حيرة العقل المسلم المعاصر بين القديم والجديد

حيرة العقل المسلم المعاصر بين القديم والجديد*

أ. عبد الحليم أبو شقة

إن العقل المسلم المعاصر قد ضاع بين القديم الموروث والغريب المجلوب، فلا حقق من هذا ولا من ذاك القدر المناسب الذي يضمن له سلامة السير، وكان النقص في اطلاعه على التراث لا يعادله إلا النقص في اطلاعه على الفكر الحديث…

وأثمر هذا النقص عجز العقل عن صهر ما تلقاه من القديم والحديث، وحين لم يتم الصهر كان الإخفاق في مجال الإبداع، لأن الصهر الثقافي الحضاري (الذي يحفظ التميز لأصحابه ولا يمسخ الهوية) هو الخطوة الأولى الممهدة للإبداع الأصيل.

والقاعدة التي نتحرك عليها في هذا المضمار (مضمار القديم والجديد) هي أن الانحصار في نطاق علوم الدين يشبه استغراق الصوفي في العبادة، العبادة عمل صالح وضروري وعلوم الدين أمر صالح وضروري، ولكن كما ينعزل الصوفي عن الحياة والناس ويكاد يعيش في صومعته، كذلك المحصور في نطاق علوم الدين أو المنصرف إليها وحدها يعزل نفسه عن علوم الحياة والناس، وبذلك ينعزل فكرياً عن الحياة والناس.

لا يمكن أن تعتمد مسيرتنا على تعلم علوم الدين وحدها، بل لابد من أن تتحرك هذه المسيرة على ساقين، إحداهما علوم الدين، والأخرى علوم الحياة، ونحن في عصور الازدهار والتحضر لم نكن نعتمد على علوم الدين وحدها.

ثم إننا حينما نكتفي بتعلم علوم الدين وحدها نكون قد أسأنا فهم الدين نفسه، فكأنه أنزل طلبًا للآخرة وحدها، مع أنه نزل للدنيا والآخرة معًا.

وأرجو أن أجلي المسألة في عدد من النقاط التالية:

أولاً: ماذا يعني التراث؟ نقصد بالتراث هنا ما أنشأه الأسلاف بعقولهم، أما الهدي الإلهي من قرآن وسنة فهو هادي الأسلاف فيما أنشأوا، وهو هادينا نحن فيما نرجو أن ننشئ.

ويلحظ القارئ أننا – في أكثر ما نتحدث – نقصر حديثنا على مجال واحد من مجالات التراث، وهو المجال الديني، رغم شمول التراث لمجالات عديدة، مثل اللغة والتاريخ والنظم والفنون وغيرها، ويرجع ذلك إلى أن مجال تراث الدين كان أشد خضوعًا للتقديس، فإذا استطعنا التحرر من التقديس المفضي إلى الجمود هنا كان التحرر في بقية المجالات أيسر.

وإذا كنا ندعو إلى نبذ التقديس للتراث، وإخضاعه للدراسة الناقدة، فالنقد لن ينصبَّ على علاقة التراث بمشكلات عصره العقلية والخلقية، إنما ينصب على مدى صلاحيته لموقفنا اليوم الذي قد تغير كثيرًا، فالأمور التي جعلت ذلك الجهد العظيم موضع تقدير الناس وإعجابهم في صلاته بظروفه الاجتماعية والثقافية، هي نفسها تقريبًا الأسس التي ينتج عنها تجرده إلى حد كبير من الصلة بالواقع اليوم، والصلاحية في دنيانا تختلف سماتها اختلافًا واضحًا عن الدنيا التي ظهر فيها ذلك الجهد العظيم، ويتجلى هذا الاختلاف سواء في المجالات العلمية والاجتماعية والاقتصادية وفي نظم الحكم والعلاقات الدولية. وعلى ذلك فالدعوة لا يمكن أن تعني الحط من التراث، بل هي دليل التفاعل ومن ثم الإبداع، وفي نفس الوقت هي دليل على التقدير الواجب للواقع وما يمليه من اعتبارات، وهو نفس التقدير الذي أعطاه السلف لواقعهم، وقد أبدعوا ما أبدعوا في حدود ذلك.

إن عبقرية التراث مثل عبقرية الفكر الحديث والعلوم الحديثة، كل في مجاله عبقري، ولكن حاملي التراث -في الأغلب- لا يَعُون ما يحملون، فهم لم يفهموه بعبقرية، والمطلوب منا عبقرية في الفهم كعبقريتهم في الإنشاء.

ثانياً: إن التراث وقع بين قاتلين ثلاثة: مبغض يقتله بحقده عليه، وجاهل يقتله بمسخه له، ومستسلم يقتله بقلة فهمه. وحديثنا هنا خاص بالفريق الثالث، فهو أولى الثلاثة –في نظرنا– بالحديث، حيث إن دوره في المسخ ساعد على تجهيل الفريق الثاني، أما الفريق الأول فهو أحد اثنين: إما مبغض نتيجة تصور خاطئ للتراث، فهذا قد يفيده التصحيح، وإما مبغض حاقد على العلم وأهله، فهذا لا نملك معه شيئًا.

والخضوع للتراث درجات بعضها فوق بعض كما يلي:

  • الدرجة الأولى: من آتاه الله حظًا من الجرأة على البحث والنظر، فإذا هداه الله لرأي توقف وتخوف، ولا يطمئن له قلب حتى يعرف أن أحدًا ما من السابقين قد قال به أو قريبًا منه، وإلا توقف عن إعلان رأيه تمامًا.
  • الدرجة الثانية: من آتاه الله حظًا من العلم، واطلع على رأي للسلف في قضية كبيرة يخالف رأي الجمهور، فتوقف وتخوف، ولم يعلن هذا الرأي للناس، وإنما اكتفى بالإسرار به خواص منهم، برغم قناعته بوجاهة الرأي وأحقيته بالدراسة والتمحيص، وذلك لا بقصد مزيد من الدراسة والتمحيص في دائرة ضيقة قبل الإعلان على عامة الناس، بل خوفًا من أن يرمي بالخروج عن الإجماع.
  • الدرجة الثالثة: من يقف عند حدود آراء الأئمة المعتبرين (سواء أصحاب المذاهب الأربعة أم غيرهم)، وهو يحسب أنه بلغ أقصى درجات التحرر لعدم وقوفه عند حدود الأئمة الأربعة.
  • الدرجة الرابعة: من يقف عند حدود المذاهب الأربعة، ويظل يبذل أقصى الجهد في المقارنة بينها لاختيار أقواها دليلاً.
  • الدرجة الخامسة: من يقف عند مذهب بعينه، لكن يتعرف على جميع الأقوال في إطار المذهب، ولا يكتفي بالوقوف عند الرأي المفْتَى به.
  • الدرجة السادسة: من يقف عند الرأي المفتى به في المذهب الذي اختاره.
  • الدرجة السابعة: من يقف عند رأي المتأخرين، بل آخر المتأخرين من علماء المذاهب ولا يتعداه مخافة التهلكة؛ أي أنه يقلد المقلدين، وهذا هو الدرك الأسفل في التقليد، ويصدق عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون﴾ (الزخرف: 23).

وهذه الدرجات جميعًا، حتى الدرجة العليا منها، لا يمكن لعقيدة حية أو لشريعة سامية أن تتمشى وتعيش في إطارها… لا يمكن أن تعيش العصر، أو تواجهه أو توجهه، ولا يمكن أن يصدر عن رجال لا يتعدون هذه الدرجات اجتهاد حقيقي، أو إبداع صادق أصيل.

والدرجة العليا لو أن صاحبها إذا لم يطمئن أعاد النظر والبحث، ثم أضاف حوارًا جادًا مع عالِم أو أكثر ممن يثق بهم، بغية مزيد من التحقيق، فإذا اطمأن إلى اجتهاده أعلنه للناس – لو أنه فعل ذلك لنجا من أسر التقليد وأفاد الأمة باجتهاده.

ونتساءل هنا: هل المطلوب هو العودة إلى “رأي السلف” والسلفيين، أم العودة إلى “منهج السلف” لنطبقه؟ أم العودة إلى الهدي الإلهي لنسترشد به؟ هذا هو الأصح. ومنهج السلف ورأي السلف أو آراؤهم لابد منها كمعينات في دراسة الهدي الإلهي.

وإذا كانت السلفية هي التمسك بما كان عليه السلف، ولا شك أن أصلح السلف هم صحابة رسول الله ﷺ، فننظر ماذا كان منهجهم؟ ومنهجهم عمومًا هو الاعتماد في كل أمرعلى هدي الكتاب والسنة، والاستيثاق من صحة دلالة النص الشرعي.

فأبو موسى الأشعري يطرق باب عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلا يؤذن له فينصرف، فلما لقيه عمر بن الخطاب سأله، فذكر له حديث الاستئذان ثلاثا، فما ترك عمر أبا موسى حتى أتاه بمن يؤيد سماع ذلك من رسول الله – ﷺ – حتى تزداد الثقة في الدليل.

وكانوا إذا طرقهم أمر جديد تشاوروا وتحاوروا وأعملوا عقولهم، واجتهدوا رأيهم، ومضوا على بركة الله، مثل موضوع جمع القرآن وتقسيم أرض السواد (ريف العراق) بعد الفتح.

ثالثاً: عطل المقلدون عمل عقولهم، وداروا في الدائرة التي رسمها السلف، وعصبوا عيونهم عن رؤية العلوم الحديثة والنظم الحديثة والمؤسسات الحديثة والمشكلات الحديثة.

عصبوا أعينهم عن رؤية الحياة والناس والعصر برمته، فعاشوا في عصر أسلافهم، وهيهات أن يتم لهم ذلك، ولو تم لاستقامت أمورهم بوجه من الوجوه، ولكنهم في حالة انفصام، عقولهم فقط هناك في عصور ماضية، وحياتهم كلها هنا في هذا العصر؛ لهذا سرعان ما ينكمشون، يفرون بعيدًا عن الناس ويعيشون في عزلتهم بائسين أو حالمين، يسلون أنفسهم ويواسونها بالوهم الكبير بالفرار من الفتن.

إن المنطلقين من أسر التقليد هم وحدهم القادرون على النقد العلمي الرصين لتلك النظريات التي تأتينا من هنا وهناك، وهذا النوع من النقد يؤدي إلى إنماء الفكر الإنساني، ويقتحم على أصحاب تلك النظريات حصونهم بنفس أسلحتهم، بل بأسلحة أقوى من أسلحتهم.

ونسأل الواقفين عند حدود التقليد الجامد لمن سبق، غير مستعدين لأي تجديد: “أتريدون أن يكذب الله ورسوله”!! بالطبع أنتم لا تريدون، ولكنكم بموقفكم هذا توقعون الإسلام في صدام مع العصر، وبالتالي سيبدو أمام الناس دينًا لغير إنسان هذا العصر، ذلك أن التقليد الجامد مطالبه صريحة إلى الناس بإلغاء عقولهم والتسليم بمقولات ومفاهيم واجتهادات العلماء والدعاة الذين لم يعيشوا عصرنا وظروفه ومناخه، وكأن هذا الإلغاء ممكن، وكأن هذا التسليم هو أمر الله وأمر رسول الله، وكأن هذا وذاك شأن المؤمنين المتقين – وما درى هؤلاء أن السادة العلماء أنفسهم لم يلغوا عقولهم حين قالوا تلك المقولات، وحين فهموا تلك المفاهيم وحين اجتهدوا تلك الاجتهادات، فكانت تلك المقالات والمفاهيم والاجتهادات على قدر ما آتاهم الله من عقول، بل هم قد أعملوا عقولهم قدر طاقتهم.

إذن القضية ليست بين إعمال العقل وإلغاء العقل، ولكن بين عقول سليمة متفتحة يقظة وبين عقول مريضة منغلقة.

إن الله تعالى فرض قدسية دينه، ولا قدسية فيه لاجتهادات البشر، ولو كان هؤلاء البشر من صحابة رسول الله –ﷺ– أو من الأئمة التابعين ومن بعدهم من الأتقياء الصالحين أو من الزعماء الملهمين، مع إجلال كل هؤلاء بقدر اتباعهم الدين واتباعهم للنبي – ﷺ.

وديننا لم يرض للإنسان أن يقف خاشعًا إلا أمام جلال الله تعالى، ومع خشوع القلب فرض الدين على العقل أن يكون يقظًا متدبرًا متفكرًا.

هكذا الدين وهكذا الإنسان، لكن نحن ورثة الدين قد سجنا الدين، وسجنا الإنسان، سجنا الدين بتحميله كل اجتهادات القرون، فصار عملاقًا رهيبًا وسيفًا مسلطًا على عقل الإنسان، ومسخنا الإنسان بإخضاعه لتراث القرون، فصار قزمًا لا يملك بدًا من التسليم، بل ونرفع رتبته كلما استمسك بالتقليد. قال ابن حزم “المجتهد المخطئ أفضل عند الله من المقلد المصيب”.

إن متابعة الاجتهاد جيلاً بعد جيل كفيل بتصحيح أخطاء السابقين، وإن بقيت بعض أخطاء نتيجة الاجتهاد، فهذه سنة الله في خلقه، حيث خلق الإنسان غير معصوم، ولا سبيل للصواب الكامل الدائم إلا للمعصوم.

رابعاً: المشكلة الصعبة في التقديس المسرف لكل شيء من التراث (وهو الدافع الحقيقي إلى التقليد) وكأنه قرآن أو سنة، هي الجانب النفسي، أي التحرر النفسي من التقديس، وإلا سيظل العقل يعمل دون أن يصل إلى الإبداع، ولن يعرف أنه غير مبدع أو أن إنتاجه ضعيف واجترار وإضافات هامشية، بل سيظل يقول إن القديم كما هو برمته ما زال صالحًا تمام الصلاح رائعًا غاية الروعة، فلِم تطالبوننا باعتساف التجديد؟! هل التجديد لذات التجديد؟! أم أن التجديد لحاجة جديدة، والقديم بحمد الله يوفر هذه الحاجة على أكمل وجه.

ولا أحد ينكر أن الأئمة العظام القدماء قد توفر لهم ما لم يتوفر لنا الآن، كانوا قريبين من عهد النبوة، والرسول –ﷺ– قال: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم” (رواه البخاري).

إن تنزيه الله –عز وجل- وتقديسه واجب إسلامي، لكن الخطأ أن يتحول – كما حدث عند البعض- إلى تقديس كل ما له صلة بالدين؛ فأي أمر وأي إنسان منسوب إلى الدين (قيادة الجماعة الدينية– رجل صالح– عابد– رجل عالم رجل مجاهد- شيخ الطريقة) كل هؤلاء يلحق بهم التقديس والتقدير المبالغ فيه من أتباعهم، فتختفي الأخطاء، بل تتحول إلى كرامات وعبقرية، وتضخم قيمة الصواب.

ومن عيوب العقلية المتدينة غير الراشدة استعدادها الكبير للتقديس بغير حساب، ومع التقديس يكون التسليم المطلق، فلا تفكر ولا مناقشة ولا تمحيص ولا بحث.

كذلك من عيوب هذه العقلية المتدينة –نتيجة لما سبق- استعدادها الكبير للتشدد في أمور الدين ولسان حالها يقول: (زيادة الخير خيرين) وكأن كل زيادة في الدين خير، بينما كل نقص مهما صغر فهو أكبر الشرور… وبهذا يختل الميزان الذي وضعه الشارع لحدود الخير وحدود الشر.

والاستعداد للتشدد والاستعداد للتسليم بلا مناقشة يفرز ضعف البحث والنظر والتمحيص ووزن الأمور، والتشدد في جانب ما يؤدي إلى التقصير غالبًا في جانب آخر؛ أي إلى عدم المحافظة على الأولويات الشرعية والغفلة عن بعضها والتقصير في بعضها والتهوين من بعضها.

إن تقدير التراث حين يكون شهادة من عقل واع يقظ ومنصف فهي شهادة حق. أما التقديس بلا تمحيص ولا تمييز فهو شهادة من عقل ممسوخ مصاب بعمى الألوان، لا يميز بين كلام الله وكلام البشر، فهو أشبه بشهادة الزور سواء كانت عن عمد أم عن جهل.

خامساً: إن التراث الإسلامي ثمرة عقول مسلمة مستنيرة عبر قرون طويلة، عقول عملت في دأب وإخلاص لفهم وتطبيق كتاب الله وسنة رسوله..

والتراث لذلك هو بعض أدوات فهم الكتاب والسنة، ولكن ليس كل الأدوات، حيث تبقى هناك الحصيلة النهائية الناتجة عن مراجعة التراث والمقارنة بين الآراء والاجتهادات المتعددة، وهناك أيضًا علوم العصر وقضايا العصر، وهناك قبل ذلك وبعده عمل عقولنا وقد استوعبت كل تلك الأدوات في محاولة فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام الشرعية منهما، وهذا هو كمال الاتباع.. أي الاتباع المبدع.

وهذا الاتباع المبدع للبشر أسلم الحلول لمشكلاتهم، والمخرج لهم من الظلمات إلى النور، وعن طريقه يجد العقل في الشرع إجابة عن كل أسئلته، وبهذه الإجابات كان الدين سكنًا للعقل ومصباحًا ينير له.

وإذا كان الإنسان لا يمكنه أن يستغني عن عقله فإن العقل لا يمكنه أن يستغني عن سكنه وعن مصباحه، فبدون السكن يضطرب وبدون المصباح يضل. ثم إن الدين سكن وملجأ للإنسان دائمًا وأبدًا، حين قوته وحين ضعفه، سكن له حين قوته فلا يقتله الغرور ولا العُجْب، وسكن له حين ضعفه فلا تغلبه الحاجة ولا تسحقه الأزمة، إنما هو التواضع مع حمد الله على فضله، وهو العزم والتصميم على المضيّ لتحقيق الحاجة وتجاوز الأزمة مع سؤال الله التسديد والعون: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير، لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور﴾ (الحديد: 22 – 23).

سادساً: هل الروح النقدية أي النظرة الفاحصة المتأملة التي يحض عليها الدين يمكن أن تتجلى وتظهر أكثر مما ظهرت عليه في آيات القرآن الداعية إلى التفكر والنظر، في مثل قوله تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُون﴾ (يونس: ۱۰۱). وقوله سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ﴾ (سبأ: 46).

هل يمكن أن يطالب الدين العقل الإنساني باليقظة والعمل بكل ما آتاه الله من طاقة، ثم يطالبه بعد ذلك بالسكوت والكمون والنوم العميق؟!

سابعاً: إن إحياء التراث –على أهميته– مثله مثل إحياء الأرض الموات أو الأرض المهجورة، فكما لا تحيا الأرض بمجرد رفع الأحجار والنفايات منها أو بناء سور جميل حولها، فهذه كلها مجرد تمهيد وتهيئة للإحياء، فإن العقول لا تحيا بمجرد إزالة ما سيطر عليها من الأوهام والخرافات.

إن الإحياء الحقيقي للأرض يقوم على بذل العرق والجهد الدائب في الحرث والتسوية والبذر وفي التسميد… وشق المصارف.. الخ.

وكذلك التراث، ليس الإحياء فيه فقط بتحقيق النصوص من عدة مخطوطات، وإعادة الطبع بحروف جميلة، وعلى ورق أبيض مصقول وأحيانًا مع بعض الشرح والتعليق – فهذا كله تمهيد للإحياء.

أما الإحياء فيكون بالدراسة الواعية الناقدة، مع الانتفاع بذلك المجهود الرائع الذي بذله سلفنا في معرفة الدين واستخراج كنوزه، وننفي أثناء ذلك كل غث، ونحدد مسيرتنا.

ثامناً: إن خروج العقل المسلم من أزمته المعاصرة يجعل من الضروري قراءة ومعرفة ما عند الآخرين -كل الأخرين- وإذا كانت معرفة من حولك والعالم ومحيطك مسألة ضرورية للتكيف الاجتماعي، فهي أكثر ضرورة للإصلاح والتغيير الاجتماعي، والدعوة للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

طبعًا هذا إلى جانب معرفة تعاليم الدين وأحكام الدين وآداب الدين، فلكي تنكر المنكر لابد أن تعرف أحوال مرتكب المنكر، بجانب معرفتك بحدود المنكر وأحكامه في الشرع.

إن الرفض المطلق للحضارة الحديثة يعني عدم التعمق في دراسة تلك الحضارة وعدم فهمها، وإذا نحن لم نفهم الحضارة الغربية جيدًا –وهي السائدة في عالمنا المعاصر– فلن نعي عصرنا جيدًا.

وما دمنا لم نعِ عصرنا فلن نفهم الدين الفهم المطلق المنبثق عن عقل هذا العصر، ولن نجتهد الاجتهاد المطابق لظروف العصر، بل سننعزل ونتقوقع لنعيش سعداء حالمين أو تعساء بعقلية أجدادنا الأقربين.

إننا حين نأخذ عن الغرب ونتجاوز مشاعر الرفض، لن نقف عند العلوم الطبيعية وما نتج عنها من صناعة وتكنولوجيا، بل نأخذ -وفي يدنا ميزان الحق– كل جهد عظيم في مجال العلوم الإنسانية.

وإذا جاز لآبائنا الرفض يوم كان الغزو ضاريًا وشاملاً (عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا)؛ لأنه لم يكن هناك سبيل للدراسة والتمحيص والخيار، فإما رفض يساعد على الصمود، وإما قبول يساعد على الاستسلام – فإن الرفض لا يجوز لنا اليوم ونحن نستطيع الدراسة والتمحيص والاختيار؛ أي نستطيع أن نأخذ وندع.

وإذا جاز لآبائنا أن يقفوا موقف الدفاع ذاك، يوم كان الغزو وهم محصورون في حصونهم الثقافية المهددة، فإن الدفاع لا يجوز لنا اليوم ونحن نستطيع أن نقف موقف الدارس الناقد المستفيد من التراث من ناحية، كما نستطيع أن نقدم الإسلام كقيم رفيعة في وسط حصون الغزاة السابقين من ناحية ثانية.

حتى تعبير الفكر المستورد لا أرى فيه ما يكفي لإدانة كل فكر يأتي من الخارج، والصحيح أن نصف الفكر بمضمونه الصالح أو الفاسد، فكم من فكر مستورد وصالح، وكم من فكر محلي وفاسد.

إن الحضارة الحديثة، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، أضحت حضارة العالم لا حضارة أمة بعينها، وإن أمم العالم بأسرها تسهم في إمداد هذه الحضارة وتطويرها. ولا ينفي هذه العالمية كون بعض الأمم لها فضل سبق أو فضل عطاء على غيرها، فإذا سجلنا التيارات القوية العاملة فوق السطح فلن تعدم ملاحظة القوى الجديدة التي تسهم في الحضارة، مثل اليابان والصين، وإذا تأملنا الحركات البطيئة في القاع أو على الأطراف فلن نعدم أيضًا ملاحقة القوى الناشئة من أقطار العالم الثالث، وما تعززه من إشعاعات خافتة ذات أثر في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الفكري، وهذا يعني أن الرجل الأبيض لم يصبح وحده صاحب هذه الحضارة، وأنه قد مضى زمن انتساب هذه الحضارة إلى الرجل الأبيض وحده.

وأخيرًا إذا كان غيرنا من الشعوب لا يستطيع أن يعزز من القيم الروحية في سيرتها الوضيئة، ولا يملك القدرة الكافية على تصحيح اتجاه الحضارة الحديثة، فهل نكون نحن المسلمين من اليقظة والوعي بحيث نؤدي هذا الدور؟

تاسعاً: المعاناة المزدوجة ضرورة، أي العيش في معاناة تعَلُم معارفنا التراثية ومعاناة التعرف على معطيات الثقافة الحديثة:

1- لماذا هي ضرورة؟ لأن المعاناة بجناح واحد لا تمكن الطائر من الطيران؛ لابد من جناحين يعملان معًا… من عاش الحضارة الغربية وحدها فلن يكون غير مجرد أمريكي أو إنجليزي أو فرنسي (مسخ).

ومن عاش التراث الإسلامي وحده فلن يكون غير مجرد شبح مسلم القرن الماضي؛ لأنه منقطع عن أرض الواقع المعاصر.

2- اتجاهات المعاناة (أو توجهاتها):

  • ‌أ- الاتجاه إلى الأصول مع الفروع، سواء أصول التراث من قرآن وسنة ولغة تحملهما مع علوم التراث، أم أصول الحضارة الغربية وجذورها عوامل التكوين مع آثارها وثمارها وظواهرها.
  • ‌ب- الاتجاه إلى مناهج العلوم مع العلوم، سواء أصول الفقه مع الفقه ومناهج التفسير مع التفسير، ومناهج البحث العلمي العامة، ومناهج البحث الخاصة لكل علم، مع دراسة العلوم الحديثة.
  • ‌ج- الاتجاه إلى الحياة مع الدراسة ومخالطة صور الحياة الإسلامية؛ أي ممارسة العادات والآداب والمعاملات الإسلامية قدر الإمكان، ومخالطة ما ينفعنا من صور الحياة الغربية في بيئتها أو صورها المقتبسة في مجتمعنا من رياضة وفنون وإنشاء منظمات اجتماعية.

والمهم هو الحذر من الاستغراق في توجه واحد، أو الإهمال الكامل لأحد التخصصات.

لابد من الانفتاح الفكري لعقل يعاني من علل وأزمات جعلته مقطوعًا عن أصوله، وغير منتفع مما أنتجه الآخرون، وهذا الانفتاح يسمح بالتفاعل الإيجابي بين قيمنا وبين العلوم والفكر الغربي الحديث… ويزيد القدرة على تحمل الشك والقلق، ويعطي الحافز على مزيد من النظر والبحث دون الهرب لهثًا وراء منظومة عقائدية (فكر جاهز معلب) تريح العقول من عناء البحث.

ويضاعف هذا الانفتاح كذلك القدرة على التفكير والاجتهاد، وأخيرًا يدفع الآراء والاتجاهات المختلفة إلى الحوار الجاد فيما بينها.

ونرجو من وراء كل هذا النشاط العقلي ميلادًا جديدًا لعقول قادرة على الإبداع -بعد أن مرت بمراحل القدرة على اليقظة بالتفاعل الإيجابي وبسعة صدر للرأي المخالف، بل وتقدير هذا الرأي من حولهم– وشخصيات سوية تعتز بتراثها وتقدر تراث وعلوم الإنسانية، وتعي حاضرها والعالم من حولها، ومن ثم نأمل منها الإبداع.

يقول بريفولت في كتابه Making of humanity)): “إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على معلمين من العرب في الأندلس، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده (يقصد فرنسيس بيكون) الحق في أن يُنسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية. وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه اللغة العربية وعلوم الأدب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة” (انظر محمد إقبال: تجديد التفكير الديني: طبعة لجنة التأليف والترجمة).

ولكن دارت الدائرة، وتغيرت الأوضاع، وينبغي أن نسعى إلى تعلم الخير الذي لدى غيرنا، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140).

جاء دورنا نحن المسلمين، فينبغي ألا نمل قط من التصريح بأن تعلم معاصرينا للغات الغرب وعلوم الغرب أمر لازم لنهضتنا في علوم الحياة.

وهنا نقول: ماذا يمنع المسلم من السعي للفوز بخير الدنيا وخير الآخرة، وقد عرف الطريق إلى كل منهما، وإذا كان الإيمان هو المهمة الكبرى للعباد، فالعقل هو السبيل إلى أداء تلك المهمة، كما أنه السبيل إلى كل نهوض وتقدم. ولكن ما هي عوامل الموقف السلبي من الفكر الإنساني الذي ينتجه غيرنا؟ هناك من يفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية فيرى أن نأخذ الأولى وندع الثانية، والواجب أن نأخذ النافع من هذه وتلك سواء بسواء، والفيصل هو مدى علميتها، وإن كان هناك نقص في علمية الثانية فهذا لا يعني إهمالها، بل نأخذها ونفيد منها، أو من القدر العلمي فيها، ونسعى للإسهام في تنميته.

وإذا كان هناك من يتعرض بالتجريح لبعض النظريات (سواء في العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية مثل نظرية دارون ونظرية فرويد) –فإن النقد والتمحيص من المختصين المتمكنين لا ممن قرأ بضع كلمات أو سطور أو كتب منقولة عن ناقل– هذا التمحيص هو الذي يرجي من خلاله تمييز النافع لنا من غيره.

إن هناك من يرمي الفكر الإنساني كله بالكفر وبالجاهلية، والحق أن الفكر الإنساني فيه بقية هدى أنتجتها الفطرة الكامنة في الإنسان، وفيه جهد العقل الإنساني الذكي المتراكم على مدى عمر الإنسانية، وفيه مع هذا وذاك قدر من الخطأ والانحراف يزيد وينقص.

وقد ترتب على هذه السلبية من الفكر الإنساني موقف غير صحيح يخفي وراءه روح الانعزالية، ويخفي وراءه روحاً مغالية في التعالي، والشعور بالتعالي يؤدي إلى إخفاء ما عند الغير من أشياء نافعة، والتهوين من أمره، مما يقطع الطريق إلى معرفة الحق والخير. ويخفي هذا الموقف السلبي من الفكر الإنساني روحًا يملؤها الشعور بالنقص (الشعور بالنقص كما قد يؤدي أحيانًا إلى الانبهار بكل ما عند الأقوى، فهو يؤدي أحيانًا أخرى إلى الخوف والحذر إزاء كل ما عند الأقوى).

إن الصراع ليس هو جوهر العلاقة بين الحضارات، بل الجوهر هو التفاعل والتبادل، والأخذ والعطاء. على أن التفاعل قد يظلله أحيانًا بعض مظاهر الصراع، يسبقه أو يصحبه أو يتبعه حرب أو حروب لمحاولة بعض الحضارات أن تفرض سلطانها على الآخرين.

عاشراً: يجب أن نصحح النظرة إلى أصالتنا، وبعد هذا التصحيح ينبغي إقرار أمرين:

  1. المحافظة على القيم.
  2. الاقتباس من الحضارات الأخرى في جميع المجالات والإفادة من التجارب التي لديها، وذلك يقتضي دراسة هذه التجارب دراسة جادة وعميقة.

  وإذا لم نحافظ على القيم ضاعت شخصيتنا، وإذا لم يتم الاقتباس حدث الانعزال، ولابد أن نلاحظ أن الانعزال يصبح أكثر سوءًا وضررًا، بل يكاد يكون مستحيلاً في عالم أضحى أكثر اتصالاً وترابطًا وتشابكًا في مصالحه وقضاياه الاقتصادية والسياسية والفكرية.

إن المقوم الأساسي لأصالتنا هو الدين، وماذا يعني الدين؟ الدين يعني فلسفة معينة للحياة، هوالعقيدة، ويتبع العقيدة بمجموعة من شعائر العبادات تنمي هذه العقيدة، ثم مجموعة من القيم الخلقية هي الأخرى تنمي العقيدة، كما تقوم العقيدة أيضًا بتدعيم الأخلاق.

والعقيدة وما يتبعها من عبادات وأخلاق هي جوهر الدين وأساسه، ليس في الكيف فحسب، بل هي كذلك في الكم أيضًا، إذ تمثل تسعة أعشار الدين، وأما العشر الباقي فهو مجموعة من الأحكام ذات الجوهر الخلقي لتنظيم وضبط بعض نواحي الحياة الاجتماعية ذات الصيغة الثابتة، والتي لا تتغير بتغير الزمان والمكان إلا في القليل النادر.

ولكن ونحن نحاول المحافظة على قيمنا، وفي نفس الوقت نحرص على اقتباس النافع من غيرنا، كيف نفرق بين ما يسمى الغزو الفكري وبين التفاعل الحضاري (أي بين التغريب والتحديث)؟

الغزو الفكري هو فرع من الغزو الاستعماري، وهو نوع من التشويه الفكري، مقصود به تهيئة البلاد المستعمرة المتخلفة للاستمرار في حالة التخلف والخضوع للاحتلال والسيطرة الخارجية.

والمستعمَر هنا سلبي يتلقى ما يلقى إليه، دون اختيار أو تمحيص، بينما التفاعل الحضاري جهد إيجابي شاق في الدراسة والبحث والتمحيص فيما لدى الحضارة الأخرى، ثم في الاختيار والانتقاء ثم في التأقلم والتكيف مع خصائص حضارتنا الأصيلة، ومع ظروف بلادنا.

التغريب يعني قبول ثقافة الغرب قبولاً مطلقًا بخيرها وشرها وحلوها ومرها…

والتحديث هو الاختيار الجاد لأحسن ما في ثقافة الآخر، لتعمل في وحدة مع أحسن ما في تراثنا لبناء حياتنا الحديثة، وبذلك نحافظ على شخصيتنا كأمة لها تاريخ ولها رسالة على مستوى العصر، بل في أرقى مستوى للعصر.

حادي عشر: إذا كان هَدْي الله للإنسان في أمور الغيب يأتي كاملاً شاملاً مفصلاً، حيث لا يستطيع العقل أن يكمل أو يزيد أو يفصل، وإنما يتلقى يقظًا واعيًا دون قهر أو تخبط، فإن هدي الله في أمور الشريعة في غير العبادات يأتي ليقرر قواعد عامة وأحكامه محدودة أشبه بمنارات على الطريق، لكنه لا يرسم الطريق، فالطريق نحن نرسمه بعقولنا –مهتدين بهدي ربنا– ولا يحدد لنا الخطو، فالخطو نختارها نحن بعقولنا -مهتدين بهدي ربنا- وهذا رسول الله ﷺ يقول: “إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا…” (رواه مسلم).

إن أصحاب العقل الذكي الواعي المتأمل هم الأرض الطيبة، يقبلون ويمتزجون بالواقع وحاجاته، كما يمتزجون بعلوم العصر ومعارفه، ثم يخرج منهم إلى الناس الخير الكثير، فيعمرون به الأرض، ويصنعون النظم، ويقيمون الحضارة. أما عقول الحفظة والنقلة فمثلها مثل الأجادب من الأرض.

واجتهادات عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– خير مثال على الإعمال المنضبط للعقل في فهم الشرع وتنزيله على واقع الناس.

إن عقل المؤمن عرضة أحيانًا للوقوف أو التوقف، وذلك أن جلال الدين ومقام النبوة قد يغلبان المؤمن على عقله، فيتوقف حيث لا ينبغي له التوقف، مثال ذلك ما قاله أبو بكر يوم حدثه عمر في جمع القرآن. قال أبو بكر: أفعل أمرًا لم يفعله رسول الله!! وظل عمر يعرض رأيه حتى شرح الله صدر أبي بكر فوافق.

مثال ثانٍ: كان رسول الله –ﷺ– يعطي المؤلفة قلوبهم من الزكاة؛ تأليفًا لهم ومنعًا لشرهم، ثم أعز الله الإسلام وقويت شوكة المسلمين، ولكنهم ظلوا يعطون المؤلفة قلوبهم وقوفًا منهم عند ما كان يفعله رسول الله -ﷺ-. ولكن عمر –رضي الله عنه– نظر في دوافع فعل رسول الله، فوجد أنها قد زالت، فرأى إيقاف ما كان يفعله رسول الله ثم أقره أبو بكر –رضي الله عنه- (انظر فقه الزكاة ليوسف القرضاوي، ص60).

وهذا مثال ثالث: فتح المسلمون أرض السواد (ريف العراق) عنوة (أي بالقوة والغلبة)، فقال فريق من المسلمين: إن رسول الله –ﷺ– قسم أرض خيبر فتجب القسمة، وطالبوا الخليفة عمر بالوقوف عند سنة رسول الله، لكن عمر بجرأة قلبه وعقله لم يقف جامدًا عند حادثة خيبر، بل نظر بعيدًا بعيدًا، وقال: إنْ قسَّمتها بينكم فما يبقى لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ (انظر سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 66).

لم يقف عمر موقف أصحابه، بل ربط سنة رسول الله –ﷺ– بظروفها، ورأى ظروف جديدة، فمضى بسنة جديدة من باب البدعة الحسنة. وهكذا يتضح أن التوقف عند فعل رسول الله –ﷺ– دون فهم المبررات الموجبة له، ودون النظر في مقدمات الموضوع ودواعيه ونتائجه، أمر شديد الخطر؛ لأنه يعطل عمل العقل الذي كلفه الله بالنظر والبحث والتبين، وإذا تعطل العقل جمد الإنسان لا على الحق والخير، بل ربما استدبر هدي الله وهو يحسب أنه يستقبله.

وما أحوج المسلمين اليوم لعقل جريء يتحرى هدي الله، ويثبت جلال الدين وغلبته، ومقام النبوة وعظمته، فلا يسرع بالتوقف حيث ينبغي المضي، ولا يقف عند نص حيث ينبغي اجتهاد جديد في دلالة النص وفي ظروف النص، على أن يكون له من تقوى عمر ومن فقه عمر نصيب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عبد الحليم أبو شقة (2001). نقد العلقل المسلم: الأزمة والمخرج. ط. 1. الصفاة: دار القلم للنشر والتوزيع. ص ص. 31- 56.

عن عبد الحليم أبو شقة

شاهد أيضاً

أصول المنهج المعرفي من القرآن والسنة

د. محمد أمزيان

يتعلق هذا البحث ببيان الأصول التي ينبني عليها المنهج المعرفي في الإسلام من خلال استقراء نصوص الوحي.

أزمة العقل المسلم المعاصر

أ. عبد الحليم أبو شقة

العقل نعمة كبرى، فإذا كانت نعمة الإيمان هي أعظم النعم، فالنعمة التي تليها هي نعمة العقل الواعي الفاحص المتأمل، إذ بدون هذه النعمة لا تحصل تلك، وبدون هذه النعمة لا تعمل تلك عملها الأتم، ثم بدون هذه النعمة لا تستقيم تلك على أمر الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.