د. زهيرة عابدين

د. زهيرة عابدين

د. فاطمة الزهراء محمد عبده*

ولدت الأستاذة الدكتورة زهيرة عابدين في السابع عشر من يونيو عام 1917 م. كان والدها من الرعيل الأول الذين درسوا القانون في فرنسا، وأصبح عضوًا بمجلس الشيوخ.

وكان زوجها د. محمد عبدالمنعم أبو الفضل أستاذ التحاليل الطبية وزميلها في الدراسة بكلية الطب. رزقت الدكتورة زهيرة بأربعة أبناء حصلوا جميعهم على درجة الدكتوراه في مجالات تخصصاتهم المختلفة.

كانت د. زهيرة عابدين امرأة ملهمة من عدة وجوه وليس من وجه واحد:

أولاً: فبدلا من مناقشة دور نظري للمرأة في تنمية المجتمع والمطالبة بدور لها في بناء المجتمع قدمت د. زهيرة نموذجا عمليا لهذا الدور، فقامت ببناء مؤسسات تقاوم الأمراض وتسهر على صحة المجتمع ووضعه على طريق الإنتاج. وعنيت بتأسيس الطب الاجتماعي بالعناية بأسر المرضى لتبني رؤية كلية في العلاج والتكافل.

ثانياً: وهي ملهمة من حيث قدرتها على النزول إلى الواقع المجتمعي بكل مشاكله وجزئياته للقيام بدورها الإصلاحي مدعمة بعلاقة قوية بالله تعالى، فقد كان الدين دوما مصدر طاقة وقوة دفع لعطائها وعملها الدؤوب. وتقول د. زهيرة في هذا المقام: “تحول إيماني بالله من حب فطري إلى نوع من الوعي بدأت معه أشعر بعظم مسئولية الخلافة عن الله في أرضه وبواجبي تجاه الأهل والوطن بل الإنسانية جمعاء فكان التخطيط لكل هذه المشاريع التي وفقني الله إليها”

ثالثاً: واخيرا كانت د. زهيرة ملهمة ليس فقط من خلال شخصيتها المتميزة ولكن بالدور الأسري الذي لعبه كل من والدها وزوجها في هذا النجاح، فقد قدمت عملياً صورة مشرقة لنجاح أمرأة عصرية في إطار أسري داعم لها، فلم تجد د. زهيرة مشاكل مع الأب أو الزوج، تلك المشاكل التي كان يمكن أن تعيق عطائها وتطورها العلمي والإنساني في المجتمع.

فقد كان والدها يصطحبها معه لبيت الأمة نظراً لصداقته مع الزعيم سعد زغلول، ومع ملاحظته لتميزها في الحديث والحوار وتأثرها بهدى شعراوي إزداد اهتماماً بها ورعاية لها وداوم على اصطحابها إلى المكتبات ودفعها للقراءة.

أما بالنسبة لزوجها فقد قالت د. زهيرة: ” كان زوجاً مثالياً ولولاه ما استطعت تحقيق هذا النجاح الكبير، فقد عاوننى في مسيرة حياتي كلها”.

نبوغ مبكر:

بدأت رحلتها مع التفوق عام 1939 حيث جاءت مرتبتها الأولى في امتحان شهادة البكالوريا “الثانوية العامة” على القطر المصري كله، كذلك كانت الأولى خلال دراستها الجامعية حتى تخرجت كأول دفعتها عام 1943 م.

وكانت أول طبيبة يتم بتعيينها في هيئة التدريس بالجامعات المصرية، وكان ذلك إثر عودتها من إنجلترا واجتيازها لامتحان عضوية الجمعية الطبية الملكية كأول إمرأة عربية في ذلك الوقت، تخصصت في طب الأطفال وروماتيزم القلب وقدمت في هذه المجالات من الأبحاث والجهود العلمية والخدمات العامة ما أهلها لأن تكون الطبيبة الوحيدة على مستوى العالم التي نالت الدكتوراة الفخرية في العلوم الطبية من جامعة أدنبره بإنجلترا عام 1980، وأن تكون أول مسلمة عربية تمنح جائزة اليزابيث نورجال العالمية للمرأة والخدمات الاجتماعية من ألمانيا عام 1991. وأخيرًا قررت أكاديمية العلوم الإسلامية والاجتماعية بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة إنشاء قسم وكرسي أكاديمي لدراسات المرأة باسم العالمة المصرية زهيرة عابدين، وأحتفى العالم بها تقديرًا لجهودها وأبحاثها العلمية الفريدة التي زادت على 120 بحثًا معظمها اكتشافات حديثة في حينها ولا تزال تدرس في العالم حتى الآن.

وعندما عادت الأستاذة الدكتورة زهيرة عابدين إلى الوطن من انجلترا، قامت بإنشاء تخصص أمراض القلب للأطفال في العديد من المؤسسات الطبية  وقامت برعاية مرضى روماتيزم القلب، حيث كانت صاحبة مدرسة علمية متميزة فقد كانت نموذج فريد للعالم والإنسان والعطاء المتجدد الدائم .

نماذج من انجازاتها:

* في مجال الطب الاجتماعي :

أنشأت الدكتورة زهيرة عابدين تخصص قلب الأطفال بعيادات خاصة للتشخيص والمتابعة في الطب حيث لم تكن التخصصات الفرعية الدقيقة في طب الأطفال قد عرفت بعد، وهي أول من جعل للطب الاجتماعي مفهومًا حيث أشركت أجهزة الطب مع الأجهزة المختصة في محاربة مرض روماتيزم  القلب، فمنحتها جامعة القاهرة لقب أستاذ كرسي طب المجتمع، وذلك على أثر جهودها الطبية والمجتمعية المتمثلة في الآتي:

  • تأسيس جمعية أصدقاء مرضى روماتزم القلب عام 1957 م، ومن خلال هذه الجمعية أنشأت عدة مشروعات منها: مركز القلب والروماتيزم بالهرم وأسست فروع له ملحقة بالجامعة الإقليمية بكل من أسيوط وطنطا والزقازيق والمنصورة والأسكندرية.
  • قامت بحملة واسعة النطاق ( على مستوى الجمهورية) بالإشتراك مع وزارة الصحة لمكافحة مرض روماتيزم القلب، أسفرت هذه الحملة خلال عشرين عامًا عن انخفاض نسبة حالات القلب شديدة الوطأة في مصر من أكثر من 50% إلى 14%  ثم إلي 4% ثم إلى 2%، وهو إنجاز نال تقدير العالم أجمع.
  • وعندما وجدت أن علاج الأطفال يستلزم وجودهم لفترات طويلة أقامت لهم مدرسة ابتدائية ملحقة بالمستشفى.
  • أنشات معهد صحة الطفل بالدقي بهدف رعاية الطفولة ووقايتها من أمراض ما قبل سن الرابعة وعلى رأسها أمراض سوء التغذية والنزلات المعوية والجفاف الشائعة بين المعوزين من أبناء الوطن.

* الأعمال الخيرية والمجتمعية:

  • أنشأت منذ سنة 1962 دورًا للطلبة الجامعيين المعوزين والمغتربين وأخرى للطالبات الجامعيات المغتربات من خارج القاهرة.
  • خصصت وقفًا من مالها الخاص لإعانة الأرامل المعيلات، وأقامت وقفًا لتعليم أطفال البوسنة والهرسك.
  • نهضت بجمعية الشابات المسلمات بتكليف من وزيرة الشؤون الاجتماعية فأقالتها من عثرتها وأسست من خلالها دار الحسين أمام جامعة الأزهر لخدمة أهالي الحي حيث احتوت على دار حضانة ومشغل لتعليم الفتيات بالحي التفصيل والتطريز ودار للطالبات المغتربات وعيادة طبية.
  • أسست دار ضيافة للمسنات تشمل خدمتها لرعاية الأرامل ودار للأطفال الأيتام
  • أسست مدارس الطلائع الاسلامية وهي باكورة المدارس الاسلامية في مصر التي هدفت من خلالها تقديم مستوى راق من التعليم مع التركيز على الدين والأخلاق.
  • أسست أول كلية طب متطورة بدولة الإمارات العربية (كلية دبي الطبية للبنات) عام 1986م ووضعت مناهجها، وعكفت على إدارتها زهاء سبعة أعوام نالت خلالها الكلية تقديرًا عالميًا من الهيئات الطبية العالمية.

نماذج من تكريمها:

قالت عنها الصحف الغربية العالمية “إنها نموذج لامرأة قلما تستطيع امرأة أخرى محاكاتها في سيرة حياتها المليئة بأعمال الخير، لأن ما قامت به هذه السيدة في حياتها يقترب من مرتبة الأسطورة” [1]

  • منحتها مصر وسام الدولة الذهبي تقديرا لمكانتها العلمية، وخدماتها التطوعية للمجتمع، قدمه لها الرئيس السادات.
  • منحتها نقابة الأطباء لقب “أم الأطباء” عام 1990م
  • المرأة العربية الوحيدة التي منحت جائزة إليزابيث نورجال العالمية من النادي النسائي الدولي عام 1992 م بألمانيا.
  • منحتها الدولة الجائزة التقديرية سنة 1996 م في العلوم الطبية التطبيقية، فتبرعت بقيمتها المادية لأوائل الخريجين في طب الأطفال والدراسات العليا.

ويمكن القول بأن خبرة حياة دكتورة زهيرة عابدين تقدم النموذج لأمرين أساسيين:

أولاً: إن المرأة المسلمة مدخل أساسي للتغير في مجتمعاتها، فكانت زهيرة عابدين فاعلاً أساسيًا سعت لتجديد طاقات النموذج الحضاري الذي نشات في ظل قيمه وتقاليده، فربطت بين العمل الخيري والعمل التربوي الفكري والعمل البحث العلمي  لتؤكد أهمية الربط بين القدرات المادية وغير المادية.

ثانيًا: إمكانية الاعتماد على الجهود والموارد الوطنية المصرية والعربية والإسلامية. فقد أثبتت أن الزكاة والصدقة والوقف يجب ألا تقتصر على الأعمال الخيرية “التقليدية”، ولكن يجب أن يتسع نطاقها ومداها لتمتد للأعمال الإنتاجية، وللأنشطة الفكرية والبحثية، كما أن الجهود يجب الا تظل فردية، ولكن يجب أن تصبح جماعية، وتتخذ أطرًا مؤسسية.

فارقت الدكتورة زهيرة عابدين عالمنا في السادس من مايو عام 2002 م، وذكر المقربون لها أنها ظلت تزاول نشاطها بكل حماس حتى وفاتها بالرغم من مرضها الشديد في السنوات العشرة الأخيرة من عمرها.

تمثل دكتورة زهيرة التي خرجت للحياة العامة من أوسع أبوابها مع حرصها على أولوياتها الأسرية، نموذجًا متوازنًا نادر المثال نتمنى أن تتحول إلى ظاهرة مشعة بين نساء الأمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* دكتوراة في علم المكتبات والمعلومات. كلية الآداب، جامعة القاهرة.

[1]  د. مني أبو الفضل (إعداد وتحرير)، أم الأطباء المصريين الدكتورة زهيرة عابدين، شهادة وفاء وعرفان. جمعية دراسات المرأة والحضارة القاهرة – 2008

عن فاطمة الزهراء محمد عبده

تعليق واحد

  1. نموذج مشرف وقدوة نحتاج مثلها كثير ….. شكرا دكتورة فاطمة تمنياتى ان يكتب مقال مثله عنك يوما قريبا ان شاء الله

اترك رداً على دعاء شديد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.