علي عزت بيجوفيتش
الفيلسوف والقائد
أ. أحمد محمد علي*
علي عزت بيجوفيتش شخصية مُرَّكبة ومُلهِمة، فقد جمع بين الفكر العميق والرؤية الشاملة والإيمان القوي والقدرة على القيادة في أوقات الأزمات. كان مفكرًا إسلاميًا وفيلسوفًا، دافع عن الإسلام كإطار شامل للحياة، وكان يدعو الى التوازن بين الدين والحداثة، مع احترام التنوع الثقافي. وكان يرى الإسلام ليس فقط كدين، بل كطريقة حياة تحترم العقل والتقدم مع التمسك بالقيم الروحية. وُلد علي عزت بيجوفيتش في مدينة “بوسانا كروبا” شمال غرب البوسنة في 23 أغسطس 1925، ثم انتقلت به أسرته وهو في الثانية من عمره إلى “سراييفو”. نشأ في كنف أسرة كبيرة، إذ كان أصغر سبعة أبناء. عمل والده في التجارة، غير أن إصابته في الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى إصابته بالشلل حمّل أبناءه، ومنهم علي، مسؤولية إعالة الأسرة في سنٍّ مبكرة. أما والدته، فقد عُرفت بتقواها وحرصها على أداء العبادات، وكانت توقظ أبناءها لأداء صلاة الفجر، فغرست فيهم منذ الصغر روح الالتزام الديني والانضباط[1].
ومنذ سنوات شبابه الأولى، انخرط بيجوفيتش في العمل الفكري والديني، فقد أسس مع مجموعة من رفاقه جمعية حملت اسم “ملادي مسلماني” أي “الشبان المسلمون”، كانت تستهدف إحياء الوعي الديني بين الشباب. وسرعان ما توسعت أنشطة الجمعية لتشمل العمل الاجتماعي والخيري. وخلال الحرب العالمية الثانية أدّت الجمعية دورًا إنسانيًا بارزًا في إيواء اللاجئين ورعاية الأيتام والتخفيف من معاناة السكان. غير أنّ نشاطها لم يدم طويلًا؛ إذ اصطدمت عام 1943 بالاحتلال النازي ليوغوسلافيا الذي ضيّق عليها وحظر نشاطها[2].
التحق بيجوفيتش بكلية الحقوق في سراييفو ونال شهادته الجامعية عام 1950، ثم درجة الدكتوراه في القانون سنة 1961. كما حصل عام 1964 على شهادة عليا في الاقتصاد، وأتقن إلى جانب لغته الأم، البوسنية كلًا من الألمانية والفرنسية والإنجليزية، وكان ملمًا بالعربية. كما عمل مستشارًا قانونيًا. وتزوّج بيجوفيتش عام 1964وأنجب ثلاثة أبناء: ليلى، وسابينا، وبكر.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار النازية، تحوّلت يوغوسلافيا إلى اتحاد فيدرالي شيوعي بقيادة “جوزيف تيتو”، الذي اتسمت سياسته بالعداء الواضح للإسلام ومظاهره. ورغم هذه البيئة السياسية القمعية، استطاع بيجوفيتش توثيق صلته بالشيخ “حسين دوزو”، رئيس جمعية العلماء والمكلّف رسميًا بالإشراف على شؤون المسلمين، وهو ما أتاح له الكتابة في مجلة “تاكفين” التابعة للجمعية مستخدمًا اسمًا مستعارًا. وسرعان ما لاقت مقالاته صدى واسعًا وانتشارًا ملحوظًا بين مسلمي البوسنة، ما رسّخ حضوره الفكري والديني في تلك المرحلة الحساسة.
ومع انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1990، اضْطُر الحزب الشيوعي اليوغوسلافي إلى القبول بالتعددية السياسية. وفي خضم هذا التحوّل التاريخي، أسس بيجوفيتش حزب العمل الديمقراطي وتولى رئاسته في مايو من العام نفسه، لتتسع شعبيته سريعًا ويصبح أحد أبرز القوى السياسية في يوغوسلافيا، بعد أن فاز في الانتخابات في أربع جمهوريات. وفي نوفمبر 1990، انتُخب رئيسًا للبوسنة والهرسك، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 2000.
ومع إعلان كرواتيا وسلوفينيا استقلالهما عام 1991، ردّ الجيش اليوغوسلافي، الذي كان تحت هيمنة الصرب، بشن حرب شعواء عليهما. ومع تدخل الأوروبيين لاحتواء الموقف، أدرك بيجوفيتش أن اللحظة التاريخية قد حانت لانتزاع استقلال البوسنة، فدعا شعبه إلى المشاركة في استفتاء تقرير المصير، مؤكدًا أن زمن فرض القرار على البوسنة من الخارج قد انتهى. وفي عام 1992، صوّت أكثر من 60% من السكان لصالح الاستقلال، لكن هذه الخطوة فجّرت حربًا ضارية، إذ رفض الصرب والموالون للشيوعية النتائج وشنّوا حملة دموية ضد مسلمي البوسنة بمساندة متطوعين من أوروبا. وسرعان ما وجدت الدولة الوليدة نفسها بين نيران الصرب من جهة والكروات من جهة أخرى، فيما وقفت القوى الغربية والأمم المتحدة موقف المتفرج رغم اعترافها الرسمي بالدولة الجديدة. وعلى مدى سنوات الحرب، ارتُكبت مجازر مروّعة من تطهير عرقي واغتصاب ممنهج، راح ضحيتها أكثر من 190 ألف مسلم، وتعرّضت نحو 100 ألف امرأة مسلمة للاغتصاب، بينما اكتُشفت مئات المقابر الجماعية في الأعوام اللاحقة.
وحين تولى علي عزت بيجوفيتش قيادة الجمهورية الإسلامية الوليدة في أصعب المراحل وأقسى الظروف، لم يكن رئيسًا عاديًا كسائر القادة، بل كان رمزًا للصمود والعزيمة. حيث وقف مع شعبه المسلم في وجه الحصار الوحشي، ولم يغادر سراييفو رغم شدة القصف والمجازر، بل بقي بينهم يشاركهم المحنة ويقود مساعي إنقاذهم. ومع تصاعد جرائم القتل والاغتصاب والتعذيب، وجد نفسه مضطرًا للقبول بـ “اتفاق دايتون” عام 1995[3]، رغم ما فيه من إجحاف وظلم. ومع ذلك، كان الاتفاق السبيل الوحيد لوقف نزيف الدم وإنهاء الحرب الأهلية في يوغوسلافيا[4].
وقد وصف الكاتب والمفكر السعودي الدكتور “محمد حامد الأحمري” موقف بيجوفيتش من المفاوضات بقوله: كان قويًا مرنًا في آن واحد، مدركًا أن الغرب لن يسمح بقيام كيان إسلامي مستقل في قلب أوروبا. لذلك قبِل بالصلح، مؤمنًا أن “سلامًا جائرًا خير من حرب مدمرة”. وكان يعرف أن التشدد قد يقود إلى الهلاك، بينما التسوية – وإن كانت مجحفة – قد تحفظ ما تبقى من حياة وكرامة لشعبه.
نقد على عزت بيجوفيتش للنظام الليبرالي والعلمانية والمادية الغربية:
قام بيجوفيتش بنقد النظام الليبرالي الغربي نقدًا دقيقًا وشاملًا انطلاقًا من رؤيته الإيمانية والقيمية، فكان يرى أن النظام الليبرالي يعزز الفردية المطلقة ويُفقد الإنسان الاتصال بالقيم الروحية والأخلاقية. فقد انحرف الغرب عن قيمه الأساسية مثل العدالة والمساواة لصالح المادية والأنانية. وعلى الرغم من ذلك لم يعارض بيجوفيتش العقلانية الغربية بالكامل، بل كان يسعى الى تكاملها مع القيم الإسلامية. فكان يرى أن الإسلام، عبر تراثه الطويل من الفلسفة والعلم، ليس دينًا يناقض العقل، فقام بيجوفيتش بإبراز إمكانية التفاعل الإيجابي مع العقلانية الغربية دون التخلي عن القيم الروحية.
كما انتقد بيجوفيتش العلمانية الغربية التي رأى أنها ليست مجرد فصل بين الدين والدولة، بل كانت محاولة لإقصاء الدين عن الحياة العامة تمامًا، مما يؤدي الى إفراغ الحياة من أخلاقها وروحانيتها. وكان بيجوفيتش يرى أن الغرب يتعامل مع شعوب العالم الثالث، بما في ذلك الدول الإسلامية، بنظرة استعمارية متعالية، حيث يسعى لفرض ثقافته وأيديولوجيته على الآخرين، بما يراه بيجوفيتش “استعمارًا ثقافيًا” يتم تفعيله من خلال وسائل الإعلام والتعليم والسياسة، وذلك بهدف جعل الثقافة الغربية هي المعيار العالمي متجاهلًا تنوع الثقافات. وقد عارض بيجوفيتش أطروحة المفكر الأمريكي صمويل هتنتجتون في نظرية “صراع الحضارات”، وكان بيجوفيتش يؤمن أن الإسلام ليس خصمًا للحضارة الغربية، بل يمكن أن يقدم بديلًا حضاريًا قادرًا على التعايش مع الغرب. وكان بيجوفيتش يدعو الى حوار بين الحضارات يُعترف فيه بتعددية الثقافات وحق الشعوب في الحفاظ على هويتها.
كما كان بيجوفيتش يرى أن الثقافة الغربية تدور بشكل رئيسي حول الاستهلاك المادي، وهو ما يجعل الفرد يعيش في حالة من الفراغ الروحي، حيث لا يُنظر الى الإنسان إلا من خلال قدرته على الاستهلاك والإنتاج المادي، مما يجعل الفرد يسعى الى إثبات تميزه من خلال كسب مزيد من الأموال والشهرة والمكانة الاجتماعية في تجاهل شبه كامل لنموه الروحي والقيم الأخلاقية.
كما أكد بيجوفيتش على أن الغرب قد استغل الطبيعة والموارد الطبيعية بشكل مفرط في سعيه المستمر نحو التوسع الاقتصادي والتقدم التكنولوجي، وقد أدى هذا التوجه الذي إغفال الأسس الروحية والإنسانية مما أدى الى تدمير البيئة والبُعد عن التوازن الصحي بين الإنسان والطبيعة.
أفكاره وفلسفته
من ناحية أخرى قدّم علي عزّت بيجوفيتش نموذجًا فريدًا في الفكر الإسلامي المعاصر، جمع فيه بين عمق الفلسفة الغربية وأصالة المرجعية الإسلامية، فاستطاع أن يعالج قضايا الإنسان والمجتمع والدين برؤية شمولية متوازنة. ومن خلال كتاباته، سعى إلى إعادة بناء الوعي الإسلامي في مواجهة أزمات العصر الفكرية والأخلاقية، متناولًا موضوعات جوهرية تتعلق بطبيعة الإنسان وموقعه بين المادة والروح، وبالعلاقة بين الدين والحضارة، والثقافة والقانون. وقد تمتع بيجوفيتش بحس روحي عميق، فكان يعتقد أن الإسلام هو مصدر السعادة الحقيقية والحرية الداخلية، وكان يركز على تهذيب النفس وتنمية الفضائل الروحية مثل الصبر والصدق والتواضع.
وفي السطور التالية، سنعرض أبرز ملامح رؤيته الفكرية، كما تتجلى في تصوره لأزمة الأخلاق، وتفسيره لثنائية الطبيعة البشرية، وتحليله الجدلي للعلاقة بين الدين والثورة، فضلًا عن رؤيته العميقة لمفهومي الثقافة والحضارة، وموقفه من الثورة والقانون بوصفهما ركيزتين لتنظيم حياة الإنسان وصيانة كرامته.
- أولًا: تصور علي عزت بيجوفيتش لأزمة الأخلاق:
يُحلّل علي عزّت بيجوفيتش جوهر أزمة العصر الحديث من زاوية أخلاقية، إذ يرى أن الغرب في مسيرته نحو الحداثة قد وقع في فخ التركيز على الماديات والشئون الحسية على حساب الروح والقيم الإنسانية العميقة، مما جعل القوانين والنظم الوضعية عاجزة عن مواجهة مظاهر الانحلال والظلم المتفشية. واعتقد أن استعادة التوازن لا يمكن أن تتحقق إلا بالعودة إلى الدين بوصفه المنبع الأصيل للقيم الأخلاقية. وقد ميز بيجوفيتش بين نمطين من الأخلاق: أخلاق مادية تُبنى على المنفعة والقوة، وتقيس السلوك وفق مبدأ الفعل ورد الفعل دون الرجوع إلى قيم عليا. وأخلاق إنسانية متجذّرة في الإيمان بالله والمسؤولية تجاه الإنسان، وهي التي تضفي على الحياة معنى وغاية. ومن هذا المنطلق يؤكد أن أي مشروع حضاري لا يستند إلى منظومة أخلاقية دينية سيظل هشًّا ومحكومًا بالفراغ وفاقدًا للمعنى[5].
ورأى بيجوفيتش أن الرؤية المادية للأخلاق سواء في صورتها الوضعية أو المتأثرة بالداروينية الاجتماعية؛ تختزل القيم الإنسانية إلى مجرد انعكاس لقوانين الطبيعة، حيث تُقاس الأخلاق بمعايير القوة والمنفعة والبقاء للأصلح. وقد عبّر عن هذه النزعة عدد من المفكرين، وفي مقدمتهم “فريدريش نيتشه”، الذي جعل من “الرحمة ضعفًا” و “العنف قوة”. وفي ظل هذا المنظور، تتحول الأخلاق إلى مجرد وظيفة اجتماعية أو وسيلة نفعية للبقاء، منزوعة الصلة بالكرامة الإنسانية أو المرجعية المطلقة. ورأى بيجوفيتش أن هذا الانزلاق المادي يقود بالضرورة إلى مظاهر انحلال خطيرة، مثل انتشار الفن الإباحي، والاتجار بالبشر والأعضاء، وتحويل الإنسان إلى أداة لتحقيق مكاسب مادية.
ويقابل بيجوفيتش هذه الرؤية المادية بمنظور أخلاقي ديني يقوم على الإيمان بالله باعتباره الأساس الذي يمنح الإنسان حرية داخلية وكرامة تتجاوز حدود المنفعة الفردية. فالأخلاق الدينية، في نظره، لا تُختزل في سلوك اجتماعي، بل تعبّر عن التزام داخلي نابع من الإيمان بالمطلق. ومن دون هذا الإيمان، تغيب الضوابط الأصيلة التي تحفظ للإنسان إنسانيته، وتتحول القيم إلى أدوات قابلة للتلاعب وفق مصالح الأقوى[6].
ويُشير بيجوفيتش إلى أن محاولة تأسيس الأخلاق على العقل وحده تنطوي على مأزق جوهري؛ فالعقل بطبيعته قادر على إدراك العلاقات والعلل، لكنه عاجز عن تحديد القيمة الأخلاقية للأفعال أو تقرير ما إذا كانت خيرًا أو شرًا في ذاتها. ومن ثمّ، فإن أي بناء أخلاقي يستند إلى العقل المجرد ينتهي إلى وضع قواعد نفعية هدفها حفظ النظام العام، أو إلى إجراءات قانونية خارجية لا تفسر البواعث الداخلية ولا تمنح الأفعال قيمة أخلاقية أصيلة. وفي هذا السياق تصبح الأخلاق العقلانية شكلًا من “الأنانية المصلحية” أو “النفعية الاجتماعية” التي تُعنى بالمظهر والسلوك الخارجي أكثر من جوهر القيمة الأخلاقية.
في المقابل، يرى بيجوفيتش أن الأخلاق الحقيقية لا تُفهم إلا ضمن أفق إيماني يتجاوز الإنسان إلى المطلق؛ فالإيمان بالله واليوم الآخر هو ما يضفي على السلوك الإنساني معناه العميق. وهذا يضع الإنسان أمام خيارين لا ثالث لهما: إما منظومة أخلاقية خاوية من المعنى إذا جُرّدت من بُعدها الإيماني، وإما أخلاق راسخة ذات دلالة متجاوزة إذا تأسست على الإيمان بالجزاء الأخروي. وعليه، فإن الأساس الديني ليس مجرد عامل مكمّل، بل شرطٌ ضروري لاكتساب الفعل الأخلاقي قيمته الحقيقية ومعناه الأصيل، بعيدًا عن كونه عادة اجتماعية أو منفعة وقتية[7].
- ثانيًا: علي عزت بيجوفيتش وثنائية الطبيعة البشرية
يرى بيجوفيتش أن الإنسان كائن مزدوج الطبيعة، يجمع في آنٍ واحد بين البعد المادي الحيواني والبعد الروحي الأخلاقي، وأن هذا التناقض هو الذي يمنح الإنسان مكانته وكرامته وطاقته على الإبداع والاختيار. فالإنسان ليس مجرد مادة كما تزعم الفلسفات المادية، ولا روحًا خالصة كما تذهب التصوفات المثالية، بل هو كائن متوتر بين قطبين متعارضين يتعين عليه أن يحقق توازنه من خلال الإيمان والعمل الأخلاقي[8].
وقد بنى بيجوفيتش مشروعه الفكري حول نقد الاتجاهات الفكرية الغربية الحديثة، خاصة المادية والإلحادية التي اختزلت الإنسان في بعده الجسدي أو الاقتصادي، مما أدى إلى تدمير المعنى والروح في الحضارة. كما انتقد الاتجاهات الدينية الجامدة التي حولت الدين إلى طقوس خالية من الفاعلية الاجتماعية، مؤكدًا أن الإسلام يقدم رؤية متوازنة تجمع بين العقل والروح، بين العلم والإيمان، وبين الحرية والمسؤولية. ومن هنا يرى أن الإسلام ليس مجرد عقيدة، بل حضارة تقوم على توحيد الجوانب المتعددة في الإنسان والعالم.
وقد اعتبر بيجوفيتش هذه الثنائية مفتاحًا لفهم التاريخ والحضارة. فالحضارة – في رأيه – تنشأ من صراع الإنسان الداخلي بين جسده وروحه، بين حاجته إلى البقاء ورغبته في السمو. وأن الفن، والأخلاق، والدين، والعلم كلها مظاهر لمحاولات الإنسان التوفيق بين هذين البعدين. فحين تطغى المادية تنهار الروح، وحين يسود الزهد السلبي تضعف الحياة. ومن هنا دعا بيجوفيتش إلى “التكامل الإنساني” الذي يُعيد التوازن بين المادة والروح على أساس من الإيمان الفاعل.
وإجمالًا فإن فكر علي عزت بيجوفيتش يمثل نموذجًا فريدًا في الفلسفة الإسلامية المعاصرة لأنه يربط بين الفكر والعمل، وبين التأمل النظري والتجربة الحياتية. وبالتالي يُمكننا القول بأن رؤية بيجوفيتش تقدم مخرجًا إنسانيًا من أزمات الحداثة الغربية، لأنها تدعو إلى فهم شامل للإنسان باعتباره خليفة في الأرض ومخلوقًا للسماء في الوقت نفسه.
- ثالثا: جدلية الدين والتقدم والثورة والقانون في فلسفة علي عزت بيجوفيتش
تناول بيجوفيتش مفهوم “التقدم” من منظور نقدي، مبينًا أن التقدم المادي في الغرب لم يُحقق السعادة للإنسان، بل أدى إلى ازدياد اغترابه. فالحضارة الحديثة، رغم إنجازاتها التقنية والعلمية، حوّلت الإنسان إلى كائن آلي فاقد للمعنى، واستبدلت الأخلاق بالإنتاج والروح بالمادة، ما أفضى إلى انهيار القيم الروحية والروابط الإنسانية. ويستدل بيجوفيتش على ذلك بازدهار الفلسفات التشاؤمية والفنون العبثية في أكثر المجتمعات رفاهية، حيث فقد الإنسان إحساسه بالقداسة والغائية، وغرق في عبث الوجود وفراغ المعنى. وهكذا يصبح الفن مرآة تكشف زيف الحضارة الحديثة التي تُخفي خواءً داخليًا خلف بريقها المادي.
وفي قراءته الفلسفية، يربط بيجوفيتش بين العدمية والدين، موضحًا أن كليهما يمثل احتجاجًا على المادية، غير أن الدين يتجه نحو المعنى والخلاص، بينما تسقط العدمية في اليأس والعبث. ومن هنا، فإن نقده للحضارة المادية لا يعني رفضها، بل السعي إلى “أنسنتها” بإعادة إدخال القيم الروحية إلى جوهرها. فالحل في نظره لا يكمن في الارتداد إلى الماضي، بل في استعادة التوازن بين التقدم المادي والتسامي الأخلاقي الذي يمنح الإنسان معنى وجوده.
ويرى بيجوفيتش أن الثورة الحقيقية لا تُختزل في تغيير الأنظمة، بل تبدأ من إصلاح الإنسان ذاته عبر تربية الضمير والوعي الأخلاقي. فالثورة عنده عملية تربوية وأخلاقية قبل أن تكون صراعًا سياسيًا، والإنسان هو نقطة البدء لأي إصلاح حقيقي. ومن ثمّ، فإن الثورة التي لا تتحول إلى بناء قانوني وأخلاقي تفقد معناها وتتحول إلى فوضى أو استبداد[9]. ويرى بيجوفيتش أن الثورة والقانون مترابطان بشكل جدلي؛ فالثورة تُمهّد لولادة القانون العادل، والقانون يحفظ ثمار الثورة ويحول دون انحرافها. فالقانون في جوهره تعبير عن الضمير الجماعي للأمة، وتجسيد لمقاصد الشريعة التي توازن بين الحرية والنظام. والإسلام – في رؤيته – يقدم نموذجًا فريدًا يجمع بين الثورة الأخلاقية والإصلاح المؤسسي، بين الحماسة الروحية والانضباط القانوني.
كما كان بيجوفيتش ناقدًا صارمًا للثورات الدموية والعنيفة، معتبرًا أنها تتناقض مع القيم الإسلامية التي ترفض الإرهاب وإراقة الدماء بغير حق. فالثورة المشروعة عنده هي تلك التي تُحدث التغيير عبر التربية والإصلاح، لا عبر التدمير والفوضى. ومن هذا المنطلق، دعا إلى بناء ثورة روحية وقانونية تُعيد للإنسان حريته وكرامته، وتُرسّخ ثقافة المسؤولية بدل الخضوع والطاعة العمياء. ويخلص بيجوفيتش في فلسفته إلى أن الإسلام ليس دين خضوع، بل دين مسؤولية، وأن الحرية لا تنفصل عن القانون، بل تتكامل معه في بناء الدولة العادلة. فالإصلاح الشامل يبدأ من تربية الإنسان وتعليمه، ويمتد إلى تأسيس نظام قانوني يترجم قيم العدالة والكرامة إلى واقع ملموس. وهكذا يشكّل فكره محاولة فلسفية أصيلة لإحياء روح الإسلام في المجال السياسي والاجتماعي، من خلال الربط بين الإيمان والحرية والقانون في إطار رؤية إنسانية تسعى إلى بناء حضارة متوازنة تُعيد المعنى إلى الوجود الإنساني.
- رابعًا: رؤية علي عزت بيجوفيتش حول مفهومي الثقافة والحضارة
كان بيجوفيتش مفكرًا موسوعيًا جمع بين الثقافتين الإسلامية والأوروبية، وامتاز برؤية إنسانية أخلاقية أصيلة، تميزت بالتركيز على “الحياة الجوانية/الداخلية” أو البعد الداخلي للإنسان، حيث رأى أن الثقافة تمثل تعبيرًا عن القيم الروحية والأخلاقية، في حين أن الحضارة ترتبط بالمادة والتقنية والتنظيم الخارجي للحياة. هذا التمييز الجذري بين الجواني والمادي جعل بيجوفيتش يرى في الثقافة بُعدًا معنويًا نابعًا من العبادة، وفي الحضارة بُعدًا أداتيًا مرتبطًا بالطبيعة[10].
ومن ثم ربط بيجوفيتش بين الثقافة والدين ربطًا عضويًا؛ فالثقافة عنده هي أثر الدين في الإنسان، وهي تعبر عن ضميره وحريته الداخلية، بينما الحضارة تمثل أثر الذكاء الإنساني على الطبيعة، وهي نتاج العمل والسيطرة. ومن هنا يذهب إلى أن الثقافة مؤمنة في جوهرها، أما الحضارة فملحدة بطبيعتها لأنها تركز على المادة وتغفل الجانب الروحي. ووفق هذا المنطق الثنائي، يرى بيجوفيتش أن الصراع بين الدين والإلحاد، وبين الضمير والعقل، وبين الوجود والطبيعة، هو الذي يحدد العلاقة بين الثقافة والحضارة، إذ إن الدين يفسر الإنسان في ضوء القيم والأخلاق، بينما العلم يفسره في ضوء الطبيعة والمادة.
وتتجلى حكمة نظرية بيجوفيتش في كونها تعيد تعريف الإنسان وموقعه بين الروح والمادة، وتطرح الإسلام كطريق ثالث يجمع بينهما دون أن يُغرق في المادية الغربية أو المثالية المجردة. فهو يرى أن الحضارة امتداد للحياة الحيوانية من حيث التعامل مع الطبيعة، بينما الثقافة هي وعي الإنسان بحريته ومسؤوليته. ومن هنا يصبح الدين جوهر الثقافة، والعلم جوهر الحضارة. ويرى أن الإسلام يجسد التوازن بين الاثنين، إذ يؤمن بالروح والمادة معًا، فيجمع بين عبادة الخالق وعمارة الأرض، ما يجعله الصيغة الأسمى للفكر الإنساني المتوازن.
أهم مؤلفاته
شكّلت مؤلفات علي عزّت بيجوفيتش ركيزة أساسية لفهم مشروعه الفكري والحضاري، إذ لم تكن مجرد نتاجٍ ثقافي، بل تعبيرًا عن رؤية فلسفية متكاملة تهدف إلى بناء إنسانٍ متوازن بين الإيمان والعقل، وبين الروح والمادة. ومن خلال كتبه، استطاع بيجوفيتش أن يقدّم طرحًا جديدًا للفكر الإسلامي المعاصر، يستوعب تعقيدات العصر دون أن يتخلى عن الجذور الروحية العميقة.
ويُعد كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب“ أبرز مؤلفات علي عزّت بيجوفيتش وأكثرها عمقًا وتأثيرًا. فقد ناقش فيه العلاقة بين الإسلام والحضارة الغربية، وأكد على ضرورة الحفاظ على الهوية الإسلامية في ظل العولمة. وقد قدّم في هذا الكتاب قراءة تحليلية مقارنة بين الأيديولوجيات المادية، مثل نظرية داروين وفلسفة نيتشه، والأيديولوجيات الروحية المتمثلة خصوصًا في المسيحية، ثم طرح الرؤية الإسلامية بوصفها نموذجًا متوازنًا يجمع بين الروح والمادة. ومن خلال هذا العمل، بلور بيجوفيتش فلسفته التي تؤكد أن المذاهب المادية الخالصة أو الروحية المنعزلة عاجزة عن تقديم حلول حقيقية لمشكلات الإنسان، في حين يقدّم التصور الإسلامي رؤية شمولية متكاملة تجمع بين الجسد والروح، والأرض والسماء. وقد تُرجم الكتاب أولًا إلى الإنجليزية قبل أن ينقله إلى العربية المفكر “محمد يوسف عدس”. وقدّم له الدكتور عبد الوهاب المسيري بمقدمة وافية وصف فيها بيجوفيتش بأنه مفكر ورئيس دولة جمع بين الفكر والمقاومة، مستندًا إلى إيمانه العميق بالله والإنسان.
أما كتاب “البيان الإسلامي“، الذي ألّفه عام 1970م، فيمثّل رؤية فكرية واضحة تدعو إلى إحياء الأمة الإسلامية من خلال العودة إلى منابعها الحضارية الأصيلة. وقد ركّز الكتاب على محاور أساسية، أبرزها أهمية التعليم بوصفه ركيزة للنهوض، ورفض العنف وسيلةً للتغيير، وضمان حقوق الأقليات في إطار منظومة العدالة الإسلامية، إضافة إلى أن الإسلام ليس دينًا روحانيًا فحسب، بل منهج حياة شامل. وقد شكّل هذا الطرح تحديًا مباشرًا للسلطات الشيوعية اليوغوسلافية، لا سيما أن عنوانه استُوحي من كتاب “البيان الشيوعي” لكارل ماركس وفريدريك إنجلز.
وتُبرز هذه المؤلفات الجانب الفكري العميق في شخصية بيجوفيتش، الذي لم يكن مجرد سياسي أو قائد وطني، بل مفكر أصيل سعى إلى تقديم مشروع حضاري إسلامي يوازن بين الإيمان والعقل، بين الأصالة والمعاصرة. فـ”الإسلام بين الشرق والغرب” كشف الأسس الفلسفية التي تميّز التصور الإسلامي عن غيره، فيما مثّل “البيان الإسلامي” برنامجًا عمليًا للنهضة، ما جعل بيجوفيتش من أبرز رموز الفكر الإسلامي المعاصر وصوتًا حرًا في وجه الأيديولوجيات المهيمنة في عصره.
تكريمه ووفاته
لم يكن علي عزّت بيجوفيتش مجرد سياسي بارع، بل كان قائدًا مقاومًا وفيلسوفًا إسلاميًا صاحب رؤية بعيدة المدى، تجاوزت حدود البوسنة لتجعله زعيمًا لمسلمي أوروبا، يعمل من أجل نهوض الأمة وتحررها من التخلف والاستبداد. وقد حظي بتقدير واسع في العالمين الإسلامي والدولي، فنال عددًا من الجوائز المرموقة مثل جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام (1993)، وجائزة مفكر العام من مؤسسة علي وعثمان حافظ (1996)، وجائزة جلال الدين الرومي الدولية في تركيا، وجائزة الدفاع عن الديمقراطية الدولية من المركز الأمريكي للدفاع عن الديمقراطيات والحريات، وجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم (1422هـ)، وجائزة شخصية العام للعالم الإسلامي (2001). كما خلّف إرثًا فكريًا ثريًا تجلّى في مؤلفاته العميقة، التي تأخر انتشارها بسبب القيود الشيوعية وانغلاق اللغة البوسنية، ولم تُترجم إلى اللغات العالمية إلا في وقت متأخر، بدءًا بالإنجليزية ثم العربية، ليصبح اسمه بعد ذلك من أبرز رموز الفكر الإسلامي المعاصر.
وتُوفي علي عزت بيجوفيتش يوم الأحد 19 أكتوبر عام 2003م عن عمر ناهز 78 عامًا، بعد حياة حافلة بالجهاد الفكري والسياسي والصبر على المحن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ماجستير في العلوم السياسية. جامعة القاهرة.
[1]محمد وفيق زين العابدين، “علي عزت بيجوفيتش: الرئيس المسلم”، (المنتدى الإسلامي، بحوث ومقالات، فبراير 2014)، ص ص 84 – 88.
[2]علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة: إسماعيل علي، الطبعة الثانية، القاهرة: دار الشروق، 1994، صـ 7–10.
[3]“اتفاقية دايتون.. إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البوسنة”، (مجلي البيان، نوفمبر ٢٠٠٨)، على الرابط التالي: https://www.albayan.ae/paths/2008-11-21-1.694070
[4]محمد وفيق زين العابدين، المرجع نفسه.
[5]محمد يوسف عدس، “علي عزت بيجوفيتش: فلسفته ومشروعه الإصلاحي”، (24 فبراير 2009)، ص 5.
[6]عبد الوهاب المسيري، على عزت بيجوفيتش،
https://www.myades.com/Articles/Aliezzat/23.pdf
[7]أسامة خضراوي، “علي عزت بيجوفيتش: الرجل والقضية”، (مركز نماء للبحوث والدراسات، 2014)، على الرابط التالي: https://nama-center.com/Articles/Details/340
[8]عبد الوهاب المسيري، و هيئة التحرير (2004)، “علي عزت بيجوفيتش وثنائية الطبيعة البشرية”، (مجلة المسلم المعاصر، المجلد 28(العدد 111)، 191–240). على الرابط التالي:
https://search.mandumah.com/Record/184155
[9]أشرف محمود أمين. (2017). الثورة والقانون: قراءة في فكر علي عزت بيجوفيتش السياسي. مجلة كلية الآداب – جامعة الفيوم، العدد 16، ص 671–726. على الرابط التالي:
https://search.mandumah.com/Record/1021137
[10]زكي الميلاد، (2004). الثقافة والحضارة: قراءة في نظرية علي عزت بيجوفيتش. مجلة الكلمة، المجلد 11، العدد 42، ص 16–34. منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث. على الرابط التالي:
مركز خُطوة للتوثيق والدراسات Khotwa Center for Documentation& Studies