التنوير الزائف

الصفحات التالية من كتاب “التنوير الزائف”* لجلال أمين**

مقدمة

التنوير الزائف

عندما كنت طالباً للدكتوراه فى الاقتصاد، منذ أربعين عاماً أو أقل قليلاً، كنت واحداً من عدد لا بأس به من الطلبة المصريين الذين جاءوا إلى لندن على نفقة الحكومة ليدرسوا جانباً. أو آخر من جوانب التنمية.

هذا يدرس الاقتصاد، وذاك يدرس التعليم، وآخر يدرس الإحصاء…إلخ. وكانت كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية تعجّ فى ذلك الوقت بالطلبة الآتين، ليس فقط من مصر والبلاد العربية، بل وأكثر منهم من الهند وغانا ونيجيريا وأمريكا اللاتينية، وسائر ذلك الجزء من العالم المشهور باسم “العالم المتخلف” كنا جميعاً، رغم اختلاف ألوان بشرتنا، نتفق فى أشياء أخرى كثيرة، منها أننا كنا كلنا نقبل، بدون وعى ولاتفكير، “الحكمة السائدة” وقتها فى موضوع التنمية الاقتصادية، وخلاصتها أن هناك جزءاً متقدماً من العالم، وجزءاً متخلفاً، والمسألة كلها مسألة مراحل على طريق واحد، بعض الناس أكثر تقدماً فى هذا الطريق من غيرهم، وأننا للأسف فى آخر الطريق، وليس هناك شئ أهم ولا أنبل من محاولة “اللحاق” أو “سد الفجوة” بيننا وبينهم. كانت نظرية “روستو” فى مراحل النمو الاقتصادى تحظى وقتها بشهرة واسعة وبقبول عام، وقد تعلمنا منها ومن غيرها، وهذه الفكرة السخيفة الخاصة بمراحل النمو، والتى تضع جميع البشر فى صف واحد طويل: الأوائل فى هذا الصف هم الأقرب إلى “الجنة”، والجنة هى، بكل تأكيد، أن يكون متوسط دخل الفرد مساوياً لمتوسط الدخل فى الولايات المتحدة، وهو نحو أربعة آلاف دولار فى السنة فى ذلك الوقت.

كنا أصغر وأحمق من أن ندرك وقتها خطأ هذه الفكرة، ( ومن المدهش أن البعض لايزال يصدقها حتى الآن)، ولكن كان كل شئ حولنا يدفعنا إلى تصديقها. كان الغرب فى قمة نجاحه. أوروبا أتمت لتوها إعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية، وتجرى للحاق بمستوى المعيشة الأمريكى، وتحقق فى ذلك نجاحاً باهراً، والغرب كله يحقق معدلات فى نمو مستوى المعيشة لم يعرفها أحد فى التاريخ الإنساني كله. لم تكن مشكلة فيتنام قد بدأت بعد، ولا مشاكل تدهور معدلات النمو فى الغرب، التى بدأت منذ أوائل السبعينيات، ولم يكن أحد يدرك بعد خطورة ما يحدث للبيئة، ولم تكن قد قامت بعد ثورة الشباب على المجتمع الاستهلاكى، التى حدثت بعد أن كنا قد أتممنا دراستنا، ولم يكن قد انتشر بعد إدمان الشباب للمخدرات، وارتفاع معدل الجريمة، أو ظاهرة العائلة المكونة من أطفال يرعاهم أحد الوالدين فقط، أو ظاهرة الإباحية فى الفن والحياة، أو الحركات النسوية، أو الدفاع عن حقوق الشواذ جنسياً، أو الاعتراف بالزواج بين رجلين أو امرأتين… إلخ. لم يكن كل هذا قد ظهر بعد، ومن ثم كان من السهل جداً ان نقبل نظرية ” روستو” فى مراحل النمو الاقتصادى، وأن نعتبر أن هدفنا الأسمى هو الاقتراب من الجنة الأمريكية.

شئ آخر كان مشتركاً بيننا – نحن القادمين إلى أوروبا من العالم المتخلف – وهو بكل صراحة شعور بالعار. لم نكن نشعر بالعار كأفراد، فقد كنا نشعر بحق بأننا ننتمى إلى صفوة مجتمعاتنا التى أتينا منها، ومن منا لم يكن من الصفوة عند قدومه، فسوف توفر له شهادة الدكتوراه هذه المكانة حتماً عند عودته. كنا بالطبع شباباً محظوظين، ولكننا كنا من الناحية الأخرى ” نشعر بالعار ” إزاء الأجنبي، لأسباب أوضح من أن تحتاج إلى بيان. فصورة مجتمع الرخاء من حولنا لا تخطئها العين،ومشاكلهم كلها لم تكن قد بدأت، أو لم تكن قد ظهرت لنا بعد، وكل شئ كان يؤكد لنا صحة الاعتقاد بأن ارتفاع مستوى الدخل يجلب معه بالضرورة كل شئ طيب فى الوجود، ليس فقط المستوى المادى المرتفع، بل والوجه الجميل، والأخلاق العالية، وحسن السلوك، والفن الراقى، والروح العلمية المتجردة من الوهم، والحرية والديمقراطية، واحترام آدمية الإنسان، والعلاقات الاجتماعية السامية… إلى آخر مايمكن أن يعتبر من طيبات الحياة. كان ما يلزم بلادنا إذن هو هذا الشئ السحرى: ارتفاع معدل النمو، وهو فى نهاية الأمر مسألة حسابية: معدلات الاستثمار الواجبة مضروبة فى معامل الناتج / رأس المال، تعطيك على الفور ما تريد. كم بدا الأمر سهلا حينئذ، او على الأقل بدا وكأنه فقط مسألة وقت. وقد ضاعف من استعدادنا لقبول هذه الفكرة – نحن القائمين على دراسة الاقتصاد بالذات – الاعتقاد الشائع بأن الاقتصاديين هم الذين يملكون المفتاح السحرى للتنمية، فإذا عدنا من لندن بهذا المفتاح السحرى، واستلمنا أماكننا الطبيعية فى وزارات التخطيط، أو كمستشارين لرئيس الجمهورية، سنستطيع أن نضع علمنا موضع التطبيق، وتدخل مصر والهند وغانا وغيرها ” مرحلة الانطلاق ” التى شرحها “روستو”، وينتهى الأمر فلا يمكن أن تعود بلادنا أدراجها مرة أخرى.

لهذا لابد أن يتصور القارئ الكريم مدى خيبة أملنا عندما اكتشفنا ليس فقط أن المسألة أصعب من هذا بكثير ( وهم على كل حال لم يعينونا فى وزارات التخطيط، ولا مستشارين لرئيس الجمهورية لأسباب ليس هنا محل ذكرها)، ولكن عندما اكتشفنا أيضاً أنه حتى الغرب العظيم نفسه يمكن أن يعود أدراجه، وأن الموضوع ليس موضوع ” مراحل ” على الإطلاق. نعم كانت هناك خيبة أمل كبيرة عندما اكتشفنا أن رفع معدل النمو ليس مجرد مسألة حسابية، ولا اقتصادية، بل أشمل من هذا بكثير، وعندما اكتشفنا ( أو اكتشف بعضنا على الأقل ) أن التقدم ليس حتمياً، وأن التاريخ الإنسانى ليس كالسلم الذى يقف البعض على درجاته العليا، والبعض الآخر على درجاته الدنيا، ولا هو كالطريق الواحد الذى يتقدم فيه البعض خطوات على الآخرين، وإنما هو كمجموعة من الطرق المتشبعة، لكل طريق مزاياه وعيوبه، واختار الغرب أن يسير فى إحداهما فكسب أشياء وخسر أشياء، وأن هذا الاختيار كان تحكمياً إلى حد كبير، ومحكوما بظروف اجتماعية وبيولوجية ونفسية متعددة، ومن السخف محاولة إقناعنا بأن هذا هو ” الطريق الوحيد ” الذى يمكن السير فيه، ويجب السير فيه بسرعة وإلا كنا متخلفين. مثال بسيط للتدليل على ذلك: إن ما نسمية الآن ” الحضارة الغربية”، أصبح خلال هذا القرن، أكثر فأكثر، “حضارة أمريكية”، إذ طبعت الولايات المتحدة هذه الحضارة بطابعها الذى لاتخطئه العين.

ولكن ما يمكن أن نسميه ” الحضارة الأمريكية” ليس إلا نتيجة هجرة جماعات معينة من البشر، لها تاريخ معين وصفات نفسية معينة، وظروف اجتماعية ودينية خاصة، إلى أرض شاسعة غنية بالموارد، لها أيضاً سماتها الطبيعية والاقتصادية الخاصة، ونتج عن التفاعل بين هذه المجموعات البشرية بالذات، والظروف الطبيعية والاقتصادية لهذه القارة بالذات، منتجات وسلع وعادات وأزياء وأطعمة وأفلام واختراعات ولهجات، وأنواع معينة من العلاقات الاجتماعية … إلخ، وجد هؤلاء الناس أنها أنسب السلع والعادات والعلاقات لهم فى هذه الظروف الخاصة. فكيف يمكن أن يزعم أحد أن ما أسفرت عنه هذه التجربة الأمريكية الخاصة جداً، تمثل الوقوف على أعلى الدرجات فى سلم التطور الإنسانى؟!

كنت كلما زرت أوروبا وأمريكا، خلال الخمسة والثلاثين عاماً التى انقضت على انتهاء دراستى للدكتوراه، تأكد لدى هذا اليقين: إن المسألة ليست مسألة تقدم وتخلف بل شئ آخر. كان هذا يمثل فى جانب منه خيبة أمل فى ذلك المثل الأعلى الذى كنا نحاول احتذاءه، ولكنه كان يمثل أيضاً تحرراً عقلياً ونفسياً حقيقياً. فقد تخلصت من خرافة كبيرة كانت تعشش فى عقلى، والأهم من ذلك أنى تخلصت ( أو كدت أتخلص) تماماً من ذلك الشعور المقيت بالعار. نعم نحن فقراء، ولكن هذا لايعنى أننا متخلفون. هم متقدمون عنا فى التكنولوجيا، أى فى فن إنتاج السلع والخدمات، أو بالأحرى فى فن إنتاج سلع وخدمات معينة دون غيرها. ولكن فى الحياة أشياء أخرى غير إنتاج السلع والخدمات، بل إن هناك سلعاً وخدمات أخرى لاينتجونها، أو لايفضلونها وقد تكون أفضل لنا. لابد إذن أن نميز ( هكذا اتضح لى)، بين الفقر والتخلف. نعم نريد التخلص من الفقر، وعلاجه زيادة أنواع معينة من السلع والخدمات (وليس أية سلعة، أو أية خدمة). أما التخلف. فأنا أعرف الآن ماهو، إنه ليس إلا هذا الشعور بالعار. فأنت لست متخلفاً، إلا بقدر شعورك بالعار إزاء هؤلاء الذين يسمون أنفسهم ” متقدمين “. وسوف تظل متخلفاً، مهما زاد متوسط دخلك، ومهما ارتفع معدل نموك، ومهما زاد فى حوزتك من سلع وخدمات، طالما أنك تشعر بالعار لأنك لاتملك ما يملكونه، لأن لديك سيارة واحد مثلاً بدلاً من خمس، أو لأن نوافذ سيارتك لاتفتح أتوماتيكياً، أو لأنك لاتلبس البلوجينز …إلخ.

كان إدراكى لهذه الحقيقة اكتشافاً حقيقياً بالنسبة لى، يشبه اكتشاف البطة المسكينة فى قصة ” هانس كريستيان أندرسون” الشهيرة، إنها ليست فى الحقيقة بطة قبيحة، بل بجعة صغيرة جميلة. ومن ثم زال عنها فجأة الشعور بالعار، ولم تعد ” متخلفة “. نعم نريد إطعام الجوعى، وتوفير الكساء والمأوى المناسب لمن لا كساء أو مأوى لهم، ولكن هذا فى حد ذاته ليس مبرراً للشعور بالعار، بل لعل أول شروط النهضة وزيادة السلع الضرورية هو التخلص من هذا الشعور بالعار، وإلا كانت النتيجة، إذا استمررنا نسمى أنفسنا متخلفين، ونحدد هدفنا بأنه اللحاق بمستوى المعيشة فى الغرب، أننا بعد خمسين عاماً أخرى من ” التنمية “، سيكون لدينا محلات ” ماكدونالد ” أكثر، و ” كوكاكولا ” أكثر ، و “بلوجينز” أكثر، وأيضا سلاح أكثر وإعلانات أكثر، وأفلام جريمة أكثر، وشذوذ جنسى أكثر، ومخدرات أكثر، وستكون المرأة المصرية أو العربية، خلال هذه الفترة، قد حققت بالطبع نجاحاً باهراً في الحصول على مساواتها بالرجل: كلاهما يتمتع بنفس مستوى المعيشة، وبحرية الحصول على نفس الكمية من ” الماكدونالد” و “البلوجينز” والمخدرات والإعلانات، وكلاهما له نفس النصيب فى المساهمة فى الجريمة والشذوذ الجنسي.

التنوير الزائف فى ثورة المعلومات

إنى أفهم ” ثورة المعلومات” على أنها ذلك التقدم الكبير، الذى عرفه العالم خلال نصف القرن الماضى، ولكن على الأخص فى الثلاثين، بل العشرين عاماً الأخيرة، فى تسهيل وتخفيض نفقات وزيادة سرعة جمع المعلومات وتخزينها وتحليلها ونقلها.

والمتحمسون لثورة المعلومات كثيرون بالطبع، وما أكثرهم بين كتابنا وصحفيينا والقائمين على وسائل الإعلام عندنا. وأسباب هذا الحماس متعددة ومفهومة تماماً. فهناك أولاً محض الانبهار بما تنطوى عليه ثورة المعلومات من دليل على بعض القدرات الخلاقة عند الإنسان. فليس هناك شك فى أن ثورة المعلومات هى أحد الأدلة الساطعة على ذكاء الإنسان وعبقريته، على طموحه واتساع خياله، وعلى نجاحه المذهل فى تجاوز الحدود التى تفرضها الطبيعة على حركته. وهناك أيضاً تلك الاستخدامات الباهرة التى وظفت فيها هذه الثورة وتلك التى يمكن أن توظف فيها مستقبلاً. انظر إلى استخداماتها فى الطب وتشخيص الأمراض وعلاجها، ومن ثم فى إطالة عمر الإنسان، أو إلى استخداماتها فى تنمية إنتاج الغذاء وزيادة الإنتاجية فيه أضعافاً مضاعفة، واستنباط أنواع حديثة منه، أو إلى استخداماتها فى مختلف الصناعات الأساسية والكمالية، وفى الترفية عن الإنسان وملء وقت فراغه. أوانظر إلى استخداماتها فى التوحيد بين البشر، أو على الأقل زيادة إمكانية هذا الاستخدام، وفى زيادة المعرفة بما يحدث لهم بصرف النظر عن المسافات الفاصلة بينهم ( وإن كنت لا أخفى عليكم أنى أحياناً أستغرب أنه فى عصر المعلومات أصبحت الأخبار التى تصلنى وأنا فى مصر، عما يحدث العراق أو السودان مثلاً، أقل بكثير مما كان يأتينى فى الماضي). إن ثورة المعلومات بلا شك عنصر أساسى، إن لم يكن أهم العناصر، فيما يسمى بالعولمة، أى تحول العالم إلى قرية واحدة يعرف كل من فيها ما يدور فى أقصى طرف من أطرفها، ويتأثر به ويؤثر فيه، أو على الأقل أن كل هذا قد أصبح ممكناً.

وأنا من جانبى لا أحمل أية رغبة فى التقليل من شأن هذا كله، أو فى أن أنكر صحة، أو أهمية كل هذه الأسباب للحماس لثورة المعلومات، ولكنى فى الوقت نفسه لا أريد أن أخفى قلقى على مصير العالم إذا نلتفت إلى ما تنطوى عليه هذه الثورة من أخطار جسيمة تهدد سعادة الإنسان وصحته النفسية والروحية. وأريد أن أركز على أربعة مصادر للقلق سوف أتناولها فيما يلى واحداً بعد الآخر.

المصدر الأول للقلق يتعلق بنوع المعلومات التى يجرى جمعها وتخزينها وتحليلها ونقلها. ذلك أنى أميل إلى الاعتقاد بأن الإنسان الغربى قد سيطر عليه وهم، ربما يرجع إلى أربعة قرون خلت، مؤداه أن أية معلومة جديدة، مادامت صحيحة، فلابد أن تكون مفيدة. هذا الوهم يرجع أصله إلى انبهار الناس بنتائج الثورة العلمية والتقدم التكنولوجي الذى صاحبها، منذ جاليليو على الأقل، إذ رسخ منذ ذلك الوقت، ونما الاعتقاد بأن كل إضافة للمعلومات يجب الترحيب بها، استناداً إلى ما حققته الزيادة فى المعلومات من تقدم  تكنولوجي وزيادة رخاء الإنسان. إنى أسمى هذا الاعتقاد وهما لسبب بسيط، هو أن من طبيعة الذهن الإنسانى أن ينشغل بما يعلم. فالعقل الإنساني ليس، لحسن الحظ، آلة أو جهازاً كالكمبيوتر، بل يتكون من خلايا حية تتفاعل مع بقية كيانه، ومن ثم فأنا لا أستطيع أن أتلقى معلومة دون أن ” أنشغل” بها على نحو أو آخر، فإذا كانت المعلومة تافهة أو حقيرة فلابد أن يترتب على تلقيها وانشغالى بها أثر سلبى على، بدرجة أو بأخرى. إن الكمبيوتر يمكن أن يخزن المعلومات ويصنفها ويحللها دون أن يعتريه من جراء ذلك أى ضرر، مهما كانت سخافتها وتفاهتها. أما الذهن الإنساني فإنه لايمكن للأسف أن يتلقى مثل هذه المعلومات دون أن يلحقه ضرر، أخفه هو أن ينشغل بأشياء تافهة كان الأجدر به أن ينشغل بغيرها.

قد يتذكر بعضكم ما شغلت به وسائل الإعلام الأمريكى الرأى العام لعدة شهور متتالية، كانت تذيع خلالها يومياً لعدة ساعات آخر تفاصيل محاكمة شخص اسمه إى.ج. سيمسون، شغل خلالها الناس بما إذا كان هذا الرجل قد قتل زوجته حقاً، هى وعشيقها، أم لم يقتلهما، مع أن هذا الرجل لم يكن بالرجل المهم الذى يستحق الانشغال به طول هذا الوقت، ولا زوجته أو عشيقها كانا بالشخصين المهمين اللذين يستحقان كل هذا الوقت والعناء.

لقد جررنا – نحن العرب – للأسف، إلى هذا الاعتقاد رغماً عنا، أعنى الاعتقاد بأن كل زيادة فى المعلومات تتضمن نفعاً وفائدة، رغم ما فى تراثنا من تحذير لنا وتأكيد على التمييز بين علم ينفع الناس وعلم لاينفعهم. فنحن نقبل على هذا النوع من المعلومات دون أى تردد، ونتباهى بقوة ما نملكه من أجهزة استقبال البرامج والقنوات التليفزيونية وما ننشئه من قنوات فضائية، مع أن الجزء الأكبر مما نذيعه على الناس وما نتلقاه هو من هذا النوع من المعلومات التى يزيد ضررها عن نفعها.

المصدر الثاني للقلق لايتعلق بنوع المعلومات بل بكميتها. إذ حتى لو افترضنا جدلاً أن كلاً من المعلومات التى نتلقاها – كلاً على حدة – مفيدة فى حد ذاتها، فإن كمية المعلومات التى نتلقاها، قد تكون فى مجموعها أكثر من اللازم. ذلك أن للإنسان، فيما يبدو، قدرة محدودة على تلقى المعلومات، لايمكن بعدها أن تزيد كمية المعلومات التى يتلقاها دون أن تلحق ضرراً به. فكما أن جسم الإنسان لا يستفيد من الغذاء الذى يتلقاه إلا بهضمه، فإن ذهن الإنسان أيضاً لايمكن ان يستفيد من المعلومات التى تلقى إليه إلا بهضمها.

وهضم المعلومات أو الأفكار يتطلب أولاً فهمها، كما يتطلب الربط بينها، أى الربط بين المعلومة أو الفكرة الجديدة وما كان يعرفه الإنسان من قبل. والراجح أن زيادة كمية المعلومات عن حد معين، قد يجعل الفهم الصحيح لمغزى هذه المعلومات صعباً أو مستحيلاً، كما أنها قد تجعل الربط من المعلومات صعباً أيضاً أو مستحيلاً. بل إنى أذهب إلى حد القول إن عملية الفهم أو هضم المعلومات قد تستلزم كشرط لها، ليس إضافة معلومات جديدة، بل استبعاد بعض المعلومات. وقد يكون هذا مصدر فكرتنا الشائعة عن المفكر أو الكاتب أو العالم، بأنه كثيراً ما يكون ” شارد الذهن “، إذ يعنى هذا أنه لكى يصل إلى فهم كامل لما يفكر فيه لابد أن ” يستبعد ” غير الضرورى من المعلومات والأفكار، اى أن “يشرد” ذهنه عنها.

انظر ما تطالبنا به نشرة الأخبار فى هذا العصر، من أن نفهم ونستوعب، فى دقائق محدودة، أو ربما أقل من ذلك، ما أصاب الناس من ألم بسبب غرق سفينة فى أقصى أركان المحيط الهادى، ومغزى انخفاض أسعار الأسهم فى طوكيو، وأهمية ظهور عجز فى ميزان المدفوعات الإنجليزي، وحصول حادث إهاربى فى أيرلندا، وحصول أديب برتغالى على جائزة، فضلا عن خبر زواج ممثلة كبيرة، وطلاق أمير عظيم… إلخ.

إن تلقى أخبار بهذا العدد، ومتفاوتة هذا التفاوت فى كمية محدودة جداً من الوقت، لايمكن أن ينتج عنه إلا تبلد فى الحس، فضلاً عن العجز عن فهم المغزى الحقيقي لكل خبر من هذه الأخبار. بل إن تلقى هذه المعلومات على هذا النحو قد يكون مضاداً ” للمعرفة ” ، فالمعرفة ليست هى بالضبط تلقى المعلومات، بل تفرض أيضاً فهم هذه المعلومات واستيعابها والربط بينها، ومن ثم فإن من الممكن أن تقل المعرفة بزيادة المعلومات.

لقد كنا حتى وقت قريب ننظر بالرثاء والإشفاق إلى موظف ” الأرشيف” الذى يحفظ عنده كافة المعلومات دون أن يقوم بأى عمل آخر. كما أن وصف ” الحمار يحمل أثقالاً ” يصلح لوصف شخص ينوء تحت عبء المعلومات المتراكمة التى لايعرف كيف يفيد منها. وللفيلسوف والرياضى البريطانى الشهير ألفرد وايتهيد (Alfred Witehead) قول مؤداه أن شخصا واسع المعلومات قد يكون أكثر الناس مدعاة للسأم والملل، وهو قول تؤيده تجاربنا الشخصية مع بعض من نقابله فى حياتنا.

المصدر الثالث اللقلق من ثورة المعلومات لايتعلق بنوع المعلومات أو كميتها، ولكن بنوع استخدامها. فكما أن المعلومات يمكن أن تستخدم لتحرير الإنسان ( كما فى استخدام معلومات مفيدة عن الميكروبات فى التطعيم وإطالة عمر الإنسان) فإنها يمكن أن تستخدم أيضاً لقهر الإنسان واستعباده، وفى إنتاج وسائل لترفيه كثيراً ما استخدمتها ثورة المعلومات فى تخدير الإنسان وإفقاده لوعيه بدلاً من استخدامها فى إمتاعه. وفى الطب كثيراً ما استخدمت فى تصنيع أدوية ثبت فيما بعد أن ضررها أكبر من نفعها… إلخ.

وإذا نظرنا إلى جرائدنا اليومية نجد أنها بالمقارنة بما كانت عليه منذ ثلاثين أو خمسين عاماً، أصبحت أفخر وأعظم فى وسائل الطباعة، وفى وسائل الاتصال بالعالم الخارجى، وفى سرعة الحصول على الخبر أو المقال ونشره، ولكنها أصبحت أقل مساهمة فى التنوير مما كانت منذ ثلاثين أو خمسين عاماً.

المصدر الرابع والأخير للقلق من ثورة المعلومات، الذى قد يكون فى نظر الكثيرين أهم هذه المصادر كلها، يتعلق بأثر ثورة المعلومات، مقترنة بثورة الاتصالات، فى قهر ثقافة الغرب للثقافات الأخرى.

فمن الخطأ الزعم بأن المعلومات هي بطبيعتها محايدة لاضرر منها، إذ أنها لا تأتى إلينا إلا مختلطة بثقافة معينة أو برسالة بعينها لاحياد فيها. نحن نتلقى معلومات مثلاً من خلال نشرات الأخبار أو الأفلام أو البرامج التليفزيونية الأجنبية، المشبعة بثقافة الأمة التى أنتجت هذه النشرات والأفلام والبرامج، وقد تكون بعض عناصر هذه الثقافة متعارضة تماماً مع ثقافتنا وقيمنا، بل وقد تحمل عداءً مباشراً لنا. فنقل المعلومة كثيراً ما يتضمن فى جوهره نشراً وترويجاً لنمط من الحياة، مضاد لنمط حياتنا ويشيع فينا الشك فى صلاحية أسلوبنا فى الحياة وجدارته.

انظر مثلاً نقل صورة الاحتفالات فى بلد أوروبى، أو أمريكا باختيار ملكة جمال العالم، أو عروض الأزياء، أو نشر فضائح الرئيس كلينتون بكل تفاصيلها، أو تعليق زوجته على هذه الفضيحة بأنها غفرت له ما فعل، مع تصوير هذا على أنه موقف أخلاقى نبيل، أو نقل تعليقات مؤداها أن نجاح السياسة الاقتصادية للرئيس كلينتون يجب أن يجعلنا نغفر له ما ارتكبه من عمل غير أخلاقى.. وهكذا مما لاحصر له من أمثلة تتضمن مواقف أخلاقية تتعارض مع مبادئنا، ومما يتسرب إلينا ونتشرب به شيئاً فشيئاً على نحو لاشعورى، وذلك بفضل ثورة المعلومات والاتصالات.

على الرغم من كل هذه الأسباب المهمة والداعية للقلق من ثورة المعلومات نجد فى بلادنا حماساً منقطع النظير لها.

هذا الحماس لثورة المعلومات يجرى التعبير عنه وترديده بلا ملل على الرغم من أن الخسارة التى تلحق بالثقافة العربية نتيجة لثورة المعلومات والاتصالات قد تكون أكبر من أية خسارة تلحق بأية ثقافة أخرى تتعرض أيضا لغزو الغرب. إنى أقول ذلك ليس من باب الحماسة الوطنية والمبالغة فى حب النفس، بل أقول من باب الاعتقاد بأن الثقافة العربية كان يمكن أن تقدم للعالم بديلاً صالحاً يساعد  العالم كله على التغلب على هذه الأخطار التى تنطوى عليها ثورة المعلومات.

هذا الرأى من جانبى يقوم على اعتقادى بأن الثقافة العربية تحتوى على عناصر مضادة تماماً لتلك الجوانب  الأربعة التى اعتبرتها مصادر للقلق من ثورة المعلومات.

فأولاً: تحتوى الثقافة العربية على موقف يميز تمييزاً صارماً بين أنواع المعلومات التى يجوز نشرها وترويجها، وتلك التى لايجوز نشرها أو الترويج لها، أى التمييز بين ” علم ينفع الناس” و “علم لاينفع الناس” فتشجع نشر النوع الأول، وتستهجن الانشغال بالنوع الثاني.

ويتصل بذلك ما تنطوى عليه الثقافة العربية من رفض أصيل للموقف المحايد فى العلم والفن والأدب. فالعلم لابد أن يكون نافعاً، والفن والأدب يجب أن يكونا أخلاقيين، فلا يقبل الذوق العربى بسهولة مثلاً المسرحية التى تصور الشر أو الجريمة أو الابتذال بحجة أنها تصور الواقع ( أى تزيد معلوماتنا عن الواقع)، حتى لو انتهت المسرحية بكلمة أو كلمتين فى صالح الخير وضد الشر. فالذوق العربى ينفر بطبعه، فيما أعتقد، من تصوير الرذيلة، حتى لو كانت الرذيلة حقيقة واقعة، إذ أن محض زيادة المعلومات لايبرر فى نظره الخوض فى ميادين مكروهة جمالياً أو أخلاقياً.

وثانيا: تحتوى الثقافة العربية على موقف أصيل يستهجن الجرى وراء الكثرة على حساب النوع أو المضمون، سواء أكانت هذه الكثرة كثرة مال أو كثرة جاه أو كثرة معلومات، وهو موقف مضاد تماماً لقيم المجتمع الاستهلاكى. ومن ثم فانهزام الثقافة العربية لابد أن يحرمنا من سلاح فعال فى مقاومتنا لهذا المجتمع الاستهلاكى.

وثالثاً: فى الثقافة العربية موقف أصيل ينتصر لحقوق الإنسان، وينفر كل النفور من قهر الإنسان واستعباده، بل إن من المعانى الأساسية لعبودية الإنسان لله فى الإسلام، عبادة الله وحده رفضاً للخضوع لكل ما عداه.

وأخيرا: فإن تياراً أساسياً فى الثقافة العربية يقوم على التسامح مع الثقافات والديانات المغايرة، وعلى قبول التعايش مع الغير فى سلام، والتاريخ العربى والإسلامى يشهد بقوة هذه النزعة نحو التسامح بدرجة لاتظهر فى التاريخ الأوروبى، الذى كثيراً ما اقترنت فيه الدعوة إلى التسامح بدرجة عالية من النفاق.

كم كان جديراً بالعرب إذن أن يفطنوا أكثر مما فعلوا، إلى ما يهدد ثقافتهم من ثورة المعلومات، وأن يفطنوا إلى حجم الخسارة التى لابد أن تلحق، ليس فقط بثقافتهم، بل وبالإنسانية كلها، من جراء القهر الذى تتعرض له الثقافة العربية بسبب ثورة المعلومات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* جلال أمين (2005). التنوير الزائف. القاهرة: دار العين للنشر، ص ص. 7- 14، 99- 113.

** جلال الدين أحمد أمين (1935 – )، عالم اقتصادي وأكاديمي وكاتب مصري. أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

عن جلال أمين

شاهد أيضاً

تأملات في الوضع البشري

العنوان: تأملات في الوضع البشري: الأسئلة الكبرى للوباء الكوني

المؤلف: صلاح سالم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.