاشات الدينية ومتابعة للبرامج الدراسية وغيرها، من الواقع المعيش الى الواقع الافتراضي. وقد تزامن مع ذلك تحول العديد من مظاهر التدين التقليدي القائم على التفاعل مع المؤسسات التقليدية (المساجد، الزوايا، المعاهد العلمية)، ورجال الدين (العلماء والمشايخ والدعاة والوعاظ) الى تدين رقمي سائل متحرر من كل تلك المؤسسات ومستقل عن تلك الرموز، فقامت المنصات والمنابر الإلكترونية من قبيل اليوتيوب والفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي ببث المعرفة الدينية وإعطاء الفتاوى، وبث الخطب، من خلال عدد من المؤثرين الرقميين، والدعاة غير المرتبطين بأي مؤسسة دينية.

صحيح أن العلاقة بين الدين والتقنية هي علاقة أزلية ووثيقة، فقد أقسم المولي سبحانه بـ “القلم وما يسطرون،” ولعبت الآلة الطابعة دوراً مهماً في طباعة ونشر الكتب الدينية منذ لحظة ظهورها، وأسدت اختراعات مثل الراديو، والتليفزيون، وشرائط الكاسيت والـ CD، خدمات عظيمة في نشر الثقافة والقيم الدينية، إلا أنها جميعاً كانت ذات اتجاه واحد، يجعل من الفرد مجرد متلق للمعلومات. تغير هذا الحال بظهور الإنترنت الذي أتاح إمكانيات واسعة من التواصل والتفاعل في اتجاهين أو أكثر، وبذلك قفزت عجلة التقنية الخادمة لنشر الدين وقيمه قفزة كبيرة، ولكن السؤال هو، ما طبيعة واتجاه هذه القفزة؟

ما يمكن القطع به أن السيبرانية[1] قد مثلت في هذا الإطار أكثر من مجرد أداة تقانية مساعدة للتعامل مع الشأن الديني، وأن الدين الرقمي قد صار أكثر من مجرد ممارسة تقليدية متموضعة في إطار وسيط تكنولوجي جديد، فثمة أيديولوجيا تكنولوجية جديدة، تحمل في طياتها ملامح من فلسفتي الحداثة وما بعد الحداثة، وبهذا صار جوهرها متأرجحاً بين مركزية الإنسان، وبين ذوبانه في إطار الفضاء الافتراضي الجديد.

لقد نشأ نتيجة لهذه الفلسفة جيل جديد مهتم بالتعبير عن ذاته أكثر من اهتمامه بمحاولة فهم نفسه أو فهم العالم المحيط به، ولكنه في نفس الوقت، جيل لا يلبث أن يفقد ذاته أو ينساها بمجرد أن ينخرط في إطار هذا العالم الافتراضي. جيل مفتون بالصورة، جيل أصبح بإمكانه أن ينتج المعلومة ومنها المعلومة الدينية من خلال تصوره وفهمه الخاص، جيل منغمس في إطار تفاعلات عبر العالم الافتراضي الخاص (أمام شاشة الكومبيوتر أو الهاتف الذكي)، ولكنه لم يعد يعرف كيفية التفاعل الحقيقي في إطار العالم المادي.

هذا ويمكن فهم العديد من ملامح الأيدلوجية الرقمية بالرجوع إلى فلسفة السيولة كما شرحها زيجموند باومان في سلسلة كتبه، فبعد مرور العالم بمرحلة طويلة من الحداثة الصلبة التي تتميز بسيادة العقل، والسعي لتأسيس نظام علماني محكم وثابت، بعيداً عن أي تصورات دينية، انتقل العالم الى ما يطلق عليه الحداثة السائلة التي لا تعترف بفكرة الثبات والصلابة، بل تفكك كل المرجعيات وتتحرر من فكرة الحقيقة ومن كل المقدسات. في ظل هذه الحالة من السيولة أصبح كل شيء ممكناً، وتحول اللايقين إلى شكل من أشكال اليقين، وصار التغير هو الثابت الوحيد. ما انتهي بالعالم إلى أن يعيش ضمن حالة من سيولة الهويات والقيم والمعايير والمفاهيم والعلاقات الإنسانية.

وبتطبيق هذه المقولات على مظاهر التدين الإسلامي على الإنترنت، نجد أن هذه المظاهر باتت تشهد بدورها حالة من التنوع والتباين تصل إلى حد التصادم والاشتباك أحياناً، ما جعل الإسلام الرقمي الذي يمارسه الكثير من المسلمين في الفضاء السيبراني بمثابة نسخة مستقلة إذا ما قورنت خصائصها بالإسلام الذي يمارس خارج هذا الفضاء الرقمي.

إن حالة السيولة التي تظهر بها الممارسات الدينية على الشبكة العنكبوتية تعكس نسبوية ما بعد الحداثة، فكل شيء ممكن، وكل شيء متغير، وكل أمر وضده موجودان. وفي هذا الصدد فإن الواقع الافتراضي يبدو كما لو كان يطرح نسخاً متنوعة من الدين الواحد، ففي ظل حالة السيولة الكاملة التي لا يملك طرف فيها أن يحتكر الحديث باسم الدين، أو أن يقنع رواد الفضاء الافتراضي بأنه المخول لتقديم المفهوم الصحيح للتدين، نجد السيولة في أقصى درجاتها. سواء فيما يتعلق بالآراء أو الفتاوى أو الأحكام، أو حتى العقائد والتصورات.

وفي هذا الإطار فإن جميع المسلمات تبدو على المحك، وجميع الموضوعات خاضعة للنقاش، فالمجال الافتراضي مفتوح أمام أنصار الإفراط والتفريط، ففي هذا الفضاء يمكن أن نقابل من يؤكدون أن الحجاب ليس فرضاً، كما نقابل من يؤكدون أن النقاب هو الشكل الوحيد المقبول للتدين السليم. وبنفس الطريقة فإن هناك المتعاطفون مع المثلية الجنسية المؤكدون أنها ليست محرمة في الأديان، كما يمكن أن نجد من يرفض أن يكون لمن تلبَس بأي من ممارساتها أي نوع من التوبة أو الأوبة. ويمكن أن نجد مواقع ترفض الاجتهاد في كافة المجالات الشرعية وتؤكد انغلاق باب الاجتهاد، وفي المقابل نجد مواقع تروج لتفسيرات جديدة وتدعو إلى إعادة النظر في الأحكام الشرعية والنصوص الدينية كافة، لكونها تتضمن من وجهة نظرهم أوجهاً من القصور الذي يتعين مراجعته. هذه السيولة تهدد بوضوح فكرة المرجعيات الصلبة التي يقوم عليها مفهوما الدين والتدين، وتفتح الباب لجدالات لا نهاية لها.

وقد يقال إن مثل هذه الأفكار كانت موجودة من قبل وجود المنصات الرقمية، وهذا أمر صحيح، ولكن ما جد هو الانتشار الواسع الذي ساهمت المنصات الجديدة في تحقيقه لهذه الموضوعات، ما عمق بالضرورة من تأثيرها على الفرد العادي، الذي كان نادراً ما يطالع كتاباً أو ينخرط في نقاش حول الموضوعات الجدلية من خلال المنصات التقليدية كالتليفزيون والراديو. لكن التكنولوجيا الرقمية نجحت في الاستحواذ على انتباه ووقت الفرد الذي بات يقضي عدد ساعات طوال في التنقل بين المواقع المختلفة، فيتأثر بأساليبها الجذابة في عرض المعلومات، ويقتنع بمن هو ألحن في القول خلالها من غيره.

إن السمة الغالبة على الحالة الدينية في إطار العالم الافتراضي تتمثل بشكل أساسي في السيولة المعلوماتية، التي تشير إلى حالة من التفكك واللايقين واختفاء السلطة المعرفية الدينية، أي اختفاء القوة الصلبة المرجعية طلباً للحرية والتعددية غير المنضبطة.

وهي الحالة التي تستدعي دعم أبنية المعرفة الدينية الثابتة والراسخة، والتي أصبح استدعاؤها إلى المجال الافتراضي أمراً ملحاً، حتى يجد الإنسان الرقمي في إطارها نقطة ثبات يرجع إليها وسط فوضى المعلومات. وتقع هذه المسئولية بالدرجة الأولى في حالتنا ضمن العالم العربي على المؤسسات الدينية الأصيلة مثل الأزهر الشريف.

الخريطة الدينية على الشبكة العنكبوتية

إن الخريطة الدينية المعقدة للجماعات والفرق الإسلامية قد انتقلت بكل تفاصيلها الى الفضاء السيبراني، فعلى المستوى الافتراضي صار طبيعياً أن نجد كلاً من السلفيين والمتصوفة والجهاديين، والأشعريين، والحداثيين، وغيرهم. وقد أدى هذا التعقد الأيديولوجي في مجال الأفكار والمعلومات الدينية الى حالة من الفوضى، وأفسح المجال أمام الكثير من أشباه العلماء، بل وأمام الأفراد العاديين لممارسة الدعوة الدينية، والتحدث بلسان الثقافة الشرعية لكسب أعلى قدر من الجماهير وتحقيق أكبر نسبة من المشاهدات، سعياً ربما وراء الشهرة وزيادة عدد المتابعين فقط، أو رغبة في الحصول على المقابل المادي لهذه الشهرة وهذا الانتشار أيضاً.  

ويمكن رصد ملامح هذه الخريطة بالإشارة الى نماذج من هذه التيارات المنتشرة على الشبكة العنكبوتية، فهناك التيار الصوفي الداعي الى أعمال القلوب وتعميق الإحساس الروحاني وطرقه العديدة ومشايخه المتبعة، وفي المقابل هناك الحركات الإسلامية الراديكالية المتعددة صاحبة الفكر الجهادي. وهناك التيار السلفي الداعي إلى اتباع طريق السلف، وفهم النصوص الشرعية بمنهجهم، وهناك الحداثيون الذين يدعون إلى الثورة على الموروث، وتقديم قراءة جديدة للنصوص باستخدام مناهج عليها العديد من علامات الاستفهام.

التكنولوجيا الرقمية والمستخدم العادي

من المفهوم أن يزداد التدين الرقمي بزيادة إقبال الفرد العادي على استخدام وسائل التواصل الرقمي، حيث أصبحت هذه الوسائل طريقة للتعبير عن الإيمان من قِبل الأفراد على اختلاف مستوى إيمانهم الشخصي، وذلك عبر العديد من الصور، مثل استخدام التغريدات والخطابات المرئية والفيديوهات القصيرة والمنشورات، وعادة ما يكون مقصد أصحاب هذه الممارسات إضافة هذا العمل إلى ميزان حسناتهم، حتى أصبح التدين الرقمي يتسم بطبيعة شعبية بامتياز.

أما بخصوص الخصائص الأسلوبية، فكثيراً ما يشتمل هذا النمط من التدين على طابع خطابي وسجالي، كما قد ينطوي على تسطيح شديد. في الوقت الذي تعاني فيه المنصات المتضمنة لخطاب ديني متزن وعميق من عدم قدرة على مجاراة هذه المواقع، أو على اجتذاب أعداد مماثلة من المتابعين، فالتدين الرقمي يتضمن خطابات دينية سهلة وسريعة وبسيطة، ويقف عند ظاهر النصوص الدينية والأحكام الشرعية، ويغفل عن التعددية الفقهية وعمق الشريعة الإسلامية، وهذا ما يلائم العديد من الأفراد، الذين يقيِمون المحتوى الديني، بنفس ما يقيم به المستهلك المنتج الاقتصادي..     

التدين الكمي

أفرزت هذه الحالة أيضاً ما يمكن تسميته بـ “التدين الكمي”، وهو قناعة البعض بأن الزيادة الكمية في أداء العبادات المختلفة، عدد أكبر من ركعات النوافل، أو عدد متزايد من التسبيحات إلخ سيدر على العبد الرزق أو الفرج أو السعادة إلخ، وفق علاقة شرطية مباشرة. هذا الفهم حوَل التدين من فعل إيماني يستحضر الخشوع والتسليم لله، الى فعل تعاقدي يطالب صاحبه بالمزيد من الحسنات فقط من خلال الزيادة الكمية لأنواع معينة من السلوكيات التعبدية الشكلية في الأغلب. وفق تصور يعتبر أن ما وعد الله تعالى به عباده المؤمنين يمكن أن يُنال بمجرد التكرار الكمي.

في هذا الإطار أصبح من المعتاد أن نواجه، في إطار العالم الافتراضي، بفيضان من الخطابات والمنشورات والتغريدات التي تستحث الفرد لإرسال وإعادة إرسال أدعية بعينها أو أحاديث نبوية منتقاة أو عبارات وعظية، بأسلوب لا يخلو من الابتزاز للعاطفة الدينية لدى المتلقين لهذه الرسائل، كما أصبحت هناك وفرة في المواقع المخصصة للدعاء الافتراضي والعبادات الافتراضية، وظهرت مواقع دينية عديدة معبرة عن هذا التوجه الكمي في العبادة.

هذا الشكل من التدين الكمي يشي بتحول سلبي في فهم معنى التدين، فرغم محاولة أصحابه المستمرة لعقلنة تصرفاتهم، وإيجاد السند الشرعي لها، إلا أنه لا يعكس عمقاً إيمانياً فعلياً أو قيمياً لدى القائمين به، بالقدر الذي يعكس فيه خضوع البعض لتدين شكلي تعلقاً بأهداب نجاة دنيوي وأخروي، لا يطالَب فيه الفرد بأكثر من أن يتحول إلى أداة إحصاء عددي، لا يلتفت إلى معنى وجوهر العبادة.

المرجعية الرقمية

الكميات الهائلة من المعلومات المتدفقة عبر المنصات الرقمية المختلفة بأشكال وأنماط متنوعة، عادة ما تكسب المتصفح العادي ثقة زائدة بالنفس، مبعثها قناعته بقدرته على الوصول الى إجابة عن أي سؤال ديني يعرض له، من دون الرجوع الى أهل الاختصاص، أدى هذا الوضع إلى حالة من “وهم المرجعية،” أو تحول الفرد إلى مرجعية نفسه، وذلك من دون أي تأصيل علمي حقيقي أو رصيد من العلوم الشرعية. فالفرد الرقمي المتدين، خريج مواقع التواصل الاجتماعي، هو كائن ذاتي التعلم، يشكل مفاهيمه الدينية دون مراجعة المختصين، مما يؤهله لكي يقع ببساطة فريسة لأي توجهات غير سليمة دينياً.

الشك الرقمي

على العكس مما سبق، قد يرتبط ازدهار التدين الرقمي، عبر منصات التواصل الاجتماعي وغيرها، بازدياد التساؤل حول مسائل الحلال والحرام للوقائع اليومية العادية، وكأن البعض يسعى، بوعي أو بدون وعي، إلى نقل حالة القلق الفقهي إلى المجال الرقمي، ما يفرز بدوره حالة من الإفراط في اللجوء إلى منصات الإفتاء الديني، كما يؤدي إلى ظهور عدد كبير من المفتين والفقهاء ممن أصبح الإنترنت بالنسبة لهم بمثابة رافعة لأفكارهم الدينية وفتاويهم الشرعية. وهنا أصبح المجال الرقمي ساحة للصراع أمام الفرد العادي، الذي لا يعلم كيفية الاختيار أو المفاضلة بين الآراء والفتاوى المختلفة والمتضاربة، مما فاقم إحساسه بالتردد إزاء الآراء الفقهية بجملتها، بحيث لم يزد بدخوله في التيه الرقمي إلا ابتعاداً عن اليقين الديني المنشود.

 الدعاة الجدد والفضاء السيبراني

ظاهرة الدعاة الجدد ليست ظاهرة جديدة، بل هي حاضرة منذ ما قبل ظهور تكنولوجيا الإنترنت، ولكن، مرة أخرى، أدى ظهور هذه التكنولوجيا الى طفرة في أداء هؤلاء الدعاة الجدد وفي قدرتهم على الوصول إلى ملايين المتابعين عبر العالم.

ويعتمد أسلوب الدعوة الرقمية في الغالب على تحريك العاطفة، وتشجيع المتلقين على السعي لتحقيق السعادة الفردية، حيث يتم تناول مسائل الإيمان وفق مقاربات دنيوية تستبعد فكرة الترهيب وتقتصر على جانب الترغيب، وتغفل فكرة العقاب الرباني وترفع لواء الثقة في الرحمة الإلهية، وتكثر من الحديث عن أهمية تحقيق السلام الداخلي والتوازن الروحي. كما يستخدم هؤلاء الدعاة مقولات التنمية البشرية والسلوك الإيجابي للفرد داخل المجتمع.

وقد أدى خضوع هؤلاء الدعاة لمبادئ السوق الإعلامية الرقمية إلى تطور خطاباتهم أسلوباً ولغةً، تمثل ذلك في انتقائهم مواضيع معاصرة شبابية وفق إخراج دعائي يحاكي البرامج الترفيهية، ويختلف عن الإخراج التقليدي لدروس العلم الكلاسيكية، من حيث اختيار أساليب الديكور والإيقاع، مع إطلالة عصرية للمقدم، تغاير إطلالة الدعاة والمشايخ بزيهم الديني المعتاد.

هذه الكيفية الجديدة في التعامل مع الشأن الديني تختلف تماماً عما اعتاد عليه المسلمون في السابق، فهناك تغيرات ملموسة يمكن نسبتها إلى الأثر الذي أحدثته التكنولوجيا، وبخاصة عدسة الكاميرا، التي يمكن القول إنها باتت تمس قداسة الفعل الديني بشكل أو بآخر، وهذا أمر يحتاج الى تأمل، فعلى الرغم من أن الكاميرات كانت حاضرة داخل المساجد ودروس العلم منذ وقت طويل، لتغطية حلقات دينية ناجحة مثل حلقات الشيخ الشعراوي في تفسير القرآن الكريم وحلقات نور على نور وغيرها، إلا أنها كانت في الزاوية، ولم يكن الداعية أو الشيخ يستقبلها بوجهه، متحدثاً إليها، وإنما كان يتوجه بوجهه وحديثه إلى جمهور من المتعلمين وطلبة العلم، بعبارة أخرى كانت الكاميرا هنا فاعلاً ثانوياً محايداً.

أما في الإطار الجديد، فقد تحولت الكاميرا الى بطل للمشهد، يفرض على المحاضر أو الداعية أو الشيخ أن يتوجه إليها بابتسامة مرسومة، على نحو قد لا يناسب حرمة العلم والعالم، بقدر ما يؤكد جاذبية المتحدث، وحضوره، وقدرته على خلب لب الأعداد الضخمة من المتابعين، حتى رأينا من الدعاة من يقوم ببث مناسك حجه جميعها “أونلاين” فيما متابعوه يرافقونه في هذه الرحلة المقدسة. ورأينا آخر يدعو الله تعالى أمام كاميرا الموبايل ومتابعوه الافتراضيون يؤمِنون عليه. إن الشعور الطبيعي الذي تولده هذه الممارسات السينمائية هو عدم الارتياح وافتقاد المعنى الوجداني لهذه العبادات. وهذا الأمر يستدعي المزيد من الدراسة لأثر التكنولوجيا على مضمون وروح الدعوة الدينية، مراعاة للوصول الى الصورة الأمثل لكيفية استخدام الوسائل الجديدة في الدعوة الدينية دون الإخلال بالبعد الروحي والوجداني لها.

لقد أوجدت وسائل التواصل الاجتماعي أنماطاً جديدة من العلاقات بين الداعية ومتابعيه الافتراضيين، حتى غدت عين الداعية تتابع في أغلب الوقت أعداد هؤلاء المتابعين الذين كثيراً ما يصلون الى الملايين، حتى غدا إرضاء هؤلاء المتابعين عبر خطاب غير تقليدي يأخذ شكل مقولات متقطعة أو فيديوهات قصيرة المدة وإثارة موضوعات حياتية غير مألوفة في الخطاب التقليدي الديني جزءً لا يتجزأ من مظاهر الدعوة السائلة، يختلف تماماً عن العلاقة التقليدية الصلبة بين الشيخ الداعية ومتابعيه كما كان الحال قبل استحضار الأدوات الجديدة.        

إشكاليات التدين الرقمي

أحد أوجه التعارض الواضحة بين طبيعة المجال الافتراضي وطبيعة التدين الإسلامي، أن العبادات الإسلامية تقوم جميعها تقريباً على أساس من الاحتكاك والتفاعل المباشر بين أعضاء الجماعة الإيمانية، ففي الصلاة تفضل صلاة الجماعة صلاة المنفرد بدرجات كثيرة، وفي الصيام، يتقاسم المسلمون في نهار رمضان وليله ممارسات ومظاهر وعادات يعيشها الجميع كأمة واحدة، وفي الحج يجتمع المسلمون في وقت واحد ويؤدون مناسك واحدة في أماكن واحدة، فهي عبادة جماعية بامتياز، والزكاة بدورها هي فعل تراحمي بين أفراد المجتمع المسلم، يرتبط بسعي المسلم لتقصي حال إخوانه. وعليه فإن مفهوم المشاركة الإنسانية القائم على الاحتكاك المباشر بين الجميع يعد من أهم ملامح الرؤية الإسلامية، فالمجتمع المسلم “جسد واحد” يلفظ الانعزال والانكباب على النفس، وهي الصفات التي تميز، للأسف، المجال الافتراضي وتفاعلاته.

بل إن التقليد الإسلامي الأبرز المتمثل في حفظ وتلاوة الكتاب الكريم، هو تقليد تفاعلي، يقوم على أساس من تناقل الخطاب الشفاهي، وحصول الحافظ على إجازة من شيخه وفق رواية أو روايات متعددة، وهو أمر يسعى اليه طلاب العلم بشغف، فهذه الشهادة من الشيخ المجيز تعني أن الطالب قد قرأ عليه القرآن كاملاً غيباً مع التجويد والإتقان للرواية، وأنه قد أصبح مؤهلاً للإقراء بها، وبالحصول على هذه الإجازة يكون الطالب قد اتصل بسنده إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وصار ضمن سلسلة الناقلين لكتاب الله تعالى بالسند المتصل. هذا الشرف الكبير لا يناله الطالب إلا بالجلوس بين يدي شيخه، يعيد عليه ما حفظه بصبر وأناة وتركيز.

إذن فالعلم الديني هو دراسة مقرونة بالتربية من الشيخ لطالبه، في إطار عملية متكاملة تتضمن بناء شخصية طالب العلم ليكون أهلاً لتعليمه فيما بعد. وهذا مما يتعارض بدرجة كبيرة مع فلسفة مواقع التواصل الاجتماعي التي تعزل الفرد في قوقعته، وتحصره في إطار كل ما هو افتراضي وغير إنساني.

المؤسسة الدينية والتكنولوجيا الرقمية:

بحضور الإنترنت لم يعد العلم الشرعي يؤخذ فقط من الجامعات والمدارس الدينية والمساجد والعلماء، فمن خلال استغلاله للصورة والصوت والمعلومة السريعة أصبح الإنترنت منافساً خطيراً يستقطب كل سائل عن الإسلام. وأصبح كل حاصل على قدر بسيط من العلم الإسلامي يعتقد أن له القدرة والحق في الإفتاء وفي تصحيح رأي الآخرين وحتى في التكفير.   

في مواجهة هذه السيولة الدينية ظهرت أهمية أن يكون هناك حضور فاعل للمؤسسات الدينية العريقة، التي تمتلك ناصية العلم الديني، وتحتضن كافة المذاهب الفقهية، وتتحمل مسئولية الاجتهاد الشرعي المنضبط بأصول منهجية ثابتة. ويمكن القول إن المؤسسة الدينية الأبرز للمسلمين ممثلة في الأزهر الشريف، قد سجلت حضوراً افتراضياً قوياً، مما ساعد على الحفاظ على أنساق معتقدات تابعيها في هذا العالم الرقمي الذي يتسم بالسيولة الدينية والمعرفية.

لقد وجد الفقهاء ورجال الدين أنفسهم في إطار السيبرانية إزاء تحولات عميقة تكاد تعصف بالممارسات الدينية المتوارثة عبر التاريخ. وإذعاناً لإكراهات الواقع الراهن حدث تحول مؤسسي يتلاءم مع التطور التكنولوجي السريع. وكان التحدي أمام المؤسسات الإسلامية التقليدية هو المواءمة بين البنية الأصولية الأصيلة للإسلام وبين الاندماج في الفضاء السيبراني للاستفادة من خيارات التواصل الجديدة.

كما ارتبطت هذه الحقبة من التكنولوجيا الجديدة بظهور الإفتاء الإلكتروني، حتى إن أنشطة الإفتاء تعد من أكثر الممارسات الدينية رواجاً في البيئات الإلكترونية، حيث أعادت تكييف نفسها في ظل الفضاءات الرقمية الحديثة لمواكبة تفاصيل الحياة اليومية للمسلمين وما يطرأ عليها من مستجدات، فسعت بما تملكه من رصيد إفتائي ضخم الى منع حدوث أي فراغ ديني على مستوى الإفتاء يجعل مَن لا حق له ولا علم يملأ هذا الفراغ.

بجانب الإفتاء، أتاحت الشبكة المعلوماتية الوصول الى شرائح وأمم صعب التواصل معها مباشرة، فأتاحت الدفاع بقوة عن أطروحات دينية ضد الإلحاد والعلمنة، متجاوزة عراقيل نقل المعلومة المقروءة والمسموعة والمرئية.

الخاتمة:

مما لا شك فيه أن التدين الرقمي لن يمثل إضافة ورصيداً للحالة الدينية بشكل عام، إلا حين يصبح جزءاً من البنية الصلبة التي يقيمها الإسلام في وجدان وعقول أفراد هذه الأمة. وهذا لن يتحقق بدوره إلا بقيام المؤسسات الدينية والعلماء ذوي الثقل بممارسة دور فاعل على المستوى الرقمي، على نحو يحدث نوعاً من التوازن ووضوح الرؤية لدى مرتادي المواقع الدينية في الفضاء الرقمي، بحيث يغلب تأثير وفاعلية الآراء الدينية الصلبة تأثير المواقع والمنصات والأشخاص الذين يطرحون رؤية سائلة، ما يسهم في تكون أمة افتراضية ناضجة تمنح منتسبيها شعوراً بالانتماء وتستنقذهم من تيارات التغريب والتشتت بين اتجاهات التدين السائلة.             

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مدير مركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وسكرتير تحرير مجلة المسلم المعاصر.

[1] اصطلح على إطلاق كلمة “سيبرانية” أو الفضاء الإلكتروني (Cyber space) على كل ما يتعلق بالشبكات الإلكترونية وشبكة الإنترنت والتطبيقات المختلفة (كالواتساب، والفيسبوك، وغيرها)، كما تطلق على كل الخدمات التي تتم online كتحويل الأموال عبر الإنترنت والشراء أون لاين وغيرها من آلاف الخدمات في جميع مجالات الحياة على مستوى العالم.

عن مهجة مشهور

شاهد أيضاً

التدمير الخلاق: أبطال موجة الذكاء الاصطناعي وضحاياها

تأليف: أ. د. أيمن البوغانمي

عرض: أ. أحمد محمد علي

 يبدأ الكاتب بتسليط الضوء على التحولات التكنولوجية العميقة التي يشهدها العالم اليوم، والتي يصعب مقارنتها إلا بالثورتين الصناعيتين السابقتين.

الآثار الاجتماعية للسيبرانية: نحو رؤية مقاصدية “حلقة نقاشية”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

عقد مركز خُطوة للتوثيق والدراسات يوم السبت 16/ 09/ 2023 حلقة نقاشية حول الورقة التي أعدها د. شريف عبد الرحمن بعنوان "الآثار الاجتماعية للسيبرانية: نحو رؤية مقاصدية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.