في ما وراء الوظيفة وماتفعله بالإنسان…

في ما وراء الوظيفة وماتفعله بالإنسان…

أ. آية غريب *

أ. عبد الرحمن سمير **

من غير المُتخَيل أن أحدُنا قد سَلم من الخطاب الذي يُروج لفكرة “فضيلة العمل”، هذا الخطاب في الغالب لا يتحدث عن فضيلة “العمل” وإنما يتحدث عن فضيلة “الوظيفة”، والفارق كبير بين الكلمتين … فقد رسم هذا الخطاب ومازال يرسم في أذهاننا صورة عن الموظف المثالي؛ هذا الشخص الذي يعمل عدد ساعات أكثر، ينام عدد ساعات أقل، مشغول دائمًا، ولديه جدول أعمال مكتظ بالمهام… هذا فضلًا عن الترويج لفكرة أن العمل واجب، وأن الفراغ يجلب المفسدة للإنسان، ومن ثم فالفراغ يتنافى مع فضيلة العمل.

على جانب آخر، يُذكرنا براتراند راسل في مقالته (في مدح الكسل) بأن: ” الفراغ ضرورة للحضارة. وفي الأزمنة السالفة كان الفراغ الذي تنعم به الأقلية ممكنًا بفضل كد الأكثرية وكدحها. وكان لكدحها قيمة، لا لأن العمل شئ حسن بل لأن الفراغ حسن. ويمكن عن طريق وسائل العلم الحديثة توزيع الفراغ توزيعًا عادلًا دون إضرار بالحضارة”.

في مقالة بعنوان ” The Disease of Being Busy”، يقول الكاتب إن في أثناء زيارته لأحد جيرانه في المدينة التي ارتحل إليها مُؤخرًا، سأل الأم إن كان هناك إمكانية بأن تلعب ابنته مع ابنتها، فقامت الأم بشكل تلقائي بفتح قائمة الأعمال علي هاتفها، وقالت: “إن بعد أسبوعين ونصف من الآن، سوف يكون هناك حوالي 45 دقيقة مفتوحين،… إنها حقًا مشغولة جدًا”.
هذا المشهد يوضح لنا أن الأمر لم يطل فقط الكبار، ولكن الكبار فرضوه فرضًا على الصغار بإعتبار أن هذا النمط من الحياة – حيث الانشعال الكامل بالأعمال- يجعلهم أكثر سعادة ونجاحًا. وكأن العمل يقي الكِبار من الخمر ويحمي الصغار من الشر كما ذكر راسل في مقالته.

 فمُنذ الصغر وتمت دعوتنا إلى العمل؛ العمل وفقط، إلى أن نكون موظفين داخل سيستم لا يتردد في أن يجعل مِنا مجموعة نسخ مكررة من بعضنا البعض… وداخل هذا السيستم، تُسيرنا مجموعة قوانين صماء، كأنها مُصممة للتعامل مع مجموعة آلات! ونتيجة لهذا، نجد أنفسنا تحولنا بحق لنكون مجموعة آلات تتحرك تحت أمر السيستم، فإذا قال أفعل، ستفعل بدون نقاش أو تعبير حتى عن رغبة أخرى.

ثم كبرنا لنجد أنفسنا نسير وكأننا في دائرة لا نعرف لماذا ندخلها؟ الإ إننا ندخلها بدعوى من المجتمع على أي حال … ثم نتماهى داخلها، وبرغم كل الأذى الواقع علينا من جراء هذه المنظومة، الإ إننا نستكمل السير … ثم لا نعرف متى نخرج منها؟ وماذا نفعل إن أفلتنا من كل هذا السخف!

والسؤال هنا هو كيف لمثل هذه الخطابات أن تسلب مِنا أريحية أن نكون أشخاص عاديين؟ لا مميزين ولا ناجحين بالمعايير التي فُرضت علينا، تلك المعايير والوصفات الجاهزة للنجاح التي تم تلقينا بها ربمّا تكون حولتنا إلى أفراد أكثر شرًا… فنجد أنفسنا نعيش في صراع يومي، نتسابق فيه من أجل الحصول علي الوظيفة المثالية، ونفرح إن خرج أحدُنا خارج السباق، فلعل فرصتنا في الفوز تكون أكبر في هذه الحالة!

والحال إننا قد نكون في حاجة إلى إعادة النظر في مثل هذه الخطابات، ليس هذا فحسب، ولكن أن نُعيد النظر أيضًا في سؤال العمل، ففي ظل هذا النظام نجد أنفسنا نعمل 8-12 ساعة يوميًا، في أعمال نحن في الأغلب نكرهها، ولكننا مُجبرين علي القيام بها لأسباب مختلفة، فأصبحنا مقيدين في عالم ملئ بموظفين بيروقراطيين، مكاتب، بِدل، ومهن،…

وربمّا لا نُبالغ إن شبهنا أنفسنا ونحن نعمل في ظل هذا النظام – بالعبيد – في ظروف تختلف تمامًا عن ظروف دولة العبيد. فمشهد الأفراد وهم مقيدين بالسلاسل لإرسالهم إلى مكان ما في هذا العالم لا يعني لهم شيئًا، ليقوموا بأعمال هي أيضًا لا تعني لهم شيئًا، قد وقع أمام أعيينا جميعًا سواء قرأنا عنه في الكتب أو شاهدناه في مشاهد تحاول تقريب ما كان يحدث… الإ أن هذا المشهد ربمّا يكون مُتكرر أيضًا هذه الأيام، الاختلاف فقط أن الناس أصبحت أقل صراحة عن ذي قبل… فقد تبدل المشهد، وأصبحنا مُقيدين… لكن في هذه المرة تحت رحمة الشركات والنظم وأرباب العمل.

الأمر المثير للدهشة، إننا قد نعلم ذلك جيدًا، نعلم أن هناك مشكلة في الطريقة التي نُمارس بها حياتنا، وأن هذا ليس بالتأكيد المسار الطبيعي للأشياء، ولكننا لا نتردد لحظة في أن نكون جزءًا من هذا النظام الذي يبدو وكأنه مُصمَم لتدمير إنسانيتنا. “ففكرة الاستيقاظ مبكرًا للذهاب إلى مكان ما رغمًا عن إرادتك والقيام بأمور لا تعني لك كثيرًا، وحددها لك أشخاص آخرون، هي أسوء الأفكار التي خرجت بها الرأسمالية يومًا” كما عبّر طوني صغبيني في كتابه الهروب من السيستم.

هذه صورة لسائق أتوبيسات سفر، نطلق عليها “سوبرجيت”، ولأنه يعمل عدد ساعات طويل جدًا -للدرجة التي معها إنه قلما يرى أولاده وزجته- فوضع تلك الدومى أمامه وسمّى كل واحدة منها تبعًا لأسماء زوجته وأولاده…

السطور القادمة ستُركز على توصيف الإشكالية الأسياسية، والمتمثلة في إشكالية العمل في ظل النظام الرأسمالي، ومن ثم محاولة تلمس إجابات على الفرضية الأساسية، وهي أن فكرة العمل في النظام الرأسمالي ربمّا تؤثر بشكل ما على إنسانيتنا كأفراد.  وذلك من خلال تحليل الظاهرة وإجراء عدد من المقابلات الشخصية مع مجموعة أفراد يعملون في قطاعات مختلفة.

 و”الإنسانية” في هذا السياق تعني أن الفرد هو في الحقيقة كُلّ متكامل، مُكون من عقل وروح وجسد، فهو ليس نصف إنسان! و قد عبّر باولو فيراير عن المعنى نفسه في كتابه تربية القلب في مواجهة الليبرالية الجديدة، وذلك حين قال: “إنني كيان كلي متكامل، ولست مزدوج الشخصية. ليس في شخصيتي جانب منظم، ودقيق إلى حد الوسوسة، وجانب آخر مضطرب
 أو غير محدد يشبه ببساطة هذا العالم. إنني أُعرف بكل كياني، بكل جسدي، بإحساساتي ومشاعري وعواطفي وأيضًا بعقلي”.

 تسويق الذات Self-marketing                                 

فقط أفتح حسابك علي الفيسبوك، ثم أفتح حساب أيًا من أصدقائك، أذهب مباشرة تحت الصورة الشخصية لهذا الشخص، في هذا المكان تحديدًا ربمّا ستجد قائمة طويلة عريضة من الخبرات السابقة والحالية. فمثلًا، ستجد اسم المدرسة والجامعة، مكان العمل الحالي وأماكن العمل السابقة، أماكن تدرب فيها مسبقًا، وربمّا المنحة التي حصل عليها يومًا!
والسؤال هنا هو: هل تحول الفيسبوك ليكون بمثابة “سيرة ذاتية” لنكتب عليه كل هذه التفاصيل ونعرضها بإرداتنا الحرة أمام مجموعة أفراد نطلق عليهم أًصدقاء، وربما نتركها مفتوحة أمام جميع من يمر علي الموقع؟

يُمكننا الإشارة هنا إلى ما قاله إريك فروم في كتابه “الإنسان بين الجوهر والمظهر”، فقد تحدث عن “الشخصية التسويقية”، تلك الشخصية التي ظهرت نتيجة التغيرات التي طرأت على الشخصية الإجتماعية في المرحلة المبكرة للعصر الرأسمالي، وتقوم علي ممارسة الشخص لذاته كسلعة، ولقيمتة كقيمة تبادلية لا كقيمة انتفاعية. وهنا، يتوقف النجاح إلى حد كبير على كيفية إظهار الفرد شخصيته، وكيف يجعل من مجموع صفاته وشخصيته مقبولة، بل ومطلوبة في عالم الأعمال، مثل هذا الفرد مشغول طول الوقت بكيفية تلميع ذاته وإظهارها للناس.
وبالتالي، لم تعد الكفاءة والتأهيل كافيان لكسب السباق والفوز بالوظيفة، وإنما عليك أن تنجح في هذا السباق مع آخرين، وبالتالي فالنجاح أصبح يعتمد بشكل كبير على كيفية بيع الإنسان شخصيته، فهو كالبائع والسلعة المعروضة معًا على حد تعبير فروم.

الأمر الآخر هنا هو أن مثل هؤلاء الأفراد ليس لديهم أدنى مشكلة في التماهي مع كل الأوضاع، فالغاية واحدة، وهي أن أكون مطلوبًا دائمًا في السوق، والسبل متعددة لتحقيق ذلك.
وفي مقابلة مع نوران عبدالشافي – متخصصة في الموارد البشرية HR Specialist- قالت: أن الفرد يأتي أصلًا إلى المقابلة الشخصية –فقط- ليبيع نفسه!

من المفيد هنا أيضًا الإشارة إلى ما قاله ميشيل فوكو، حيث يوضح علاقة الحداثة مع الذات والتي تسمى “التأنق”، فأن يكون المرء حداثيًا يعني “أن يتخذ نفسه كموضوع لعملية تصميم وترتيب صعبة ومعقدة”. مثل هذا الإنسان الحديث ليس من يهدف إلى اكتشاف نفسه، ولكنه ذلك الذي يحاول اختراع نفسه. وبالتالي فالحداثة ترغمه على القيام بمهمة إنتاج/إبداع نفسه كعمل فني.

وفي مقابلة مع محمد غُراب – شاب مصري يعمل بشكل حر Freelancer- لاحظناه يضع موبايله في شراب! وعندما سألناه، قال أن هذه طريقة أفعلها في المقابلات الشخصية وربمّا تترك إنطباع لدى المقابل interviewer  إني شخص مبدع….مُحاولًا بذلك استخدام ما متاح لديه من موارد لتسويق نفسه…
وبالتالي، نجد النظام فرض علينا أن نفعل أشياء هكذا، والإ سيُلقى بنا خارج السباق!

عبودية الوظيفة، الأجر، الاستهلاك                                          

تخيل هذا السيناريو: شخص يستقظ مُبكرًا، يرتدي ملابس العمل، ينزل إلى الشارع، يشاهد أفراد يبدون وكأنهم مُجبرين – مثله- على فعل أشياء هي في الغالب لا تعني لهم شيئًا، ثم يذهب إلى مكان العمل، ليجد الأفراد تحولوا فجأة، حيث الابتسامة مرسومة على وجوههم دائمًا، ربمّا يكون الأمر قاعدة في بعض المؤسسات، فعليك أن تبتسم دائمًا مهما كانت حالتك. نعم تصّنع!
هذا المشهد يبدو في الحقيقة مؤلمًا جدًا. “فالناس ليسوا منضبطين ولكنهم مستعبدين”، كما ذكر محمد غُراب.

أيضًا، في ظل هذا النظام نجد من يساون بين العمل والأجر، فالعمل =الأجر… في هذه الحالة يقع الفرد فيما أسماه بعض المناهضين للنظام الرأسمالي “عبودية الأجر wage slavery”، كأن يتحول الفرد إلى عبد يُأجر عقله وجسده ومؤهلاته طول حياته من أجل الحصول على المال، المال وفقط. ويبدو هذا منطقيًا جدًا في منظومة مُصممة على المال، وكل شئ فيها يساوي المال.

 في هذا السياق يُمكننا أيضًا ذكر قول نعوم تشومسكي: “يوجد في مجتمعنا أناس يمتلكون وظائف هذه الأيام، هؤلاء بدون استثناء تقريبًا يرون أنه من المشروع أن يكونوا في موضع بحيث يجب عليهم أن يُؤجروا أنفسهم من أجل البقاء على قيد الحياة”.

 والحال أن النظام الرأسمالي ما هو الإ بحث دائم عن الربح، ربح دائم القدرة على التجدد، وذلك من خلال مؤسسة ثابتة، عقلانية، ورأسمالية كما ذكر عبدالوهاب المسيري في كتابه “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان”. طبعًا، هذه المؤسسات في حاجة دائمة إلى إنسان أحادي، ليتماهى معها، ويذوب فيها، يتلقى أوامر، وينفذها على أكمل وجه. هذا الإنسان لابد وأن يتحول هو الآخر إلى باحث عن الربح حتى يتلاقى مع أهداف المؤسسة الباحثة بطبيعة الحال عن الربح.

في هذا الإطار يمكننا ذكر قول أحمد رحمي (المدير التنفيذي لمكتبات ألف) أن: “عالم الأعمال (البيزنس) ما هو الإ ربح كبير، ورقم واحد بالنسبة لأغلب المُديرين هو الربح الذي سوف يحصلون عليه من أعمالهم”.

ثم بعد الربح والمال لابد وأن يأتي الاستهلاك ليجعل الدائرة تستكمل دورانها… ففي ظل هذا، نجد مفهمومنا عن الحياة تبدّل من كونها “حياة طيبة” إلى “حياة استهلاكية مترفة”، فأصبحنا نعمل منتظرين لحظة حصولنا على المال، فنذهب إلى متاجر الشراء، نشتري أشياء لسنا بحاجة إليها تقريبًا، ولكننا نشتري على أي حال، وكأن أصبح معروف لدينا أن المال لابد وأن يتبعه شراء من رفوف المحلات التجارية.
 وبذلك ربمّا نتحول إلى عبيد للراتب في نهاية الشهر وللاستهلاك في أوله، كما ذكر طوني صغبيني في كتابه.

ولكن هل نتحمل أن نقضي حياتنا في وظائف لا تعنينا، وضمن نظام كهذا من أجل المال والاستهلاك؟…  ربمّا نكون بحاجة إلى حسم هذا التساؤل مع أنفسنا.

إهمال الجانب الروحي والديني

فإذا تأملنا حياتنا كموظفين، سنجد أنفسنا مُنخرطين كليًا في وظيفة تأخذ أنصاف أيامنا تقريبًا، وفي مؤسسة  تتعامل معنا على إننا أنصاف بشر، وفي مجتمع يتعامل مع بعض الأرواح الحرة التي ترفض كل هذا السخف على إنهم أشخاص كسولين لا يقدرون علي تحمل متاعب الوظيفة كما تحملها السابقون!
وبين هذا وذاك تتمزق أرواحنا، ونظل نبحث عن مُستقًر نهرب فيه من تلك الصراعات اليومية، لنبحث عن أروحنا التي ربمّا لم تعد كما فُطرت أول مرة.

على جانب آخر، نجد أنفسنا أعتادنا سماع جملة ( بيزنس از بيزنس (Business is business ليس فقط سماع، ولكن أيضًا أعتادنا أن نتصرف بناءً على ما تعنيه، تلك الجملة التي ترسخت في أذهاننا بمعنى إنك كإنسان لابد وأن تترك مبادئك وقيمك وكل هذه الأشياء خلفك منذ بدءك العمل، ففي بيئة العمل هذه عليك أن تضع نفسك في حالة خاصة، وأن تنفصل عن العالم وعن نفسك، وتنغمس في عالم الأعمال السريع، الراغب – فقط- في الربح… فكأنهم يطلبون منك أن تستيقظ كل صباح، تترك مبادئك في المنزل، ثم تذهب إلى الوظيفة… أو تذهب بمبادئك هذه، لكن تتركها علي بوابة الشركة، ثم تصعد لعملك، تصعد بعقلك فقط؛ عقلك الميكانيكي، وليس عقلك الذي يزن الأشياء بميزان العقل والقلب معًا ويتعامل معك كإنسان لابد وأن يحترم نفسه وقيمه، هذا إن لم يطغَ عالم الأعمال على هذه الأشياء أصلًا.

نجد عبدالوهاب المسيري يذكر في كتابه أنه :”تم تكييف الإنسان على أساس الوظيفة العامة لا الوظيفة مع الإنسان وهو ما نسميه الأحادية الوظيفية، أي حينما يرد الإنسان في كليته إلى الوظيفة، حيث يُعرف الإنسان في ضوء الوظيفة والدور لا في ضور إنسانيته الكلية”.

وفي مقابلة أحمد رحمي أشار قائلًا: ” احنا ترس في المنظومة، احنا أصلًا ولاد المنظومة ومستحيل نخرج منها”، فنتيجة العمل لساعات طويلة، ربمّا نكون تحولنا بحق لمجموعة آلات، ليس لدينا الوقت الكافي لممارسة الأشياء التي ترضي أنفسنا مثل؛ قراءة كتاب، الجلوس مع عائلتنا، الخروج مع أصحابنا، أو حتى تطوير أنفسنا في المجال الذي يعنينا!

قد يكون من المُفيد أيضًا الإشارة إلى ما قاله أرسطو في كتابه (السياسة) فقد ذكر أن الحياة الفاضلة ليست هي الحياة المُكرسة للعمل، ويجب ألا يعيش المواطنون حياة ميكانيكية، ولكن يجب أن يكون لديهم الوقت الكافي لأداء واجباتهم المدنية وتطوير قيمهم.

وبالتالي، فالجانب الروحي والديني هو أحد مكونات الجوهر الإنساني، وبدونهم يصبح الإنسان شيئًا ماديًا مثله مثل أي شئ مادي آخر!

فقدان الإبداع

نجد أن في بعض المؤسسات البيروقراطية، غالبًا ما يُقابل الشئ الغير مألوف بأنه لا يجوز، وبأنه قد تعدى القواعد العامة والمعايير المتفق عليها في المؤسسة. فعلى الرغم من أن الشئ الذي أبدعته أو الفكرة التي أقترحتها قد تكون جيدة، ولكنها غير مُرحب بها أو غير قابلة للتنفيذ، لأنها خارج النمط المتعارف عليه، أي خارج القواعد والمعايير!

 نعوم تشومسكي قال ذات مرة: ” إن العنصر الأساسي في الطبيعة الإنسانية هو الحاجة إلى العمل المبدع والبحث المبدع، وإلى الإبداع الحر دون تأثير متعسف ومضيق من قِبل المؤسسات المتسلطة، وينتج عن ذلك بالطبع مجتمع سليم يضاعف الإمكانيات لهذه الصفة الإنسانية الأساسية المؤكدة”.
 فالأصل أن كل إنسان ذكي ومبدع بطريقة ما، ولكنه فقط يحتاج إلى مساحة يعبر فيها عن إبداعه… ومعنى الإبداع هنا بسيط للغاية، لا يهم أن تأتي بشئ مذهل من المريخ، ولا يهم أن تحل مشاكل الكوكب، ولكن كل ما يهم أن الإنسان يستخدم عقله الفريد، وأن يعبر عن نفسه، ويتعامل مع المجتمع والعالم بفكره وإبداعه… لكن وجوده في مثل هذه المؤسسات البيروقراطية والرأسمالية ربمّا سيقضي عليه وعلى فكره الفريد، وقد يجعل منه مجرد تابع مُنفذ للأوامر… فمثل هذه المؤسسات تسعى دائمًا لخلق موظفين بيروقراطيين، لا إرادة لهم، خنوعين، مطوعين للأوامر، راغبين في المناصب، وساعيين فقط للربح مثلما تسعى هي للربح …

نجد عبدالوهاب المسيري كان قد عبّر عن الأمر نفسه حين قال أن عملية الترشيد Rationalization التي تتبناها المؤسسات، تتطلب وجود مركز قوي، يقوم بالهيمنة على كل الأطراف، وبعملية التحكم في كل موارد المجتمع وتوجيهها وبرمجتها، حتى يمكن تحويلها إلى مادة استعمالية وتوظيفها على أكمل وجه، وبذلك تتحسن أداؤها داخل المنظومة الآلية المقترحة، وهذا يتطلب في واقع الأمر عملية تنميط وتوحيد.
كذلك قد تنبأ ماكس فيبر بأن عمليات الترشيد هذه ستؤدي إلى تحويل المجتمع إلى حالة المصنع وإلى ادخاله القفص الحديدي.

السلطة

” أنا عبد مأمور”
دائمًا ما تتردد هذه الجملة على أذهاننا، نستخدمها بمعنى إننا ليس لنا دخل في هذا الأمر الواقع، فنحن نتلقى أوامر، ننفذها كما هي بدون نقاش، سواء أكانت جيدة أم سيئة، لا يهم، فنحن مجرد مُنفذين…

ولكن هل من مهرب للإنسان من كل هذا السخف الذي يُحيط به، ومن هذه السلطة الجهنمية التابعة له كظله…أو لعله هو الذي يتبعها بدون وعي بوجودها غالبًا؟  بمعنى آخر، هل هناك بديل عن هذا النظام؟ … والحال أن هذا النظام وتابعيه يرددون بأن ليس هناك بديل عن هذا النظام… وهذا قول وائل جمال، الباحث الإقتصادي، في مقابلته “الرأسمالية دائمًا ما تُشكك في الطرف الآخر، ومن أي طرف يمكننا كسب ربح من خلاله”.

فعلى الرغم من أن ما يبدو حاليًا هو أن لا أحد يقاوم، وبرغم كل الأذى الواقع علينا من جراء هذه المنظمومة التي لا تتردد في محو آخر معالم إنسانيتنا، وبرغم تحولنا غالبًا إلى مجرد آلات تتحرك لإطاعة الأوامر من غير تعبير عن اعتراض أو حتى رغبة مضادة…. الإ أنه لابد وأن هناك مهرب، ولكن أين؟ وما قرار كُل مِنا حيال ذلك؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحثة في العلوم السياسية.

** باحث في العلوم السياسية.

المراجع:
1. إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر، ترجمة: سعد زهران، (الكويت: عالم المعرفة، أغسطس 1989).

2. إتيان دو لا بويسي، العبودية المختارة، ترجمة: صالح الأشمر، (لبنان: دار الساقي، ط1، 2016).
3. باولو فيراير، تربية القلب في مواجهة الليبرالية الجديدة، ترجمة: سامي محمد نصار، (القاهرة، الدار اللبنانية المصرية، 2007).
4. براتراند راسل، في مدح الكسل ومقالات أخري، ترجمة: رمسيس عوض، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، ط 2، 2009).
5. طوني صغبيني، الهروب من السيستم، (دبي، منشورات مدونة نينار، 2015).
6. عبدالوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، (دمشق: دار الفكر ، ط4، 2010).
7. محمد صفار، الأصوليات، (القاهرة: مدرات للأبحاث والنشر، ط 1، يناير 2016).

8. Omid Safi, the disease of being busy, on being, 6 November 2014, link here;

https://onbeing.org/blog/the-disease-of-being-busy/?fbclid=IwAR1BMIKynSPuq5-2v_2NSZdWx6dcfe08uThPry9RiO5he7Ep0P-NOc-MObk  

عن آية غريب

شاهد أيضاً

التدمير الخلاق: أبطال موجة الذكاء الاصطناعي وضحاياها

تأليف: أ. د. أيمن البوغانمي

عرض: أ. أحمد محمد علي

 يبدأ الكاتب بتسليط الضوء على التحولات التكنولوجية العميقة التي يشهدها العالم اليوم، والتي يصعب مقارنتها إلا بالثورتين الصناعيتين السابقتين.

الاقتصاد الرقمي “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

العملات الرقمية المشفرة

تفكيك الرأسمالية

وهم النقود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.