القرآن في متون الحديث النبوي

القرآن في متون الحديث النبوي

صحيح البخاري نموذجًا*

أ. محمد الهادي الطاهري**

  جمع الحديث الصحيح وتدوينه مشروع معرفي تطلب إنجازه مدة من الزمن جاوزت القرن تقريبًا، وكان القصد منه تحديدًا توفير السند المنهجي لكل علم من العلوم الإسلامية. لذلك حرص حفاظ الحديث النبوي على تبويب الأحاديث طبقًا لما استقر من العلوم كالفقه والكلام والتفسير والأدب أو الأخلاق. ويُعد صحيح البخاري من أهم ما صنف في الحديث، وقد وضع البخاري للمنشغلين بالقرآن وعلومه قدرًا كافيًا من الآثار والأخبار، ويظهر ذلك بالخصوص في كتابين اثنين (كتاب فضائل القرآن وكتاب تفسير القرآن)، حيث جمع في الكتاب الأول ما صح من الحديث في فضل القرآن وجمعه وتدوينه وفي آداب تلاوته ووجوه الانتفاع به، وجمع في الثاني ما صح من الآثار والأخبار في تفسيره وأسباب نزوله. والكتابان معًا يقدّمان في اعتقادنا الأدوات المعرفية والمنهجية اللازمة لفهم القرآن ووجوه التعامل معه.

 وتتكوّن هذه الدراسة من قسمين اثنين: قسم نتناول فيه كتاب (تفسير القرآن) بالتحليل لاستكشاف معنى التفسير فيه وأدواته ودلالاته، وقسم نعرض فيه لما جاء في كتاب (فضائل القرآن) من أحاديث وضعت الأسس الأولى لما بات يُعرف بخواص القرآن وأسراره.

وتجدر الإشارة أولًا الى أن (الجامع المسند الصحيح من حديث رسول الله وسنته وأيامه) المعروف اختصارًا بصحيح البخاري[1] هو أشهر مصنفات البخاري على الإطلاق، إذ أقبل على تصنيفه بدعوة من بعض شيوخه لما وجدوا فيه من معرفة واسعة بأخبار النبي وصحابته وتابعيه ومن علم دقيق بالحديث ورجاله. ويمكن أن نعتبر (صحيح البخاري) ترجمة لمشروع علمي ضخم فكَّر فيه علماء الحديث وأنجزه البخاري على امتداد ستة عشر عامًا قضاها في الجمع والفرز والتدوين. ويتمثل ذلك المشروع العلمي في تمييز الحديث النبوي من أقوال الصحابة والتابعين وأخبارهم أولا، وتخريج الصحيح من الحديث وحده دون المنكر أو الضعيف ثانيًا. ويحتاج هذا المشروع بالضرورة إلى معرفة شاملة بما يتناقله الإخباريون من حديث النبي وأقوال الصحابة والتابعين، كما يحتاج إلى علم واسع بالرواة ومنازلهم وهذا ما أجمع شيوخ البخاري على توافره فيه فكلّفوه تلك المهمة.

 كتاب التفسير

  1. موضوع التفسير

نظم البخاري مادته الإخبارية في هذا الكتاب وفق تسلسل سور القرآن كما وردت في المصحف، أي بدءًا بالفاتحة وصولا إلى سورة الناس. ولنا أن نشير إلى أنّ المفسرين الكبار الذين وصلتنا تفاسيرهم أمثال الطبري ومن جاء بعده قد اعتمدوا هذه الخطة في مصنفاتهم، فتخلّصوا من طريقة المفسّرين الأوائل من الصحابة والتابعين، إذ كانوا في الغالب لا ينشغلون بسور المصحف كلّها، بل يتوقفون عند آيات من سور عدة هي في نظرهم موضوع اختلاف بين المنشغلين بمسائل لغوية، أو فقهية، أو عقائدية، أو غير ذلك. بل إنّ هؤلاء المفسرين، كثيرا ما كانوا قرّاء أو محدّثين أو ممن تصدّروا في مجالس الإفتاء، وعليه فقد التفتوا إلى آيات بعينها كثر تداولها بين المختلفين لأسباب سياسيّة أو عقائديّة أو فقهية. ويمكن في هذا الإطار أن نشير إلى ما ذكره المؤرّخون من كتب لمقاتل بن سليمان هي في نظرنا خير دليل على منهجية الأوائل في التعامل مع موضوع التفسير، إذ لم يكن القرآن كله موضوع تفسير، بل نزر قليل منه يمكن أن نسميه الآيات المتشابهات[2].

وعلى عكس هذه المنهجية التى اقتضاها الخلاف العقائدى الفقهي المبكر، مال البخاري في تدوين الأحاديث التي تفسر آيات القرآن إلى نسق آخر لا تحكمه الخلافات، بل يحكمه الحرص على بلورة موضوع علم التفسير نفسه، فهو بتتبعه لسور القرآن كلها حسب نظام ترتيبها في المصحف قد وضع اللبنة الأولى لموضوع هذا العلم فجعله علمًا ينأى بنفسه عن علوم أخرى متاخمة له. وإذا كان المفسرون الأوائل من اللغويين والمتفقهين والمتكلمين المبتدئين يقفون بالتفسير عند حدود ما يهمهم من المعارف اللغوية والفقهية والعقائدية فإن البخاري بجمعه الحديث النبوي المفسِر للقرآن يتجاوز مواضيع التفسير القديم في اتجاهين اثنين، اتجاه نحو الشمول تجاوزًا لمن وقف عند آيات مختارة تفي بحاجات معرفية لا تهم التفسير بالدرجة الأولى، بل تهم علومًا أخرى هي بصدد التكوّن شيئًا فشيئًا، واتجاه نحو التأصيل تجاوزًا لمن جعل من آيات القرآن حججًا للبرهنة على اختياراته الفقهية أو العقائدية أو اللغوية. لقد كان البخاري مدوّنًا يجمع صحيح الحديث من أفواه الرواة ليصنع منه ما يكوّن مقدمة يبني عليها صاحب كل علم علمه. وفيما يخص علم التفسير تحديدًا، مكّن البخاري المفسرين من مرجع يحتكمون إليه في بناء مسائلهم وحلها، وهو الصحيح من الحديث النبوي المفسر للقرآن، وبعبارة أخرى تفسير النبي. مرجع سيكون من رهاناته الكبرى ضبط علم التفسير منهجًا وموضوعًا ورؤية تمامًا كما كانت الأحاديث المروية في أبواب الفقه والتوحيد والأخلاق أو الأدب بعبارة البخاري مراجع تضبط مواضيع تلك العلوم ومناهجها ورؤاها.

تلك هي بنية الكتاب الخارجية، أما بنيته الداخلية فلنا أن نقرأها من تفاصيل ما تضمنته مكوّناته الكبرى. فقد قسم البخاري كتاب التفسير أقسامًا بعدد سور القرآن، ووزّع هذه الأقسام إلى أبواب بأسماء الآيات التي ورد فيها تفسير مروي عن النبي. وحين ننظر في هذه الأبواب نلاحظ موضوع التفسير النبوي كما تعكسه الأحاديث المروية عنه في هذه المدوّنة، ذلك أنّ هذا التفسير لم يشمل كل آيات الكتاب وإن شمل كلّ سوره، ففي سورة محمد مثلا ثمان وثلاثون آية لم يُرو من الحديث في تفسيرها سوى ما تعلّق بالآية الثانية والعشرين وهي قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِعُوا أَرْحَامَكُمْ). وكذلك الشأن بالنسبة إلى باقي السور، وإن تفاوت عدد الآيات المفسرة فيها من سورة إلى أخرى. فالثابت إذن أن البخاري لم يرو في كلّ آية حديثًا يفسرها، وهو ما يعني أن موضوع علم التفسير لم يشمل كل آيات القرآن، وأن النص القرآني كان مفهومًا لدى المسلمين الأوائل على نحو ما فلم يحتج النبي إلى تفسيره، عدا عدد من آياته كانت بالنسبة إليه تحتاج إلى بيان. أما في زمن البخاري – أي لحظة تدوين الحديث- فمن المرجح أنّ أكثر المسلمين لا يفهمون كل المراد من آيات القرآن[3]،  ولكن البخاري لم يلتفت إليهم لأنه لم يكن مفسرًا، بل كان محدثًًا يجمع صحيح الحديث ليفيد به أهل العلم في كل مجال من مجالات العلوم الإسلامية في عصره.

ولا تعود هذه المنهجية في التعامل مع موضوع التفسير إلى الخطة المعرفية التي يشغلها البخاري باعتباره محدثًًا فقط، بل تعود كذلك إلى ما يشبه الإجماع على أنّ الخطاب القرآني ينقسم إلى قسمين، قسم يحتاج إلى بيان وتفسير وقسم لا يحتاج إلى ذلك لأن معانيه بينة بذاتها، هذا ما أثبته الإمام الشافعي في مستهل رسالته ولم يعترض عليه معترض، وبالتالي فقد أكد جمع الحديث النبوي هذه الفرضية وبيَّن للمنشغلين بالتفسير أنّ القرآن لا يحتاج كلّه إلى التفسير وإنما يحتاج إلى ذلك قسم منه دون قسم. وهذا القسم نفسه ينقسم إلى فرعين فرع ورد عليه تفسيره إمّا فى القرآن نفسه وإما فيما رُوي عن النبي من حديث، وفرع لم يرد عليه تفسيره. إن الآيات المذكورة في كتاب التفسير هي من منظور البخاري آيات مفسَرة وبالتالي لا يجوز للمفسّرين أن يقولوا فيها غير ما قيل من قبل. ولم يبق للمفسّرين إذن غير الاشتغال على ما لم يُفسّر من القرآن، وهذا يعني أنّ البخاري وإن كان قد قدّم للمفسرين منهجية جديدة في التعامل مع موضوع التفسير وهي تتبع القرآن سورة بعد سورة حسب نظام ترتيبها في المصحف فهو لم يوسّع موضوع علم التفسير، بل ضيقه، هذا إذا ما قورن بموضوع التفسير كما نراه في كتب المفسرين الكبار أمثال الطبري ومن جاء بعده. أما إذا ما قورن بموضوع التفسير كما تشكل عند المفسّرين الأوائل فهو بالتأكيد أوسع منه لأن أولئك المفسرين توقفوا عند حدود ما اعتبروه متشابها أو مشكلًا. وفي كلمة، لم يكن البخاري في صحيحه يقصد إلى ضبط موضوع التفسير لأنه كان يقصد أولا إلى ضبط ما لا يجب أن يُفسّر أو يؤوّل لأن تفسيره قد ورد في الحديث النبوي. وهذا – كما نرى – عمل ينخرط في سياق معرفي همّه الأوحد أن يرسم حدود العقل الإسلامي ومرجعياته صدًا لكل من شرع في اجتياز الحدود نحو آفاق مجهولة.

  1. مرجعيات التفسير

في كتاب تفسير القرآن من صحيح البخارى مرجعيّات متعدّدة تتفاعل فيما بينها وينوب بعضها عن بعض في أحايين كثيرة. وعلى تعدّدها يمكن حصرها في مرجعيّتين اثنتين وهما النبي من ناحية، وصحابته وتابعوهم من ناحية أخرى. وإذا كان من المفهوم أن يروي البخاري تفسيرًا عن النبيّ فمن غير المفهوم أن يروي تفسيرًا عن صحابته وتابعيهم. نقول هذا لأنّ البخاري كُلِف في أول الأمر تصنيف جامع صحيح يلتزم فيه برواية ما صح عن النبي فلا يخلطه بما روي عن الصحابة والتابعين من أخبار. ويظهر هذا الخروج عن الشرط الذي اشترطه عليه جمع من العلماء حين كلفوه تدوين الصحيح من حديث النبي وسننه، في عودته كلّ مرّة إلى غير النبي من الصحابة والتابعين لينقل ما قاله هذا أو ذاك في شأن هذه الآية أو تلك. ومن الأمثلة الدالة على ذلك ما جاء في تفسير سورة الذاريات، إذ نقل البخاري عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال في تفسير كلمة الذاريات هي الرياح، ونقل عن مجاهد أنّه قال في تفسير الذنوب هي السبيل، وعن ابن عباس أنّه فسّر الحُبك في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) [الآية: 7] بالاستواء والحسن. كما نقل عن مراجع أخرى لم يذكرها واكتفى بأن قال «قال غيره . . . قال بعضهم …»[4]. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ففي تفسير هذه السورة بالذات تختلط المراجع على القارئ فلا يعلم عمَّن ينقل البخاري، وهذا نص التفسير كاملا يشهد بتشابك المرجعيات وغموضها:

«قال علي عليه السلام: الذاريات الرياح، وقال غيره: تذروه تفرقه. وفي أنفسكم أفلا تبصرون: تأكل وتشرب في مدخل واحد ويخرج من موضعين. فراغ: فرجع. فصكّت: فجمعت أصابعها فضربت جبهتها. والرميم نبات الأرض إذا يبس وديس. لموسعون أي لذووا سعة. وكذلك على الموسع قدره يعني القويّ. زوجين: الذكر والأنثى واختلاف الألوان حلو وحامض فهما زوجان. ففروا إلى الله: من الله إليه. إلا ليعبدون: ما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلا ليوحدون. وقال بعضهم: خلقهم ليفعلوا ففعل بعض وترك بعض، وليس فيه حجّة لأهل القدر. والذنوب: الدلو العظيم. وقال مجاهد: ذنوبًا سبيلًا، صرّة صيحة، العقيم التى لا تلد. وقال ابن عباس: الحبك استواؤها وحسنها. في غمرة في ضلالتهم يتمادون. وقال غيره: تواصوا: تواطؤوا، وقال مسومة معلّمة من السيما. قُتل الإنسان: لعن».

في هذا النص كما نرى مرجعيات متعددة بعضها معلوم كابن عباس وعليّ ومجاهد، وبعضها مجهول أشار إليه البخاري بعبارات مبهمة (غيره، بعضهم) وبعضها الآخر مجهول لم يصرح به ولم يشر إليه لا من قريب ولا من بعيد. وهذا النوع الثالث بالتحديد يثير ضربًا من الغموض، فلا يعلم القارئ من فسّر ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، أهو الإمام عليّ كما يوحي بذلك مطلع النص أم هو غيره كما يظهر في الجملة الثانية أم هو مفسر آخر لا هو عليّ ولا هو غير عليّ المشار إليه دون تعيين. والإشكال نفسه يمكن أن يثار من جديد مع بقية الجمل. ومن شأن هذا الإبهام في الإحالة على المراجع أن يولد تردّدا في ذهن القارئ بين رأي يدفعه إلى اعتبار البخاري يروي تفسيرًا عن النبي تحديدا وما أسماء مثل عليّ وابن عبّاس ومجاهد سوى أسانيد، ورأي يدفعه إلى اعتبار هذه الأسماء مراجع في ذاتها وبالتالي فما روي عنها من تفسير يعود إليها ولا صلة له بالنبيّ. ومن جهة أخرى يمكن أن نعتبر تلك المراجع التي لم يسمها واكتفى بالإشارة إليها شخصيات أخرى من صحابة النبي مثلها مثل عليّ وابن عباس. ولكن ما الداعي إلى السكوت عنها؟ أيعني ذلك أن ذكرها لا يفيد القارئ في شيء؟ أم المقصود تحديدًا هو المتن بغض النظر عن إسناده؟ وكيف نقبل ذلك والبخارى محدّث بالدرجة الأولى والإسناد من أشدّ مطالبه إلحاحًا عليه؟

كل هذه الأسئلة وغيرها تدفعنا إلى اعتبار البخاري مفكرًا يعمل على بناء مرجعيّة عامة تتكوّن من عناصر مختلفة (النبي، الصحابة، التابعون)، ولهذه المرجعية عنصر محوري وهو النبي ومن حوله تدور سائر العناصر. ولئن اختفى العنصر المحوري في تفسير سورة الذاريات فقد نابت عنه العناصر الثانوية في أداء وظيفته لأن هذه العناصر تحتل منزلة عليا في ذاكرة الجماعة الإسلامية، ذلك أن رجلين مثل عليّ بن أبي طالب وابن عباس تحديدا كانا على درجة عالية من التقدير في أذهان المسلمين جميعًا بمختلف مذاهبهم لا لقرابتهما المباشرة بالنبي فقط بل لما عُرف عنهما، مذ كان الإسلام في طوره الأول، من فطانة ونبوغ، ولعل ما نقله البخاري من مناقبهما في كتاب أصحاب النبي يشهد بذلك ويدعمه، فقد روى في فضل عليّ قول النبي يخاطبه «أنت مني وأنا منك»، وقوله وهو يخاطبه أيضًا «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟»، وروى في ابن عبّاس قول النبي يدعو له «اللهم علمه الحكمة»، وفي حديث آخر «اللهم علمه الكتاب»[5].

يضاف إلى ذلك أنّ بنية الخطاب في هذا النص وأشكال الترابط بين جمله يسمحان لنا أن نعتبر التفسير في هذا الشاهد تحديدا من تأليف البخاري نفسه، وما الأسماء التي يحيل عليها سوى حجج تدعم تفسيره. ويبرز هذا الاتجاه بالخصوص في تواتر الشروح دون الإحالة على مرجع، بل قد يكون استدعاء المرجع دليلا على اختلاف بين تفسير البخاري وتفسير غيره، كقوله مثلا «الذنوب: الدلو العظيم، وقال مجاهد ذنوبا سبيلا». إن كلمة الذنوب تعني عند أشهر اللغويين الدلو[6]، ولكن مفسّرًا لغويًا مثل مجاهد يرى فيها معنى آخر. هنا يكون المرجع الذي يحيل عليه البخاري قد دعي لأداء وظيفة أخرى غیر وظيفة الاستدلال لأنه موظف في هذا السياق لبيان معنى لم يتم الإجماع عليه، وإن شئنا قلنا معنى غير متداول بين عامة العرب أو هو شاذ، لكنه في سياق السورة أقرب إلى المعنى المراد. وما قلناه في تفسير الذاريات ينطبق تمامًا على تفسير سور أخرى، إذ يخلو تفسيرها أيضًا من الإحالة على النبي، ويكتفي البخاري بما نقله عن مجاهد وابن عباس والضحاك والحسن وقتادة وغيرهم[7].

وإذا كان تفسير سورة الذاريات مثلا لا يكشف عن تفسير يرويه البخاري عن النبي في مصنّف وضع أصلا لتدوين الحديث النبوي، ففي مواقع أخرى من الكتاب تنكشف لنا أقوال النبي في القرآن. ففي تفسير سورة الرحمن مثلا يثبت البخاري للنبي وصفا في بيان الجنتين المذكورتين في الآية 62، حيث يقول: «جنّتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن»[8]. فهذا الحديث كما نرى تفصيل للفظ مجمل أو هو بعبارة الأصوليين تخصيص لما جاء من عموم في لفظ الجنّتين، إذ الجنّة في العموم البستان حين تكثر أشجاره فيخفي عن الأنظار من كان بها، وليس هذا هو المراد من الجنتين المذكورتين لأنّ كلّ ما فيهما إنما هو من ذهب أو من فضة، وبالتالي فالله لم يعد المؤمنين ببستانين كما هو مفهوم من اللفظ، بل وعدهم بجنتين واحدة من فضة وأخرى من ذهب كما عموم هو واضح من تفسير النبي وما فيه من تخصيص للعموم.

ولا يبتعد ما جاء في تفسير سورة الواقعة عن هذا السياق، فقد روى البخاري في تفسير الظل الممدود (الآية (30) أن النبي قال «إنّ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم وظل ممدود»[9].  في هذا الحديث كما نرى تفسير لا هو من باب الشرح اللغوي ولا هو من باب تخصيص العموم ولا هو من باب تعميم الخصوص لأنه تفسير يقوم على التضخيم، إذ عمد النبي إلى تضخيم الظل المعروف فجعله في الحديث ظلا يمتد على مسيرة مائة عام.

ومن هذين المثالين لنا أن نقول إنّ النبي في كتاب التفسير من صحيح البخاري مرجع في التفسير كلّما كانت اللغة القرآنية مطية لتخيل العالم الأخروي، بخلاف الصحابة والتابعين فهم مراجع في التفسير كلما كانت المفردات في تلك اللغة مستعملة على وجوه عدة. وبعبارة أوضح، يستدعي البخاري المرجعية النبوية لبناء معاني الألفاظ القرآنية المستعملة في وصف المعاد، ويستدعي مرجعية الصحابة والتابعين لبناء معاني الألفاظ المستعملة في وصف المعاش. مرجعيتان تتقاسمان الأدوار فتختص الأولى بمعرفة عالم الغيب وتختص الثانية بمعرفة عالم الشهادة.

  1. أدوات التفسير

يلتزم البخاري في تفسير كلّ سورة بخطة واحدة تقوم على مرحلتين متتاليتين: مرحلة أولى يهتمّ فيها بشرح ما في السورة من ألفاظ غامضة مستندًا في شرحه إما إلى الشائع من كلام العرب وإما إلى ما ذكره المفسرون الأوائل كمجاهد وابن عباس وعلي بن أبي طالب، وفي المرحلة الثانية يروي ما يتصل ببعض آيات القرآن من الأخبار، وهي في الغالب إما أخبار تروي المناسبة التي نزلت فيها هذه الآية أو تلك، وإما أخبار تنقل ما قاله النبي أو بعض صحابته في تلك الآيات. ومن هذه الخطة المنهجية التي اتبعها البخاري في كتاب التفسير، نقف على أداتين رئيسيتين في التفسير وهما اللغة والأخبار.

  • اللغة

للشرح اللغوي في تفسير البخاري طرائق متعددة، فهو إما شرح معجمي يتناول الألفاظ المفردة ويقوم على ضبط المراد من اللفظ المفرد بذكر ما يرادفه من الألفاظ، وإما هو شرح صرفي يتناول أحوال اللفظ في بنيات مختلفة وما ينجر عن ذلك من غموض في المعنى، أو هو شرح دلالي يتناول ما وضع له اللفظ في الأصل، أو هو شرح بلاغي يتناول معاني الألفاظ المركبة وما يطرأ عليها من الغموض بسبب الحذف والإضمار وما جانس ذلك من الأساليب.

ومن الأمثلة على شرح الألفاظ المفردة بذكر مرادفاتها ومعانيها في لغة العرب تفسير “العصف” في سورة الرحمن بورق الحنطة والتبن وأوّل ما يكون من النبات وبقل الزرع إذا قطع منه شيء قبل أن يدرك. ومن الأمثلة على الشرح الصرفي تفسير لفظ الصلصال في السورة نفسها بقوله: «يريدون به صلّ كما يقال صرّ الباب عند الإغلاق وصرصر مثل كبكبته يعني كببته»[10]. ومن شأن هذا التفسير أن يزيل ما لحق اللفظ من غموض من جهة بنيته الصرفية بخلاف ما لحق اللفظ من غموض من جهة الترادف، أي أن يكون اللفظ الواحد قد وضع لأكثر من معنى كلفظ العصف مثلا. ومن الأمثلة على الشرح الدلالي قوله في تفسير الأكواب والأباريق في سورة الواقعة: «والكوب لا آذان له ولا عروة، والأباريق ذوات الآذان والعرى»[11]. ومن هذا النوع أيضًا تفسير الروح بالجنة والرخاء، وتفسير الريحان بالرزق. أما الشرح البلاغي فمن أمثلته البارزة تفسير الآية91 من سورة الواقعة وهي قوله تعالى: ﴿فَسَلَامُ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) إذ جاء في تفسيرها »فسلام لك أي مُسَلَّم لك إنك من أصحاب اليمين، وأُلغيت إنّ وهو معناها كما تقول أنت مصدَّق مسافر عن قليل إذا كان قد قال إنّي مسافر عن قليل. وقد يكون كالدعاء له كقولك فسقيا من الرجال إن رفعت السلام فهو من الدعاء».

يبدو البخاري من خلال هذا الشاهد تحديدًا أنه اجتاز المراحل الأولى في التفسير اللغوي، معجميًا كان أو دلاليا أو صرفيًا، إلى مرحلة لا يبحث فيها عن المعنى المراد فحسب، بل يبحث فوق ذلك عن مسوغاته المنطقية. ولا أدل على ذلك من تجاوز بنية الجملة السطحية في الآية المذكورة للوصول إلى بنيتها العميقة، حيث نعثر في قاع الجملة على الناسخ الحرفي إنّ يتصدر قوله (مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ)، وهنا تحديدًا تكون الآية مركبة من جملتين، جملة دعاء في قوله »فسلام لك» وجملة خبرية حذف منها ضمير الخطاب والناسخ الذي دخل عليه فلم يبق منها غير الخبر وهو قوله: (مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ). لقد احتاجت العبارة القرآنية إلى هذا النوع من التفسير ليزول عنها الغموض الناشئ من تتالي الجملتين الدعائية والخبرية وما لحق ذلك من الحذف، حتى ظن البعض أنّ أصحاب اليمين يلقون السلام على النبي والحال أن الكلام يفيد تهنئة المخاطب بالفوز وإعلامًا به[12].

  • الأخبار

يتعلق التفسير اللغوي بما في ألفاظ القرآن، مفردة أو مركبة، من غموض يستدعي بيانًا. وهو تفسير يأتي دائمًا في أول القسم، وقد لا يعقبه شيء كما هو الحال في تفسير سورتي الحديد والمجادلة. توقف البخاري في تفسيرهما عند شرح مفردات قليلة[13]. ولئن كان هذا التفسير، المروي عن بعض المفسرين من الصحابة والتابعين أو المستوحى من أحكام العربية وعادات أهلها، تفسيرًا يقصد إلى إزالة الغموض عن معاني الألفاظ المفردة أو المركبة، فالتفسير بالأخبار المنقولة عن النبي وأصحابه وتابعيهم لا يتعلق بمعاني الألفاظ القرآنية بقدر ما يتعلق بالمناسبات التي نزلت فيها بعض الآيات (أسباب النزول)، أو بما جد في شأنها بعد غياب النبي من خلاف حول ما فيها من أحكام أو بما تعلّق بها من الحديث النبوي. وتشكّل جملة هذه الأخبار ما يمكن أن نسميه نصًا موازيًا للقرآن ولد بمولده وظل ينمو بعد أن توقف الوحي بغياب النبي، وهو نص يتضمّن كمًا لا بأس به من المعارف التاريخية والفقهية والكلامية التي تكوّنت حول النص القرآني. وقد عمد البخاري إلى تدوينها في تفسيره لتكون أداة في يد المفسرين يستعينون بها على فهم القرآن تمامًا كما جمع لهم قبل ذلك كما من المعارف اللغوية المساعدة على فهم اللغة القرآنية. وفيما يلي نعرض أمثلة من هذه الأخبار لنبين مضامينها وما أدّته من وظائف.

روى البخاري في تفسير الآية الثامنة من سورة النور (وَيَدْرؤا عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَدَاتِ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَذِبِينَ) الملابسات التي حفت بنزول هذه الآية وما جاء قبلها (الآيتان السادسة والسابعة من سورة النور)، فقد جاء النبي رجل يستفتيه في أمر زوجة له وجد عليها رجلًا أيقتلها فيحق عليه القتل أم يتركها وهي زانية وله خائنة؟ فأمره النبي بأن يأتي بالبينة وهي أربعة شهود فإن لم يأتِ بها أقام عليه الحد وهو أن يُجلد ثمانين جلدة وأن لا تقبل منه شهادة أبدا، فطلب الرجل من النبي أن ينزل الله آية تضمن للزوج حقه إن لم يكن له شاهد غير نفسه، فنزل جبريل بهذه الآية فقرأها النبيّ وأرسل إلى الزوجة فجاءت ودعاها أن تشهد أربع شهادات بالله إنّ زوجها من الكاذبين، وأن تشهد في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان هو من الصادقين، فشهدت المتهمة الشهادات الأربع الأولى فلما جاءت إلى الخامسة تلكأت ونكصت، فعلم النبيّ ومن معه أنّها زانية ولكنه لم يقم عليها الحد وأرجأ الأمر حتى تضع مولودها فلما وضعت تبين له صدق زوجها في ما اتهمه بها ولكنّه التزم بما نزل في أمرها من القرآن فلم يقم عليها حد الجلد واكتفى بأن يتلاعنا ثم فرق بينهما .

في هذا الخبر كما نرى معلومات تاريخية تدقق السياق الذي نزلت فيه آيات الملاعنة، ومن شأن هذه المعلومات أن تفيد الفقهاء والقضاة ليحكموا في قضيّة زنى لا شهود فيها إلا المدعي نفسه بخلاف الحكم المنصوص عليه إذا جاء المدعي بالبينة وهي أربعة شهود. وبغض النظر عما في الخبر من اختلاف في اسم الرجل الذي رفع هذه الدعوى إلى النبي، إن كان هلالا بن أمية في الخبر المتعلق بالآية الثامنة أو كان عويمرًا في الخبر المتعلق بالآية السادسة أو كان رجلًا آخر كما في الخبر المتعلق بالآية التاسعة، فمن الواضح أن جميع هذه الأخبار وما فيها من إضاءات تاريخية تنفع الفقهاء والقضاة لما فيها من تمييز بين النوازل المتشابهة، إذ ليس الحكم في الزني واحدًا ويختلف باختلاف الأحوال والحيثيات، وأن يكون لمن ادعى الزنى على قرينه أربعة شهود هو غير أن لا يكون له شاهد سوى نفسه، ويبطل بالتالي حكم الجلد ثمانين جلدة.

وفي التعقيب على الآيتين الرابعة والخمسين والخامسة والخمسين من سورة الأحزاب، يروي البخاري حديثًًا عن عائشة فيه خبر عن رجل يُدعى «أفلح» وكيف استأذنها في الدخول عليها فلم تأذن له، وكانت تأذن لأخيه أبي القعيس لأن زوجته أم لها بالرضاعة، واستشارت النبي في أمره فدعاها أن تأذن له لأنه في منزلة عمها، وكيف استفادت عائشة من ذلك قاعدة فقهيّة وهي «حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب». قاعدة فقهية تضمنها الخبر المروي عن عائشة تعقيبًا على آية تسمح للمرأة أن تأذن للأب والابن والأخ وابن الأخ أو الأخت بالدخول عليها، وهؤلاء كلهم من المحارم، ولكن الآية لم تتضمن إشارة إلى من كان أخًا أو أبًا أو عمًّا من الرضاعة، فجاء الخبر ليعمم الحكم فيشمل الرضاعة كما شمل النسب. وبالتالي يأتي الحديث وما فيه من الخبر ليوسع دائرة الحكم الشرعي ويتجاوز ما نصت عليه الآية. قد نتعامل مع هذه الآية على أنها نص صريح يحرم على المرأة أن تأذن بالدخول عليها لمن لم يشمله النص وهذا ما قامت به عائشة وتصرّفت على أساسه فلم تأذن لأفلح لأنه لم يكن بمنزلة الأب أو الأخ، ولكنّ النبي قاس أفلح على العم وهو من المحارم ولم يرد له ذكر في الآية، فتبين من ذلك أن الآية تشير إلى المحارم عمومًا وإن لم تنصّ عليهم جميعًا. ولهذا النوع من الأخبار دور مهم في بيان المعنى، إذ به علمنا أن ألفاظ الأب والابن والأخ وابن الأخ أو الأخت من الخاص الذي يراد به العام، إذ يدخل في معنى الأب زوج المرضعة، ويدخل في معاني الأب والابن والأخ كل المحارم أي العم والخال والجدّ، وإذا شملت ألفاظ النسب معنى التحريم قاسوا عليها ما كان في منزلتها من ألفاظ الرضاع.

وفي تفسير سورة غافر (يسمّيها البخاري سورة المؤمن) خبر عن العلاء بن زياد وكيف كان إذا جلس يعظ الناس جعل يذكرهم بالنار وعذابها، فجاءه رجل وقال له أراك تقنط الناس في رحمة الله. فقال العلاء: كيف أقنط الناس والله يقول (قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 53] ويقول: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر: 43] ثمّ قال «ولكنكم تحبّون أن تُبشروا بالجنة على مساوئ أعمالكم وإنّما بعث الله محمدًا مبشّرًا بالجنة لمن أطاعه ومنذرًا بالنار لمن عصاه». في هذا الخبر كما نرى إحالة على سياقات تداول القرآن بين الناس، فمنهم من يكتفي بتداول ما يستبشر به من آيات كهذا الذي جاء يحتج على العلاء بن زياد في مجلس وعظه، ومنهم من يكتفي بتداول ما في القرآن من آيات الترهيب كما كان يفعل العلاء إذا جلس يعظ، وبنقل الخبر وما فيه من جدل بين الرجلين يضع البخاري مستخدمي القرآن أمام حقيقة لا سبيل للقفز عليها، وهي أنّ القرآن كتاب فيه من التبشير بقدر ما فيه من الإنذار، وأن النبي كان مبشّرًا ونذيرًا في الوقت نفسه، ومن أخذ بهذا دون ذاك فقد أساء الاستخدام. في الخبر إذن تنبيه إلى ما ينجرّ عن استخدام القرآن في السياق التداولي من غفلة عن جوامع أغراضه ومعانيه، وهو تنبيه مهم من شأنه أن يمنع استخدام بعض القرآن دون بعضه الآخر لأغراض كلاميّة أو سياسيّة أو أخلاقيّة. وهو إلى جانب ذلك خبر يضع المفسّرين فى مواجهة نص حي يتجاوز حدود المصحف ليحل في مقامات وسياقات متنوّعة تتفاوت في بيان معانيه كما تتباين في كيفية استخدامها لتلك المعاني وفي المقاصد منها.

وفي تفسير سورة فصلت خبر عن ابن عباس إذ جاءه من يسأل عن آيات اختلفت عليه لما بينها من تناقض، كما يظهر ذلك قوله تعالى ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) [المؤمنون: 101] وقوله ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [الصافات: 27]، فربط ابن عباس انتفاء السؤال بين الناس في الآية الأولى بمقام النفخة الأولى، وربط إقبال الناس بعضهم على بعض بالسؤال بالنفخة الثانية، وأزال ما بين الآيتين من اختلاف. لم يتضمن الخبر كما نرى حلا لمشكلة الاختلاف بين الآيتين رغم ما فيه من تمييز بين لحظتين مختلفتين وهما لحظة النشور عند النفخة الأولى ولحظة الحساب عند النفخة الثانية، والظاهر من تفسيره أنّ الناس لا يملكون في اللحظة الأولى وعيًا بالانتماء إلى هذه الجماعة دون تلك، وهم في اللحظة الثانية يعون تمام الوعي إلى أي فريق ينتسبون، فقد علموا أنهم من أهل الجحيم فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون كما جاء في الآية 27 من الصافات، أو علموا أنهم من أهل النعيم فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون كما جاء في الآية 25 من سورة الطور، والآيتان بلفظ واحد في موقعين مختلفين ولكنّ آية الصافات تتعلق بالكافرين وتتعلّق آية الطور بالمؤمنين .

وفي الخبر نفسه ما يشير إلى وعي المفسرين الأوائل بما بين آيات القرآن المتناثرة في سور متباعدة من روابط لغوية ومنطقية، فقد تكون الآية بلفظ واحد في سورتين أو أكثر، ولكن هذا لا يوجب أنها بمعنى واحد فقد دلت آية ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) في سورة الصافات على الكفار يتلاومون، ودلّت في سورة الطور على المؤمنين يتذاكرون نعمة الله عليهم ويذكرون حالهم في الدنيا مقارنة بما هم فيه من النعيم في الآخرة. وفي الخبر أيضًا سؤال دقيق عن قصة خلق السماء والأرض، فقد جاء في سورة الشمس ما يفيد أن خلق السماء سابق على خلق الأرض، وجاء في سورة فصلت ما يفيد خلافه أي إن الله خلق الأرض ثم خلق السماء، ولكن التفسير يرفع هذا اللبس بالعودة إلى معنى الدحو في اللغة، فقد ذكر ابن عباس أن الله خلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء ثم سواهن سبع سماوات في يومين، ثم عاد إلى الأرض ليخرج منها الماء والمرعى وهذا معنى دحاها.

كتاب الفضائل

  1. في معنى الفضائل

يتألف كتاب الفضائل من عدّة أبواب يكاد كل باب منها ينفرد بموضوع لا صلة له بمواضيع الأبواب الأخرى، فمن حديث عن بدء الوحي وأول ما نزل منه، عن جمع القرآن وتأليفه وعن القراء، إلى حديث عن فضل القرآن على سائر الكلام وفضل بعض الآيات أو السور على بعضها الآخر، إلى حديث عن القرآن وكيف يُتلى وما يلحق من يتلوه من الغبطة والسكينة. رغم ذلك يمكن أن نصنف الأحاديث الواردة في هذا الكتاب إلى ثلاثة أصناف رئيسية: أحاديث تندرج ضمن ما بات يعرف بتاريخ القرآن، وهي التي تروي أخبارًا عن بدء الوحي وجمع القرآن وتأليفه. وأحاديث تكشف عما في القرآن من آيات وسور بعينها لها منازل خاصة في قلب النبي وفي تجربته الروحية. وأحاديث ثالثة ترسم للمؤمنين نظامًا تأديبيًا يلزمهم بالتعامل مع القرآن على نحو خاص تلاوة واستماعًا وتعليمًا.

وبهذا ينكشف المراد من «فضائل القرآن»، إذ ليس فضله فيما فاق به سائر الكلام فحسب كما فهم ذلك البلاغيون خصوصًا[14]، وليس فضله فيما له من أثر في الأبدان والنفوس كما فهم ذلك الكثير من المتأخرين حين جعلوا من كلماته شفاء لمن به صرع ومفتاحًا لمن طلب رزقًا أو متاعًا فسُدت في وجهه أبواب الدنيا[15]،  ولكن فضله فيما حازه من عناية المؤمنين به حفظًا، وجمعًا، وتدوينًا، وتعليمًا. وحين يلتفت البخاري ونقلة الحديث عمومًا إلى ما حظي به القرآن من عناية فائقة يكون قد التفت إلى خطاب أخذ مجراه في حياة الجماعة الروحية والفكرية وبات له تأثير صريح فيها. ويترتب على هذه المقاربة تناول مختلف للخطاب القرآني، فهذه الأخبار التي تميط اللثام عما حفّ بالقرآن ورافقه من ممارسات اجتماعية ستكون حتمًا مدخلا مفيدا لفهم فائض القيمة التاريخي الذي اكتسبه الخطاب القرآني حين تجاوز حدود اللغة واحتل صميم الوجود الديني والاجتماعي كما سنبين ذلك في الفقرات التالية.

  1. تاريخ القرآن

خصص البخاري عدة أبواب تتعلّق بما يُعرف في الدراسات القرآنية بتاريخ القرآن، وقد شكلت هذه الأخبار وما كان في معناها مادة تاريخية وظفها المستشرقون ومن تابعهم لبناء السياق التاريخي الذي يتنزل فيه القرآن. ولئن كانت الدراسات القرآنية تهدف من وراء ذلك إلى بناء وعي تاريخي بالقرآن فقد كان المحدثون وعموم الإخباريين يرمون إلى غاية أخرى لا صلة لها بمثل هذا الوعي التاريخي لأنّ هدفهم الأسمى من ذلك هو الكشف عما حظي به القرآن من عناية بشرية فضلا عن العناية الربانية به.

وقد أحاطت هذه الأخبار بالقرآن من جوانب عدة، فبينت المدة التي ظل القرآن يتنزّل فيها على النبي وهي عشرون سنة، عشر سنوات منها في مكة ومثلها في المدينة (الحديث 4979)، وأن الوحي ظلّ يتنزل على النبي حتى وفاته، وأنّ أكثر الوحي كان في أواخر حياته (الحديث 4982)، وأنّ الوحي قد انقطع عن النبي ليلة أو ليلتين ثم تتابع نزوله بعد ذلك فلم ينقطع عليه حتّى توفّي. ومن الأخبار ما يشير إلى اقتران الوحي بمشاغل الناس وهواجسهم اليومية، فإذا جاء من يسأل النبي حكمًا فيما عرض له من حوادث ولم يكن للنبي علم بما طلب منه نزل الوحي استجابة لذلك الطلب (الأحاديث 4985، 4990، 4992). ومن الأخبار ما يتضمّن معلومات تاريخية عن جمع القرآن في حياة النبي وبعد وفاته، والأسباب التي دعت المسلمين إلى ذلك، وما لقيه زيد بن ثابت من العناء في جمعه وتدوينه في المصاحف بسبب الاختلاف بين القرّاء في اللغات والحروف أو في متون السور التي يحفظونها (الأحاديث ،4984، 4987، 4988)، وما نتج من ذلك من ارتباك نجح زيد بن ثابت ومن معه في تجاوزه لما كان له من قدرة على الحفظ والتذكّر والمقارنة بين الروايات والمخطوطات.

في كل هذه الأخبار كما نرى ما يساعد على تبين السياقات التي تشكل فيها القرآن، من ذلك أنّ نص الوحي في غالب الأحيان استجابة مباشرة لما يطرأ على المؤمنين من حوادث فيكون جوابًا لمستفسر أو ردا على مُنكِر أو تثبيتًا لمذهب نطق به أحد الصحابة، وما يُفهم من ذلك باختصار هو أنّ القرآن نصّ تفاعلى تشكل على امتداد عشرين سنة وانخرط في مجريات الواقع وعمل على التحكم فيها ليُنتج عالمًا بديلًا، ولعل فيما روته عائشة عن تأليف القرآن ما يؤكد هذا المعنى، إذ كانت سوره الأولى في ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام.

هذا من جهة الأغراض والمضامين، أما من جهة اللفظ فهو نص على سبعة أحرف تختلف باختلاف اللغات، ولئن حرص زيد بن ثابت على تدوينه بلغة قريش كلما وجد اختلافًا بينه وبين مساعديه امتثالا لأمر عثمان، فقد ظل هذا النص في نظر المحدّثين على سبعة أحرف، والحرف في علم القراءات ما وقع الاختلاف فيه بين القرّاء من كَلِم القرآن سواء كان اسمًا أو فعلا أو حرفًا. ولكن الحديث 4992 المروي عن عمر بن الخطاب وقصته مع هشام بن حكيم لما سمعه يقرأ سورة الفرقان “على حروف كثيرة”، لا يفيد ما ذهب إليه المحققون في علم القراءات، ففي هذا الحديث ما يشير صراحة إلى سورة بأكملها يقرؤها هشام “على حروف كثيرة” ويقرؤها عمر على نحو مختلف، فإذا اختصما وتحاكما إلى النبي قال النبي لهشام بعد الاستماع إليه «كذلك أنزلت» ثم قال لعمر بعد أن سمعه «كذلك أنزلت» وختم بقوله: «إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه». وإذا ربطنا هذا الحديث بالحديث 4991 حيث يقول النبي: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» تبيّن لنا معنى آخر غير المعنى الشائع في علم القراءات، فالحروف عندهم ألفاظ القرآن يختلف الناس في النطق بها بالزيادة والنقصان والتخفيف والإمالة والإثبات والإهمال والضمة والفتحة والكسرة والسكون، ولكنّ قوله: «اقرؤوا ما تيسر منه» وقوله قبل ذلك «لم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» يفهم منهما أن الحرف هو الغرض أو الموضوع (Theme) بدليل الاستزادة والزيادة في الحديث 4991، وقراءة ما تيسر من القرآن وهو على سبعة أحرف في الحديث 4992. في هذين الحديثين – كما نرى إشارة – إلى زيادة وتيسير، زيادة في أحرف القرآن يطلبها النبي من جبريل فيستجيب له، وتيسير على القارئ فيكتفي من القرآن بما تيسر له. وهذا يعني أن عمر سمع هشامًا يقرأ من سورة الفرقان آيات كثيرة لم يتيسر له أن يحفظها أو يسمعها من النبيّ، وأنّ السورة «أنزلت كذلك» في مناسبتين مختلفتين، فنزل منها جزء علمه عمر وحفظه ثم نزلت أجزاء أخرى لم يكن له بها علم حتى سمع هشامًا يصلي بها. ومما يعزّز هذا الرأي أن الكثير من علماء المسلمين القدامى كانوا يحملون لفظ الحرف في عبارة «على سبعة أحرف» في الحديث 4992 على معنى الغرض، ومن هؤلاء مثلا أبو بكر الباقلاني حين تحدّث عما في القرآن من أغراض وهي القصص والمواعظ والاحتجاج والحكم والأحكام والإعذار والإنذار والوعد والوعيد والتبشير، والتخويف، والأوصاف، والتعليم. كل هذا لا ينفي في واقع الأمر حقيقة الاختلاف بين القراء في النطق ببعض الكلمات، ولكنّه اختلاف يظلّ ثانويًا، ولا يشكل خطرًا على الفهم والتأويل،

المفاضلة بين آيات القرآن وسوره

للمفاضلة في هذا السياق معنيان: الأوّل تكون بمعنى القيمة الدلالية، وهذا يعني أن في القرآن ذرى دلالية ومنابع للمعنى. وقد أورد البخاري في هذا الباب بضعة أحاديث فيها تنصيص على ما في بعض الآيات والسور من فضل على غيرها، من ذلك أن سورة الفاتحة وحدها بمنزلة القرآن العظيم كلّه (الحديث 5006) وأن من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كان ذلك كافيًا (الحديث 5008)، وأنّ سورة الإخلاص وحدها تعدل ثلث القرآن (الأحاديث، 5013، 5014، 5015). إنّ هذه الأحاديث تمثل في تقديرنا خارطة لقراءة القرآن وتدبّر معانيه، فالفاتحة أم الكتاب وهي القرآن العظيم أي إنّها كلام تجتمع فيه كل أغراض القرآن، والإخلاص على قصرها سورة تعدل ثلث القرآن في إشارة إلى أن غرض التوحيد وما يتفرّع منه من نفي للشرك والتجسيم يساوي ثلث ما جاء في القرآن من أغراض، وآخر آيتين من البقرة في ليلة تكفيان للإحاطة بما أمر به القرآن ونهى عنه وهو الإيمان بما أنزل الله على رسوله والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والاجتهاد في إتيان الخير واجتناب الشر قدر المستطاع والإقرار بالعبودية لله وطلب العفو والمغفرة منه في كل حين.

أما المعنى الثانى للمفاضلة فيبتعد بنا عن أغراض القرآن ومعانيه ويخرجنا من بنيته الدلاليّة إلى وظائفه الوجودية، فآية الكرسي من سورة البقرة مثلا تحمي من قرأها ليلا وتحفظه من شر الشياطين حتى مطلع الفجر (الحديث 5010)، وسورة الفاتحة رُقْية لمن أصابه أذى، تبعد عن الجسم ما به من علة (الحديث (5007)، والمعوذتان تنفعان مَن كان بجسمه سقم إذا قرأهما ونفث في كفيه ومسح جسمه بهما. وإذا كانت الأحاديث الأولى تعيّن المواقع الأغزر دلالة والأكثف معنى في القرآن، فهذا الصنف من الأحاديث يمنح بعض آيات القرآن وظائف وجودية غير الوظيفة التعبدية أو الوظيفة التأملية. وحين يستعمل الناس القرآن لحفظ أجسادهم من العلل ولحفظ نفوسهم من الشياطين يكون القرآن قد كف عن كونه مجرد كتاب يستلهم منه الناس الحِكم والمواعظ والأحكام والحجج لأنه بات يستعمل فيما بعد المعرفة والعلم أي في الوجود الخاص، وجود الروح والجسد على السواء، وهو حصن لهذا الوجود من العدم الذي يهدده باستمرار.

قد يكون هذا التوظيف مدخلا للحديث عما تسرب إلى الإسلام من اعتقادات قديمة لها صلة بالسحر، ولكنه في تقديرنا العلامة الأبرز على أن النبي ومن معه كانوا يستعملون القرآن استعمالًا دينيًا، فكانوا به يتعبدون وبه يحصّنون وجودهم ومنه يستمدون الشجاعة لمواجهة ما يحلّ بهم من الآفات والكوارث، وهذا يعني أنهم لم يفهموا القرآن في حدود ما يوجبه العقل فقط بل في حدود ما يوجبه الوجود ببعديه الخاص والمشترك، ولهذا كانوا يعتقدون أن للقرآن نورًا لا بالمعنى المجازي فحسب بل بالمعنى الحقيقي أيضًا، هو للعقل نور به يستضيء لمعرفة الحق من الباطل والخير من الشرّ، وهو إلى ذلك سبب فى نزول الملائكة من السماء إلى الأرض ليغمروها بالسكينة إذ كان أحدهم فى ليلة يتلو سورة البقرة فرفع رأسه فرأى فى السماء مثل الظلّة فيها أمثال المصابيح فكف عن القراءة وجاء النبى مستفسرا فقال له «تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم» (الحديث 5018). هنا يكتسب القرآن معنى آخر ووظيفة أخرى إذ لم يعد كتابًا يرسم للناس حدود الخير من الشر وحدود الحق من الباطل وحدود الحلال من الحرام فقط، بل هو فوق ذلك سلاح في يد المؤمنين به أفرادا أو جماعات يحميهم مما يهدّد وجودهم الروحي والمادي، وبهذا ينكشف البعد الأصلي للقرآن باعتباره نصًا دينيًا قبل أن يكون نصًا تشريعيًا، أو أخلاقيًا، أو أدبيًا، أو تاريخيًا.

  1. فضل القرآن على قارئه

تندرج تحت هذا الصنف طائفة من الأحاديث تتعلق في مجملها بمن يقرأ القرآن ويُقرئه لغيره، ويعرض البخاري من خلالها إلى ما يجب على القارئ والمقرئ التزامه من الآداب لتكون قراءته محمودة سواء تعلق الأمر بالقارئ نفسه أو بمن جلس إليه ليسمع ما يُتلى عليه من القرآن. وقد كانت هذه الأحاديث في جملتها مقدمة لنشأة ما بات يعرف بآداب التلاوة وما فيها من قواعد فنّية اجتهد المقرئون في بلورتها على مر التاريخ. وما يعنينا من هذه الأحاديث تحديدًا ما تتضمنه من شروط إذا ما التزم بها قارئ القرآن واستوفاها تهيأت له ولمن حوله من السامعين أحوال العبادة، فالقرآن بهذه الشروط كلام يتعبد به الناس ربّهم ولابد للتعبّد من طقوس تظهر خصوصًا في أزمان القراءة وكيفياتها وما يرافقها من مشاعر وأحاسيس.

أما زمن القراءة فقد أشار إليه الحديثان 5025 و5026 بلفظين متشابهين، إذ جاء في الحديث الأوّل قوله: «لا حسد إلا على اثنتين رجل أتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالا فهو يتصدق به آناء الليل والنهار» وجاء في الحديث الثاني قوله: «لا حسد الا على اثنتين رجل علّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار.. ورجل آتاه الله مالًا فهو يُهلكه فى الحق» والظاهر من النصّين أن زمن القراءة يكون ليلا كما يكون نهارًا دون مفاضلة بينهما، ولكن هذا لا ينفي الفرق بين قراءة الليل وقراءة النهار، فقد عبّر الحديث الأوّل عن القراءة بالقيام وهذا يعني أن قراءة الليل فعل تعبدي آخر وهو الصلاة وهذا هو معنى أن يقوم المؤمن الليل، أما الحديث الثاني فعبر عن القراءة بالتلاوة وهي الجهر بالقراءة خارج أوقات الصلاة سواء كان ذلك ليلا أو نهارًا. وبهذا نميز بين قراءة في سياق القيام وقراءة في سياق التلاوة، فالأولى شرط من شروط الصلاة فرضًا أو نافلة، والثانية عمل تعبدي مستقل بذاته يكون ليلا كما يكون نهارًا، وهذا هو المقصود أصلا من الحثّ على قراءة القرآن أي على تلاوته بصوت مسموع. وإذا كان النبي قد رغّب في ذلك فهذا يعني أنه دعا أتباعه إلى تلاوة القرآن آناء الليل والنهار خارج الصلاة فتكون التلاوة في ذاتها عملًا تعبديًا.

ولهذه التلاوة كيفيات إذ لابد أن تكون تغنّيًا كما جاء في الحديثين 5023 و5024 ولئن فُسّر لفظ التغنّي تارة بالجهر وتارة بالاستغناء، فالأرجح أن يكون المقصود من لفظ التغني في قوله اما أذن الله لشيء «ما أذن للنبي أن يتغنّى بالقرآن» بدليل ما جاء في أحاديث أخرى من تفاصيل تثبت أن النبي كان يمد في قراءته مدًّا (الحديثان 5045 و5046)، وأنه كان يقرأ قراءة لينة وهو يرجّع (الحديث 5047)، وأنه قال لبعض أصحابه لما سمعه يقرأ القرآن بصوت حسن «لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود» (الحديث 5048). لابد فى التلاوة إذن من تغنّ أى من صوت حسن فيه مدّ وترجيع، وهذا يعني أن تكون التلاوة جهرًا ليسمع القارئ صوته ويُسمعه من حوله، والمستفاد من ذلك كله أن التلاوة طقس تعبدي جماعي يقوم أساسًا على الإنشاد لما في الإنشاد من تلذذ، وإلا فماذا يعني النبي من قوله لعليّ بن أبي طالب «إني أشتهي أن أسمعه من غيري»؟ (الحديث 5055). شروط في التلاوة تنقل القرآن من كلام صامت بين دفتين إلى كلام حيّ يُتداول في المجالس ويقرع الأسماع آناء الليل وأطراف النهار، فينشأ عن ذلك كله جو احتفالي مفعم بالموسيقى يثير النفوس ويحرّك مشاعرها، وهذا هو معنى أن تكون التلاوة عملا تعبديا.

تعيد القراءة بهذا المعنى إلى الأذهان تلك اللحظة الدينية الأولى التي كان فيها القرآن كلامًا تتعبّد بتلاوته الجماعة. وليس هذا في تقديرنا سوى علامة ساطعة على أنّ القرآن كتاب للعبادة قبل أن يكون كتابًا للمعرفة، نقول هذا لأنّ التعبد يشترط في الكلام المتعبد به أن يكون موقّعا على نحو ما، وأنّ المعرفة تقتضي تدبّرًا للمعاني وهذا لا يكون في الأجواء الاحتفالية التي تصنعها التلاوة. ولئن توسع العلماء المسلمون في تدبّر معاني القرآن فقد أهملوا كون القرآن نصًا يُتعبد به فضاعت تلك اللحظة الدينيّة الأولى لأنّها لحظة تُعاش ولا توصف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منقول بتصرف من:
محمد الهادي الطاهري (2016). أضواء على النص القرآني. ط. 1. بيروت: مؤسسة الانتشار العربي. ص ص. 79 – 110.

** باحث متخصص في الحضارة الإسلامية القديمة.

[1]  تحقيق عبد الرؤوف سعد مكتبة الإيمان، المنصورة، 2003.

[2]  للمزيد من المعلومات حول هذه المسألة انظر: نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء بيروت، ط2، 1996، وانظر خصوصا الفصل الثاني (مفهوم المجاز) والفصل الثالث (المجاز والتأويل).

[3]  عاش البخاري في القرن الثالث للهجرة وفي هذا القرن مسلمون من كل جنس وأمة منهم الفرس والترك والزنوج والبربر، ومن قبله تنبه اللغويون إلى ما لحق العربية من لحن فأسرعوا إلى صيانة اللغة وبيان قوانينها وأحكامها.

[4]  راجع تفسير سورة الذاريات، ص: 1027.

[5]  راجع فضائل أصحاب النبي ضمن صحيح البخاري، ص ص: 761 – 786. والحقيقة أنّ عليا وابن عبّاس لا يزيدان قيمة عند البخاري عمن ذكرهم من الصحابة في هذا الكتاب، بل لعلهما أقلّ منزلة عنده من غيرهم مثل أبي بكر وعمر ابن الخطاب وعثمان ومصعب بن الزبير … وهذا يعني عندنا أن البخاري وأهل الحديث من ورائه يريدون أن يصنعوا من صحابة النبي كلهم مرجعية تنوب عنه إذا لم يجدوا له حديثا في نازلة من النوازل أو مسألة من المسائل.

[6]  راجع مادة (ذن ب) في المعاجم القديمة مثل لسان العرب والقاموس المحيط والصحاح.

[7]  انظر مثلا ما جاء في تفسير سورة ق أو سورة الرحمن، على أن ما روي عن النبي في تفسير الرحمن لا يزيد عن حديثين يتضمنان وصف الجنتين المذكورتين في السورة إجمالًا.

[8]  أنظر الحديثين 4878 و4879 ص ص: 1032 – 1033.

[9]  الحديث 4881، ص ص: 1033 – 1034.

[10]  راجع الصفحة 1032.

[11]  تفسير سورة الواقعة، ص: 1033.

[12]  يبتعد الفخر الرازي كثيرًا عن هذا التأويل فيرى الناسخ المحذوف في الآية متعلقا بضمير الغائب الجمع المذكر ليصبح الكلام في تأويله تسلية لقلب النبي كان الله يقول له سلام لك يا محمد منهم فإنهم في سلامة وعافية لا يهمك أمرهم …… ومرجع هذا الظن الاعتقاد في المخاطب في قوله سلام لك إنما هو النبي رغم أن السياق لا يسمح بمثل هذا الاعتقاد لأن النبي في درجة أعلى من درجة أصحاب اليمين، والأرجح أن المخاطب هنا عام أريد به العام كأن الله يخاطب عموم المؤمنين ويهتتهم بالسلامة والفوز بالجنة راجع تفاصيل ذلك في : فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب التفسير الكبير ، دار إحياء التراث العربي، ط 4، 2001. المجلد 10، ص ص: 438 – 439.

[13]  انظر الصفحة: 1034

[14]  انظر الفصل الثالث من هذا الكتاب.

[15]  لأبي محمد عبد الله بن أسعد بن علي اليمني الشافعي (توفي في 768 هـ) كتاب بعنوان «الدر النظيم في خواص القرآن العظيم» (دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2010)، جمع فيه أخبارًا تروي وجوها عدة لاستخدام القرآن في حياة الناس الخاصة. وستفرد لهذا الموضوع فصلا خاصا في هذا الكتاب نتناول فيه بالدرس الاستخدام الطلسمي للقرآن.

عن محمد الهادي الطاهري

شاهد أيضاً

نحو بناء علم التفسير

د. خليل محمود اليماني

إن وجود تراث تطبيقي متراكم من التفسير للنص القرآني يعني أوّل ما يعني أننا أمام ممارسة معرفية ممتدة، وكما هو الشأن في الممارسة العلمية فإن محصولها يظل في حالة من التراكم المستمر.

توظيف علم الدلالة المعجمي في حقل التفسير القرآني

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

العنوان: توظيف علم الدلالة المعجمي في حقل التفسير القرآني

المؤلف: عبد الرحمن طعمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.