الترف الخالد: من عصر المقدس إلى زمن الماركات

العنوان: الترف الخالد من عصر المُقَدس إلى زمن الماركات

العنوان بالفرنسية: Le Luxe Eternel. De l’Age du sacré au temps des marques

المؤلف: جيل ليبوفتسكي، إلييت رو.

ترجمة: الشيماء مجدي.

الطبعة: ط. 1.

مكان النشر: بيروت.

الناشر: مركز نماء للبحوث والدراسات.

تاريخ النشر: 2018.

الوصف المادي: 200 ص. ، 24 سم.

السلسلة: ترجمات؛ 31.

الترقيم الدولي الموحد: 978-614-431-667-2

الكتاب الذي بين أيدينا مترجم من اللغة الفرنسية. ويتكون من مقدمة وجزأين، كل جزء خاص بمؤلف، وكل جزء مكون من أربعة فصول، يليهم ملحقات وجداول.

الجزء الأول : الترف الخالد، الترف العاطفي – جيل بيتوفيتسكي

الفصل الأول : المقدس، الدولة والترف.

الفصل الثاني: ترف الحداثة، ترف ما بعد الحداثة.

الفصل الثالث: تأنيث الترف.

الفصل الرابع: الترف والحاسة السادسة

الجزء الثاني: زمن الترف، زمن الماركات – إلييت رو

الفصل الأول:  الترف بين الهيبة وسوق الجملة.

الفصل الثاني: التحولات التدريجية لمعاني الترف.

الفصل الثالث: الماركة الفخمة: الشرعية والهوية.

الفصل الرابع: الترف وزمن الماركات، تدبير الهوية في الزمن.

نبذة عن المؤلفين:

جيل ليبوفتسكي: (مواليد 1944)، فيلسوف وعالم اجتماعي فرنسي، أستاذ في جامعة جرينوبل، من أهم مؤلفاته “عصر الفراغ، الفردانية وتحولات ما بعد الحداثة”. 

إلييت رو: مدرسة بالجامعات منذ 2004، ومديرة مركز الدراسات والبحث في المنظمات والتدبير منذ 2008، بجامعة اكس مارسيليا بول سيزان.

تقديم:

يعرض هذا الكتاب مقالتين لكاتبين، وهما بمثابة إضاءتين الأولى تأويل سوسيو- تاريخي للترف، والأخرى مقاربة تسويقية وسيميائية للترف، الأولى وجهة نظر طويلة المدى، والثانية تركز على هوية الماركات وتدبيرها على مر الزمان. 

في إشارة سريعة في المقدمة أكد المؤلف على أثر الترف السلبي في إضعاف الأجساد وفساد الأرواح والأخلاق وانحطاط الهمم والشعوب. فالترف في أغلب المدارس الفلسفية اليونانية وحتى عصر الأنوار مرادف للتصنع والتجاوزات والغطرسة، وهو يجعل الناس تعساء بسبب سباق لا نهاية له لنيل الملذات الكاذبة.

من وجهة نظر مغايرة يتطرق الكتاب في نصفه الثاني إلى الترف والحياة الاقتصادية، فالثقافة الجديدة تحمل في طياتها اقتصاداً جديداً للترف، ومن ذلك ظهور الماركات، وتحول استراتيجيات العرض والطلب.  

قد يفاجأ القارئ من عدم توافق ولا تناسق الرؤى بين شقي الكتاب  وهو أمر مقصود في تقديم هذا الكتاب ليشهد على التحولات العميقة الجارية التي تحيط بموضوع الترف بين رفضه واللهث ورائه.

الجزء الأول

ترف خالد، ترف عاطفي

لجيل ليبوفيتسكي

بادئ ذي بدء يعلن الكاتب موقفه من الترف، بأنه لا يهمه منه سوى التفكر فيه.  بيد أن التحولات التي طرأت على ساحة الترف من عقدين تقريباً تحتاج حتماً إلى إعادة تقييم، خصوصاً من حيث الوزن الاقتصادي لصناعات الترف. فالنظام الجديد يحتفل بزفاف الترف والفردانية الليبرالية، كما نرى تطور عبادة “العامة” للماركات. وتشير الدراسات المستقبلية إلى اتساع رقعة الترف مستقبلاً بسبب ظهور فئات ثرية جديدة من جهة والعولمة من جهة أخرى.

بدأت كيانات اقتصادية كبرى في الظهور بفضل اندماج أكثر من واحدة من الماركات العالمية تحت اسم تسويقي واحد، وتدرجت درجات الترف بشكل هرمي من ترف استثنائي موجه للطبقات الثرية وبين ترف متوسط يبدو في متناول اليد بالنسبة للطبقات الأقل ثراء. وقد بلغ الحجم الاقتصادي لصناعات الترف ما يقارب تسعين مليار يورو في عام 2000 بخلاف قطاع السيارات الفارهة. وبعد أن كانت المنتجات الفاخرة مقصورة على الفئة البرجوازية نزلت تدريجياً إلى الشارع؛ حيث أصبحت متاحة في محال السوبر ماركت الكبرى التي تستعين بمديرين متخصصين مدربين على أساليب التسويق، وهدفهم إتاحة الترف لأكبر عدد من الناس بعرض نوع من الترف المتوسط في متناولهم.

وفي رأي الكاتب هناك عوامل ساعدت على ازدهار سوق الترف منها:

1- زيادة الماركات الفاخرة الموجودة على الساحة.

2- تكثيف الاستثمار الدعائي، وظهور الماركات الفاخرة في وسائل الإعلام.

3- تخصيص زوايا للماركات في الميجا ستورز.

4- أخيراً التجارة الاكترونية.

إذن يشهد عصرنا التوسع في امتلاك الكماليات للجميع، وتحولات كثيرة تدعو للتفكر في المعنى الاجتماعي والفردي للاستهلاكات الثمينة. ويقدم ليبوفتسكي بعض تأملاته حول الترف منها أن الترف “العام” هو الذي أضفى اللمسة الفنية في العمارة والحضارة، أما الترف الخاص فهو الذي يضيف للإنسان لذة وسعادة. بيد أن هذا لا يمكن أن يبرر بأي حال من الأحوال جنون الإنفاق المتعلق بالترف في وقتنا الحالي. 

يسعى الكاتب هنا الى “إلقاء بعض الضوء على الميكانيزمات والدوافع التي تكمن وراء الاقتصاد العام لهذا التغير”، ويقرر أنه اختار دراسة الموضوع بنظرة شمولية أكثر منها ميكروسكوبية، معتبراً أن “الغوص في الماضي هو أفضل ما يسمح بإعطاء الحاضر كل معانيه”.

الفصل الأول

المقدس، الدولة، الترف

يبدأ الكاتب هذا الفصل بمقولة “في البداية كانت (الروح)، ربما سنندهش بعض الشيء من الاقتراح الروحاني في افتتاح موضوع مرتبط بمادية أكبر”. إلا أن تاريخ الترف البدائي يدعو الى هذه المقولة. فيعود الكاتب لمنشأ فكرة الترف فيؤكد وجودها منذ بدايات الإنسان على الأرض؛ معللاً أن العثور على المقتنيات الخزفية والنقوش التي حفرت عليها هي نوع بدائي من الترف.

أركيولوجيا الترف: يقدم الكاتب مظهراً اجتماعياً خاصاً وهي الولائم “في العصر الحجري” على أنها كانت إحدى إرهاصات الميل للترف. فالترف لم يبدأ مع فكرة اقتناء الأشياء الغالية ولكنه بدأ مع فكرة الإنفاق أو العطاء، وهما ظاهرتان ملحوظتان في كل المجتمعات البدائية.

تبادل الهدايا كان إحدى الطرق التي يسلكها المجتمع البدائي لخلق علاقات اجتماعية، فالهبة تضمن مكانة الزعيم وتُحمله تبعة الالتزام أمام الجميع، وتبادل الهدايا يخلق التحالفات بين جماعات غريبة وإبرام اتفاقات سلام بينها. فجنون الإسراف في ولائم الترف البدائية كان يخدم  هدف اجتماعي أسمى وهو الرغبة في السلام، فالإسراف الكمالي البدائي كان يعني التضحية بالأشياء لخلق التحالف وتقوية الروابط الاجتماعية والألفة.

بهاء وهرمية: أما مع ظهور الدولة والمجتمعات المقسمة إلى طبقات، أصبح للترف معنى جديد يتماشى مع التكديس والتمركز والتدرج؛ ومن ذلك مظاهر الترف في الإنشاءات الهندسية والمنحوتات العظيمة والقصور المشيدة التي تعكس جلال المباني الخالدة.

ارتبطت الفخامة بمبادئ اللامساواة فوجد الانفصال الظاهر بين الأمتعة الغنية والأمتعة العادية، فخامة البعض من ناحية وعوز عدد أكبر من ناحية أخرى.

ترف مقدس، ترف دنيوي: ظهور فكرة المعتقدات الدينية التي تمجد الآلهة لا يمكن الحياة بدونها؛ إلا أن القدماء قسموا معبوداتهم إلى كبرى وصغرى، وعلى البشر تقديم ما يليق بمكانة كل منهم من فاخر المأكل والمشرب والملبس والزينة، والولائم الاحتفالية بها، والمجوهرات والملابس الثمينة، وبناء بيوت الآلهة الفخمة حيث تستخدم الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة بهدف ضمان رضاها، 

ثم تلا ذلك فكرة أن الملوك امتداد للآلهة على الأرض، يستمدون مشروعيتهم منهم؛ وتجسد ذلك في البذخ والترف في القصور الملكية. كما استمرت الولائم الباذخة في القصور الملكية، فحياة البلاط هي مسرح تباهي الملك وحاشيته بالخيرات والفخامة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ملوك مصر القديمة، حيث اهتموا ببناء بيوتهم المقدسة على أشكال عمودية عالية، كما اهتموا ببناء مقابرهم العملاقة (الأهرامات) الزاخرة بالكنوز التي تضمن لهم الخلود في الحياة الأخرى.

وابتداءً من العصور الوسطى والنهضة فإن ارتقاء البرجوازية في سلم السلطة الملكية، وظهورها بقوة في المجتمع قاد إلى زيادة إنفاقات الوجاهة من ناحية، وتوسيع الطبقات الراقية من ناحية أخرى. ومن هذه اللحظة تحرر الترف من كونه ميزة حصرية للمقدس والنظام الهرمي الوراثي، وأصبح دائرة مفتوحة للحراك الاجتماعي. وهكذا يمكن القول أن الانتشار الاجتماعي للترف سبق ثورة المساواة الحديثة.

فن، تحف، وتفاهات: تعدى الترف في عصر النهضة الاهتمام بالمظاهر الخاصة إلى الاهتمام بالفن والفنانين؛ فوجه الأمراء والنبلاء والملوك اهتمامهم بالفنانين وأغدقوا عليهم الهدايا ليجتذبوهم إلى بلاطهم. كذلك كان الحال مع البرجوازيين الذين كانوا يطمحون أن يكونوا محاطين بالتحف الفنية التي أصبحت من وسائل الوجاهة الاجتماعية في عالم النخبة. كانت اللوحات تعبر في الماضي عن الفوز بالخلود السماوي، ثم شيئا فشيئا أصبحت تعبر عن كل ما هو استمتاعاً دنيوياً، كل ما هو جميل وباهظ الثمن معاً.

هنا ظهرت علاقة أكثر شخصية وجمالية مع البضائع باهظة الثمن، طموح ذاتي لحياة أجمل وأكثر رقياً، علاقة حسية بين الإنسان والأشياء الثمينة. وأصبحت الأشياء تُحب لذاتها وليس فقط كرموز لوضع أو سلطة. وكان القرن الرابع عشر فترة مفصلية حيث شهدت الحضارة الغربية ظاهرتين أساسيتين في الترف: الآثار القديمة والموضة. الأولى تركز على الماضي، والثانية على الحاضر، مسارات الترف الزمنية تُصادف ظهور الثقافة الإنسانية الحديثة. 

وها هو أحد مظاهر التبذير التفاخري تحت شعار العبث ومعاداة التقاليد، فالملبس التقليدي الذي يستر الجسم ما لبث أن تغير لتظهر الأثواب القصيرة الضيقة التي تسمح برؤية الجسد، وأصبحت الموضة تفتن الجميع، وفرض الملبس نفسه كسلعة تعبر عن المبالغة والتبذير اللذان يظهران في المناسبات والاحتفالات. وهنا يمكن تفسير هذا التحول بعاملين أساسيين :

  • ثقافة أكثر انفتاحاً على التغيير، والشغف بالنادر.
  • علاقة جديدة مع الفردانية، مع الميل إلى التجديد والرغبة في الاختلاف (الموضة) وظهور الصور الشخصية والتصوير الذاتي في النصف الثاني من القرون الوسطى.

وأصبحت الموضة تعبر بجانب الاستهلاك التفاخري عن تحولات ثقافية عميقة.

الفصل الثاني

ترف الحداثة ، ترف ما بعد الحداثة

في ظل الحداثة زاع صيت مصممو الأزياء الذين كانوا فيما سبق هم حرفيو الخياطة المغمورون، وأصبحت  بيوت الموضة تفرض موديلاتها وأذواقها على زبائنها، ولم يعد الأمر متعلقاً فقط بثراء المواد المستخدمة ولكن طغت هالة اسم الدور العريقة وصيتها وسحر الماركة.

وأصبحت مبيعات الأزياء الرفيعة الأوروبية تمثل حجم كبير من صادرات هذه البلدان لأمريكا، وتم وضع التعريفات الجمركية للكتان وأوراق الموديلات للصناع الأجانب لإعادة تصنيعها في بلدانهم الخاصة.

ترف ونصف ترف: ومن جانب آخر أدى تطور الميكنة إلى ظهور (النصف الفخم) و(الفخم المزور) بأثمنة منخفضة تناسب الطبقات المتوسطة، ويشهد العصر الحديث اكتساح كمية كبيرة من منتجات التقليد في كل المجالات: المجوهرات، التحف، الاكسسوارات … إلخ. لتكون في متناول شريحة أكبر من الزبائن، مصنعة من مواد أقل تكلفة وأقل ترفاً، إنه تعبير عن “دمقرطة” الترف الذي تتيحه المتاجر الكبرى.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظهرت المتاجر التي تسعى إلى تحفيز استهلاك الطبقات المتوسطة، بتخفيض الأسعار وانتشار الدعاية. أصبحت المتاجر نفسها مشهد رائع وفخم للتسوق: عرض باذخ للمنتجات، حفلات دعاية وافتتاح، إسراف في البضائع والفترينات … كلها عناصر جذب تخلق عالماً ساحراً، ووعد جديد بالترف والسعادة للطبقات المتوسطة.

نحو ترف تسويقي: انتهت مرحلة كان الترف فيها يقوم من خلال الشركات العائلية أو مؤسسين مبتكرين مستقلين، لتحل محلها عمليات الدمج وشراء الحقوق، حركات التمركز وإعادة الهيكلة بغية تأسيس إمبراطوريات صناعية عالمية. فأصبحنا نرى الشركات العملاقة ذات معدلات الأرباح الخيالية المتداولة في البورصة، والمستندة على مجموعة كبيرة من الماركات المرموقة. ويعدد الكاتب بعض نماذج السلسلات الكبرى للسيارات الفارهة ومعدلات دخلها.

الترف العاطفي: إن ظاهرة الترف لا ترجع فقط الى التغيرات الملاحظة في مجال العرض، ولكن تعود أيضاً الى التحولات التي تضرب بجذورها في مجال الطلب. فإن عشق الترف لا تغذيه فقط الرغبة في نيل الإعجاب وإثارة الرغبة وأن يعترف بك الآخر، ولكنه مستند أيضاً على الرغبة في الإعجاب بالذات.  

تميزت فترة ما بعد الحداثة بظهور نوع من الترف متحرر من المعايير الاجتماعية، إنه ترف غير منضبط بعيداً عن القدرة التنظيمية للمؤسسات الاجتماعية، إنه التعبير عن الفردانية. فمنذ عصر النهضة كان الترف مجتمعياً: حفلات باذخة ورغبة في الظهور بشكل فخم، أما الفردانية في عصر ما بعد الحداثة فهي الاهتمام بالترف الشخصي الذي يمنح الفرد شعورا باللذة والسعادة. ومن ذلك الاهتمام المبالغ فيه والمستمر بمنتجات العناية الشخصية والتجميلية؛ الاتجاه هو الاهتمام بالظهور أكثر جمالاً وشباباً وليس أكثر ثراءً.

الحق في الترف: واحد من الأعراض الرئيسية للثقافة الاستهلاكية- الفردانية هو أنها قلبت بعمق علاقة الأفراد بالأشياء وبالضروري، في أيامنا هذه تتأكد الطلبات على جودة المنتجات والبيئة، جودة الحماية وإعلام المستهلك، ظاهرة صعود (الجودة الرفيعة) جلية، فالحرص على الأغذية الصحية وأغذية الحمية لا تتوقف عن كسب المزيد من الشعبية. في الوقت نفسه تتصاعد المواقف الوقائية والتصحيحية (صحة- رياضة- حمية- عمليات تجميل) الجميع يحارب علامات الشيخوخة وزيادة الوزن.

لقد اكتسبت الكماليات شرفاً خاصاً، وأصبحت تطلعاً شرعياً. وساد مطلب التطور اللامحدود لمستوى المعيشة، والميل للمستجدات وكل ما يساهم في التعبير عن الذات: أصبح من حق كل أحد الحصول على الأجمل والأفضل.

ترف وتحد: تزامن مع السعي الحثيث إلى كل مظاهر الترف، الاهتمام المفرط بتأمين الممتلكات الفخمة باهظة الأثمان (ترف دفاعي)؛ ومن ذلك بناء الأسوار ومخافر الحراسة، وأنظمة المراقبة والكاميرات. وفي مجال السيارات كان الاهتمام بكل عوامل الأمان في السيارات الحديثة هي القاسم المشترك في حملات الدعاية عن خطوط الانتاج الجديدة: غلق الأبواب تلقائياً، التعرف على بصمة اليد…

وانطلقت حمى السباق نحو الأرقام القياسية من أجل لا شيء: سباقات الرالي والفورمولا والقفز بالمظلات من أعلى جبل إفرست، أصبح الجاذب الرئيس للممولين والجهات الراعية لمثل هذه الأنشطة المميزة بالتحدي والمنافسة هو السباق نحو الشهرة وتحسين الصورة لخدمة سمعة الماركات والجهات الراعية. أما المتسابق نفسه فهي تمنحه شعورا بالتحدي والمغامرة والنفس المنتصرة بعد أن تدخل في مخاطرات وتجارب تجعله في علاقة مع الموت.    

وأبرز مثال على ذلك أول سائح “فضائي” في التاريخ والذي أنفق 22 مليون يورو لقضاء أسبوع على متن محطة الفضاء الدولية؛ إنه تحدي المجهول.

الفصل الثالث

تأنيث الترف

لا يقرأ من خلال الترف مظاهر التفرقة الاجتماعية فحسب، ولكن أيضاً الطريقة التي يتم بها بناء الاختلاف النوعي بين الرجل والمرأة. في المجمل ينتمي عالم الترف إلى النساء أكثر منه إلى الرجال، إلا في بعض المجالات الذكورية مثل (السيارات، الطائرات، اليخوت..). أما عند النساء فحدث ولا حرج عن الماركات في المجوهرات والملابس والأحذية والحقائب ومنتجات التجميل…إلخ. عدد كبير من المنتجات الفخمة يشهد بهيمنة المرأة في هذا المجال. بيد أنه من عجب أن الأمر لم يكن كذلك في البداية! فعملية تأنيث الترف لم تنطلق إلا مع  بداية الحداثة، في القرنين الثامن والتاسع عشر. 

الترف خاصية الرجال: في العالم الإغريقي والروماني كان منح الهبات والهدايا هو شأن ذكوري يصاحبه طلب الشرف والمجد، أما النساء فلم يكن لهن أي دور اجتماعي ومن ثم لم يكن لهن اهتمام بالتزين ولا بالمجوهرات ومساحيق الزينة. ومع قدوم العصور الوسطى أصبح الرجال من أصحاب السلطة في طليعة الإنفاقات المكلفة في مجال الموضة! فإن دراسة ملابس الرجال في ذلك العصر تشهد على هيمنة الرجال على نزوات الموضة. واستمر هذا الحال حتى القرن السابع عشر؛ حيث الثياب النسائية أكثر بساطة، تخضع لتغييرات أقل، مقيدة في ذلك بالانتقادات الموجهة من الوعاظ لمحاولات النساء في الظهور باعتبارهن أداة إغراء.

الانعكاس الكبير: بدأ الانعكاس التاريخي لتأنيث الموضة في القرن الثامن عشر، وظهر تزيين القبعات النسائية والفساتين ذات التكاليف الباهظة، وتطورت صحافة الموضة مستهدفة جمهوراً نسائياً في المقام الأول. واستمر هذا الوضع في القرن التاسع عشر.

وانقلبت الآية، فأصبحت ملابس الرجال سوداء خالية من كل زينة، أما البهرجة والإنفاق على الكماليات فهي سمات ملابس النساء. وأصبحت المرأة واجهة لثروة الأب أو الزوج أو العشيق. وأعيد التأكيد على الهرمية الذكورية لتربط النساء بالفضاء الخاص والتزييني، والرجال بالفضاء العام والهيمنة السياسية والاقتصادية.

ونمت فكرة أن النساء غير قادرات على الوصول للسيادة الذاتية الكاملة، فهي مهيئة بطبيعتها لرعاية الأطفال، وإثارة الإعجاب، لذلك فعليها الظهور كأجمل زينة للرجل. وتعلق الأمر بإعادة إنتاج فكرة المرأة القاصر واعتمادها على الرجل.

وفي العصر الحديث ظهر عامل أخير ساهم بشكل مصيري في عملية تأنيث الترف، ألا وهو الاحتفاء بربة المنزل المستهلكة الأولى: فهي المفوضة في مهام الداخل من تربية الأبناء وتدبير شؤون البيت فهي إذاً المستهدفة الأولى للعروض التجارية.

المستقبل الأنثوي للترف: بعد عصر الحداثة ومع ظهور قيم العمل الاحترافي للمرأة تراجعت فكرة المرأة كـ (عنصر ديكور)، لتنشأ في المجتمعات الديموقراطية المعاصرة فكرة التركيزعلى التشابه بين الرجال والنساء. فعاود الرجال اهتمامهم بمجال الموضة والمظهر الجمالي ومستحضرات التجميل الرجالية.

ولكن الكاتب يعارض فكرة ما بعد الحداثة حول المساواة بين الجنسين؛ فيرى أن عمل المرأة مازال غير موازياً لعمل الرجل، فجميع الاستطلاعات تؤكد أن عمل المرأة في الداخل ما زال هو المهمة الرئيسية للنساء، وأن دورها في الداخل يتعدى الأعباء اليومية ، لتلعب دوراً أهم في خلق ذوق عاطفي وجمالي حيث تمتلك القدرة على التأثير على الطفل. ومن ثم فإن الكاتب يكاد يجزم بأن الترف النسائي مازال قائماً، فالمرأة هي المسؤولة عن المشتريات ولا تزال علاقتها بالموضة قائمة سواء في الملابس أو كل ما يخص ذوق المرأة. 

في بدايات القرن شاع الاعتقاد أن هناك تعارض بين عمل المرأة والجمال الأنثوي، لكننا بالعكس نلاحظ أن اهتمام المرأة بمظهرها يكبر كلما مارست نشاطاً مهنياً؛ فخروج المرأة للدراسة والعمل شجعا النساء على استثمار الوقت والمجهود والمال ليقدمن أنفسهن بشكل أفضل.

إذن فقد حدث تطور في عملية تأنيث الترف، ذلك أن قديماً كانت المرأة نجمة على مسرح الاستهلاك، وكان الرجل يملك السلطة المالية. أما الآن ومع استقلال المرأة الاقتصادي أصبح تأنيث الترف يعني نهاية المرأة (كلافتة إعلانية) للرجل، والاستقلال المادي للمرأة في قرارات الشراء. 

الفصل الرابع

الترف والحاسة السادسة

هذا الفصل هو نهاية الجزء الأول من الكتاب لمؤلفه جيل ليبوفتسكي، وفيه يتناول بالجمع والتحليل ما سبق في الفصول السابقة. بداية من الترف الذي بدأ كظاهرة منظمة من قبل المنافسات التشريعية والتنافس الاجتماعي، وما أكده المفكرون على دور مظاهر البذخ في ضمان المكانة الاجتماعية. ومن جانب آخر تعلقت هذه المظاهر باعتقادات عن الموت والمقدس والآخرة، ومن ذلك ما خصصه القدماء للآلهة من ممتلكات ثمينة وتماثيل ضخمة ونقوش على الأعمدة، حيث تعدى الإسراف التعلق بالمنافسات الاجتماعية لأفكار خارج إطار الزمن .

ولكن منتصف القرن التاسع عشر شهد تحولاً كبيراً، وأصبح الإسراف والترف ينحصران في الواقع الاجتماعي الفردي ليكون في خدمة متع الفرد بعيداً عن التنافس، فظهرت الابتكارات في تصاميم الأزياء الراقية التي أبرزت أسماء عدة من بيوت الأزياء الفخمة، والعلامات التجارية الكبيرة، التي أصبح شغلها الشاغل هو الابتكار من جهة والحفاظ على أسماء مؤسسيها من جهة أخرى؛ أنه الاتجاه إلى تمجيد روح الماركة، لصنع أسطورة أبدية لسلع استهلاكية قابلة للتلف!

وترف اليوم يجمع، في رأي المؤلف بين الفردية المفرطة والرغبة في الظهور والتمتع بكل ما يمكن الحصول عليه، وبين النظرة التقليدية للترف من حيث الإسراف في الحفلات، إنه مسرح لتذوق ملذات الحواس بشكل أفضل. وأخيراً يرى الكاتب أن الحاسة السادسة المتعلقة بالترف هي تلك المتعلقة بالزمن، حيث تسعى الماركات الكبرى إلى الاستمرارية وعدم التقادم، أما المستهلك فالكاتب يحلل هذه الرغبة في إنفاق المبالغ الطائلة في أنها الرغبة في صنع حاضر مميز وقوي جداً لايقبل النسيان، وكأن شيئاً من الميتافيزيقا ما زال يسكن الرغبة الدائمة في الاستمتاع!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزء الثاني

زمن الترف زمن الماركات

لإلييت رو

الفصل الأول

الترف بين الهيبة وسوق الجملة

تبدأ الكاتبة بالتأريخ للترف منذ الثمانينيات حيث شهد استهلاك المنتجات الفخمة تطوراً عالمياً، واعتُرف به كقطاع اقتصادي وصناعي قائم بذاته، وأُجريت حوله عدة أبحاث لتحديد وتحليل هذا القطاع الجديد.

غير أن الترف دخل في تطور حقيقي في العشر سنوات الأخيرة؛ فقد انتقل في أثناء عقد واحد من منطق حرفي عائلي إلى منطق صناعي ومادي. فالشركات العائلية الصغيرة انضوت تحت لواء مجموعات عالمية كبيرة امتصت ببساطة الماركات العائلية. وتوضح الكاتبة هذا الاتجاه من خلال عدة إحصاءات لتحول الماركات ذات الأسماء البراقة في عالم الموضة والعطور إلى مجموعات كبرى بأسماء عالمية، وتوضح حجم الاستثمارات والأرباح باليورو.

أما على مستوى التسويق، فقد شهد سوق الترف تطوراً وابتكاراً مستهدفاً الطبقة المتوسطة والشباب من الفئة العمرية بين 25  لـ 35 عاما، بعد ان كان الزبائن التقليديين هم الطبقة الثرية ومن هم فوق سن ال 50. أصبح هاجس كل ماركة أن تحافظ على التوازن اللازم بين التوسع واحترام هويتها.

ساد مجال الترف لعدة عقود أسماء الماركات الفرنسية كمصدر للقيم ومبتكر لها، ولكن هذا العقد الأخير اقتحم سوق الترف الفرنسي نفسه داخلون أجانب باستخدام استراتيجيات تسويق هجومية، مما يستوجب على الماركات توخي الحذر فيما يتعلق بحساسية المستهلكين للثمن وجودة الخدمة.

حساسية المستهلكين الجديدة للثمن: كان زبائن الثمانينيات يستهلكون الماركات الفخمة (بكل وبأي ثمن)، أما زبائن الألفينيات فهم يدفعون الأثمان مقابل الماركات التي تبرز ميولاتهم وهوياتهم بطريقة مبدعة، فالسؤال الذي يطرحونه اليوم هو: ما هي القيمة المضافة الرمزية أو الوجدانية والعاطفية التي تبرر فارق الثمن المعتمد من قبل الماركات المرموقة؟

وفرت بنية المحلات التجارية الضخمة طرق عرض تضم الماركات الفخمة جنبا إلى جنب مع الماركات الموجهة للعامة، مما يحدو بالمستهلك إلى التساؤل حول ما يضيفه إليه الثمن الأغلى؟ وينطبق ذلك على مجال الملابس وغيرها؛ ففي سوق الملابس ظهرت الماركات الإيطالية والألمانية ذات الجودة العالية بأسعار تقل عن مثيلاتها الفرنسية، مما جعلها تفرض نفسها في السوق كمنتجات مبدعة تجمع بين توقعات السوق والابتكار وأسعار مواتية، حتى إن ماركة إيطالية مثل أرماني أصبحت تضم أكثر من سبع خطوط إنتاج مختلفة.

أما إذا نظرنا إلى الزبائن نجد أنهم ينقسمون إلى شريحتين: شريحة وفية للماركات التقليدية وهم الزبائن الأثرياء، وشريحة أقل وفاء لتلك الماركات وهم الزبائن الميسورون ونعني بهم الطبقة المتوسطة.

تضخم إطلاق المنتجات الجديدة: ارتفع عدد العطور الجديدة التي نزلت السوق بأكثر من الضعف في السنوات الأخيرة. حتى الثمانينيات كانت الماركات الكلاسيكية تطلق عطراً جديداً كل سبع سنوات، معظمها في السوق النسائي. ولكن وتيرة الإطلاق اليوم تقدر بأقل بكثير من ثلاث سنوات، وتعطي الكاتبة أمثلة للعطور في السوق النسائي والرجالي. بصفة عامة فإن المنتج الجديد يطرد القديم، يجعله مهجوراً وغير مناسب للموضة، إلا أن هناك عطوراً ظلت متربعة على عرش المبيعات على مستوى السوق الفرنسي لعدة عقود منذ 1921 و1925 إلى 2002.

ثم توضح الكاتبة الفرق بين استراتيجيات التسويق المختلفة، فالاستراتيجية الأولى هي استراتيجية الإطلاق الضخم وهي تلك التي تدفع بمبالغ كبيرة على الدعاية واثقة في المردود من ورائه، وأبرز تلك الحملات كانت الحملة الدعائية لعطر “بويزون” من ماركة كريستيان ديور عام 1985، حيث تكلفت حملتها الدعائية  – في حدث تاريخي – 40 مليون دولار، وكانت كفيلة باسترداد قيمتها ورد الاستثمارات المبذولة فيها في ظرف سنة. أما الاستراتيجة الأخرى فهي استراتيجية التخصص حيث تعتمد الماركة على قوة صورتها في أذهان المستهلكين فتمارس توزيعاً انتقائياً ومحدوداً جداً، وهي حالة دور المجوهرات الراقية.

الحلقة المفرغة للعروض الترويجية: واستمر الإنفاق الضخم في الدعاية، ونظراً لهذه الميزانيات المرتفعة فإن الماركات كانت تبحث عن عائد استثمار سريع. ومن أجل توزيع المخزون الذي أصبح هاجس الموزعين، نشأت فكرة العروض الترويجية، وهي الوعد بهدايا من المخزون عند الشراء بمبلغ كبير. وكان لهذه العروض الترويجية فائدتان: أنها متاحة على المدى القصير فقط، وأن لها تأثير قوي ويمكن قياسه مباشرة على المبيعات والأرباح. أما جانبها السيء فإنها قد تضر بالمنتجات الفخمة، حيث يتولد لدى المشتري الميل إلى انتظار التخفيضات لشراء ما يريده، كما أنها تشكك في قيمة الماركة لأنها توحي بأن الشاري قد توجه لشرائها لأنها كانت معروضة بخصم وليس لقيمتها الجوهرية.

وهو مما يحتاط له الموزعون لئلا تنزلق الماركة من المجال الانتقائي إلى المجال الجماهيري؛ لذلك اتجهوا الى دراسة العروض الترويجية للمنافسين، وعينات المشترين، وتحليل معدلات تكرار الشراء والوفاء للماركة.

التحكم بالأسعار والتوزيع: وجود متاجر التخفيض تبيع نفس منتجات المتاجر الكبرى أصبح أمراً يؤثر بالضرورة على التحكم في أسعار الماركات. فبالنسبة للماركات الانتقائية في العطور مثلاً فقد شهدت انخفاض بنسبة 25% إلى 75% في الأسعار في متاجر التخفيضات مقارنة بتلك المبيعة في المتاجر الكبرى، مما يجعل الأسعار التي تضعها الماركات مشتبهاً بها في أعين المستهلكين، فلم يعد السعر ضامناً للجودة أو الانفراد أو عاكساً لقيمة الماركة، ولكنه يعبر بوضوح عن تراكم الهوامش الربحية، ولذا فالمستهلك الفطن أو ذوي الدخل المرتفع ينفق على الملابس والاكسسوارات من الماركات المشهورة من خلال المتاجر ذات العروض.

ومما يزيد من التشكك في الأسعار ظاهرة (التهريب) أو التصدير الموازي الذي يتم من خلاله تسريب المنتجات عن طريق العمال الخارجيين أو المقاولين الفرعيين الذين يقومون بتغذية هذه الدوائر الموازية بالماركات الفخمة. وهذه الممارسات تسلط الضوء على حاجة الماركات إلى رقابة صارمة للمنبع والمصب، وهو ما يعد ذا تكلفة باهظة. 

جودة الخدمة: ترى الكاتبة أن أول ما يستخلص من تسويق الخدمات هو أن الجودة تتناسب مع الشريحة المستهدفة من الزبائن ومستوى توقعاتهم، من المهم إذن دراسة طبيعة توقعات الزبائن ومعاييرهم.

الدرس الثاني الذي استخلصته هو أن جودة الأداء تعتمد مباشرة على موظفي البيع، من حيث الاستقبال والتعريف بالمنتجات والاستماع للزبائن والتعاطف والقدرة على فهم الآخر، خاصة عندما يقل الطلب مقارنة بعرض تنافسي.  تركز الشركة في قطاع الترف دائماً على الإبداع، خاصة من قبل موظفي البيع، مما يزيد من ضرورة تقديرهم وتحفيزهم؛ ومن ذلك الاهتمام بالتفاصيل مثل طرق تغليف كل منتج، وطريقة تقديمه للزبونة، والاهتمام بالمظهر اللائق لزي البائعات.

الفصل الثاني

التحولات التدريجية لمعاني الترف

تقوم الكاتبة بالعودة إلى التاريخ لفهم التحديات الراهنة لتدبير الماركات الفخمة.

من الإتيمولوجيا إلى التعاريف المعاصرة: تعيد الكاتبة الأصل اللغوي لكلمة الترف التي تعني باللاتينية: (الدفع بشكل معوج) ثم (أن تدفع بإفراط)، وهذا يسجل أن الترف يقتضي أن يوجد الشخص (خارج حدود الميل العام) ليشق طريقه الخاص. ثم تقدم عدة معاني أخرى لها علاقة بشكل أو بآخر بالكلمة؛ سواء الإفراط الذي يأخذ قيمته الإيجابية من العظمة والفخامة للترف العام، أو الفجور الباعث على الانحطاط.

والتعريف المتعارف عليه في المعاجم هو: طريقة حياة مجسدة في النفقات الكثيرة لإظهار الأناقة والرقة.

والتعريفه المعاصر هو: متعة مكلفة نوعاً ما يهديها الإنسان لنفسه دون حاجة حقيقية لذلك. فالترف اليوم يعرف في المعاجم على أنه صفة لما هو مكلف وباذخ ومهذب.

من التفاخر إلى العاطفة: تؤرخ الكاتبة بالقرن التاسع عشر لظهور ما يسمى استنساخ المنتجات لتصبح سلسلة وتتاح لعدد أكبر من الناس. مما كان له أثر عكسي؛ فنظراً لتعاظم قيمة الفردانية، أصبح الإنتاج اليدوي أغلى قيمة حيث يضيف بعداً استثنائياً  وجمالياً جديداً، فما هو عادي وفي القدرة المالية لعدد كبير من الناس لا يستحق أن يستهلك.

في هذا السياق أضحى المصنوع يدوياً يضيف قيمة اجتماعية خاصة، وفي هذا الوقت لمعت أسماء مصممي أزياء راقية ودور العطور وغيرها.

ترف الثمانينيات الدال المطلق على الهوية: أما في النصف الثاني من القرن العشرين فيمكن تقسيم الاستهلاك الفرنسي إلى ثلاث مراحل كبرى:

الخمسينيات: الانتقال من النقص إلى الوفرة.

الثمانينيات: تزايد الاستهلاك الفردي المعلن للماركات.

التسعينيات وما تبعها: الاستهلاك الانتقائي والمتعة القوية والفورية.

وتركز الكاتبة على سنوات الثمانينات التي شهدت ارتفاعاً كبيراً للرواتب تبعه استهلاكاً متنامياً وساد منطق الصعود الاجتماعي، والسباق من أجل التمايز الطبقي؛ وهنا أصبحت الماركات هي الدال المطلق الجديد على الهوية الاجتماعية، وزاد الطلب كثيراً عن العرض، وكان المستهلك لا يشتري المنتج الا للبحث عن الأبهة أو ملصق اجتماعي للتباهي. 

التسعينيات فما بعد: تشير الكاتبة إلى أن مرحلة ما بعد الحداثة شهدت تعقيد الظواهر الاجتماعية عامة، وبرزت فيها قيمة الفردانية. إلا أن فترة ما بعد الحداثة تأثرت أيضاً بانبعاث القيم القديمة من جديد؛ وهو ما حدا بمدبري الماركات إلى السعي لإيجاد علاقة ما بين الماركة وزبائنها بخلق رمزية أو جاذبية سحرية مع الماركة.

في ظل هذه التطورات يمكننا أن نفهم التحولات التي حدثت بين الثمانينيات من السعي الحثيث للتعبير عن الذات باقتناء الماركات الفخمة، إلى الاهتمام في حقبة الألفين بالحفاظ على الشباب والجمال كما ذكر ليبوفتسكي في الجزء الأول، كما تقول الكاتبة. بعبارة أخرى بدأ الثياب يفقد أهميته لصالح الجسد الذي أصبح مركز الاعتناء والاهتمام، كما برز الاهتمام بمكافحة الوزن الزائد والشيخوخة وبتحقيق المعايير الجمالية للجسد، مما أدى الى ارتفاع النفقات على المنتجات التجميلية وزيادة الهوس بعمليات التجميل بين النساء والرجال على حد سواء.

ومما يميز مستهلكي هذا الزمن هو أنهم أصبحوا أكثر تطلعاً وطلباً، وفي الوقت نفسه  أكثر حساسية للثمن وأقل حساسية للماركة في حد ذاتها، مما أدى إلى أن أي تدبير للماركة في هذا السباق أصبح أكثر تعقيداً.

الترف معرفاً بالمهنة: تعرض الكاتبة في هذا الجزء من الكتاب دراسات تهدف لتحديد محيط قطاع الترف الصناعي، في الوقت الذي تتساءل فيه المهنة حول نفسها في مواجهة ما تسميه “تغيير النموذج”، وكانت أول هذه الدراسات دراسة ماكينزي، تليها دراسة وزارة الصناعة، وأخيراً تلك التي أجراها المجلس الاقتصادي والاجتماعي.

وكانت هذه الدراسات تهدف الى تعريف صناعة الترف، وقياس وزنها الاقتصادي، وتحديد التحديات التي تواجهها هذه الصناعة في فرنسا. ووفقاً لدراسة ماكنزي (التي طالما تستشهد بها الكاتبة) فإنها تعرِف الترف بأنه “مجموعة من الماركات”، أما المنتج الفخم فهو “مجموعة من التمثيلات (صور ومفاهيم) يربطها المستهلك به”.

الترف وزبائنه، من النوعي إلى الكمي: أما تعريف المستهلكين أنفسهم للترف، فنتوصل من خلال الدراسات المستندة في معظمها إلى مقابلات فردية، وخاصة التي أجريت في بلاد خارج فرنسا،”أنها هالة تخرج عن المعتاد وعن جودة الحياة البسيطة ليكون شكلاً من الإنجاز الذي نقدمه لأنفسنا ويوفر لنا احترام الآخر”.

وفي تعريف آخر: “هو متعة الحواس التي تفضي إلى عاطفة وإحساس بالرفاهية”.

وبالنسبة للشباب هي قيمة مضافة من الإبداع الخلاق، فما يجعلهم ينتقلون من المنتج إلى الماركة هو بالأساس الشهرة والعالمية.

وتقسم الدراسات المستهلكين إلى زبائن دائمين وزبائن موسميين، أما الشباب الباحثون عن الترف ففي تزايد، خاصة في أوروبا مع تزايد رواتبهم، وتنوع قيمهم التي تعبر عن البحث الدائم عن المتع.

وأخيراً تؤكد الكاتبة أن سعي المستهكلين لاقتناء الماركات يمكن فهمه انطلاقاً من أكثر من منطق ثقافي، منطق تفاخري في آسيا والدول ذات الثروة الجديدة، منطق اقتصادي ومتعي في الولايات التحدة حيث “قيمة المال” ومعنى “ما نملكه بمالنا” يكتسب حساسية خاصة. وأخيراً منطق الأصالة في الأسواق الأوروبية أو الثروات المؤسسة منذ أجيال.

الفصل الثالث

الماركة الفخمة شرعية وهوية

تركز الكاتبة في هذا الفصل على خصوصية تسويق وإدارة الماركات الفخمة. ونقطة الانطلاق هي البعد الأخلاقي الجمالي للماركات الفخمة. فالماركة الفخمة هي التي تضمن لدى الزبون اختبار تجارب ومشاعر قوية واستثنائية، هي صورة في ذاكرة المستهلك؛ من أجل ذلك يجب على إدارة الماركات الفخمة أن تتحلى بهذه المعايير الثلاثة: واعدة وقوية وفريدة. ويركز التسويق بدوره على: الإغراء، المتعة الجمالية، المشاعر، والتأكيد على هوية الماركة.

عندما يتعلق الأمر بالشرعية: مفهوم الشرعية: هو المكرس أو المسموح به قانوناً بما يتفق مع المساواة والعدل والعقل. أما شرعية الماركات فهي تعتمد على شقين متعارضين في آن واحد وهما: التقليد والإبداع. هذان الشرطان كانا الأساس الذي اعتمدت عليه الماركات الفرنسية الفخمة؛ فالتقليد نعني به المهارة وإتقان المهنة، وميزة تنفيذ فريدة، خاصة فيما يتعلق بالحرف اليدوية للأسماء التي لمعت في صناعات مثل الحقائب والأحذية والعطور.أما بالنسبة للملابس فإن عنصر الإبداع هو الأسبق. وعلى إدارة الماركات الفخمة السعي لتستمر في الزمن فتكون على دراية كيف تبقى مرغوبة وكيف تضم الزبائن إلى عالمها.

وتقوم الكاتبة بالمقارنة بين عالم الماركات الفرنسية ونظيراتها الإيطالية والأمريكية الأكثر حداثة.

عندما يتعلق الأمر بالهوية: الهوية هي مجموعة من العناصر تجعل من الشيء أو الشخص فريداً، وتفترض الدوام والاستمرار.

تستنج الكاتبة من هذا التحليل أن الإنسان يسعى ليظل متميزا بنفسه وألا يتشبه بأي شخص آخر، باحثا عن الإبداع والانقطاع عن غيره في آن واحد. والعمل على هوية ماركة يعني البحث عن الثوابت في ظل المتغيرات.

أخلاق وجمالية متلازمان-أخلاق جمالية: الأخلاق هي طريقة تنظيم الإنسان لسلوكه والميل نحو تحقيق القيم التي وضعها لنفسه، وهي منبعثة من الداخل بناء على الإرادة الشخصية.

أما الجمال فحسب التعريفات أن الشيء لم يعد جميلاً بنفسه بشكل جوهري، ولكن لأنه يمدنا بشيء من المتعة فنسميه جميلاً، الجمالية المعاصرة هي تجارب معاشة.

رفض الكل الاقتصادي، واتساق الحواس: بعد استعراض التعريفات المختلفة للترف، ترصد الكاتبة ان هناك تحولات في معانيه؛ وهنا تفرق بين الترف والهيبة والروعة.

الترف هو طريقة حياة تحيل إلى المتعة والندرة والتقدير المكلف لما هو غير ضروري، الترف في العيش هو ربط الأخلاق بالجمال بعيداً عن الهيبة التي تسعي لفرض السلطة على الآخرين. ومن جانب آخر فإن الترف يرفض الكل الاقتصادي، وهي مفارقة تأسيسية لكل دار فخمة: التوفيق بين مبدأ الاقتصاد الحيوي والرفض الأخلاقي لكل ما هو اقتصادي.

جمالية الترف هي التهذيب، الدقة السعي نحو الكمال، رفض كل ما هو اقتصادي سوف يظهر في قبول الماركة للعمل انطلاقا من مستلزمات ذات جودة وكمية لا يمكن أبداً التنبؤ بها أو حسابها، أما البعد الجمالي فيظهر في تصور المنتجات المثالية في خلق عالم مرموق يمثل عالماً حساساً ومثالياً ومتناسقاً.

وتعطي الكاتبة نماذج لصناعات الترف وما تتميز به من بحث عن الذوق والتميز في كل خطوة من صناعتها.

الترف هو فن الحياة، والتوزيع يتمم هذا البعد الأخلاقي الجمالي المزدوج، فبعض الماركات تهتم بتدريب العاملين على خدمة الزبائن والإسراف في التفاصيل المأخوذة بعين الاعتبار؛ وتوضح الكاتبة هذا المعنى بتفاصيل توليها الإدارات أهمية لدى تدريبها لموظفيها.

أما بالنسبة للبعد الجمالي فيظهر في الجو العام للمحلات من خلال الألوان المستخدمة وروائح العطور التي يفوح شذاها في المكان، أو روائح الخامات الأصلية مثل رائحة الجلد. وأخيراً لحظة الاستهلاك يظهر رفض كل ما هو اقتصادي: من حيث التعبئة المتطورة، وطرق التغليف، والهدايا المجانية الصغيرة التي تقدمها الماركة مع منتجاتها المبيعة.

الفصل الرابع

الترف وزمن الماركات

تدبير الهوية في الزمن

على مدى أربعة أجزاء تعقد الكاتبة مقارنة بين ماركتين شهيرتين كانتا مرجعيات عالمية للترف، وهما شانيل وميجلير لنعرف من خلالهما الترف كأخلاق وجماليات مترابطة.

ملاحظات : تجدر الإشارة أن موضوع الترف كونه مادي استهلاكي وعملي فإن الجزء الثاني من الكتاب جاء معبراً عنه أكثر، موضحاً خفاياه، متصلاً بكل أطرافه من أشهر الدور والتحديات التي تواجهها وكيفية إدارة هذا القطاع المتميز بالفخامة، والاهتمام بأدق التفاصيل، ومشاكل التوزيع وحلولها، وكذلك وهو الأهم الفئات المستهدفة لهذا القطاع والتغيرات التي طرأت على مزاجها وأذواقها. يشعر القارئ بالتعرف على هذا العالم الخاص –حتى وأن لم يكن جزء منه – بالتعرف على أشهر أسماء دور العرض والمصممين، وأشهر أسماء العطور والمتميز منها. كما اتسم أسلوب الكاتبة بالحيوية، والمعلوماتية الدقيقة، والبحث والتعريف والتوصيف والأمثلة، وأرقام المبيعات، والمنافسة بين الدور وما يميز كل منها. فكان هو الجزء الواقعي الأكثر جذباً، بعد التقديم المعرفي الفلسفي عن معنى الترف ونشأته وتطوره.

وتجمل إلييت روو : “الترف هو فن الحياة” حيث الإبداع والابتكار لا ينفصلان عن عالم الأرباح والتسويق ..ولكن بقوانين الترف.”

عرض:

أ. أميرة مختار

باحثة ومترجمة مصرية.

عن أميرة مختار

شاهد أيضاً

الفلسفة – المنهج – الفكر “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

التباسات الحداثة

المعرفة المستدامة

مغامرة المنهج

في نقد التفكير

سؤال السيرة الفلسفية

التاريخ الإسلامي “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها

إعادة ترسيم الشرق الأوسط العثماني

لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.