مدخل إلى القرآن الكريم. ج. 1؛ في التعريف بالقرآن

العنوان: مدخل إلى القراّن الكريم. ج. 1؛ في التعريف بالقراّن.

المؤلف: محمد عابد الجابري.

الطبعة: ط. 1.

مكان النشر: بيروت.

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية.

تاريخ النشر: 2006

الوصف المادي: 456 ص.، 24 سم.

الرقم الموحد: 7-093-82-9953.

يميز الكتاب بين الزمن الطبيعي والزمن الثقافي (ص 72)، ويفترض أن القضايا التي يعرض لها الكتاب وإن كانت قديمة من منظور الزمن الطبيعي، فإنها تبدو معاصرة وحية من حيث الزمن الثقافي، خاصة وأن الكتاب (كما أقر مؤلفه) قد جاء كنوع من الاستجابة لتداعيات ما بعد 11 سبتمبر 2001، وما تلا ذلك من أحداث جسام وردود فعل غاب فيها العقل. ومن ثم كانت الرغبة في تأليف “مدخل إلى القراّن الكريم” مدفوعة بالتعريف به للقراء، تعريفاً ينأى به عن التوظيف الإيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي له، في وقت أضحي فيه العالم سوقاً لترويج كثير من الشعارات غير البريئة، من قبيل “صراع الحضارات” و “حوار الحضارات” و “حوار الثقافات” و “حوار الأديان”، إضافة لمفاهيم أخري كالإصلاح السياسي والديني والثقافي…. إلخ.

يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام: قسم للحديث عن وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث، وقسم للحديث عن مسار الكون والتكوين للقرآن الكريم، أما القسم الثالث فتم فيه تحليل القصص القرآني. ويهدف الكتاب إلى جعل المقروء معاصرا لنفسه، ومعاصرا لنا في الوقت ذاته، وذلك للإجابة عن سؤال: هل يمكن فصل الدعوة المحمدية عن السياسة والتاريخ، وهل يمكن الفصل في القرآن بين الدين والدنيا، ثم هل يمكن إصلاح حاضرنا من دون إصلاح فهمنا لماضينا؟

في مقدمة الكتاب تناول الكاتب محاولات التعريف بالقراّن، التي قدمها المسلمون وغير والمسلمين، وعرض لعدد من هذه التعريفات، ومنها أن القراّن، “هو ذلك النص الذي يقرأه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم”، هذا النوع من التعريف يشير إلى ما هو حاضر وملموس في المجال البصري أو الذهني للمخاطب، (كما هو يتضمن تحييد للغيب، وإقصاء له).  وهناك تعريف آخر يقول إن “القراّن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالي، نزل به جبريل عليه السلام على نبينا محمد صلي الله عليه وسلم، وهو المكتوب في المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المُختتم بسورة الناس”.  وهذا التعريف يختلف عن الذي سبقه بأنه وصف القرآن بأنه كلام الله، الذي نزل به جبريل وهذا لا يُسلم به ابتداء إلا المسلم المؤمن الموحد بالله. وهناك تعريف آخر يقول ” أن القراّن هو كلام الله تعالي ووحيه المُنزل على خاتم أنبيائه محمد صلي الله عليه وسلم المكتوب في المُصحف، المنقول إلينا بالتواتر، المُتعمد بتلاوته، المًتحدي بإعجازه”. والغرض من تبيان تعدد التعريفات هو بيان أثر التحيزات العقدية والمذهبية في مسألة أولية كمسألة التعريف. 

وخروجا من دائرة جدل التعريفات يقدم الكاتب تعريف القرآن كما جاء في القراّن نفسه {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِه الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)} (الشعراء، 192-195) {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (الإسراء، 106)، وقوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}(اّل عمران، 3-4).

ثم ينتقل الكاتب من هذه التعريفات لما أسماه “مسار الكون والتكوين” ويقصد بهذا محاولة فهم المراحل التي قطعها القراّن منذ نزوله حتى أصبح كما هو الاّن في المصحف. هذا النوع من التعامل يهتم بالتعرف على “كيان النص،” وذلك من خلال رصد عملية نموه الداخلي من جهة، وتتبع الكيفية أو الكيفيات التي تم التعامل بها معه خلال مسيرته، نحو اكتمال وجوده بين الناس كنص نهائي مصون عن الزيادة والنقصان من جهة أخري.

وعرض لإشكال الاستشراق، الذي يعطي نفسه سلطة السائل على المسئول، ويطرح أسئلة تجد مرجعيتها الصريحة في ثقافة الغرب على ثقافة أخرى نزل القرآن في إطارها، ومن ثم يجد ان من حقه أن يتساءل نفس أسئلة الصحة والمصداقية التي سبق أن طرحت في أوربا على نصوص التوراة والإنجيل.

وقد أوضح الكاتب أن هناك فرقا شاسعا بين وضع التوراة والإنجيل وتاريخ تكوينهم، وبين وضع القرآن ومساره التكويني. فالقراّن من جهة لم يكتبه الشخص الذي أوحي إليه به — محمد صلي الله عليه وسلم، بل كان يتلقاه “قراءة” ويبلَغه قراءة. ومع أنه قد اتخذ كُتاباً يكتبون ما يقرأ عليهم منه، فإن المرجع في مسألة حفظه من الضياع كان في الدرجة الأولي هم قراؤه، أي الذين يحفظونه عن ظهر قلب. هذا من جهة، ومن جهة أخري فمع أنه نزل منجمَاً، أي مقسَماً على مدي يتراوح بين عشرين وثلاث وعشرين سنة، فإن هذه المدة هي جزء فقط من عمر جيل واحد، وبالتالي فقد بقي على قيد الحياة معظم الذين باشروا كتابته مُنذ البداية، وكثير من الذين حفظوه في صدورهم مُنذ ابتداء نزوله إلى نهايته قبيل وفاة الرسول. وعندما جمع القراّن في المصحف الذي بين أيدينا اليوم، زمن الخليفة عثمان بن عفان، تم ذلك بحضور كثير من الصحابة، كان في مقدمتهم عدد من كتاب الوحي وقرائه.

ورغم ذلك يقول المؤلف، فإنه لا مفر من طرح الأسئلة، وهذا على أية حال ما فعله المفسرون على مر العصور، وخصوصا أولئك الذين ألفوا في باب علوم القرآن، ممن حاولوا استقصاء كل ما يمكن طرحه في مجال أسئلة الكون والتكوين، فاتصالا بهذا الاهتمام يجب أن يتجدد الاهتمام بطرح المزيد من الأسئلة التي تعكس اهتمامات العصر، الفكرية والمنهاجية، وذلك ان تجديد الفكر في الأسئلة القديمة، وطرح أخرى جديدة هو السبيل للارتفاع بمستوى فهمنا للظاهرة القرآنية للدرجة التي تجعلنا معاصرين لها، وتجعلها معاصرة لنا.

ثم تناول الكاتب ما أطلق عليه الظاهرة القرآنية، موضحاً أن لها ثلاثة أبعاد:

  • بُعد لا زمني يتمثل في كون القرآن امتداد للرسالات السماوية السابقة، كما في الآية الكريمة “وَإِنَّهُ لَفِي زُبُر الْأَوَّلِينَ”. والزبر هي (الكتب)، والمقصود الكتب السماوية.
  • وبُعد روحي يتمثل في معاناة النبي لتجربة تلقي الوحي.
  • ثم بُعد اجتماعي دعوي يتمثل في قيام النبي بتبليغ الرسالة وما ترتب على ذلك من ردود الفعل.

وقد ناقش المؤلف مسألة المصادر وتعدد الروايات فيما يتعلق بالقراّن الكريم، وآثر الاستفادة من جميع المصادر؛ عربية كانت أو غير عربية، إسلامية أو غير إسلامية، ورأى أن الأهم هو ما تُقدمه هذه المصادر من معلومات، وإن استند بشكل كبير إلى المصادر الإسلامية القديمة بشكل خاص. ثم تناول الكاتب التجربة الروحية كمعاناة مع المطلق، تقع وراء الحس والمحسوس والعقل والمعقول، وتجربة النبوة كأعلى قمم التجارب الروحية، مُتحدثاً عن النبوة وما يتحمله النبي من أجل حمل الرسالة ونشرها. وذهب المؤلف إلى أن القراّن معاصر لنفسه ومعاصر لنا، فالظاهرة القرآنية، وإن كانت في جوهرها تجربة روحية، نبوة ورسالة، فهي في انتمائها اللغوي والاجتماعي والثقافي ظاهرة عربية، وبالتالي يجب ألا ننتظر منها أن تخرج تماماً عن فضاء اللغة العربية، لا على مستوي الإرسال ولا على مستوي التلقي، ويجب أن ينظر إليها في ضوء المبدأ الذي نادي به الأقدمون والقائل بأن القرآن يشرح بعضه بعضاً، والأخذ بالروايات التي يمكن أن نجد في القرآن دليل على صحتها.

القسم الأول

قراءات في محيط القراّن الكريم

حول وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث

تحدث المؤلف في هذا القسم عن وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث، وعن الجدل القائم حول مسألة التبشير بالنبي محمد — صلي الله عليه وسلم — في الديانات التي سبقت الإسلام والتي أكد عليها القراّن الكريم في الآية الكريمة {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (الأعراف، 157). وقوله تعالي {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} (الصف،6). وقد خلص المؤلف بعد استعراض المقولات الأساسية في إطار هذا الجدل إلى القول بأن التبشير بالنبي محمد في السياق السابق على الإسلام، أمر مستقر، لا يحتمل التكذيب، ذلك أنه لم يقتصر على الكتب المقدسة، وإنما امتد إلى حقيقة وجود تيار توحيدي، قام في وجه نظريات التثليث، التي بنيت عليها العقيدة المسيحية.

ويتطرق المؤلف لمناقشة جذور المسيحية، والفِرق التي ظهرت وتفرعت عنها، والمعتقدات التي اّمنت بها، وتفاعلها صراعا ثم اتفاقا واقتباسا مع/من الفكر اليوناني القديم، فشاول الطرسوسي (بولس)، قام بالتوفيق بين العقيدة التي بشر بها السيد المسيح، والتي تقول بإله واحد، وبين الأفلاطونية المحدثة التي تقول بضرورة الوساطة بين الله والعالم، معتمدا في ذلك على فكرة التثليث، وقد حدث ذلك حوالي عام أربعين من الميلاد. وقد نشر بولس فكرة التثليث، في رحلاته “التبشيرية”، من سوريا إلى آسيا الصغرى، إلى اليونان إلى أسبانيا، لتنتهي به الرحلة إلى روما عام 60 م.

وفي مقابل نزعة التثليث، التي ما لبثت أن أصبحت العقيدة الرسمية، كان المسيحيون الأول المعروفون بالنصارى، يستندون في تصورهم للدين الجديد على ما جاء في التوراة، بأن المسيح هو المخلص الذي بشرت به التوراة، وأنه رسول وإنسان كسائر البشر، وقد حاربهم خصومهم أصحاب التثليث وأطلقوا عليهم لقب “الأبيونيين،” وهو لفظ عبري يعني الفقراء فكرياً ونظرياً تشهيراً بهم وتحقيراً لأنهم لم يتأثروا بالفلسفة اليونانية، ولم يدركوا سر اتحاد اللاهوت مع الناسوت في شخص المسيح! هذه الفرقة تبنت تعاليم اليهودية، فآمنوا بفرضية الناموس، وحتمية الختان، وحفظ السبت، كما عرفوا فكرة “النبي المنتظر “الذي بشرت به بعض الأناجيل. ومن رحم هذه الفرقة ظهرت الأريوسية، التي رفضت القول بألوهية المسيح، ومن هنا دعوا قديما بالموحدين، واستطاعوا نشر مذهبهم في جهات مختلفة من حوض البحر الأبيض المتوسط، وخصوصا إسبانيا، التي يرى بعض الباحثين أن انتشار عقيدة الآريوسيين بها كان مما ساعد على تحولها للإسلام بسهولة عندما فتحها طارق بن زياد، عام 92 هجرية الموافق، 711 من الميلاد. وقد كان نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، على علم بهذه الفرقة، وبحقيقة مذهب أتباعها وهو ما يظهر في رسالته التي أرسل بها إلى هرقل الروم.

ولم تكن الدعوة الإسلامية على اطلاع فقط بما كان يجرى في أرض الروم، وإنما كان للدعوة المحمدية علاقاتها الخارجية، المتعددة من ذلك علاقتها بملك الحبشة، فبعد أن تعرض أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم إلى الإساءة من قبل قريش، كان لابد لهم من ملاذ اّمن يستطيعون فيه أن يمارسوا طقوسهم الدينية بعيداً عن الاضطهاد والمحاصرة، ففتح النبي باب الهجرة لأصحابه إلى الحبشة. وجرت مراسلات بين النبي صلي الله عليه وسلم وبين النجاشي تشي بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على علم بحقيقة الوضع في الحبشة وبميول ملكها الدينية. كما تفصح المصادر أن ملك الحبشة قد تعرف على الدعوة المحمدية بواسطة رجاله باليمن. وكذلك الرسالة التي بعث بها النبي إلي هرقل ورسالة النبي الي المقوقس يدعوهم فيها للدخول تحت لواء الدعوة المحمدية. هذه الرسائل تفصح عن أن الفكرة التوحيدية كانت متغلغلة في هذه المناطق، ليس في الأوساط الشعبية بل أيضا في الأوساط الرسمية.

ويرى الكاتب أن العرض البانورامي للوضع الديني الذي سبق الدعوة المحمدية مهم في بيان ما اصطلح مؤرخو السيرة النبوية على تسميته بدلائل النبوة، أي البشارات والتطلعات التي بشرت ومهدت للدعوة المحمدية، ويؤكد أن هذا الأمر مهم أيضا في إطار ما سكت عنه هذا التبشير، وهو معارضة الإمبراطوريات السياسية القائمة في تلك الفترة، والتبشير بقرب سقوطهما، فالقول بقرب مجيئ نبي جديد معناه التبشير بقرب سقوط الأنظمة التي قامت على أساس من دعوة نبي سابق، أو التي بنت كيانها على أساس من تفسيرها لدعوة نبي سابق، فالنبي الجديد سيصحح الدين، ولكنه أيضا سيبشر بسقوط الأنظمة التي انحرفت بالدين عن أغراضه الطبيعية (ص 50). وفي هذا ما يرسم علاقة الأديان الكبرى ببعضها البعض منذ لحظة التكوين، فهي علاقة تحكمها شجرة نسب واحدة، فقد انتسب بعضها إلى بعضها، وبشر بعضها ببعض، الأمر الذي يمكن أن نفهم على أساسه ان التشاحن والبغضاء القائم اليوم بين أتباع الديانات محركه الأساسي، اعتبارات سياسية، وليس اعتبارات محض دينية، كما تفنن في بسط ذلك المؤرخون والباحثون بل وكثير من المفسرين والدعاة الواقعين تحت تأثير فكرة الصراع التاريخي.

في الفصل الثالث من هذا القسم إشارة وتساؤل من المؤلف حول أمية النبي صلى الله عليه وسلم: وحول ما إذا كان يقرأ ويكتب؟ والمقصود بكلمة أمي؟

في هذا المجال يتناول المؤلف الروايات التي تتحدث عن الوحي عندما نزل علي النبي صلي الله عليه وسلم وقال له “اقرأ” قال النبي: ما اقرأ؟ فقال: اقرأ قال النبي قلت: ما أقرأ؟ فقال: اقرأ قال: قلت ما أقرأ؟ فقال اقرأ؟ قال النبي فقلت: ماذا أقرأ؟ (ويضيف النبي ما اقول ذلك الا افتداء منه ان يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق، 1-5). قال النبي فقرأتها ثم انتهي فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتاباً” رواية ابن اسحاق. الحديث هنا عن الاختلاف بين صيغة جواب النبي لجبريل في رواية ابن اسحاق وروايات الطبري من جهة “ما أقرأ”؟ “وماذا أقرأ” والصيغة الواردة في رواية البخاري “ما أنا بقارئ! هل هي استفهام أم نفي؟”. الصيغة الأولي استفهام يفيد ضمناً أن النبي يعرف القراءة فهو يطلب ماذا يقرأ؟ أما الصيغة الثانية فهي تنفي عنه معرفة القراءة: ما أنا بقارئ! ويذهب المؤلف إلى أن عبارة “ماذا أقرأ؟ “التي تكررت في رواية ابن اسحاق والطبري لا يمكن حملها إلا على الاستفهام ومن ثم يكون رد النبي علي جبريل استفساراً عما يريد أن يقرأ وليس نفياً لمعرفة القراءة.

وقد وردت آيات في القراّن الكريم تصف النبي صلي الله عليه وسلم بأنه “أمي” وأخري تصف العرب وبعض الذين يدعون انهم من أهل الكتاب ب”الأميين” وذلك في قوله تعالي {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف، 157). المقصود النبي صلي الله عليه وسلم، وقوله تعالي {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (البقرة، 78). المقصود أُناس من العرب اعتنقا اليهودية ولا علم لهم بالتوراة وإنما يختلقون كلاماً ويقولون إنه من التوراة، وقوله تعالي {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة، 2). والمقصود هنا العرب.

لكن المؤلف يدافع عن وجهة نظره في مسألة أمية الرسول – صلي الله عليه وسلم – من خلال استناده إلى ما يلي:

  • انتشار القراءة والكتابة في قريش قبل البعثة النبوية، ودليل ذلك كثرة الصحابة الذين كتبوا الوحي حين نزوله علي النبي، وكذا ما تذكره الروايات من معرفة “قصي بن كلاب”، الجد الأعلى للنبي عليه الصلاة والسلام، للقراءة والكتابة، واشتغال النبي –عليه الصلاة والسلام- قبل بعثته، بالتجارة والذهاب بها إلى الشام”.
  • منها أيضاً، ما وقع أثناء صلح الحديبية مع قريش، وكيف تدخل النبي – صلي الله عليه وسلم- لمحو عبارة (رسول الله) من كتاب الصلح “وكتب مكانها محمد بن عبد الله”. (يصر المؤلف على رفض روايات صحيحة تنص على أن النبي سأل عليا القيام بذلك، وعندما رفض علي الأمر تعظيما لمقام النبوة، سأله النبي أن “يريه” موضع الكلمة، فمحاها بنفسه صلى الله عليه وسلم).

ويستمر الحديث في القسم الأول عن حدث الوحي: وهي الروايات التي تروي مشاعر النبي صلي الله عليه وسلم إزاء بدء الوحي. يقول المؤلف: “هناك عدد كبير من الروايات التي تنقل إلينا وقائع بداية الوحي المحمدي ومشاعر النبي إزاءه، هناك عدد من الروايات التي صادفت النبي صلي الله عليه وسلم قبل نزول الوحي والتي كانت تؤكد “أنه كان يكره الأصنام، ولا يقبل القسم بها ولا الاقتراب منها”، وقد طلب منه عمه أبو طالب أن يحضر احتفالاً كانت تقيمه قريش كل سنة لألهتها فامتنع عن الذهاب، وآثر العزلة.

ويوضح المؤلف أن النبي واجه خلال تلك الفترة اتهامات من قريش له وقد كان عمه أبو لهب من ألد خصومه. ويتساءل المؤلف عن أسباب عدم استجابة قريش للدعوة المحمدية ويستنتج إن أحد الأسباب هو حيرة قريش أمام الخطاب القرآني مما أدي إلى اتهام النبي صلي الله عليه وسلم بأنه ساحر ومجنون، وقد رد عليهم القراّن في عدة آيات منها قوله تعالي {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (ص، 4). كما تحدث في هذا القسم عن حقيقة النبوة والرأي في الإمامة والولاية، وتطرق إلى النبوة والولاية الشيعية التي هي ولاية سياسية ودينية وما ذهب إليه المذهب الشيعي في تفسير العصمة للأنبياء والأولياء “فالولاية في تصورهم سلطة إلهية خص الله بها الأنبياء والأولياء سواء بسواء”.

القسم الثاني

القراّن: مسار الكون والتكوين

تناول المؤلف في هذا القسم الحديث بشكل مباشر عن القرآن، تسميته وأسمائه المختلفة “الذكر، الحديث، الفرقان، الكتاب..” وعن الأحرف والقراءات المتعددة، ويؤكد في هذا السياق عدم إمكانية ترجمته للغات أخرى، بل كل ما نستطيعه هو نقل بعض معانيه، ومن ثم تحدث عن إعجاز القرآن وفصَل الحديث حول ترتيب المصحف، حيث ناقش المسألة من خلال أقوال المفسرين والمؤرخين، ويكاد ألا يضيف شيئا ذا أهمية كبيرة أو جديدة في هذا الإطار على ما جاء في كتب علوم القرآن.

لاحظ المؤلف أن القرآن أولَ ما نزل، عبَّر عن نفسه بلفظ “الذكر” ولفظ “الحديث”، حينها لم يكن قد نزل من القرآن إلا سور معدودة قصيرة، ومع انتقال الدعوة إلى المرحلة العلنية، وبدء المواجهة مع المشركين، وتكاثر السور حتى بلغت نحو ثلاثين سورة، ظهر لفظ “القرآن”، ليشير إلى أنه كلام تقوم طريقة تلاوته وترتيله بتأثير ينقل موضوع الذكر والحديث إلى مشاهد صوتية منغمة، تقرر وجودا يحمل معه برهانه، فيستغني عن برهان العقل: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر،21)، وقد استقر هذا الاسم علما على الوحي المحمدي، وأصبح “الذكر” و”الحديث” أوصافا للقرآن، وعلى نحو أدق أصبح المراد بالذكر جزءا مخصوصا من القرآن، وهو آيات القصص، والوعد والوعيد. 

أما لفظ الكتاب فقد بدأ مع سورة الأعراف {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف،2)، التي تستحق أن توصف بأنها كتاب بحد ذاتها، فهي أطول سورة نزلت بمكة، وإطلاق اسم “الكتاب” على القرآن عملية ذات مغزى، فهي أول إشارة إلى انتقال العرب من وضع أمة أميَّة لا كتاب لها إلى وضع أمة لها كتاب، وفي الوقت نفسه تضع حدا لاحتكار اليهود والنصارى للقب “أهل الكتاب”، وسورة الأعراف على وجه الخصوص، تضع بين ناظري العرب تاريخهم الخاص على مسرح النبوة والرسالات السماوية، أي أنبياء العرب “البائدة” عاد وثمود ومدين وغيرهم. 

هذه هي اللحظات الثلاث في سيرة القرآن، لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، ولحظة القرآن/الذكر: القص، ثم لحظة القرآن/الكتاب: عقيدة وشريعة وأخلاق. وقد عرض المؤلف اللحظتين الأوليين وترك اللحظة الثالثة للجزء الثاني من كتابه. 

أما لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، فقد عرض فيها لمسألة الأحرف السبعة والقراءات، وجمع القرآن، وما أثير حوله من القول بالزيادة والنقصان، وترتيب المصحف، وترتيب النزول. وقد مسَّ المؤلف هذه المسائل المشكلة مسَّا خفيفا، فلم يحلَّ إشكالاتها، ولم يأت بما يشفي الغليل، بل اكتفى بسرد بعض الآراء التي ذكرت في كتب علوم القرآن حول هذه المسائل، مع الميل إلى المشهور ـ وما عليه الجمهورـ من هذه الآراء.

وتطرق في مسألة القراءات السبعة والأحرف السبعة لقول الطبري، إذ بيَن أن مسألة “اختلاف القراء إنما هو كله حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القراّن وهو الحرف الذي كتب عليه المصحف” ذلك رداً على من قال إن “الأحرف السبعة” هي نفسها ” القراءات السبعة”.

إذن الأحرف السبعة ترجع إلى زمن النبي صلي الله عليه وسلم أما القراءات فترجع إلى زمن توزيع نسخ من المصحف العثماني على الأمصار. لقد تعددت القراءات إذن بتعدد أوجه قراءة القراء الذين أرسلوا للقراءة من مصحف عثمان. وخوفاً من أن يتسع مدي هذا التعدد بانتشار الصحابة “في الاّفاق” من خلال الفتوحات والهجرات المتعددة برزت الحاجة الي ضبط القراءات وحصرها، فنشأ من ذلك ما يُطلق عليه “علم القراءات”.

وكان من الواضح أنه يريد بإيراده هذه المسائل تقرير بعض الأسس التي سيستند إليها في فهمه للقرآن، لاسيما التسليم بصحة المصحف العثماني وما ثبت من القراءات المتواترة، كما انتهى إلى أن ما ينسب إلى المصادر الشيعية من القول بنقصان شيء من القرآن ليس إلا انعكاسا لموقف سياسي احتجاجي.

أما فيما يتصل بترتيب النزول، فقد اهتم المؤلف بهذه المسألة اهتماما بالغا، إذ إن هذا الترتيب لا بد منه لرسم المسار التكويني للنص القرآني. وقد لاحظ الجابري التقارب والتشابه بين لوائح ترتيب السور التي نقلتها كتب علوم القرآن عن ابن عباس وجابر بن زيد وغيرهما. كما عرض لاجتهادات المستشرقين في ترتيب السور. وخلص إلى القول بأن “القرآن كتاب مفتوح، يتألف من سور مستقلة تكونت مع تدرج الوحي، والسور نفسها مكونة من آيات مرتبطة ـ في كثير من الحالات ـ بوقائع منفصلة هي أسباب النزول. من أجل ذلك كان من غير الممكن التعامل مع القرآن كنص معماري مهيكل حسب ترتيب ما”.

ولكن من أجل بناء تصور منطقي عن المسار التكويني للنص القرآني، تصور يكون قريبا من الواقع التاريخي، فإن ترتيب النزول المعتمد حاليا (من قبل الأزهر وغيره من الهيئات الإسلامية) ضروري ولكنه لا يكفي. “ضروري لأنه لا يمكن بناء تاريخ من غير مواد تاريخية”، ولا يكفي لأن المرويات لا تفي بالغرض المرجو. فلا بد إذن من توظيف المنطق في عملية استثمار المواد التي يقدمها المأثور، “وفي هذه الحالة قد تدعو الحاجة إلى التصرف في ترتيب النزول المعتمد اليوم، بوصفه نتيجة اجتهاد مبني على الظن والترجيح، وذلك من خلال المطابقة بين المسارين: مسار السيرة النبوية والمسار التكويني للقرآن”.

على هذا الأساس قدم المؤلف تحقيباً للمرحلة المكية من نزول القرآن في مخطط مساو لمسار السيرة النبوية فجعلها على خمسة مراحل: مرحلة الدعوة السرية، ثم الدعوة جهرا والتعرض للأصنام وبداية الصراع مع قريش، وهذه المرحلة تبدأ مع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة النجم في الكعبة. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة اضطهاد قريش للمسلمين ومحاولتهم إغراء النبي للتخلي عن مهاجمة أصنامهم، وهجرة المسلمين إلى الحبشة جراء ذلك، تليها مرحلة حصار النبي وأهله في شعب أبي طالب ـ وقد أوضح المؤلف صعوبة تعيين السور التي نزلت في هذه المرحلة، وتأتي أخيراً مرحلة فك الحصار وعرض النبي نفسه على القبائل، ومن السور التي توفرت على إشارات إلى هذه المرحلة: الطارق، الجن، القمر، ص، الأعراف، الإسراء… الخ.

أما فيما يخص إعجاز القرآن، فقد عرض المؤلف باقتضاب لبعض نظريات الإعجاز القرآني ولم يتوقف عندها طويلا، ولكنه انتقل للبرهنة على أن القرآن هو المعجزة الكبرى والوحيدة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ونفى أن يكون انشقاق القمر، أو الإسراء والمعراج معجزات حقيقية أصلا. ومن هنا انتقل إلى الدفاع عن صحة الوحي المحمدي وأنه لم يأخذ عن أحد من أهل الكتاب. ثم استطرد في هذا إلى الحديث عن تطور العلاقة مع أهل الكتاب في القرآن المكي، وقد كانت علاقة هامشية، ثم في القرآن المدني، إذ ابتدأ الجدل مع اليهود في المدينة، قبل أن يتحول الجدل إلى صراع فجلاء لليهود عن المدينة، وحدث بعدها الجدال مع النصارى.

القسم الثالث

القصص في القراّن الكريم

 يؤكد المؤلف على أنه ليس القصد من هذا القسم ما قد يتبادر من عنوانه، أي سرد قصص الأنبياء كما جاءت في القرآن، بل مراده وغايته التعرف على الدعوة المحمدية من خلال القصص القرآني، فهذا القصص “نافذة واسعة تمكننا من الإطلالة على جانب مهم من محيط الدعوة المحمدية.. بقصد علاقتها بتجارب الأنبياء السابقين مع أقوامهم، وهو من جهة أخرى خطاب جعل منه القرآن مسرحا لخطاب جدلي أبدي موجه إلى خصومه يطلب منهم استخلاص العبرة من تلك التجارب، وبالتالي فهو مكوِن أساسي من مكونات مساره التكويني”. واعتبر أنَ “القصص القرآني بمثابة مرآة تري فيها الدعوة المحمدية نفسها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، عبر “التاريخ المقدس” للأنبياء والرسل.

وتميز عرض الجابري لموضوع القصص القرآني بعدة خصائص حدَدها في الاّتي:

  • اعتبار القراّن نوعاً من ضرب المثل: والمثل لا يضرب لذاته، ولا من أجل ذاته، بل من أجل البيان، ومن أجل العبرة، ومن أجل البرهنة على صحة القضية التي يستشهد فيها بالمثل. كما جاء في القراّن الكريم {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} (الأعراف، 167-177).
  • الاقتصار على تفسير وإيضاح القصص القرآني من خلال القراّن وحده، دون اللجوء إلى الإسرائيليات، أو غيرها من نصوص الموروث القديم، مع إمكانية الاستئناس بذلك عند الضرورة لشرح كلمة، أو بيان مسألة مما ذكره المفسرون القدماء في شأنها، مأخوذاً من مخايلهم الاجتماعية والفكرية وموروثهم الثقافي، وهذا ليس لأن ما ذكروه صحيح في نفسه بل لكونه يعبَر عن فهم العرب لتلك الكلمة أو المسألة. والقراّن خاطب العرب حسب معهودهم، وبالتالي أراد منهم أن يفهموا في إطاره ما يخاطبهم به.
  • عدم الانشغال بالحقيقة التاريخية للقصص القرآني أكثر من مضمونه وفحواه، ذلك إن القراّن، وكما إنه ليس كتاب قصص بالمعني الأدبي الفني المعاصر، فهو أيضاً ليس كتاب تاريخ، بالمعني العلمي المعاصر للتاريخ. إنه مرة أخري كتاب دعوة دينية. وبما أن الهدف من القصص القرآني هو ضرب المثل واستخلاص العبرة فلا معني لطرح مسألة الحقيقة التاريخية! بل إن الحقيقة التي يطرحها القصص القرآني هي العبرة، وهي الدرس الذي يجب استخلاصه.
  • تتبع القصص القرآني حسب ترتيب النزول، وليس حسب ترتيب المصحف، وذلك أن القراّن الكريم موزع بين السور المكية والسور المدنية، والقصة الواحدة تتكرر، كلياً أو جزئياً، في عدة سور. فإذا أخذ الباحث في حكاية قصة ما حسب تسلسل أحداثها، سواء بالتقاط هذه الأحداث من السور دون ترتيب أو حسب ترتيب المصحف فإنه سيكون عليه أن ينتقل من سورة لأخري، مُوجهاً في ذلك لا بمنطق القصص القرآني بل بمنطق تسلسل وقائع القصة، منطق الزمن. هذا بينما القراّن ليس بكتاب قصص، بل هو كتاب دعوة يستعمل القص لأهداف الدعوة.
  • اعتماد تصنيف وتحقيب جديد للقص القرآني، يميز فيه بين مرحلتين للقصص المكي تمتد الأولي من سورة الفجر، ورقم ترتيبها في النزول (10)، إلى سورة القمر وترتيبها (37). أما الثانية، فتمتد من سورة (ص) ورتبتها (38)، إلى سورة العنكبوت وترتيبها في النزول (85). أما المرحلة المدنية، فتمتد من السنة الأولي للهجرة إلى غاية وفاة النبي صلي الله عليه وسلم، وانقطاع الوحي..

الثلاث مراحل: مرحلتان مكيتان والثالثة مدنية.

المرحلة الأولى: كما ذكرنا تمتد من سورة الفجر وترتيبها 10 إلى سورة القمر وترتيبها 37، حسب الترتيب المعتمد لدى الأزهر وغيره. ويمكن التمييز في هذه المرحلة بين قسمين: أحدهما يندرج تحت الصنف الأول وفيه ذكر قصص “أهل القرى” بإيجاز والتحذير من مصيرهم الذي آلوا إليه، والقسم الثاني يندرج تحت الصنف الثاني: أي التنويه بالأنبياء السابقين وما أوتوه من آيات ومعجزات.

المرحلة الثانية: وتمتد من سورة ص وترتيبها 38 إلى سورة العنكبوت وترتيبها 85 وهي آخر سورة مكية ورد فيها قصص. وعلى الرغم من أن هذه المرحلة تمتد من سورة ص فإن الجابري يتجاوزها إلى سورة الأعراف وترتيبها 39، حيث يرى أن سورة الأعراف قد شكلت نقلة نوعية على مستوى القص “ذلك أن القص المفصَّل، المستوفي لعناصره إنما يبدأ معها. فكثير من القصص التي سترد في السور اللاحقة هي إما تفصيل لبعض الجوانب المذكورة في هذه السورة، وإما صياغة لها جديدة حسب ما يقتضيه المقام. ففي هذه السورة نجد أنفسنا إزاء ما يشبه أن يكون مخططا لقسم كبير من القصص القرآني، يشمل قصص الأنبياء الذي لم يرد لهم ذكر في التوراة، كما يعرض لمعظم أنبياء التوراة” وقد عرضت سورة الأعراف لأنبياء العرب البائدة ضمن سلسلة الأنبياء المذكورين في التوراة، متقيدة بالترتيب الزمني، انطلاقا من قصة آدم وإبليس وقصة نوح والطوفان، فعاد وثمود، ثم لوط وإبراهيم وشعيب، ثم قصة موسى مع فرعون، ومنها تخلص السورة إلى عرض مباشر لصراع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مع مشركي قريش.

ويُلحق بهذه المرحلة مجموعة قصص مستقلة نزلت جميعها بعد سورة الأعراف، ومعظمها لم يذكر إلا مرة واحدة في سورة بعينها من القرآن المكي، وبعضها عرض مجددا في القرآن المدني ولكن في سياق مختلف. وسياق هذه القصص جميعها يرتبط بذكر ما خص الله به أنبياءه من أمور خارقة للعادة، وأنها دلالة على قدرة الله على الإتيان بالآيات المعجزات، وأن الله خص محمدا صلي الله عليه وسلم بمعجزة تختلف عن معجزات الأنبياء السابقين هي القرآن، وذلك ردا على خصوم الدعوة المحمدية، الذين كانوا يطالبون النبي بمعجزات من جنس خرق العادة. فمن هذه القصص: قصة زكريا الطاعن في السن وامرأته العاقر إذ ينجبان، وقصة مريم إذ تحمل من دون أن يمسسها رجل (في سورة مريم)، ثم قصة يوسف، وقصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين في سورة الكهف.

أما المرحلة الثالثة: فهي المرحلة المدنية جملة. وفيها اتخذ القص القرآني شكلا جديدا ساد فيه الجدل مع أهل الكتاب. وقد ابتدأ الجدل مع أهل الكتاب في القرآن المدني مع اليهود، حتى إذا هجروا المدينة، انصرف القرآن إلى محاجة النصارى، خصوصا في مسألة التثليث. ولا بد من الإشارة إلى أن قصص القرآن المدني قد أصبحت أقل سردية من القصص المكي وساد فيها الخطاب الجدلي الذي يستعمل عناصر من القصص المكي، إضافة إلى قصص أخرى أو عناصر جديدة في قصص سابقة.

وقد لاحظ المؤلف أن لهجة هذا الخطاب قد اختلفت باختلاف الظروف والمناسبات، فقد بدأ الخطاب ليِنا مع قوله تعالى عندما كان النبي بمكة يتهيأ للهجرة: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت، 46). ولكن عندما أخذ اليهود يستفزون المسلمين ويتحرشون بهم أخذت لهجة الخطاب تتدرج نحو الشدة والتعنيف، حتى انتهى الأمر بقيام صدام بين الطرفين انتهى بإجلاء اليهود عن المدينة نهائيا.

وبعد عرض هذه الضوابط التي وضعها المؤلف لدراسة القصص القرآني، حاول إعمالها في دراسة تطبيقية على مدار هذا القسم. ثم ختم هذا القسم بخاتمة عنون لها بـ “القصص القرآني: بيان وبرهان”، أكد فيها أهمية اعتماد “ترتيب النزول”، وليس ترتيب المصحف لتفسير القصص القرآني؛ لأنَ هذا المنهج في نظره يمكَن من:

  • التقيد بعرض القصص القرآني كما هو فعلاً في القراّن.
  • التعرف على المنطق الداخلي الذي يحكم عرض القصص القرآني.
  • التمييز بين قصص الأنبياء العرب غير المذكورين في كتب أهل الكتاب (الإنجيل والتوراة)، وبين قصص بني إسرائيل.

وعلى الرغم من أنَ الجابري التزم بألا يلتفت إلى ما ورد في الإسرائيليات بخصوص القصص القرآني، إلا لضرورة شرح أو بيان، فإنه حاد عن هذا المنهج، حين ذكر بعض الروايات الإسرائيلية، دون نقدها أو في أضعف الحالات، التعقيب عليها؛ ومن ذلك، على سبيل المثال، ما أورده بخصوص قصة داود وسليمان عليهما السلام، ولكن المؤلف قد لجا لتفسيرات معينة تدعم وجهة نظره من أنه كما أن داود وسليمان رفضا الإغراءات، فكذلك كان على النبي – صلي الله عليه وسلم- أن يرفض مساومات قريش وإغراءاتها. ولذلك جمع بين القصتين.

ملحظ آخر على هذه الفقرات يتمثل في ترجيح المؤلف التعامل مع القصص القرآني بحسب ترتيب نزوله، علما بأن هذا المنحى لا يراعي الوحدة البنائية والموضوعية لسور القراّن الكريم، فالتناسق الذي يجمع بين أجزاء السورة، والذي يعبر عنه مصطفي صادق الرافعي بـ(روح التركيب) يجعل من السورة وحدة متلائمة الأجزاء، على الرغم من تعدَد الوجوه التي تنصرف فيها من أغراض الكلام، كالقصص، والمواعظ، والحكم، والتعليم، والجدل، والتشريع، وغير ذلك مَما تدور حوله السورة خاصة، والقراّن عامة.

أما ما استقر عليه المؤلف من تعريف (الأمي) وافتراضه معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة والكتابة، فهو رأي لا يصلح المصادرة به على جمهرة الأدلة المعاكسة لوجهة نظر الكاتب، والتي تبدو متأثرة بأفكار المستشرقين بدرجة ما.

أما القول بأن الحقيقة التاريخية غير مقصودة لذاتها في القرآن فهو تغليب للفرض على الواقع، وإلا فلا يوجد في قصص القرآن ما يتعارض مع حقائق التاريخ، لكي يتم افتراض ضرورة تحييد التاريخ عند التعامل معه.

في النهاية، يمكننا القول بأن الجابري قد قدم في هذا العمل محاولة تستحق التأمل والنظر، حيث استطاع أن يوظف منهجه في تكوين صورة يمكن الاستفادة منها والبناء عليها في فهم الرسالة القرآنية كما تطورت ونمت خلال العقدين ونصف من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عرض

أ. أحمد محمد علي

باحث ماجستير في العلوم السياسية، جامعة القاهرة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

في بعض أجزاء من هذا العرض تم الاستعانة والاطلاع على ما كُتب حول هذا الموضوع ومن هذه المصادر ما يلي:

  • اّمال ياسين جبار، ” مدخل إلى القراّن الكريم- الجزء الأول- في التعريف بالقراّن”، (قسم الدراسات اللغوية والأدبية، مركز دراسات الخليج العربي، مجلية الخليج العربي، مجلد 36، العدد 1-2، 2008)، ص ص 167- 178.
  • د. محمد إكيج، إبراهيم بورشاشن، محمد جكيب، ” ورشة علمية حول كتاب: مدخل إلى القراّن الكريم لمحمد عابد الجابري”، (قراءات في كتب، مؤسسة مؤمنون بلا حدود)، 16 ديسمبر 2015.
  • د. محمد إكيج، ” مدخل إلى القراّن الكريم: استكشاف أم تشكيك؟ قراءة في كتاب مدخل إلى القراّن الكريم: في التعرف بالقراّن للدكتور محمد عابد الجابري”، (شبكة ضياء للمؤتمرات والدراسات)، 2015.
  • د. أحمد سعيد نوفل، “قراءة نقدية لمدخل الجابري للقرآن”، (موقع البيان)، تاريخ الدخول فبر١٠ فبراير ٢٠٢٠، علي الرابط التالي :
  • http://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=523
  • د. محمد كنفودي، ” القراءة الجديدة للقصة القرآنية من منظور محمد عابد الجابري: دراسة تحليلية نقدية”، (مركز نماء للبحوث والدراسات، ٣١ مايو ٢٠١٩)، علي الرابط التالي:

http://namacenter.com/Uploads/Files/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9%D9%84%D9%84%D9%82%D8%B5%D8%A9%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9.pdf

عن أحمد محمد علي

شاهد أيضاً

معالم في المنهج القرآني

أ. د. طه جابر فياض العلواني

منذ فترة طويلة قد تقرب من ثلاثين عامًا، وهمي منصرف للكشف عن منهج القرآن المجيد ومنهجيته، وهذه الرسالة الوجيزة تمثل حصيلة تلك التجربة الممتدة.

المقتنيات الجديدة من معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.