مسيرة التعليم في مصر: من الكتاتيب إلى المدارس الدولية

مسيرة التعليم في مصر: من الكتاتيب إلى المدارس الدولية

أ. رضوى منتصر الفقي*

التعليم هو أساس تقدم الشعوب ونهضتها، فهو حجر الأساس الذي يشكل الوعي الثقافي والحضاري للأمة، فالمدرسة ليست مجرد كيان مادي يتردد عليه النشء ليتحصلوا منه على كم  من المعلومات والدروس، بل هي كيان يحمل العديد من التأثيرات المعنوية التي لا حصر لها التي تترسخ داخل الأجيال الجديدة، فهي كيان ينمو بداخله الطفل وتتكون شخصيته ويقضي فيه ما يقرب من عقدين من عمره متأثرا بالمحتوى الذي يتلقاه وبالأنشطة التي يمارسها وبالمعلم القدوة الذي يعلمه ويربيه.

كل هذا يدفعنا إلى دراسة التطور التاريخي للتعليم في مصر، لنتعرف من خلال الحقب الزمانية المختلفة على العوامل والمؤثرات التي حددت شكل التعليم والمحتوى الذي يقدم للطلاب.

العصور الإسلامية الأولى (658–1517م):

كان المسجد خلال فترات حكم الأمويين والعباسيين والفاطميين ـــــ مثل مسجد عمرو بن العاص ومسجد ابن طولون وجامع الحاكم بأمر الله ــــــ هو حجر أساس التعليم في مصر، فهو بمثابة مدرسة كبرى يتلقى فيها الطلاب العلوم الدينية ـــــ عقيدة وشريعة وحديث وتفسير ــــــ والعلوم اللغوية ـــــــ نحو وبلاغة وأدب ــــــ من خلال حلقات الدروس، وكان كل شيخ وفقيه يتخذ زاوية من المسجد ويتحلق حوله الطلاب ليلقي عليهم دروسه لتصبح كل زاوية في المسجد باسم صاحبها.

تنقسم الدراسة في المسجد إلى ثلاثة مراحل؛ ابتدائية تختص بتحفيظ القرآن الكريم وثانوية يقوم بها مدرسون أكثر علماً وكفاءة ومرحلة نهائية تُدرس فيها أمهات الكتب، وكانت هناك أيضاً كتاتيب ملحقة بالمساجد ــــــ قبل أن تستقل وتصبح في مكان منفصل ـــــ وهي وسيلة أخرى من وسائل تعليم القرآن الكريم، وتقع كافة المساجد والكتاتيب تحت إشراف الجامع الأزهر، ومن الملاحظ هنا أن التركيز في هذه الفترة كان منصبا على العلوم الدينية بينما لم يكن هناك اهتمام موازي بالعلوم العقلية ماعدا الطب فكان يدرس في المارستانات (المستشفيات).

وقد طرأت أوضاع جديدة في المجتمع المصري أثرت على شكل التعليم في مصر ودفعت نحو إنشاء المدارس، كان من أهمها:

  • تطور العلم بتطور الزمن وأصبحت الزوايا وحلقات العلم ليست مجرد أستاذ أو فقيه يلقي على تلاميذه دروس العلم بل ظهرت حالة من الجدال والنقاش والمناظرة وهو ما يتنافى مع جلال وهدوء المساجد، وما يجب أن يكون عليه روادها مما دفع الأساتذة وأصحاب النفوذ إلى تخصيص جزء من منازلهم لتلقي العلم وحلقات النقاش ولما ازداد إقبال الطلاب والمهتمين أنشأت مدارس مستقلة عن البيت والمسجد.
  • عندما تولى صلاح الدين الأيوبي حكم مصر أولى اهتماما كبيرا بإنشاء المدارس، وكان من أهم هذه المدارس وأشهرها المدرسة الناصرية والقمحية والصالحية والسيوفية التي كانت جميعا تدرس المذاهب السنية الأربعة. وكان يستهدف صلاح الدين من وراء هذا الاهتمام الكبير بالمدارس القضاء على المذهب الشيعي الذي نشرته الدولة الفاطمية في مصر من خلال المساجد والجامع الأزهر الذي أغلقه صلاح الدين لوقف زحف المذهب الشيعي في مصر والبلدان الإسلامية الأخرى.

استمرت عملية إنشاء المدارس طيلة العصرين الأيوبي والمملوكي، وتم استقطاب العلماء والفقهاء، وتسابق الملوك والأمراء ورجال الدولة وأصحاب النفوذ على إنشائها، كما ساهم التجار والأغنياء في تأسيسها. وقد أسس المماليك عدد لا بأس به من المدارس كان من أشهرها مدرسة السلطان حسن والظاهرية والبرقوقية، تخصص كلا منهم في أحدى المذاهب الدينية أو الجمع بين أكثر من مذهب، وكان لهذه المدارس دور بارز في حفظ علوم اللغة والدين، فكانت مناهج التدريس الأساسية فيها هي القرآن والحديث والتفسير والفقه والتصوف وعلم القراءات السبع والتاريخ الإسلامي في المرتبة الأولى، يليها علوم اللغة العربية من أدب وبلاغة باعتبارها مكملة للعلوم الدينية.

الخلافة العثمانية (1517–1805م):

أهمل العثمانيون التعليم في مصر ولم يحدثوا أي تطوير فيه حتى ظل مقتصراً على المسجد والكتاب، بل تعرضت كثير من الكتاتيب وحلقات التدريس والزوايا في المساجد للاندثار، وعانى جامع الأزهر ــــــ بعد إعادة افتتاحه ــــــ من تقلص ميزانيته ليقتصر فيه التعليم على تحفيظ القرآن وشروح الكتب الدينية، فأصبح الطالب يحضر سنتين أو ثلاث سنوات في المسجد أو الكتاب ليعلمه الشيخ الصلاة وحفظ القرآن وتجويده والخط، وبعد أن ينتهي الطالب من التعليم بالمسجد أو الكتاب يتوجه للدراسة بالمدارس الدينية التي بناها سلاطين الأيوبيين وأمراء المماليك، واستمر غياب العلوم العقلية عن النظام التعليمي، فإن أرادت أسرة أن تعلم إبنها قواعد الحساب كانت ترسله للقباني بالسوق ليتعلم الأوزان.

كان هذا هو شكل التعليم المخصص للمسلمين في ذلك الوقت، أما الأقباط واليهود فكان تعليمهم يقتصر على الكتاتيب الخاصة بهم، فكان كتاب الأقباط مختلف نسبياً عن المسلمين حيث يتعلم فيه الطفل الدين واللغة العربية والقبطية بجانب تدريس الحساب، ولم يكن لدى الأقباط أي ترقي في التعليم بعد تلك المرحلة، أما اليهود فكانت لهم كتاتيب ملحقة بالمعابد اليهودية لتعليم الدين واللغة العبرية.

وفي هذه الفترة أنشأ الرهبان الفرنسيسكان أول مدرسة أجنبية في مصر بكنيستهم بحي الموسكي  عام 1732، حيث بدأت هجرة كاثوليك الشام إلى مصر منذ عام1731 بسبب الاضطرابات الطائفية هناك، وكان كاثوليك الشام مواكبين لمظاهر التعليم الغربي حيث تلقوا تعليمهم في المدارس التي أسستها الإرساليات التبشيرية المسيحية في بلادهم، وكانت هذه المدرسة تدرس اللغة الإيطالية وتوفر لكاثوليك الشام نظام تعليمهم.

من ناحية أخرى تم إنشاء مدرسة أجنبية خاصة بتعليم أبناء الجالية اليونانية الأرثوذكسية الموجودة في مصر. وعندما جاءت الحملة الفرنسية لمصر(1798-1800) أنشأ الفرنسيون مدرستان لتعليم أبنائهم باللغة الفرنسية.

أسرة محمد على:

محمد علي (1805-1848م):

تولى محمد علي حكم مصر، وقام بمصادرة كافة ممتلكات الأوقاف وهو ما مثل ضربة قوية للتعليم الأساسي في مصر المتمثل في الكتاتيب والمساجد والمدارس الدينية، وفي الوقت ذاته لم يجد محمد علي في مصر رجال أكفاء يمكن أن يعتمد عليهم في بناء الدولة الحديثة مما دفعه في 1816 إلى افتتاح أول مدرستين في القلعة، خصصت واحدة منهم لتعليم القراءة والكتابة واللغة التركية والفارسية والإيطالية والقرآن وممارسة الرياضة والوسائل العسكرية واستخدام السلاح، بينما خصصت الأخرى لتدريس الحساب والهندسة والرياضيات واللغة الإيطالية.

كان تفكير محمد علي منصب على توسيع رقعة دولته وتأسيس جيش وطني، مما دفعه إلى إنشاء المدارس الجهادية التي كانت بمثابة البداية الحقيقية لاهتمامه بالتعليم المدني وإرسال بعثات تعليمية للخارج، حيث أدرك محمد علي ضرورة الاهتمام بالتعليم المدني وإنشاء المدارس التي تخدم احتياجات الجيش مثل مدرسة الهندسة والطب والصيدلة وغيرها.

من الملاحظ أن بداية مشروع محمد علي التعليمي كان بالمدارس العليا المتخصصة وانطلق منها للاهتمام بالتعليم الأساسي التمهيدي ليزود المدارس العليا بطلبة مؤهلين، فقام بإعادة فتح 41 كتاب وتحويلها إلى مدارس في المحافظات المختلفة وسميت بمدارس المبتديان ــــ المدارس الإبتدائية ــــــ وعين مشايخ الأزهر نظار لها، وكان التعليم في هذه المدارس مقتصر على القراءة والكتابة ومبادئ الحساب والقرآن.

أغلق محمد علي المدرسة اليونانية ـــــ التي كانت موجودة منذ نهاية القرن 18م ـــــــ لينضم الطلبة اليونانيون للدراسة في المدارس الحكومية، وكان يرفض بشدة إنشاء مدارس أجنبية طوال فترة حكمه على الرغم من الجهود المضنية التي قامت بها الإرساليات التبشيرية الكاثوليكية الفرنسية والإنجليزية والألمانية لتأسيس مدارس خاصة بهم، فهو لم يسمح لأحد سوى الأرمن ـــــ نتيجة لتقرب بعض الشخصيات الأرمنية منه وبحجة أنهم يريدون الحفاظ على هويتهم وعاداتهم وتقاليدهم حتى لا يذوبوا داخل المجتمع ـــــ بفتح مدرسة خاصة بهم للتعليم الأساسي في 1828 ومدرسة أخرى فتحها أويس سمعاني الرومي في 1829 لتعليم اللغات الفرنسية والإيطالية.

وحتى يتخلص محمد علي من نفوذ الأوروبيين وحاجته إليهم في إدارة المدارس وشئون الدولة المختلفة فكر في إرسال بعثات تعليمية للخارج، والحقيقة أن هذه البعثات كانت نقطة تحول في المجتمع المصري، حيث أصبح لمصر خبراء في المجالات المختلفة تلقوا تعليمهم في الخارج وتولوا مناصب عليا، من ناحية أخرى كانت هذه البعثات بداية ظاهرة الزيجات من الأجنبيات والانفتاح على الثقافة الغربية.

ازداد عدد المدارس في عهد محمد علي ليصل إلي 1500 مدرسة مما استدعى الأمر إنشاء ديوان المدارس عام 1837 الذي أصبح فيما بعد نظارة المعارف، ومع إدخال العلوم والمعارف الحديثة اقترح العائدون من بعثات الخارج على محمد علي ضرورة إضافة مرحلة تعليمية تؤهل طالب التعليم الابتدائي قبل الالتحاق بالمدارس المتخصصة، وهو ما جعله يفتتح المدرسة التجهيزية (الإعدادية) بالقاهرة عام 1839 لتكون مدة الدراسة فيها خمس سنوات يلتحق بعدها الطالب بالمدارس المتخصصة.

وفي أعقاب التوقيع على معاهدة لندن عام 1841[1] تدهور الوضع الاقتصادي، فأغلقت غالبية المدارس الابتدائية لينتهي الحال بأن يتبقى ثلاث مدارس ابتدائية فقط، وأغلقت المدرسة التجهيزية (الإعدادية) الوحيدة ومعظم المدارس التخصصية في عام 1842 مع استمرار البعثات التعليمية للخارج.

كانت فترة انهيار مشروع محمد على باشا هي نفسها الفترة التي شهدت اختراق سلمي أوروبي للمجتمع المصري، فمع توقيع معاهدة لندن 1841 حدث زخماً في نشاط الإرساليات التبشيرية والجاليات الأجنبية في القاهرة والإسكندرية، فأنشأت الإرساليات الكنسية الإنجيلية (البريطانـية تحديداً) أول مدرستين لهم في القاهرة، وقام اليهود بفتح مدارس خاصة بهم في القاهرة واحدة للبنين وأخرى للبنات، ونشطت الجالية اليونانية بالإسكندرية والقاهرة لجمع التبرعات من العائلات اليونانية بالإسكندرية لإنشاء مدرسة يونانية بالقاهرة وأخرى بالإسكندرية لتقديم تعليم مطابق للمناهج في اليونان.

عباس حلمي الأول (1848-1854م):

استمرت حالة التدهور التي أصابت المدارس الحكومية خلال مرحلة حكم عباس الأول،في الوقت الذيتمكن الفرنسيسكان الكاثوليك من بناء مدرستين بالصعيد عام 1852. كما قام الفرير بتوسيع نشاطهم ففتحوا فرعين لمدرسةBon Pasteur  واحدة بالقاهرة عام 1854 وأخرى ببورسعيد عام1853 وهي مدارس موجودة حتي وقتنا هذا على الرغم مما تعرضت له من تضييق وإيقاف بعض الفترات. وقام الأقباط بتأسيس مدارس خاصة بهم تتبع أسلوب التعليم الغربي، إثنين للبنات وأخرى للبنين في عام 1853.

سعيد باشا (1854-1863م):

تدهورت أوضاع المدارس الحكومية بشكل متزايد في عهد سعيد، ولكن كان عهده نقطة تحول في تاريخ المدارس الأوروبية في مصر، فخلال تسع سنوات أمضاها سعيد في حكم مصر كان هناك تقدم واضح في التعليم غير الحكومي، يمكن إيجازه فيما يلي:

  • نشطت الإرساليات الإنجليزية والأمريكية والاسكوتلاندية البروتستانتية، فافتتحوا مدرسة في القاهرة عام 1855 للبنات وأخرى للبنين في عام 1856 ومدرستان إبتدائيتان للبنات في حارة السقايين عام 1856 منحهم سعيد المبنى للاستخدام كمدرسة، وأنشأوا في كل من الإسكندرية والفيوم مدرستان واحدة للبنات وأخرى للبنين.
  • زادت عدد المدارس الفرنسية في مصر نتيجة لميول سعيد الفرنسية وبفضل جهود الفرنسيين لنشر ثقافتهم عبر المؤسسات الدينية التعليمية، بجانب ما قام به بعض الفرنسيون من فتح مدارس بهدف الربح.
  • الدعم المبالغ فيه الذي قدمه سعيد لمدارس الفرير وهي أحدى مدارس الإرساليات الكاثوليكية التي تم افتتاحها في أخر عهد عباس ـــ كما سبق وأن أشرنا ـــــ من خلال منحها مبنى في وسط القاهرة في عام 1857 وإعانة تصل إلى 30 ألف فرنك، بجانب ما كان يدفعه لراهبات البون باستور Bon Pasteur من إعانة سنوية ليحافظوا على مستوى مدارسهم.
  • تزايد أعداد اليونانيين في مصر وانتشارهم في المحافظات المختلفة وافتتحاهم مدرسة إبتدائية لهم بالمنصورة في عام 1859 وفي طنطا عام 1860، واستمرت الجالية اليونانية بالإسكندرية في النمو وأنشأت مدرسة جديدة للبنات.
  • دعم سعيد للجالية الإيطالية فمنحهم قطعة أرض بالإسكندرية ومنحة تبلغ 60 ألف فرنك لينشأوا عام 1862 الكلية الإيطالية ومدرسة إيطالية بالقاهرة.
  • افتتح اليهود في عام 1861 مدرسة تلمودية للبنين في القاهرة، وكان منهج الدراسة فيها يضم اللغة العبرية والفرنسية والإيطالية والجغرافيا والتاريخ والحساب ودراسة التلمود، وكان للجالية اليهودية أيضاً مدرستان بالإسكندرية إحداهما للبنات وأخرى للبنين.
  • فتح الأقباط في عهد سعيد باشا الكلية البطريركية القبطية عام 1855، وسمح لأي ما كان عقيدته وعرقه أن يلتحق بالمدرسة، وكانت تدرس اللغة العربية والقبطية والإنجليزية والفرنسية والتركية والإيطالية بجانب عدد من المواد الدراسية الأخرى.

إذن ففي عهد سعيد اختفت معظم المدارس الحكومية سواء الابتدائية والتجهيزية، واستمر الكتاب والأزهر في تقديم نفس أسلوب التعليم التقليدي دون أي تطوير أو دعم موازي للدعم المقدم للمدارس الأجنبية.

الخديوي إسماعيل (1863-1879م):

قام إسماعيل بإعادة فتح المدارس التي كانت قد أغلقت في عهد أسلافه، والسعي نحو النهوض بالتعليم الأساسي من كتاتيب ومدارس إبتدائي وإرسال البعثات التعليمية بأعداد كبيرة إلى أوروبا بعد طول إهمال، وأعاد تأسيس ديوان المدارس الذي أسس في عهد محمد علي وألغاه سعيد باشا في عام 1863.

ومن أجل تطوير المدارس، عين إسماعيل علي مبارك ناظراً لديوان المدارس وشكل لجنة لتطوير التعليم، وكان الهدف من هذه اللجنة دراسة وكيفية استفادة التعليم الوطني من التطور السريع الحاصل في التعليم الأوروبي، وبذلك أصبحت المدارس الأجنبية بمثابة النموذج لنهضة المدارس الوطنية، وبموجب أعمال هذه اللجنة صدر قانون في عام 1867 نص على:

  • ضرورة إصلاح وتطوير المدارس بشكل يتناسب مع متطلبات العصر وأن تتحمل كل محافظة نفقات التطوير بمساعدة الأهالي، ومن هنا جاءت فكرة دفع مصروفات مدرسية.
  • خضوع المدرسين للتفتيش والامتحانات الدورية لقياس مستواهم التعليمي والأخلاقي.
  • خضوع الطلاب لامتحانات سنوية، على أن يكون هناك منهج دراسي موحد لعموم البلاد ومدرسة في كل محافظة.

وبناء على أعمال اللجنة تم تأسيس 33 مدرسة، وافتتاح أول مدرستين حكوميتين للبنات مدرسة السيوفية 1873 ـــــ السنية الآن ـــــ ومدرسة القرابية، وهنا ظهرت مشكلة أخرى وهي أن عملية فتح المدارس تحتاج إلى مزيد من المدرسين، حيث أن معظم المدرسين كانوا من الذين تلقوا تعليمهم في أوروبا وبعض شيوخ الأزهر، وهو ما جعل علي مبارك يقترح إنشاء كلية ـــــ دار العلوم فيما بعد ـــــ لتدريب طلبة الأزهر على تدريس المعارف العقلية (الجغرافيا والفيزياء والهندسة …) بجانب ما درسوه في الأزهر من تفسير وفقه ولغة عربية، وهو ما نتج عنه اطلاع شيوخ وطلبة الأزهر على المعارف والعلوم الأوروبية.

ثم وقعت مصر في أزمة الاستدانة وتعرضت للإفلاس وهو ما أثر على المدارس الوطنية حيث انخفضت ميزانية التعليم، وهو ما نتج عنه بالطبع إغلاق العديد من المدارس الابتدائية والاعدادية الحكومية لتنخفض من 1368 مدرسة إلى 663 مدرسة، وانخفاض عدد الطلاب بالمدارس الحكومية حيث عادوا ليتلقوا التعليم من المنازل والكتاتيب.

الخديوي توفيق (1879-1892م):

تولى توفيق الحكم وكانت مصر تعاني من التدخل الأجنبي الذي انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، وهو ما لم يجعل هناك سوى ملامح بسيطة لتطوير التعليم في عهده، إلا أنه كانت له جهود للارتقاء بالتعليم قبل توليه الحكم حيث افتتح مدرسة القبة عام 1875 ومدرسة التوفيقية عام1881، وبفضله طبق في التعليم المصري نظام الشهادات الدراسية المأخوذ من أوروبا والتي أصابت المصريين بهوس الحصول عليها لضمان وظيفة في الحكومة.

الاحتلال البريطاني 1882 حتى ثورة يوليو 1952:

في ظل الانحدار المستمر للتعليم الوطني ازدادت نسبة الطلبة المصريين ـــــ المنتمين للطبقات العليا ـــــ في المدارس الأوروبية التي تديرها القنصليات الأوروبية لتصل إلى 52% في عهد توفيق، وهي مدارس لا تدرس اللغة العربية ولا تخضع لرقابة ديوان المدارس، واستمر الأمر هكذا حتى جاء الاحتلال البريطاني لمصر 1882، وأحكم قبضته على التعليم فأصدر قرار بتحويل الكتاتيب من إشراف ديوان الأوقاف إلى ديوان المدارس 1889 حتى تكون تحت إشرافه، وفرض سياسته على المتبقي من التعليم الحكومي لخدمة أهدافه التي يمكن إجمالها فيما يلي:

  • صبغ التعليم الوطني بالصبغة الإنجليزية:

كانت اللغة الإيطالية هي أولى اللغات التي دُرست بالمدارس المصرية ــــ كما سبق وأوضحنا، فكان يستدعي المعلمون من إيطاليا وتترجم الكتب الإيطالية للعربية، وظل للغة الإيطالية نفوذ في مصر حتى أوائل القرن 19 أي حتى قدوم الحملة الفرنسية الى مصر، وعندما جاء الفرنسيون إلى مصر بدأوا عملية إحلال للنفوذ الفرنسي محل النفوذ الإيطالي، فألغى التدريس باللغة الإيطالية في المدارس وحلت الفرنسية محلها، خاصة في ظل التفاهم بين الفرنسيين وإسماعيل. وعندما احتل البريطانيون مصر لم يكن للإنجليز بها سوى مدرستين، فسعي إلى إزالة الثقافة الفرنسية بإنشاء 18 مدرسة إنجليزية بالقاهرة والاسكندرية والسويس وبورسعيد، وأغلقت سلطات الاحتلال كافة المدارس الفرنسية ليأتي عام 1910 بلا مدرسة فرنسية واحدة في مصر.كذلك قام البريطانيون بالتضييق على البعثات التعليمية لفرنسا وإغلاق مدرسة تخرج معلمين اللغة الفرنسية. كما لم يكتفوا بتدريس اللغة الإنجليزية بالمدارس بل قامت سلطات الاحتلال في 11 نوفمبر 1888 بتخصيص نصف المدة المقررة لتدريس كل مادة من المواد الدراسية لتكون باللغة الإنجليزية على أن يكون النصف الآخر باللغة العربية، إلى أن جاء سعد زغلول ناظراً للمعارف فأصدر قرارا في 1908 بعودة اللغة العربية لتدرس بها كافة المواد الدراسية.

وقد أوكل البريطانيون لمعلمين إنجليز مهمة تدريس العلوم المختلفة، وكان ذلك من أكثر المخاطر التي تعرض لها التعليم المصري، فقد مكن بذلك فئة قليلة من احتلال عقول وألسنة ملايين من الأطفال من خلال تغيير لغتهم وطريقة تفكيرهم، حتى تم تأسيس مدرسة المعلمين عام 1889 لتخريج معلمين يقومون بتدريس اللغة الإنجليزية للطلبة.

تولى خبراء إنجليز من أمثال مستر دنلوب ومستر لكي مسئولية وضع مناهج التعليم وكافة السياسات والإجراءات المتعلقة بالمدارس والمحتوى التعليمي، والحقيقة أنه لم يترك الإنجليز ثغرة في التعليم لم يتدخلوا بها، حتى ما يتعلق بالعطلات الرسمية، فمن الجدير بالذكر أنه منذ حكم محمد علي باشا كانت العطلة السنوية للدراسة شهر رمضان فقط وهو ما يتفق مع العادات والتقاليد الإسلامية في هذا الشهر الكريم، إلا أنه في 1886 استغلت سلطات الاحتلال قدوم شهر رمضان في فصل الصيف لتصدر قرار بإطالة الأجازة شهر قبله وشهر بعده حتى تسمح للمدرسين الإنجليز التي تعتمد عليهم في العملية التعليمية في مصر للسفر لبلادهموقضاء وقت مع أسرهم، وأصبحت هذه الأجازة الصيفية تقليداً متبعاً حتى اليوم.

وعلى الرغم من كل هذه الإجراءات لم ينجح الاحتلال البريطاني في إزالة الثقافة الفرنسية من مصر كما نجح الفرنسيون من قبله مع الثقافة الإيطالية، حيث جاءت الإرساليات الفرنسية الكاثوليكية إلى مصر وأنشأت مدارس فرنسية رغم أنف الإحتلال البريطاني حتى وصل عدد المدارس الفرنسية في 1928 إلى 179 مدرسة. فقد كان لاشتراك الفرنسيين في صندوق الدين مع بريطانيا وتمتعهم بامتيازات أجنبية في مصر واتفاقهم مع إنجلترا في 1904 على تمتع المدارس الفرنسية في مصر بالحرية الكاملة عائق أمام محاولات طمس الثقافة والمدارس الفرنسية، فاللغة الفرنسية كانت معروفة بين الطبقات العليا وكانت لغة التدريس الرئيسية في المدارس الفرنسية واليهودية بينما اقتصرت الإنجليزية على المدارس الإنجليزية والأمريكية.

  • شرخ مجتمعي وتمايز طبقي:

سعت سلطات الاحتلال إلى ربط الطبقة العليا المثقفة في مصر بالثقافة الإنجليزية من خلال تقديم محتوى تعليمي لهم يركز على اللغة الإنجليزية ومعارف وتاريخ الأمم الأوروبية حتى يضمنوا وظائف لهم بالحكومة، بينما هناك تعليم شعبي للفقراء يقتصر على تعليم اللغة العربية ومبادئ الحساب والأصول الدينية بما يكفيهم للقيام بأعمال أجدادهم سواء كانوا تجار أو فلاحين أو صناع، ولا يجوز أن يتخطى نظام تعليمهم أغراضهم.

كانت هذه هي رؤيتهم التعليمية ومن أجل تحقيقها فرض الاحتلال مصروفات باهظة للتعليم حتى لا يقدر عليه سوى ميسوري الحال والقادرين ويحرم منه عامة الشعب، ليصبح التعليم وقفاً على أبناء طبقة الأثرياء وكان هذا الأمر مبالغ فيه لدرجة وصلت إلى نشوب أزمة وزارية بين سلطات الاحتلال وسعد زغلول عندما كان ناظراً للمعارف لأنه أعطى المجانية لأحد الطلبة النابغين مخالفاً بذلك سياسات الاحتلال. واستمرت السياسة التعليمية على هذا الوضع حتى أصر سعد زغلول على أن يفتح فرصة للطلبة النابغين للحصول على المجانية نظير تفوقهم الدراسي.

كانت سلطات الاحتلال حريصة على اتباع سياسة الفصل بين الطبقة الفقيرة والثرية بمصر، فكان تولي وظيفة حكومية حلم لأبناء الطبقات الفقيرة مما جعلهم يتحملون نفقات التعليم الابتدائي ـــــ لقصر مدته ــــــ حتى يضمنوا لأبنائهم تولي وظيفة حكومية، وهو ما جعل سلطات الاحتلال تجعل الحاصلين على الشهادة الثانوية هم وحدهم من لهم فرصة التوظيف حتى يصعب على أبناء الطبقات الدنيا الوصول لها.

وتجدر الإشارة هنا الى أن هذه كانت أول مرة يحدث فيها فصل صارم بين تعليم الأثرياء وتعليم الفقراء، فحتى وأن كان في العهود السابقة مدارس أجنبية ومدارس حكومية إلا أن التعليم الأجنبي كان مخصص بشكل أكبر للجاليات الأجنبية بينما فتحت المدارس الحكومية أبوابها لفئات الشعب المختلفة

وحين انطلقت الحركة الوطنية بقيادة مصطفى كامل بدأت بالاهتمام بالتعليم وإنشاء المدارس، حيث رأت أن محو الأمية وتثقيف الشعب هو أفضل وسيلة لمحاربة الاستعمار، وبمساهمات من الجمعيات الخيرية والمساعدات الأهلية والشخصيات المهمة أنشئت العديد من المدارس، وكانت هذه المدارس بمصروفات حيث أنها مدارس حرة لا تخضع لإشراف سلطات الاحتلال فكانت بحاجة لتحصيل مصروفات لدفع الرواتب مع تخصيص جزء للطلبة بالمجان، ومع الوقت ازدادت المدارس الخاصة بشكل كبير خاصة بعد ما ساهمت في إنشائها الجمعيات الخيرية الإسلامية والقبطية من أجل نشر المعارف.

تمكنت الحركة الوطنية من تحقيق أهدافها إلى حد ما ومحاولة تمصير التعليم من خلال إصدار قرار في 1938 بإلغاء التدريس باللغة الأجنبية في السنة الدراسية الأولى والثانية بموجب قرارات صدرت في 1938 و1945، ودمج كافة الأنماط التعليمية ــــــ مدارس إبتدائية بمصروفات مقصورة على الطبقة الميسورة ومدارس أهلية أنشأتها الأهالي والجمعيات الخيرية وتعليم شعبي متمثل في الكتاتيب ـــــــ في نظام تعليمي واحد أطلق عليه التعليم الإبتدائي وأصدر قرار بمجانية التعليم الألزامي والثانوي في ظل تولي طه حسين وزارة المعارف 1950.

بعد ثورة يوليو 1952:

جمال عبد الناصر (1953-1970م):

أولت الدولة اهتماماً كبيراً بالتعليم الحكومي وبدأت تمارس التضييق على التعليم الخاص طوال فترة الخمسينات والستينات، فصدر قرار بتأميم بعض المدارس الأجنبية في مصر عام 1958، كما ألزم بعض المدارس الأجنبية الأخرى التي لم تأمم بأن يتولى إدارتها مصريين، وتوسعت الدولة في إنشاء المدارس الحكومية وأصبح التعليم ما بعد الإلزامي (الجامعي) بالمجان ومضاعفة الميزانية الحكومية المخصصة للتعليم.

اتخذت الحكومة في 1953 العديد من القرارات فيما يخص التعليم، كان منها إلغاء كافة المدارس الأولية ـــــ الكتاتيب التي سبق وأن أشرنا إليها ـــــ وإلغاء التدريس باللغة الإنجليزية من المرحلة الإبتدائية مع التركيز على تدريس باللغة العربية، ومد المرحلة الابتدائية من أربع سنوات إلى ست سنوات نظراً لعدم كفايتهم لتدريس القراءة والكتابة والحساب والدين وحتى تتسع مدارك الطالب، تقسيم المرحلة الثانوية لقسمين المرحلة الإعدادية ومدتها ثلاث سنوات يبدأ فيها تدريس اللغة الإنجليزية والمرحلة الثانوية ومدتها ثلاث سنوات تنتهي بامتحان عام مركزي.

وفي الحقيقة أتاحت ثورة يوليو للفقراء فرصة للالتحاق بالمدارس خاصة في ظل مضاعفة ميزانية التعليم فازدادت أعداد الطلاب، ولكن في الوقت ذاته بالنظر إلى القرارات التي اتخذت بعد الثورة نجد أنها قرارات إجرائية ــــــ لا تتعدى إنشاء مدارس وجامعات وتقسيم المراحل الدراسية ــــــ ولكن ظلت غالبية المناهج الدراسية التي وضعتها سلطات الاحتلال وخبراء التعليم الإنجليزي كما هي مع بعض التغييرات الطفيفة التي لا تمس المضمون، كما ظلت المناهج الدراسية دون تطوير وإن كان هناك أي محاولات للتطوير كانت استناداً للنموذج الغربي.

أنور السادات (1970-1981م):

بعد حرب أكتوبر تبنى السادات الفكر الرأسمالي وسياسات الانفتاح الاقتصادي التي طالت كافة المجالات، فكان لقوانين الاستثمار التي أطلقتها الحكومة حينها دور مهم في تشجيع الاستثمار في التعليم، فاندفع رجال الأعمال للاستثمار في التعليم، وتم افتتاح العديد من المدارس التي تدرس نفس مناهج التعليم الحكومي لكن بمصروفات (المدارس الخاصة) نظير ما تقدمه للطالب من خدمات ترفيهية وقلة أعداد الطلاب بالفصل بعد أن ظهرت مشكلة تكدس الطلاب بالمدارس بشكل مبالغ. كما قام رجال الأعمال بافتتاح عدد من المدارس تدرس كافة المواد باللغة الإنجليزية بمصروفات مرتفعة إلى حد ما (مدارس اللغات).

كما اتخذت الدولة في منتصف السبعينات قرارا بإنشاء مدارس حكومية بمصروفات (المدارس التجريبية) لتقديم تعليماً باللغات الأجنبية لخدمة الطبقة الوسطى التي لا تستطيع إدخال أبنائها المدارس الأجنبية، وبذلك يتم إيجاد جيلا مؤهلا لسوق العمل يجيد اللغات الأجنبية للتعامل مع الشركات الدولية التي دخلت الأسواق المصرية في ذلك الوقت.

إذن فقد أصبحت الصورة التعليمية في مصر في نهاية عهد السادات تنقسم إلى مدارس حكومية ومدارس تجريبية وأخرى خاصة وأخيرا مدارس اللغات.

حسني مبارك (1981-2011م):

مع بداية التسعينات ازداد الطلب على مدارس اللغات لتصبح عاجزة عن استيعاب الأعداد الضخمة من الراغبين في الالتحاق بها، ففتحت الأبواب على مصراعيها لإنشاء المزيد من مدارس اللغات، وساعد على ذلك مساهمة عدد من رجال الأعمال في إنشاء هذه المدارس.

وبحلول العقد الأول من الألفية الجديدة ظهر نوع آخر من التعليم وهو التعليم الدولي الخاص فتم افتتاح أول مدرسة دولية في مصر في ديسمبر 2002 لتدريس المنهج الكندي بموجب قرار صدر من رئيس الوزراء عاطف عبيد في ذلك الوقت، أرجع البعض ظهور هذا النوع من التعليم إلى ظهور طبقة شديدة الثراء ترغب في مواكبة الغرب المتقدم.

توالى إنشاء هذه المدارس الدولية المختلفة، الأمريكية والفرنسية والألمانية والبريطانية والكندية، وأصبح من النادر أن نجد دولة كبرى ليس لها مدرسة فى مصر وشهادة تعليمية خاصة بها، والتحق أبناء الطبقة الأكثر ثراءاً بالتعليم الدولي، ليظهر نوع من التمايز الطبقي في التعليم ويصبح لدينا مدارس ومناهج متعددة، تعليم لأبناء الطبقة الدنيا متمثل في التعليم الحكومي، وتعليم للطبقة المتوسطة وهو التعليم الخاص، وتعليم لطبقة الأثرياء والمتمثل في المدارس الدولية.

وقد كان ذلك دافع للعديد من مدارس اللغات الموجودة في هذا الوقت إلى مواكبة الطفرة التعليمية من خلال إنشاء قسم للتعليم الدولي (الإنترناشونال) يلحق بها، ويطلق على قسم تعليم اللغات (الناشونال)، ولا يخفي على أحد مدى التفرقة بين القسمين داخل المدرسة الواحدة بداية من المصروفات المدرسية والفصول الدراسية والأنشطة والرحلات المقدمة لكلا منهما بجانب اختلاف كلا القسمين في المحتوى التعليمي المقدم والمدرسين، وهذا بالطبع يحمل العديد من التأثيرات والدلالات.

لم يتوقف الأمر على ذلك، بل سعت الحكومة إلى مواكبة طفرة التعليم الدولي، فقامت بتأسيس مدارس النيل المصرية في 2010 بمساهمة صناديق تمويل حكومية لتقديم شهادة تعليمية مصرية مصممة وفق المعايير الدولية والعالمية وبنظام امتحانات يتبع لجامعة كامبريدج البريطانية تحت إشراف وزارة التربية والتعليم، بهدف خدمة الطبقة المتوسطة التي لا تستطيع أن تلحق أبنائها بالمدارس الدولية نظرا لارتفاع مصروفاتها.

وفي 2010 قام الدكتور أحمد زكي بدر وزير التربية والتعليم السابق بوقف تراخيص المدارس الدولية حتى تلتزم بأداء تحية العلم والنشيد الوطني وأن تضم في مناهجها اللغة العربية والدين والتربية القومية، وتخضع لمراقبة ومتابعة الدولة في سير العملية التعليمية.

يتضح من ذلك أننا أصبحنا أمام نظم تعليمية وافدة تدرس مناهج أجنبية مختلفة حسب الدولة التابعة لها المدرسة، وازداد الإقبال عليها في محاولة من جانب أولياء الأمور تقديم مستوى تعليمي راق لأولادهم، وفي الوقت ذاته اكتسب التعليم الحكومي والخاص سمعة سيئة وصدرت التقارير المختلفة التي تؤكد عدم صلاحية المناهج التعليمية المصرية والمدارس الحكومية لتقديم خدمة تعليمية جيدة.

دوافع ظهور المدارس الدولية في مصر:

عرضنا في الجزء السابق التطور التاريخي للنظام التعليمي في مصر منذ عهد الكتاتيب حتى نشأة المدارس الدولية. ونحاول الآن التعرف على دوافع ظهور المدارس الدولية في مصر:

  • هيمنة اللغة الإنجليزية عالمياً: عظمت العولمة ومتطلبات التوظيف من أهمية اللغة الإنجليزية في جميع بلدان العالم، فاللغة الإنجليزية مسيطرة على شبكة المعلومات، حيث تبلغ حصة المواد المخزنة باللغة الإنجليزية على شبكة الإنترنت 80% من حجم المواد المخزنة باللغات الأخرى، وهو ما جعل اللغة الإنجليزية هي لغة الوسائط الأكاديمية ووسائل الإعلام العالمية، مما دفع أولياء أمور التلاميذ إلى السعي لإكساب أطفالهم هذه اللغة المحورية في السوق العالمي.
  • تدني مستوى التعليم الحكومي ومخرجاته: في الوقت الذي عانى فيه التعليم الحكومي من قصور شديد في تطوير المنشآت التعليمية وضعف قدرات المعلمين التربوية والتعليمية وتدني مستوى المناهج الدراسية، كانت المدارس الدولية تتميز بكفاءة المعلمين ومرونة الإدارة التعليمية والتطوير التكنولوجي المستمر واتباع أساليب تربوية حديثة ومراعاة الاحتياجات التعليمية والتربوية والترفيهية للتلاميذ.
  • سيطرة ثقافة اقتصاد السوق الحر: أصبح التعليم في مصر يحكمه ثقافة اقتصاد السوق الحر، مما جعل من أولى متطلبات سوق العمل إجادة اللغة الإنجليزية في ظل انتشار البنوك والفنادق والشركات الأجنبية التي تتطلب عمالة تتقن اللغة الانجليزية، ذلك بخلاف ما تقدمه المدارس الدولية من شهادة دولية معتمدة تمكن الطالب من العمل وإكمال الدراسة بالخارج، وهو ما دفع الطبقات الوسطى إلى الحرص على تسليح أبنائهم باللغات الأجنبية أملاً في مستقبل أفضل.

ولم يتوقف حدود تأثير المدارس الدولية على طلابها بل كانت لها تجليات على المجتمع المصري، واستطاعت أن تؤثر على مظاهر حياتنا اليومية ورؤيتنا لأنفسنا وللآخرين:

  • غرس العادات والتقاليد الغربية:

تعتمد المدارس الدولية في الترويج لنفسها على اتباع التقاليد الغربية الإيجابي منها والسلبي، وهو ما ينعكس على سلوك خريجيها خارج المدرسة:

  • الأنشطة والحفلات المدرسية: اعتادت المدارس الدولية أن تحتفل بأعياد البلاد التي تتبعها هذه المدارس، بكل ما تتضمنه هذه الاحتفالات من تقاليد وأعراف بعيدة عن مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، مما يجعل الطالب في هذه المدرسة يتكون وجدانيا بصورة مفارقة تماما لوجدان الطالب في المدارس الأخرى. ومن أمثلة الأعياد التي تحرص هذه المدارس الاحتفال بها عيد الهلع (أو الهالويين).

كذلك الحرص على إقامة احتفالات التخرج التي تتضمن استعراضات أجنبية وطرق ترفيه لا تتفق مع الثقافة الإسلامية والعربية ولا يليق بالحدث العلمي.

  • الترويج للمبادئ والتقاليد الغربية: من أجل أن تعظم التقاليد الغربية عليها أن تبدأ بالتحقير والتقليل من القيم والمعاني الإسلامية والعربية من خلال مواد النقاش والتفكير النقدي (Debate and Critical Thinking)، فهي تعتمد على مناقشة الأفكار الجدالية لتنمية عقل الطالب وتطوير قدراته على التفكير النقدي.

ناهيك عن الأفكار التي تطرح في دروس اللغة الإنجليزية تحت إدعاء أنه مجرد نص أجنبي لتنمية اللغة ولا يتضمن أفكارا محددة ولكنه يحمل من المعاني ما يصطدم مع الإطار الأخلاقي والقيمي السائد في البلاد، فعلى سبيل المثال نجد في أحد دروس اللغة الإنجليزية بعنوان ما هي الأسرة؟ تقسيما للأسرة إلى خمس أنواع: النوع الأول أب وأم وأطفال، والنوع الثاني أب وأطفال، والنوع الثالث أم وأطفال، والنوع الرابع أم وأم وأطفال، والنوع الخامس أب وأب وأطفال، ليتكون لدى عقلية الطفل منذ الصغر أن هذا أمر طبيعي يمكن تقبله.

  • طمس اللغة العربية:

لا يمكن أن ننكر ما تتعرض له اللغة العربية من حرب شرسة ومحاولات مستمرة لطمسها على كافة المستويات، فمن منا لا ينبهر بطفل في السابعة من عمره قادر على التحدث باللغة الإنجليزية بطلاقة على حساب لغته الأم (العربية)، ومن منا لا يرى العديد من النصوص العربية المكتوبة على صفحات التواصل الإجتماعي بحروف لاتينية (موضة الفرانكو)، ولم يعد محل استغراب أن تحضر إحدى الفاعليات الثقافية أو الفنية أو غيرها لتجد المتحدث عربي والمستمع عربي ولغة التواصل هي الإنجليزية، وهذه الإعلانات التي تطل علينا في كل مكان والمكتوبة باللغة الإنجليزية كأن من لا يتقن هذه اللغة غير مخاطب بهذه الإعلانات رغم أنها في بلده العربية، أضف إلى ذلك معرفتنا عن غير قصد لبعض المصطلحات باللغة الإنجليزية دون نظيرتها العربية، وغيرها من الأمثلة التي تشهد بتراجع استخدام اللغة العربية في حياتنا اليومية.

فأصبح التحدث باللغة الإنجليزية يضيف لنا وجاهة اجتماعية، على اعتبار أن متحدثي اللغة الإنجليزية من الطبقات العليا المحتكين بالثقافة الغربية، وتمكنت المدارس الدولية من غرس هذه الثقافة وتعميقها في نفوس الشباب، فلم يتوقف فيروس تعلم اللغة الإنجليزية عند خريجي التعليم الدولي فقط، بل امتد في ظل متطلبات سوق العمل إلى الطبقات الوسطى التي تنفق الكثير حتى يجيد أبناؤها اللغة الإنجليزية، فانتشرت مراكز تعليم اللغة الإنجليزية بكثافة في مصر.

  • التمايز الطبقي وشرخ التماسك المجتمعي:

استطاعت المدارس الدولية أن تؤصل للتمايز الطبقي وتخلق تشوهات اجتماعية من ناحيتين:

  • أصبحنا أمام فئتين متنافرتين في المحتوى التعليمي الذي تلقوه وفي الثقافة التي احتكوا بها داخل وطن واحد، وهو ما انعكس بالطبع على فكر وسلوك كل فئة، مما أدى الى انعزال كل منهم على نفسه مهتما بشئونه الخاصة ومصلحته المباشرة.
  • التفاوت بين خريجي المدارس الدولية والمدارس الأخرى لم يتوقف على المظهر الاجتماعي والمادي والتعليمي، بل امتد إلى التفاوت في نظرة المجتمع للطرفين، حيث أعطت المدارس الدولية وجاهة غير مبررة لخريجيها وأولوية في تولي الوظائف على حساب معايير الكفاءة ــــــ في أغلب الأحيان ـــــ كما أن خريجيها أصبحوا محل تفضيل وجاذبية من الطبقة الوسطى فيقومون بتقليدهم ومحاكاتهم في الملبس وطريقة التحدث وغيرها حتى يكونوا محل استحسان ويكتسبوا مكانة مرموقة في المجتمع.
  • الاغتراب عن المجتمع:

تنوع النظم التعليمية ما بين محلي ودولي أدى إلى ضعف تماسك أفراد المجتمع الواحد وتفكك النسيج المجتمعي كما سبق ووضحنا، بالإضافة لشعور الأجيال المنتمية للمدارس الدولية بالغربة داخل مجتمعهم، فهم غير قادرين على الإنتماء للحضارة الغربية التي يشربوها في نظامهم التعليمي وفي الوقت نفسه غير قادرين على الإندماج داخل المجتمع الذي عاشوا فيه واستيعاب ثقافته العربية والإسلامية مما يخلق لديهم شعور قوي بالاغتراب.

وتأصل الشعور بالاغتراب لدى خريجي المدارس الدولية، ويرجع ذلك إلى غياب تدريس المواد القومية داخل المدارس الدولية فحتى ولو قاموا بتدريسها فهى ليس لها الأولوية، فغياب المواد القومية من لغة وتاريخ ودين وجغرافيا وتربية وطنية يؤثر على تشكيل الشخصية المصرية.

وينبثق عما سبق أبعاد مختلفة:

  • نصبح أمام جيل غير قادر على التواصل الفكري مع أفراد المجتمع الذي يعيشوا فيه، وهذا لا يؤثر على الفرد فقط بل يمتد تأثيره للمجتمع حيث يتحول المجتمع إلى جزر منعزلة.
  • الرغبة المستمرة لخريجي المدارس الدولية في السفر للخارج لتزداد علاقته بمجتمعه الأصيل ويندمج مع المجتمع الغربي بإطار واسع من الصداقات والعلاقات الاجتماعية.
  • السخط على أوضاع المجتمع الأم، فهم ليسوا نواة لتحديث مجتمعهم ولكن ذهبوا لتوبيخه والحط من قدره، فهم ينظروا للمجتمع من أعلى ولديهم انفصال عن مجتمعهم وثقافته.

ختاماً، استطاعت المدارس الدولية أن تفرض المعايير التي تحكم جودة التعليم لدرجة جعلت الحكومة تدخل في شراكات مع دول أجنبية من أجل إنشاء المزيد من المدارس ــــــ المدارس اليابانية ــــــــ وإيماناً منها بأن ذلك سوف يحسن العملية التعليمية ويدفعها للأمام، فلابد أن لا ننصاع إليها بل نحجم تمددها وتغلغلها في المجتمع المصري بمجموعة من السياسات حتى لا تتجاوز الخصوصية الثقافية والحضارية للدولة الحاضنة لها، وتفادي النظرة الدونية للغة والثقافة العربية.

وفي الوقت نفسه لا يمكننا ــــــ على الرغم مما وضحناه من مساوئ وخروقات وتأثيرات سلبية للمدارس الدولية ــــــ أن ننكر جودة خريجي المدارس الدولية مقارنة بخريجي المدارس الأخرى حتى لا نطلق أحكام في الهواء ليس لها أساس من الصحة ومبالغ فيها، ولكن لا ينفي ذلك أهمية دور الأسرة والتربية في تحسين سلوكيات الناشئة من خلال الاهتمام بالدروس الدينية وأن لا يكون هناك تساهل في الاستجابة لكل ما تقدمه هذه المدارس من أنشطة وسلوكيات منافية لعاداتنا وتقاليدنا.

تحاول الدولة جاهدة في الوقت الحالي تطوير التعليم الحكومي، فيسعى الدكتور طارق شوقي وزير التربية والتعليم إلى رفع مستوى المحتوى التعليمي من خلال تعديل المناهج وأنظمة الامتحانات واقامة عدد لا بأس به من الدورات التدريبية للمدرسين لتطوير الأداء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

* حاصلة على الماجستير في  العلوم السياسية. جامعة القاهرة.

[1] هي معاهدة تمت بين الدولة العثمانية من جهة وروسيا وبروسيا وبريطانيا والنمسا من جهة أخرى للحد من توسعات محمد علي باشا على الأراضي العثمانية وتقليص صلاحياته.

المراجع:

  • أسماء عبد الهادي، دراسة توثيقية عن تاريخ ونشأة المدارس في مصر، شبكة زدني للتعليم، 30 يوليو 2015
  • أمل شريف، مترجم: التعليم في عهد محمد على (5) البعثات التعليمية لأوروبا، ساسه بوست، 10 يوليو 2015
  • أميرة عبد الرحيم، قصة في صورة: التعليم في مصر في القرن التاسع عشر قبل إنشاء المدارس والجامعات، أهرام اليوم، 19 مارس 2018
  • أمين محمد محمد أبو بكر، التعددية الثقافية وأثرها في المهارات الأساسية للغة العربية والهوية الثقافية في ضوء المدخل الثقافي (المدارس الثانوية الدولية في مصر نموذجاً)، بحث مقدم للمؤتمر الدولي الثالث للغة العربية، دبي، 7 – 10 مايو 2014
  • أنيس الأبيض، نظرة على التعليم في عصر التنظيمات العثمانية، موقع الحياة، 17 نوفمبر 2012
  • أيسم سعد محمدي محمود، تعزيز الهوية الثقافية العربية في مدارس التعليم الأجنبي: دراسة ميدانية، مجلة العلوم التربوية، الجزء:1، العدد:4، أكتوبر 2017
  • بسمة رمضان، التعليم المصري في عهد الاحتلال الأجنبي: من سئ لأسوأ، موقع شفاف: شبكة الجامعات المصرية، 19 يونيو 2015
  • جرجس سلامه، أثر الاحتلال البريطاني في التعليم القومي في مصر (1882- 1922)، رسالة دكتوراة، (جامعة القاهرة: كلية الأداب)، 1966
  • جيمس هيوارث دون، مقدمة لتاريخ التعليم في مصر الحديثة، ترجمة أمل شريف، موقع ساسه بوست، 2015
  • حسان عبد الله حسان، تطور التعليم في مصر: تحت الاستقلال المنقوص (1919-1952) الفلسفة والمضامين، قضايا ونظرات، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد:13، أبريل 2019
  • عباس حلمي الثاني، عهدي: مذكرات عباس حلمي الثاني خديو مصر الأخير 1892-1914، ترجمة: جلال يحي، (القاهرة: دار الشروق)، 1993
  • عبد الخالق فاروق، مأزق التعليم في مصر: بين النشأة والفرز الاجتماعي، مصراوي، 5 أبريل 2018
  • فاتن محمد عبد المنعم عزازي، تأثير لغة التعليم على الهوية لدى الطلاب: دراسة ميدانية، المجلة الدولية التربوية المتخصصة، المجلد:3، العدد:10، تشرين أول 2014
  • مديحة فخري محمود محمد، دور التربية في مواجهة التغريب بالمجتمع المصري، دراسات تربوية واجتماعية، مجلد:19، العدد:2، أبريل 2013
  • مصطفى السيد، تاريخ التعليم من المجانية للدروس الخصوصية، موقع المصري اليوم، ديسمبر 2017
  • محمد العناقرة، المدارس في مصر في عصر دولة المماليك: دراسة تاريخية من خلال الوثائق والوقفيات والحجج (648-923 ه / 1250-1517م)، (القاهرة: الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية)، 2015
  • نور علوان، المدارس الأجنبية في الوطن العربي تأكل ثقافي أم تحاور حضاري، موقع نون بوست، 5 ديسمبر 2017

عن رضوى منتصر الفقي

شاهد أيضاً

الثقافة والحضارة أو التأمل والتعليم

أ. علي عزت بيجوفيتش

هناك خلط غريب بين فكرة الثقافة وفكرة الحضارة. الثقافة تبدأ «بالتمهيد السماوي» بما اشتمل عليه من دين وفن وأخلاق وفلسفة.

2 تعليقان

    • مصطفى سيد محمد

      أي عدد؟ المقالات المنشورة على موقع المركز ليس لها ترقيم ولا أعداد، فهي ليست مجلة.
      نشكركم على تواصلكم معنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.