التعليم الإسلامي في مواجهة السقوط الثالث للإنسان

التعليم الإسلامي

في مواجهة السقوط الثالث للإنسان*

د. عبد الحكيم مراد**

مقدمة

يُعَد د. عبد الحكيم مراد أحد أبرز الباحثين والكُتَّاب البريطانيين المتخصِّصين في الدراسات الإسلامية والحوار بين الأديان. وقد وُلِد باسم تيموثي جُون وِنْتَر، في عام 1960، ودرس في كلية وستمنستر، وحصل على درجة الماجستير في اللغة العربية من جامعة كامبريدج عام 1983، ثم درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد. زار مصر ودرس ببعض المعاهد الأزهرية لمدة ثلاث سنوات. وأسَّس “كلية كامبريدج الإسلامية” في عام 2009 للتعريف بالحضارة الإسلامية وجماليات الدين الإسلامي. علاوة على ذلك، يشغل د. مراد كرسي الشيخ زايد للدراسات الإسلامية في كلية اللاهوت بجامعة كامبريدج، وهو مدير دراسات اللاهوت في كلية وولفسون. وقد حصل د. مراد على عدة جوائز تقديرًا لمجهوداته في مجال الدراسات الإسلامية، منها جائزة الملك عبد الله الأول للفكر الإسلامي في عام 2007، فيما يُدرَج اسمه باستمرار في قائمة 500 مسلم الأكثر تأثيرًا في العالم، وكان من بين الخمسين الأوائل في عام 2012.

ولعلَّ من أبرز الموضوعات التي أولاها د. مراد أهمية قصوى، هو موضوع التعليم في الإسلام؛ حيث سعى إلى بعث التعليم الإسلامي بأخلاقياته الرفيعة ومبادئه السامية، لاسيَّما في ضوء انتشار آليات التعليم الحداثية في مختلف مناطق العالم، والتي تتسم بكونها ذات غايات مادية محضة بالنظر إلى خصائص الحداثة التي تولَّدت منها هذه الآليات. وقد أصبح الأمر اليوم يتطلَّب تفكيرًا جدِّيًّا للإجابة على التساؤل التالي: هل ينبغي على المسلمين اليوم الرجوع إلى التاريخ بحثًا عن نموذج تعليمي ناجح؟ أم ينبغي عليهم السعي إلى خَلْق توليفةٍ ما بين أساليب التعلُّم التقليدية والحديثة؟

في هذا السياق، يأخذنا د. مراد، في رحلةٍ ماتعة، يستخلص فيها طبيعة ومفهوم وقِيَم وغايات العلم والتعليم في الإسلام، مقارِنًا إيَّاها بنظائرها في العالم الغربي وطرائقه التعليمية، وفق رؤية عميقة وموضوعية، وذلك في ثلاثية من محاضراته التي ألقاها بولاية فلوريدا الأمريكية في عام 2011، تحت عنوان “جوهر التعليم الإسلامي –The Essence of Islamic Education”.  وفيما يلي عرضٌ لنص المحاضرة الأولى. وهي منشورة على موقع “يوتيوب” من قِبَل قناة “Islam On Demand”، منذ مارس 2011.

وفيما يلي الأفكار الأساسية في محاضرة الدكتور عبد الحكيم مراد.

العلم ومعيار التفضيل الإلهي:

إن المعيار الوحيد الذي يُفاضِل الله تعالى به بين عباده هو “التقوى”، مصداقًا لقوله تعالى: “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” (الحجرات: 13). ولعلَّ تحصيل التقوى هو أحد الغايات الأساسية التي يسعى إليها المسلم في حياته الدنيا لدخول جنة الآخرة التي أعدَّها الله للمتقين. وهذا الأمر لا يتسنَّى إلا عبر مجاهدة النفس والتزام الطاعة فيما أمر به الله تعالى ونَهَى. ونسعى هنا الى بيان التقوى كهبة إلهية وعلاقتها بعملية التعليم. فغرس المعرفة من خلال التعليم يؤدي الى تحصيل الحكمة، والوصول تدريجيًا إلى درجة التقوى، التي نرتقي من خلالها من دائرة “الأسفلَ سافلين” إلى دائرة “خلفاء الله في الأرض”[1]، أي إلى مكانتنا الحقيقية التي أرادها الله تعالى منَّا.

وكانت هذه الطريقة – أي التوجيه وغرس المعرفة – هي طريقة النبي محمد عليه السلام في تعليم الناس، على الرغم من أنها تستند – في حالته عليه السلام – إلى قاعدة كشْفية وليست كسْبية؛ أيْ جاءت عبر الكشف الإلهي له عليه السلام، وذلك قبل بَعْثِه بالرسالة، لدى تفكُّره في غار حِراء، وبعدها عبر نزول الوحي.

ويدل ذلك أيضًا على أن الله تعالى اعتنى بتعليم وتأهيل أنبيائه الذين اصطفاهم من بين البشر، ويؤكد ذلك قوله عليه السلام: “أدَّبَني ربِّي فأحسنَ تأديبي”[2]. وهذا التأديب، في التراث الإسلامي، يعني كل شئ أخلاقي، من أدبٍ وحُسْن بيان وتهذيب وخُلُقٍ حَسَن، وغير ذلك من الفضائل. ومن ثمَّ، تروم هذه المحاضرات إلى استخلاص نموذج تأديبي وتعليمي من النموذج المحمَّدي، وذلك بعد أكثر من 1400 عامًا على رسالته؛ في محاولة للارتقاء بأنفسنا من مستنقعات الجهل، واستعادة طبيعتنا المقصودة إلهيًا.

إن إحدى الطرق التي يمكن من خلالها إدراك ذلك، هي النظر إلى التاريخ البشري، ورؤية كيفية تدخُّل العناية الإلهية لمعالجة إخفاقات البشر، وذلك في ثلاث سَقطات (تاريخية) كبرى، بجانب أخرى (فردية) أصغر بكثير.

السَقطات الكبرى الثلاث / العلم أساس الارتقاء والاستخلاف:

يحدث السقوط أو الهبوط عمومًا نتيجة ما يبثُّه الشيطان من جهل. وعلى “المستوى الفردي”، يعاني الإنسان في أحيانٍ كثيرة من السقطات والإخفاقات، فيفقد المعرفة ويذهب بعيدًا عن الطبيعة الآدمية ثم يعود مرة أخرى، ويظل هكذا طوال حياته. فالحياة البشرية الدينية هي عملية ديناميكية تتضمَّن حركة للمضي قدُمًا ثم أخرى يطغى عليها النسيان والتراجع، ويُلبِس الشيطانُ فيها الجهلَ على الإنسان. والطريق إلى الفَلاح ليس سهلًا مُعبَّدًا، وإنما هو أصعب وأكثر إيلامًا. وبجانب هذا المستوى الفردي، يُظهِر التاريخ البشري كذلك تجارب أو سقطات أكبر على المستوى الجماعي، والتي يسري عليها أيضًا قانون الارتقاء والتراجع، ويمكن أن تؤطِّر للمناقشات حول موضوع التعليم.

–  أولى هذه التجارب هو سقوط أو هبوط آدم عليه السلام من الجنة. والواقع أن هذا الهبوط ليس سقوطًا [بالمعنى السلبي]، ولكنه بداية الصعود الحقيقي للإنسان. فإذا نظرت، على سبيل المثال، إلى تفسير العلّامة ابن كثير في آيات هبوط آدم وزوجته من الجنة، سترى أن هذا حدث إيجابي للغاية ومُبشِّر بالأمل، لماذا؟ لأن نتيجة الهبوط من الجنة إلى ساحة الخير والشر، والنور والظلام، والمعرفة والجهل، كانت بمثابة اصطفاء ورِفعة لآدم عليه السلام ليكون خليفة الله في الأرض، حيث يتحقَّق المجد الإنساني بعيدًا عن الجنة، وذلك بفضل ما تلقَّاه من ربه تعالى من كلماتٍ تاب عليه بها، كما جاء في سورة البقرة: “فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)”. ومن ثمَّ، انتقل آدم من حالته الكامنة الأصلية في الجنة التي تشبه حالة الطفل، إلى مقام أو حالة أرقى، وذلك بحصوله على المعرفة والعلم والكلمات التي أوحاها الله تعالى إليه، فصار خليفة له عزَّ وجل. حدث ذلك عبر اللحظة العَرَضِيَّة للجهل، التي هي الأكل من “شجرة الخُلْد” التي احتال بها إبليس على آدم وزوجه.

لذلك نحن لا نؤمن – من المنظور الإسلامي – بالمعنى السلبي للهبوط، ولكن ما نؤمن به هو الصعود من الحالة الملائكية، إلى مقامٍ ومكانة أعلى موضوعيًا، يتمثل في خلافة الله تعالى في الأرض. ويدل على ذلك أنه تعالى “عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31)”، وهي الأسماء التي لم يكن للملائكة علمٌ بها، هذا فيما أمرها الله بالسجود لآدم أبي البشر.

وعليه، فإن الهبوط الأول، الذي استتبعه تعليمُ الله تعالى وتلقينُه لآدم، أدى حقيقةً إلى استكمال الأخير لمكانته المُرادَة منه؛ ألا وهي استخلاف الخالق في أرضه. كما يُستفاد أن التعليم بهذا المعنى لم يكن فقط غرسًا للمعرفة، بل يعني حقيقةً العملية الدينية بأكملها، والتي تُخرِج الإنسان من حالة العصيان إلى حالة أعلى من الملائكة.

 – السقوط أو النفي الثاني بالأحرى، يتعلق على وجه التحديد بعهدنا كأمَّة محمَّدية؛ إذ يرجع ذلك إلى إبراهيم عليه السلام، حينما ترك زوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل في صحراء شبه الجزيرة القاحلة قبل بناء الكعبة؛ طاعةً لله عز وجل، وتسليمًا لأمره. فهذا الانتقال من خضرة كنعان إلى الصحراء الخالية من سبل الحياة، أدى في نهاية المطاف إلى ظهور أفضل دولة أقامتها البشرية على الإطلاق، وهي الدولة الإسلامية على يد النبي محمد عليه الصلاة والسلام. وبالتالي أدى النفي القديم إلى استصلاحٍ أعظم وأكثر أهمية، جغرافيًا وبشريًا. وكان ذلك عبر التعليم أيضًا؛ إذ كانت أول كلمة قالها المَلَك جبريل للنبي محمد عليهما السلام، في غار حِراء، هي “اقرأ”؛ وكأنَّ المَلَك يستهدف تعليمه عبر عملية تفاعلية ونَشِطة، فيطلب منه أن يقرأ باسم ربه “ٱلَّذِي خَلَقَ (3)”، و”ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلقَلَمِ (4)”، والذي “عَلَّمَ ٱلإِنسَٰنَ مَا لَم يَعلَم (5)” (العَلَق).

وبالتالي، فإن أول تجربة نبوية خالصة لكلٍ من آدم ومحمد عليهما السلام هي “التعليم”، حيث استُخدِم فيهما نفس المسار. وقد نقل النبيُّ محمد ما أُوحِي إليه: “قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ” (الأحقاف: 9)، ما يعني أن النبي محمدًا عليه السلام لم يكن أول رسول أُرسل إلى البشر، وأن رسالته هي استمرار لنفس النهج الإلهي الذي تلقَّاه الرسل والأنبياء السابقون، وليست أمرًا مستحدثًا، ما يعني – بالتالي – أن تعليم الله لأنبيائه هو من سُنَنه تعالى.

وهكذا، أدى المنفى الثاني في حقيقة الأمر إلى ثمار وفوائد متدفِّقة دون انقطاع من ذلك الوادي الصحراوي البعيد، بما فيها عينُ زمزم وماؤها الذي لا ينضب، والتي تُعد عينًا للأمة المحمَّديَّة بكل تشعُّباتها وكمالاتها التي لا نهاية لها، بما في ذلك العلوم الأكثر رُقيًا وتطورًا وتنوعًا عن علوم الأمم السابقة.

 – الحالة الثالثة من السقوط هي تلك التي نعيشها نحن اليوم، وهي حالة الحداثة؛ حيث الطرد من واحة الجَمَال إلى بيداء الآلات وسطوتها، ومن المعاني الهادفة والبنَّاءة إلى قِفار السَّراب والخيالات والافتراءات، على نحو ما يفيده معنى “ظَنُّ الجاهليَّة”. فهذه هي طبيعة السقوط الثالث الذي لم يُحَلّ بعد. ومع ذلك، وهذا أمر حيوي بشكل خاص لأولئك الذين يشعرون بالثِقل نتيجة انتصار الحداثة المادّية على حضارة الإسلام، يجب النظر إلى ذلك من منظور النمط التاريخي من السقطات / الدورات التي هي سُنَن الله تعالى في كونه.

التعليم مظهرًا لجوهر رحمته عزَّ وجلّ:

إن الدورات المذكورة أعلاه تستند في حقيقتها إلى لُطْف الله تعالى ورحمته، فهو الذي “كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ” (الأنعام: 12)، وكان الاسمُ الأول الذي اختاره لنفسه في وَحْيه الأخير للبشرية، هو “الرحمن”، والثاني هو “الرحيم”، وذلك في قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الفاتحة: 1). فالرحمة هي الطبيعة الأعمق لله جلَّ وعلا.

ولكن من سمات الحداثة أننا نسينا هذا الملمح، وأصبحنا منشغلين بكل ما هو هامشي، ونسينا أن كل شئ في التاريخ والعالم، هو مجرد تعبير محض عن رحمته عزَّ وجلّ، لأن هذه الرحمة هي جوهره تعالى، حتى لو لم ندرك بعض كنهها أو مغزاها؛ لقِصَر إدراكنا وقابليته للخطأ بطبيعته. وهذه الأشياء أعراض زائلة، لكنها ضرورية لتنوُّع النظام المخلوق. ولكن ما يبقى ويدوم هو اسمه تعالى “الرحمن”. ويذكر عليه السلام في حديثه: “إنَّ للَّهِ عزَّ وجلَّ مِئةَ رحمة… قسَّمَ منها رحمةً بينَ جميعِ الخلائقِ، فبِها يتراحَمونَ، وبِها يتَعاطفونَ، وبِها تَعطفُ الوحشُ على أولادِها، وأخَّرَ تسعةً وتسعينَ رحمةً، يرحمُ بِها عبادَهُ يومَ القيامةِ”[3]. وقال تعالي لنبيِّه الكريم: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (الأنبياء: 107). فكأنَّ النبي عليه السلام ودعوته مشتقان من رحمته عزَّ وجلّ.

ولكن في عصرنا الحداثي، نسينا – كما ذكرنا – طبيعة الرحمة تلك، حتى في داخل الأمَّة الإسلامية ذاتها. فأصبحنا فظِّين ومتشكِّكين في حُسن نوايا الآخرين وسلوكهم. فإذا رأينا شخصًا يصلي بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تعلَّمنا بها الصلاة، فإن أول تعليق يصدُر تلقائيًا ليس: “الحمد لله .. نقطة ضوء في كون مظلم”، وإنما: “حَسَنًا.. لو كان يرفع يديه على الهيئة الفلانية أو لو كان كذا وكذا”. وبالتالي حوَّلنا الرحمة الطاهرة التي هي جوهر الشرع إلى سلاح نضرب به بعضنا البعض. وهذا انقلابٌ خطير للغاية ومدمِّر لمقصد الدين؛ لأن الشرع رحمةٌ خالصة من قِبَل الله تعالى، فكل ما يطلبه منَّا هو رحمة خالصة، لأن هذه هي طبيعته، ولأن هذا شرعُه الذي شرعَه، وكان رسوله الذي أرسله إلينا “رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ”. ونحن قد لا ندرك ذلك، ولكن ما نعرفه على وجه اليقين أن الشرع يأتي من ربٍّ ليس لديه مصلحة فينا سوى إيصالنا إلى ما فيه الخير لنا.

إن قيمة الرحمة هي إحدى القِيَم الرئيسية التي يسعى التعليم الإسلامي لاستعادتها، في أعقاب الانشغال بالعالم الحداثي ومظاهره بعد السقوط الثالث، والذي هو مبني على نسيان المعنى، أو الشكوك المتزايدة بأنه لا يوجد معنى، وأنَّ ما يتسم بالوجود فقط هو ما يمكن لمسُه والشعور به، وما يمكن تجربته والاستمتاع به. وهذا أمرٌ ينبغي أن نفهمه جيدًا إذا أردنا فَهْم ماهيَّة أجندة التعليم الإسلامي التي يمكن من خلالها استعادة ماهيَّتنا الآدمية الراقية في ظل الظروف الصعبة للغاية التي نمر بها في عصرنا الحالي.

هل يفهم المسلمون الغربَ حقًا؟

إن أحد الإخفاقات التي يشعر بها المسلمون المقيمون في الغرب هو أنهم لا يفهمون الغرب حقًا. لقد جاء كثيرٌ من المسلمين إلى الغرب معتقدين أن هذه الحضارة، رغم مادِّيَّتها، تسمح في ذات الوقت بممارسة الشعائر الدينية، وما دام القرآن الكريم يقول: “وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا” (القَصَص: 77)، فلماذا لا يقوم هؤلاء بالعمل في بلدان الغرب وتكوين عائلة، وتوفير تعليم لأطفالهم، وغير ذلك؟! لكن الحقيقة هي أنه نادرًا ما نرى أي جهد من جانب هؤلاء المسلمين للتفكير بجدِّيَّة في ماهيَّة هذه الحضارة. والنتيجة – في كثيرٍ من الأحيان – فقدان الهويَّة الإسلامية في غضون جيل أو جيلَين؛ لأنهم لا يعرفون ما هو الخليط الفاسد في هذه البوتقة التي قفزوا إليها.

إنه واجب ديني أن نعرف أين نكون، خاصة بالنسبة لهؤلاء الذي يتبنَّون المذاهب الإسلامية التي لا تقبل مثل هذه الهجرة إلى بلاد الغرب، كالمذهب المالكي في المقام الأول، الذي يُحرِّم الهجرة من أرض يُسمَع فيها الأذان في كل مكان وقت الصلاة، إلى أرضٍ أخرى يُسمَع فيها الأذان بشكل مؤقت داخل المساجد وحدها. والتاريخ يخبرنا أنه عندما استولى المسيحيون على أسبانيا من أيدي المسلمين، وجَّه العلماءُ المسلمينَ بمغادرة أسبانيا والهجرة إلى دار الإسلام؛ باعتبار أن الهجرة واجبة في هذه الحالة.

إذَن فمن الضروري أن نفهم ماهيَّة المبادئ الموجِّهة للحضارة [الغربية] التي تشكِّل الحياة من حولنا، بل وتشكِّل أرواحَنا حتمًا، سواء أردنا ذلك أم لا؛ لأننا بشكلٍ ما غربيُّون، ولا يمكننا الهروب من بيئتنا. إنه المزاج والطبيعة البشرية التي تتأثر بأولئك الذين نتعامل معهم، من خلال شكل المباني التي نعيش فيها أو التقنيَّات التي نستخدمها، وما إلى ذلك. فلا يوجد شئ محايد، وكل شئ مهم ثقافيًا ودينيًا ومشفرًا، يتنفَّس روح رؤية عالمية وحضارة معينة. فنحتاج إلى فهم ماهيَّة هذه الروح، وكُنه هذه الحضارة، وعمَّا إذا كانت ستمكّننا من إبداع مشروعنا للتعليم الإسلامي لاستعادة مكانتنا التي ينبغي أن نكون عليها؟ أو ستسمح لنا باستيراد النماذج الإسلامية من العصور الوسطى بشكل غير نقدي، وافتراض أن تطبيقها سيكون ممكنًا؟ أم أننا بحاجة إلى نوع من “التوليف الخصب” الذي يستقي في جعبته بعضًا من تقنيَّات التعليم الحداثي؟

العلامات وقيمة التفكُّر:

يمكننا القول هنا أنه نظرًا لعدم إيماننا بالسقوط السلبي كما أسْلفنا، فإننا نؤمن – بدلًا من ذلك – بأن هناك “معرفة طبيعية”، بحسب ما قاله إمامُ أهل السُّنَّة أبو منصور الماتريدي، وهي معرفة يمكن للبشر أن يستشعروا من خلالها الخير والحقيقة، ومن ثمَّ وجود الخالق، دون وَحْي كشْفِي من الله تعالى. وعلى الرغم من أن هناك خلافًا بين الماتريدي وأبو موسى الأشعري، وهما إماما المدرستَيْن الرئيسيَّتَين لأهل السُّنَّة والجماعة، حول مسألة “المعرفة الطبيعية”، إلا أنه لا يمكننا في الواقع رفض تجربة أو ممارسات أي حضارة على نحوٍ مطلق؛ لأن الفطرة موجودة، رغم أنها قد تكون مغمورة أو يشوبها الانحراف أو عدم الفهم والإدراك؛ فهي شئ موجود لا يمكن التخلُّص منه أو محوُه تمامًا، لأنها جزء من المركَّب البشري. فلا يمكن أن يكون هناك إنسان جاهل تمامًا أو شرير تمامًا، ولدى كل إنسان منَّا – بشكل أو بآخر – فكرةً ما حول مسألة الاستخلاف في الأرض.  

إن الفضيلة التي يجب أن نستعين بها هُنا هي فضيلة “الفكْر والتفكُّر” التي تشكِّل إحدى ركائز المعرفة الإبستمولوجية، والتي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم في أكثر من موضع، كما في قوله: “الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”(آل عمران: 191). فهذا توصيف أولي الألباب. واللُّبُّ من منظور القرآن هو جوهر الإنسان، وهو لفظٌ يعني في الأصل بذرة أو جوهر، فهو مركز الشئ وخلاصته. ربما يكون غير مرئي للمراقب الخارجي، ولكنه مثمر، ويمكن أن يُسفِر عن إمكانات لا نهائية. و”أولو الألباب” هم الذين لديهم هذه الإمكانات، ومن صفاتهم التي ذكرتها آية “آل عمران” أنهم يذكرون الله على جميع هيئاتهم، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، كما أنهم يتأمّلون في السماوات والأرض ويتفكَّرون في طريقة خلقها.

إن مشكلة الحداثة تكمن في أن معرفتنا المتزايدة بكل ما حولنا، وتنوُّع وتألُّق ما خلقه الله، قد شتَّتت انتباهنا – بسبب جمال هذه المخلوقات ودقَّتها وتألُّقها – عن الصورة الكاملة التي يجب إدراكها ومعرفتها؛ أيْ الله الخالق ذاته. ربما قد يأتي يومٌ ما ويستطيع الغرب حلَّ هذه المشكلة عبر معادلة أو نظرية ما.

في هذا السياق، يمكننا استخدام المفردات الإسلامية لوصف حالة هؤلاء الذين انشغلوا بجمال المخلوقات عن الخالق؛ حيث يُقال “شَغَلَتنا الأدلة عن المدلول”؛ أيْ أن جميع المؤشرات قد صرفتنا عمَّا تشير إليه.

لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام كثير التفكُّر في خلق الله تعالى؛ كيف يترابط كل شئ بشكل بديع ومنسجم ورائع، حيث التوازن الجميل، “مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ” (المُلك: 3). وهذا التوازن هو أحد العجائب الكونية التي اكتشفها العلم الحديث. ولدى الحداثيين مبدأ يسمُّونه “المبدأ الأنثروبي” [4]، الذي يعتقدون أنه يفسر سبب وجودنا في هذه الحياة. وهم منشغلون بالنظر إلى تلسكوب هابل الفضائي المذهل بمجاله العميق، حيث يمكن أن يذهب أبعد وأبعد لاستشكاف اللحظات الأولى للانفجار العظيم، والخَلْق. ولكن ما لا يمكن للتلسكوب إخبارنا به هو ما لم يتم تصميمه من أجله، وهو السبب؛ أيْ لِمَ حدث الانفجار؟ وما الغاية من ورائه؟ ولا يمكن معرفة ذلك في النهاية إلا من خلال “الكشْف” أو “الوَحْي”؛ لأنه لا يوجد شئ في منطق العالم المخلوق يمكن أن يشير – بشكل لا يقبل الجدل – إلى ما وراء طبيعته الخاصة. فالحجج الفلسفية والرياضيات العليا وتلسكوب هابل لا يمكن أن يفسروا ما وراء طبيعة هذا العالم؛ لأنهم في نهاية المطاف جزء من هذا العالم المادي. ومن أعظم الأخطاء الاعتقاد بإمكانية الوصول إلى حجة عقلانية – عبر الجدال المنطقي– لإثبات أي شئ؛ ذلك لأن النظام [المادِّي الذي نعيش فيه] دائري ومنغلق على نفسه.

لكن، بدلًا من ذلك، يمكن الإشارة إلى اتساق العالم وتناسقه من منظور التوحيد. وهذا ما فعله علم الكلام الإسلامي، فهو أفضل تفسير متاح، رغم أنه لا يمكن إثباته بشكل قاطع؛ كوْن الحجج المادِّية والبشرية تقع – مرة أخرى – في نطاق “المادِّي”، ولا يمكنها الوصول إلى الميتافيزيقي، رغم أن الميتافيزيقي بإمكانه الوصول إلى “المادِّي”. يقول تعالي عن ذاته: “لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ”(الأنعام: 103). فالأبصار أو الإدراكات أو الأنظار، بلغة المتكلِّمين، لا يمكنها أن تصل إليه تعالى؛ لأنه تعالى أعلى وأكبر، وليس للعقل البشري ذي القابلية للخطأ أن يصل إلى خالق كل ما نراه، بما في ذلك عقل الإنسان ذاته. فهذا العقل الأكبر هو ما نعرفه بأنه رقيب وشهيد على كل شئ.

لذا عندما نتحدَّث عن التعليم الإسلامي، فإننا لا نتحدَّث عن معرفة فطرية نقية يمكنها الوصول إلى [الإله] الميتافيزيقي فقط عبر البيانات الإمبريقية [التجريبية]. وكان هذا هو مذهب الإمام أبو حامد الغزالي؛ إن علم الكلام أو أي معرفة خطابية ليس بإمكانهما الوصول إلى ما هو أبعد من نفسَيْهما، لذا نحن بحاجة إلى الوحْي أو الكشْف الذي نقله إلينا العلماء السابقون عن النبي عليه السلام. والوحي هنا ليس ذلك المتعلق بالأحكام فقط، ولكن ما هو أكثر من ذلك، أيْ ما يرتبط بالرسول البشري المعصوم؛ لأننا مطالبون بالتخلُّق بخُلُقه عليه الصلاة والسلام.

العلم وثلاثية الروح والعقل والجسد:

إن اتّباع السُّنَّة لا يكون اتباعًا إذا حذا المرءُ المظاهر الخارجية فقط، وخالَف المظاهر الخُلُقية الباطنية. هذا بالطبع لأننا نؤمن بوحدة المركَّب البشري المكوَّن من روح وعقل وجسد؛ فما يصيب أيًا من هذه المكوّنات يؤثر على الاثنَين الآخرَين. فثلاثتها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببعضها البعض، ويجب أن يُحسِن كلٌ منها للجانبَين الآخرَيْن؛ لذا ينعكس الثلاثة في مفردة “الإحسان” الإسلامية. فإذا مرضت الروح، فالجسد يمكن أن يمرض، ومن ثمَّ العقل. ويعترف الأطباء المعاصرون بأن العديد من الأمراض الجسدية تنشأ ممَّا يسمونه الحالات النفسية. ولكن العكس – وهو المثير للجدل – صحيح أيضًا؛ بمعنى أنه إذا فعلت شيئًا مؤثرًا للجسد، فسيكون لذلك تأثيره أيضًا على الروح والعقل. لكنهم لا يستطيعون فَهْم فكرة أنه يمكنك أن تتحوَّل روحيًا من خلال شئ يحدث للجسد. فهذه فكرة غريبة جدًا عن الطب الغربي، وكذا التقاليد المسيحية، وبالتأكيد على عقلية الثنائية الغربية (ثنائية الروح والجسد) ما بعد الديكارتية. إنها ليست مسألة أخلاقية، بل روحية؛ ما تفعله للجسد يؤثر على الروح، وبالتالي يؤثر على العقل.

في الإسلام، ترتبط العبادات كلها بالجسد والروح والعقل. فالصلاة والحج وصيام رمضان كلها أمثلة واضحة على ذلك. وكل هذه العبادات تذكرنا بضرورة عبادة الله سبحانه وتعالى ليس فقط بالروح، وإنما بالجسد والعقل أيضًا.

لذا فإن مأزق الحداثة يتمثل في أننا فقدنا البصيرة لمعرفة حقيقة أن كل شئ في الوجود ليس فقط شئ مُجرَّد، بالمعنى الذي ننسبه إليه، ولكنه مهم كعلامة إرشادية دالَّة على شئ أعظم وأكبر، هو الخالق عزَّ وجلّ.

قيمة الجَمال والانشغال بالعوارِض عن الجوهر:

رغم فقدانه البصيرة لمعرفة ما وراء الأشياء، لا يزال لدى العالم الحديث انجذابٌ نحو الجَمال الكائن فيها. قد نفسِّر الجمال كما فسَّره أفلاطون بأنه “روعة الحقيقة”؛ بمعنى أنه حيث يوجد جَمال توجد حقيقة. قد لا نكون قادرين أحيانًا على التعبير عنها، ولكنها موجودة. هذا التفسير هو السبب في أن الحضارة الإسلامية – حينما كانت فتيَّة – كانت دائمًا تنتِج جَمالًا، والجَمال يُنتِج حقيقة، والحقيقة تُنتِج جَمالًا، وهكذا. والرموز البسيطة لدينا كلها تعبيرات عن الجَمال الخالص. فالكعبة، رغم بساطتها، جميلة جدًا لدرجة أنك لا تنفك تنظر إليها. والصحابة حينما كانوا يُنشِئون مسجد قبة الصخرة الرائع في مبناه ومعناه، كانوا يعرفون جيدًا أهمية ما يقومون ببنائه؛ فروحهم الجميلة التي أنارتها الحقيقة تُنتِج جمالًا، ولا يمكنها أن تُنتِج قُبحًا. وكان وجه النبي محمد عليه الصلاة والسلام أعظم جَمال. وإذا نظرت في كتاب الشمائل للترمذي أو غيره من الأعمال المبكرة التي تذكر كيف استطاع رجلٌ واحد تحويل الناس المنقسمين بشدة إليه، سترى أن الناس اعتادوا على حب النظر إليه، وكيف كان بنات بنو النجار يغنُّون عند رؤيته لدى دخوله المدينة وقت الهجرة، “طلع البدرُ علينا”، حيث قارنوه بالقمر ليلة البدر. وهناك أحاديث تذكر كيف كان الصحابة يعشقون النظر إلى الجمال النبوي دون ملل.

ومن ثمَّ، يمكننا اعتماد رأي أفلاطون بأن الجَمال هو روعة الحقيقة، مع اعتقادنا كذلك بأن العالم الحديث لا يزال يرى – بقدرٍ ما – أن حقيقة الجَمال لم تغادرنا تمامًا، وأن هناك سياقًا يمكن أن نستمتع فيه بوجود أصيل لها. وسر هذا هو أنه لا بد من أن يتسق الجمال الروحي والمادّي مع الأفعال؛ فمثلًا إذا قام شخص مسلم بأداء الفرائض كالصلاة والصيام وغيرها من الأعمال الحسنة، غير أن بيته قبيح غير منظم، ندرك أن هناك خطًا وخللًا ما؛ لأن روح المسلم يجب أن تكون منسجمة مع بيئتها. وهذا هو الحال الذي كان المسلمون الأوائل عليه دائمًا. وإذا ذهبت إلى أكثر المنازل الغربية المُزيَّنة بدقة، سترى غالبًا أن أكثر القطع الأثرية التي أنفق الناس عليها ملايين الدولارات هي قطع أثرية إسلامية؛ إذ يأتون بالسيراميك من بلاد فارس، وأضواء المساجد من مصر، والسجاد من أنحاء العالم الإسلامي. فهُم يحرصون على امتلاك هذه القطع؛ لأنهم ما زال لديهم هذا التصور الفطري لما هو جميل ومتناغم وهادئ. على أننا نلاحظ، من ناحية أخرى، فقدان “البصيرة” التي من خلالها نستشعر المعنى الحقيقي للجمال، رغم إنفاق الكثير من المال في زخرفة البيوت.

وعليه، شغلتنا الأدلة عن المدلول، حيث يرى العالم الحديث الجَمال ويُقدِّره ويتحدَّث عنه، بسبب شعور غامض بأن هذا هو الحق وروعته، على نحو ما قال أفلاطون. ولكن يفتقر ذلك إلى سياق أخلاقي ولاهوتي. لذا غالبًا ما قد يُسَاء تقدير الجَمال. ولعلَّ من أهم العوامل التي أدت إلى فقدان هذا السياق هو الهَوَس الحداثي بتقدير جسد الإنسان، وتنامي النظرة الإباحية له. ومن ثمَّ، نرى الناس مفتونين بجمال العلامات المخلوقة، لدرجة أنهم يقضون حياتهم بأكملها يحومون حولها، ولكنهم غير قادرين على الوصول الى ما تشير إليه. ولكن ما قد يمكن الإشادة به هُنا هو أنهم على الأقل أدركوا العلامات، وهذه نقطة انطلاق جيدة على الطريق إلى الله عزَّ وجلّ. وهذا ما أشرنا إليه سابقًا باسم “السقوط / الهبوط الثالث”. وإذا قمنا بإزالة كل طبقات التشتيت -كالخطيئة والأنانية والكِبر وغير ذلك– سنجد الفطرة الإنسانية [السليمة] عميقًا تحت كل هذه الطبقات؛ فهيئة الخلق هذه جزء مهم تكتمل به خلافة الإنسان للخالق عزَّ وجلَّ في أرضه. فالفطرة لا تزال سارية وموجودة في حقيقة الأمر.

لقد كان الناس يعرفون التوحيد بشكل ما، حتى في العصور القديمة، وكانوا يُوقِّرون النظام الطبيعي، الذي أدركوا أنه “الحق” في الخلق، ولكن تم استبداله لاحقًا بآلية ميكانيكية أدت إلى التأثير سلبًا على الوضع الإنساني.

التفاؤل والتوبة وسيلتا الخروج من السقوط الثالث:

الآن، فإن هذا السقوط يجب أن يرتبط بما أشرنا إليه سلفًا، ألا وهو التفاؤل بالمُقبِل. وقد كان نبي الرحمة يحب الفَأْلَ، وقد عَلِمَ يقينًا أن الله تعالى يريد الأفضل لعباده. وما كان يبدو ككارثة ظاهريًا لدى هبوط آدم عليه السلام من الجنة قد تحوَّل إلى رحمة، ونفس الشئ بالنسبة لترك إبراهيم عليه السلام زوجته وطفله في الصحراء المقفرة، والتي تحوَّلت إلى نعمة ورحمة للعالمين. وبالتالي علينا أن نأمل أن يؤدي هذا السقوط الثالث إلى حلقة أخرى عظيمة من الرحمة الإلهية والخلاص، ويجب أن نكون متفائلين، وأن ندرك أن الله تعالى أقرب الينا من حبل الوريد، وأنه وحده مَن يعلم الغيب وما فيه الخير؛ فنحن لا نعلم ما يحمله المستقبل، ولا يوجد شئ يمكن التنبؤ به في تاريخ البشرية، لاسيما فى التاريخ الديني.

بالتوازي مع ذلك، يجب علينا العودة والتوبة إلى الله تعالى؛ فهي تعيدنا إلى السلام والانسجام والتناغم مرة أخرى مع مراد الله تعالى. والنفوس تميل إلى التوبة بحكم الفطرة، وأرواحنا جميعًا تخبرنا أن هذا ما نحتاجه بشدة. والتوبة هي أعظم رحمة منحنا إياها الخالق جلَّ وعلا. ومن أسمائه تعالى “التوَّاب”، وهو الاسم الذي استخدمه تعالى لدى هبوط آدم من الجنة، حين اكتسب مكانته كخليفة لله في أرضه. ولأن التوبة في يد الله الرحمن الرحيم، فهي ليست صعبة المنال.   

ويمكننا القول إن التوبة تقع حقًا في جوهر التعليم الإسلامي؛ إذ إن كل ما نتعلَّمه عن ديننا، هو جزء من برنامج عنوانه “التوبة”. فبنو آدم يمكن تشبيههم على سبيل المثال بالجسيمات التي تم إطلاقها في الفضاء. وكلما سَبَحَت في الفضاء بعيدًا عن مصدر الضوء في مركز النظام الشمسي، يحيط بها الظلام، ومع ذلك لا تزال تشعر بشكلٍ ما بأن الضوء موجود، ولا يختفي أبدًا، خاصةً مع التسليم بأنه لا يوجد ظلام مُطلَق، لأن المُطلَق الوحيد هو الله تعالى، نور السماوات والأرض، وكل ما عداه نسبي. لذا فإن عملية التوبة هي بمثابة الكشف عن الضوء والنور، ودلالة على وجود حَنِين إلى هذا النور، والرغبة في الانغماس فيه والتطهُّر به. وهكذا تكون درجة التوبة تبعًا لحالة كل فرد. فنحن نرى النور، ويتعزَّز انغماسُنا وتقدُّمنا فيه من خلال العمليات المعروفة في الإسلام باسم “السلوك”. فالإنسان يسعى دائمًا للرجوع إلى الله تعالى، وأن يحظى برحمته ورضوانه، طلبًا لتوبة تامَّة يتطهِّر بها من الإثم والذنب، ويعتصم بها من الرجوع إلى المعاصي، بفضل رحمة الله التي وسعت كل شئ. لذا نحن ندعو الله تعالى الرحمن، ونُلقِي بأنفسنا على عتبة بابه، بلا حولٍ ولا قوة، لالتماس نعمته المتمثلة في التوبة، فهو سبحانه التواب الرحيم، ونحن جميعًا عبيده.

وفي صياغة قرآنية بديعة، يعبِّر الله تعالى عن عملية التعليم والتربية والتوبة بقوله: “اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (البقرة: 257). فالله تعالى هو الراعي والحامي للذين آمنوا به. وفي الآية تعبير مثالي عن عملية التوبة والتعليم، وتوضيح لأسئلة مثل: من أين يأتي التعليم؟ وأين نحن؟ وإلى أين يجب أن نذهب؟ إذ نلاحظ أن الله تعالى هو العامل الفعَّال هنا، فليس للبشر أي دخل في الانتقال من الظلمات إلى النور. والله هو الوليُّ ذو الحكمة والرعاية، فهو يأخذ المؤمنين إلى النور، أي التوحيد. والظلمات دائمًا ما تأتي في القرآن بصيغة الجمع؛ لأن هناك دائمًا أكثر من طريق مظلم. ولكن النور واحد فقط، ومن أسمائه تعالى “النور”، والنور لا يتجزَّأ، فهذه استعارة مثالية لله تعالى.

لذا فإن عملية التوبة، وعملية التعليم، وكيفية أن تصبح مسلمًا حقيقيًا لله تعالى، جميعها يكمن في القرب من الله تعالى والاقتباس من نوره، بما في ذلك التعرف على حقيقة الظلمات، والتي لا تتضح إلا من خلال النور الذي يجلِّيها ويكشف شكلها وقدْرها، والذي يؤدي إلى تلاشيها في نهاية المطاف.

على النقيض من ذلك، فإن الذين كفروا وينكرون النور أولياؤهم الطاغوت الذين يدعمونهم ويساندونهم في ضلالهم وغيِّهم وظلامهم. وعلى خلاف النور الواحد، فإن هذه الطواغيت المظلمة آلهة متعددة كاذبة، تُنسَب إليها القوة المطلقة زورًا، وتستدرج الموالين لها إلى الظلمات. لذا فإن الآية الكريمة تعبير عن صورة ديناميكية للكون والعالم الذي نعيش فيه. وهذه الديناميكية لا نهاية لها؛ إذ لا توجد لحظة تخلو من حالٍ إمَّا أن تقترب فيها الروح البشرية من النور أو تبتعد عنه، فنحن جميعًا في حالة تذبذب دائمة، مناطها بيد الله تعالى وحده؛ فهو مقلِّب القلوب. فهذه هي حالة الإنسان، وهذا هو جوهره؛ فكل لحظة تمضي عليه يتحرك فيها إمَّا للأمام أو للخلف، وإمَّا أن تكون لحظة أفضل أو أسوأ من سابقتها.

لذا نحتاج إلى الإقرار بأن عملية التعليم الإسلامي، لا تتعلق فقط بتعليم الصغار قِيَم المجتمع، وإنما أيضًا تعليمهم الإنسانية وحقيقة الكون وسُبُل إخراج الناس من الظلمات إلى النور، والتأكيد على أن الله تعالى هو مَن يفعل ذلك، فالنبي عليه السلام لم ينسب تعليمه لنفسه، بل إلى ربه، فقال: “أدَّبَني رَبِّي فأحسَنَ تأديبي”. ولأن التعليم هو غرسٌ لما هو حق، فيجب أن يأتي من الحقيقة؛ أيْ الاستلهام مما هو إلهي، وذلك عبر توفيق الله تعالى لعباده.

التعليم الغربي .. أُسُسه وتطوُّره:

من الملاحظ أن حضارة الغرب أكثر تركيبًا من الحضارة الإسلامية، رغم أن طرق التعليم الغربية الإغريقية كانت موجودة أيضًا في حضارة الإسلام، في الطب وبعض جوانب اللاهوت والمنطق. إلا أن المكوِّن السَّامي كان دائمًا أكثر أهمية ومركزية للحضارة الإسلامية مقارنة بـالحضارة الغربية المسيحية [5]. وقد عكف الكلاسيكيون في الغرب، أي ما قبل القرن الثامن عشر الميلادي، على وضع الأسُس الراسخة لما أصبح عليه نمط التعليم الآن في العالم الحديث، والتي تتمثَّل في ثلاث مكوِّنات مختلفة مشتقة من عدة مصادر:

المصدر الأول: من اليونان، لاسيَّما نظريتها في المعرفة، بما في ذلك نظرية أرسطو وأفكاره هو وأفلاطون حول التعليم المنهجي، ونظرية الجَمال والأخلاق. حيث دمَج المفكرون الغربيون هذه الأفكار والنظريات معًا في العصور الوسطى المبكِّرة لتصبح المنهج الدراسي المعتمَد في الغرب.

المصدر الثاني: إرث روما القديمة، لاسيَّما الأفكار المنوطة بفن الحكم والقانون، وما يُعرَف بالحوكمة.

المصدر الثالث: وهو الأقل بروزًا في بعض النواحي، وهو الدين؛ أي القصص اليهودي المسيحي حول الأخلاق والإيمان، والذي كان ثانويًا في الممارسة العملية، رغم أنه بدا المكوِّن الأكثر أهمية.

وقد استمر هذا التوليف بين علوم اليونان وروما والعبرانيين، في صياغة النماذج الكلاسيكية للتعليم الغربي حتى يومنا هذا تقريبًا. لذا كانت المدارس البريطانية العامة التقليدية، على سبيل المثال، تستحضر دائمًا هذه المكوِّنات الثلاثة لدى تنشئة الطفل الإنجليزي.

ولكن منذ حوالي 120 عامًا، بدأ كل هذا في التغيُّر. ولعلَّ من المثير للاهتمام النظر في مراحل التحوُّل في رؤية الغرب لقضية التعليم؛ إذ يبدو أنها تشهد تغييرًا جذريًا كل مئة عام. وقد لاحظ المؤرِّخون عدم ملائمة هذا التغيير المئوي من وجهة نظر أولئك الذين يستخدمون التقويم الغريغوري [الميلادي أو الغربي أو المسيحي]، حيث يكتسب هذا التغيير الجذري زخمًا عادةً قبل حوالي 20 عامًا من بداية كل قرن. أما من وجهة نظرنا، فهذا التغيير يتسق عن كثب مع التقويم الهجري الإسلامي.

على هذا المنوال الزمني، بدأنا نرى في فجر القرن الثالث عشر الهجري [1200 ه= 1785 م]، بدايات تراجُع التوليف المسيحي الكلاسيكي الذي ظهر في العصور الوسطى في مجال التعليم، حيث ظهرت أولى الأصوات المناهضة صراحةً للأشكال الكلاسيكية للدين، وللنزعة الهلنستية [اليونانية] الكلاسيكية، وتجلَّى الإعلان الصارخ عن هذا التيار في الثورة الفرنسية عام 1789 م، حيث اقترنت الثورة بإنكارٍ جذريٍّ للاهوت المسيحي الأوروبي التقليدي. وفي إنجلترا وأمريكا، كانت هناك شخصية رئيسية أخرى، مثل “إدوارد جيبون” مع كتابه “تاريخ انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية” [الذي صدر بين عامَي 1776 و1788 م]، والذي كان أحد الأعمال الأولى التي تحدَّت أبعاد وقِيَم التعليم المسيحي، وذلك عبر تصدير سؤال رئيسي: هل ساهمت المسيحية بالفعل في انهيار تلك الحضارة الموحَّدة العظيمة؟ وهل كان لهذه الديانة نمط وتأثير تعليمي ما من الأساس؟ [6]

مع بداية القرن الرابع عشر الهجري [1300 هـ = 1882 م]، وجدنا تحولًا رئيسيًا آخر يحدث في القارة الأوروبية؛ حيث أخذت الداروينية تكتسب زخمًا حقيقيًا لأول مرة. وبدأ “سيجموند فرويد” [1856 – 1939 م] في التعبير عن تفكيكه ذي النزعة العلمانية الشديدة للنفس البشرية. ولاحظنا تطورًا لأشكال الحداثة في الفن، وبدايات الحركة الفنية الانطباعية، التي لا ترى وجوب انصراف الفن إلى الاحتفال بالجَمال والتناظر[7]؛ ما أدى إلى المَيْل نحو عالم أكثر فوضوية يتسم بنظرة نقدية تشاؤمية للنظام الطبيعي والجنس البشري. وبلغ ذلك أوجَه مع شخصيات مثل الرسَّام الفرنسي “بول سيزان” [1839 – 1906 م]، و”كارل ماركس” [1818 – 1883 م] في كتابه “رأس المال”، و”بيان الحزب الشيوعي”. وبزغت أشكال الاشتراكية المتشددة، التي أخذت حينها تكتسب قوة وزخمًا في الغرب.

مع بدايات القرن الخامس عشر الهجري [1400 هـ = 1979 / 1980 م]، شهدنا انهيار الشيوعية فجأة وسقوط جدار برلين عام 1989 م، ثم أخذت فلسفة ما بعد الحداثة تحلّ محلّ الحداثة، مع رفض قاطع لفكرة “المعنى الجوهري” لأي شئ؛ فكرة أن كل ما ندركه في العالم ليس أصيلًا، بل نسبيًا، فهو ببساطة تصوُّرنا الخاص لشيء لا يمكن قياسه موضوعيًا.

كل هذه التحوُّلات السابقة، التي صادفت بدايات بعض القرون الإسلامية، كانت تمثيلًا قويًا لتشكيل الوعْي الأوروبي، الذي ابتعد عن الإله وعن الحقيقة، بالتوازي مع محاولة العودة إلى المصدر بعيدًا عن النصّ المقدَّس، [مفتِّشًا في] التاريخ نفسه؛ بحيث كان على كل شئ إعادة تعريف نفسه من حيث نقطة الصفر.

وقد لاحظنا أن الحداثة، مع بدايات القرن الخامس عشر الهجري، قد فقدت مصداقيتها نسبيًا؛ لأنه يبدو أن هناك شيئًا آليًا ومثاليًا للغاية بشأن العودة إلى نقطة الصفر، والتي فَشَلَ الناسُ في الوصول حقيقةً إليها. لذا، ظهرت آنذاك محاولة لفتح ما أسماه المهندس “ريتشارد ماكين” [1934 – 2014 م] “الخزانة الكبيرة”، حيث بإمكاننا الاستفادة والتعلُّم من حضارات الماضي، سواء كانت الحضارة الرومانية أو البيزنطية أو المورية [8] أو الإسبانية أو أيًا كان ذلك الموجود في الخزانة الكبيرة للحضارة الإنسانية، ومن ثمَّ إخراج ما يمكنه إمتاعنا من هذه الخزانة.

هذه هي المراحل التي تطوَّرت فيها ثقافة الغرب، وانعكست – من ثمَّ – على التعليم الغربي. فالأخير – في نهاية المطاف- لم يعد نابعًا عن اهتمامات مقدَّسة بحتة، بل أصبح يتعلق أكثر بالنماء الشخصي أو الفردي، واقترن ذلك بمحاولة إعادة اكتشاف الفكرة اليونانية عن عظمة الكمال البشري؛ وتصديرها باعتبارها الوظيفة والغرض الأساسي للعملية التعليمية[9].

ولا يزال هناك قدر معين من التجاوز مرتبط بهذا الفكر كذلك، والذي يتمثل في الاعتقاد بأن التعليم يمكِّن البشر من أن يصبحوا نبلاء أيضًا. وذلك على نحو ما قال “ألفريد نورث وايتهايد” [1861 – 1947 م] من أن التعليم هو عملية نقل الثقافة؛ لتمكين الأفراد والمجتمع من تحقيق حياة جيدة تتجاوز دائمًا حقيقة الحياة المجرَّدة، وجعلنا أكثر من مجرد تروس في آلة كونية أو اجتماعية.

ومع ذلك، أصبح التربويُّون العلمانيُّون، في القرن الخامس عشر الهجري [1400 هـ = 1979 / 1980 م]، غير راضين حتى عن هذا التوجُّه، وأصبح النهج المتزايد الآن هو اعتبار التعليم كما لو كان وسيلة للتقدم الاجتماعي (Social Progress). ولا يعني التقدُّم هنا المساواة الطبقية، وإنما أشكالًا أخرى من المساواة، مثل المساواة بين الجنسين، والمساواة بين الأشخاص ذوي الأعراق والتوجُّهات الجنسية المختلفة. لذلك يمكن تعريف التعليم الحديث بأنه “تثاقُف” ضد التقاليد؛ فهو نموذج تحويلي واضح للهندسة الاجتماعية، على الرغم من معارضته المعلَنة لجميع أشكال التدخل السلطوي. إنه نظام يسعى الى تفكيك التقاليد للمغامرة في المجهول. لذلك نجد في هذه المرحلة الجديدة أنه تم التخلِّي تدريجيًا عن الفكرة المتمثلة في أن للحياة معنى، وأن الغرض من التعليم والتربية هو مساعدتنا على تمييز هذا المعنى والعيش به. إذنْ يمكننا القول إن الهدف من التعليم أصبح غامضًا وقابلًا للتفاوض أكثر من أي وقت مضى. لذلك، في كتابه الشهير “التعليم كمبادرة – Education as Initiative”، الذي يُعَد الكتاب المقدس للعديد من التربويِّين المعاصرين، يشير الفيلسوف الإنجليزي “ريتشارد ستانلي بيترز” [1919 – 2011 م] إلى أن المعلم العظيم هو مَن يستطيع نقل الإحساس بجودة الحياة إلى شخصٍ آخر، بحيث يتوق إلى إصلاح ما يفكر فيه، ويشعر به، بشكل يتلاءم وهذه الحياة الجيدة. والإشكال هنا أن هذه الكلمات تعني أن تعبير “جودة الحياة” يفترض وجود إجماعٍ حوله، أو وضوح حول ما قد تتكوَّن منه الحياة الجيدة.

فما هي إذَنْ الحياة الجيِّدة؟ وهل الوصول إلى هذه الحياة هو السبب الحقيقي لوجودنا في هذه الحياة؟ ثم مَن هو الشخص الجيد؟ وهل هناك فضائل (Virtues) مطلقة؟ وهل ما زلنا نتحدَّث في العالم الحديث عن الفضائل بدلًا من القِيَم (Values) النسبية؟

من الواضح أن هناك إجماعًا متضائلًا (Diminishing consensus) حول ماهيَّة الحياة الجيدة، وبالتالي يمكننا الحديث عن أعمق أزمة عرفها الغرب على الإطلاق في نظرية التعليم أو التربية. فمنذ ستينيَّات القرن الماضي، حدث تفكُّك تدريجي للقِيَم، بشكل لا يمكن إيقافه؛ حيث طغت صورة “آلية – ميكانيكية” متزايدة للكائن البشري. ويمكننا القول إن الرؤية “البروميثية” [10] للتعليم الغربي التي بدأت في القرن الثامن عشر مع أشخاص مثل “إدموند بيرك” [1729 – 1797 م]، كمقاومة ليقينيَّات المسيحية، قد وصلت، مع حقبة الستينيات، إلى نتيجتها التدميرية المنطقية؛ بحيث لم تعد المدارس تُنتِج رجالًا ونساءً [وفق معايير] الفضيلة، وتخلَّت عن الادّعاء بأنها تقوم بذلك؛ لأنه لا أحد يعرف مَن هو الشخص الفاضل. وكل ما يمكنها ادّعائه هو إنتاج أشخاص لا يزعزعون الاستقرار المجتمعي. فهذا ما يأملون تحقيقه، وإن كان الواقع يدحض ذلك غالبًا.

فعلى النقيض من المجتمعات التقليدية التي افترضت أن سنوات المراهقة توصيف لفترة هدوء نسبي يخضع فيها المراهق للوالدَين، أصبح لدينا في الوقت الحاضر الشخص الجانح الذي يثور بشكل نموذجي ضد والدَيْه، وضد الدين، والسلطة، والدولة، والمجتمع. لذلك انقلب الأمر تمامًا بالنسبة للأفكار التقليدية، وانبثق نوع جديد من الأفكار والمنتجات عن نظام التعليم في العالم الحداثي، يدور بالأساس حول الجسد؛ بحيث أصبح الأخير هو الشئ الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه [والعيش لأجله]. وبالتالي انزوى دور العقل والفلسفة؛ حيث لم يعُد بمقدور أي منهما مساعدتنا حقًا في تحديد أي يقينيَّات نسِير على هدْيها. أمَّا الروح فأصبحت مهجورة تمامًا، اللهمَّ باستثناء المدارس المسيحية، وبعض دوائر العصر الجديد (New Age Circles)[11] التي تعيد تعريف الروح بشكل مختلف جذريًا. فهذه الدوائر لا تدرك مفهوم “النفس” حقًا، ويغيب عنها فكرة أن الروح هي شيء تعوقُه هذه النفس. ومن ثمَّ، يدور الأمر كله في هذه الدوائر حول اكتشاف الذات وإعلان الذات، وهو في الواقع عكس الروحانية التقليدية. وبهذا المعنى، يمكن القول إن النقطة اليقينية التي تستند إليها هذه الدوائر كذلك هي الجسد؛ إذ نمارس الرياضات لأجل تقوية الجسد. وهو أمرٌ اكتسبناه من الإغريق القدماء في حقيقة الأمر. واليوم يقوم بعض الشباب بالخضوع لجراحات تجميلية دون الحاجة إلى ذلك، بل ويحجز بعضهم أدوارًا لعمل جراحات تجعلهم على هيئة أو شكل معين مستقبلًا. وانظر إلى الأطفال الذين يدخلون على مواقع الويب وهم في سن العاشرة؛ لمعرفة الشكل الذي يريدون أن تكون أجسامهم عليه في سنٍ أكبر، حتى قبل أن تبدأ أجسامهم في النمو. وهذا أمر شائع – وسيصبح أكثر شيوعًا – بشكل متزايد. فالجسد هو الأمر اليقيني الوحيد في العصر الحديث. ويُنظر إلى الإنسان على أنه آلة بيولوجية معقدة ومتطورة للغاية، فيما أصبحت الميتافيزيقا والغيب أسطورة.

لذا، يمكن القول إن ما كان عَرَضيًا أصبح محوريًا، وما كان محوريًا أصبح منسيًا تمامًا. والتعليم الحديث لا يمكنه فعل أي شئ على الإطلاق للوقوف ضد ذلك. ومن ثمَّ، خسرنا المعركة بشكل ساحق.

ولكن إذا كان نظام التعليم الراهن يسير على هذا النحو المادِّي، فما هو النظام البديل؟

بشكلٍ عام، يمكن القول دون مبالغة أنه لا يوجد في عالم اليوم سوى نظامَين فقط باقيَيْن؛ الأول هو المشتق من الحضارة الغربية بعلمانيتها الحداثية التي هيمنت على كل شئ آخر تقريبًا. والثاني هو المشتق من الحضارة الهندوسية والحضارة الصينية، حيث لكلٍ منهما أساليبه التعليمية المعتمدة حتى الآن.

هذا هو ما شكَّلنا جميعًا؛ لأن معظمنا مرَّ بهذه النوعية من المدارس، سواء نشأنا في الغرب أو العالم الإسلامي[12]. إن مجرد التحدُّث باللغة الإنجليزية يعني تصنيف المرء تقريبًا في هذه الخانة أيْ خانة التعليم الغربي. وهذا يجب أن يُوضَع مقابل الفهم الإسلامي للتعليم، والذي يتجذَّر – كما رأينا من قبل – في الفهم الإسلامي للإنسان على أنه يتدرَّج من وضعية “الأسفلَ سافلين” ليصل إلى درجة أعلى من الملائكة.

بالتأكيد لا توجد أرضية مشتركة بين الأنثروبولوجية الغربية وتلك الإسلامية؛ لأننا لا نستطيع أبدًا اختزال المخلوق البشري وتحديده حصرًا من خلال البيولوجيا، بمعنى أن الطبيعة البيولوجية هي التي توجِّهه. إذَنْ: ما هو المخلوق البشري؟

يمكننا استخدام التعريف القرآني، ونقول إن الإنسان هو المخلوق الذي سجدت له الملائكة، والذي لم يرَ فيه إبليس سوى المادة المكوِّنة له فقط، وأنه خُلِق من “طينٍ لازب”، ليدَّعي أن هذا فقط هو قوام الإنسان، ولا يستحق السجود له. على هذا النحو، يجوز القول إن إبليس هو بمثابة المُنظِّر للنهج التعليمي والتربوي الحديث، لأنه يقول بالضبط ما يقوله التعليم الحديث؛ وهو أن الإنسان مجرد كتلة مادية من الطين.

لذا، مرة أخرى، نرى في القرآن الكريم هذا التمييز بين التعريف الملائكي والوحشي للحالة الإنسانية؛ وهذا التمييز أو بالأحرى المعركة، خسرناها في الغرب، ونكافح من أجل الفوز بها في العالم الإسلامي.

عودٌ على بدء!

مرة أخرى، نعود إلى السقوط أو الهبوط الأول في التاريخ البشري؛ وهو الخاص بآدم عليه السلام، وتعليمه الأسماء التي منحته شرف “الخلافة” في الأرض؛ حيث يذكر جلال الدين الرومي أن تعليم الله الأسماء لآدم، يجعلنا سادة هذا العالم، لأنه تعالى اختصَّنا بهذه الأسماء دون بقية خلقه.

إن قدرتنا على إعطاء أسماء للظواهر تنشأ في اللحظة الأولى من وجودنا ككائنات واعية، بإمكانها تسمية الأشياء، وهو ما يشير إليه القرآن العظيم، بأن الله تعالى قد أخذ من آدم، قبل نفخ الروح فيه، أنفُسَ ذريَّته، قبل أن يتجسَّدوا في العالم، “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْۖ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَاۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ”(الأعراف: 172). فذلك – إنْ شئت القول – هو نوع التعليم البدائي للبشر حتى قبل أن يتلقَّى آدم عليه السلام من ربِّه الكلمات أو الأسماء.

وبالتالي يمكن القول إننا من تلك النقطة بشر متعلِّمون، ما يعني أن كل تعليم في العالم هو “إعادة تعليم”؛ أي أنه استعادة لما عرفناه من قبْل؛ عرفنا ذلك “جُمْلةً”، ولم نكن نعرفه “تفصيلًا”، فالصورة الكبيرة العامَّة هي التي كانت لدينا.

إن آدم عليه السلام هو النموذج الأوَّلي للبشرية جمعاء في عملية غرس التعليم؛ لأننا كُنَّا حاضرين بداخله حين أخذ الله عز وجل ذلك العهد “أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ”؟ لذلك كان آدم مستودعًا لكل المعرفة، وتحديدًا حدّ المعرفة الذي أجبنا فيه خالقنا بقولنا “شَهِدْنَا”. ومن ثمَّ فإننا “آدميُّون”، يجب علينا السعي لاستعادة آدميَّتنا [أيْ مكانتنا الآدميَّة اللائقة بنا].

وعليه، فإن التعليم من المنظور القرآني لا يتعلق بالتقدُّم على الإطلاق، ولا يتعلق بالمضي قدمًا في اكتشاف المجهول، بل يتعلق بالتراجع لاكتشاف هويَّتنا والمراد منَّا حقًا. وفطرتنا تحثُّنا على العودة؛ لأننا نعلم أن الخير يكمن في مصدرنا [الجوهر الذي انطلق منه كل شئ]، وليس في الأطراف [الأشياء الهامشية]. وطبيعتنا الآدميَّة هي الطبيعة التي نرغب في العودة إليها؛ لأنها “الفطرة” التي وُلِدنا بها وعليها.

لذا، فإن التعليم في الإسلام هو شكل من أشكال العبادة لخالقنا، وهو ليس مختلفًا عن الصلاة والصيام؛ لأن كلًا منها يشكِّل في الحقيقة عمليات عودة لاسترداد ما فقدناه لتذكير أنفسنا؛ بينما نتعلَّم كيف نستعيد مكانة آدم لمعارف العالم. الحقيقة أن موضوع التعليم يتعلق بكل جانب آخر من جوانب ديننا، ويتعلق بشكل أعمق بفهمنا لماهيَّتنا، ويجيبنا على تساؤل وجودي، وهو: مَن نحن؟.

وإذا أردنا حقًا أن نؤطِّر تعليمًا إسلاميًا لأنفسنا ولمجتمعاتنا وللعالم، فعلينا أن نفهم حقًا كُنْه الحضارة التي نواجهها، ومدى عمق الاختلافات التي تفصل بين وجهة نظرنا السَّاميَة للحالة الإنسانية، وتلك الحالة الحداثية الزائفة.

ختامًا، يمكن القول إن النقطة الأساسية التي سعى د. عبد الحكيم مراد إلى تأكيدها، عبر محاضرته، هي الإيمان بالله تعالى؛ باعتباره تعالى نقطة البدء والمعاد؛ فهو خالق عباده، الرحيم بهم، المُنعِم عليهم بعلمه، وهو قابل توبتهم حال رجعوا إليه إذا مالوا عن سواء السبيل، وإليه مردّهم جميعًا في نهاية المطاف. إن معرفة الله تعالى وصفاته حقَّ المعرفة، تجعل عملية التعليم ذات أهداف رفيعة ونبيلة، يُستعان فيها بوسائل التفكُّر والتبصُّر في علامات الخالق، وما تحمله من جماليات دالَّة عليه. ومن ثمَّ، تؤدي هذه العملية في جوهرها إلى بناء إنسان متوازن ومتكامل روحيًا وعقليًا وجسديًا، بوسعه أداء الأمانة التي حملها، والمتمثلة في خلافة الله تعالى في أرضه، استمرارًا لنهج أبو البشر آدم عليه السلام.

ومن هذا المنطلق، امتازت عملية التعليم في الحضارة الإسلامية وفاقت أقرانها في الحضارات الأخرى، في إثبات الصلة بالجوهر الإلهي والروحي الذي لا غنى عنهه لتقويم حياة الإنسان بصفة دائمة. ومن هذا المنطلق أيضًا، أثبت د. مراد، وهو الذي نشأ في بيئة غربية وخبيرٌ بأحوالها، خطأ اقتصار الحداثة وما بعدها على الجوانب المادية فقط في العملية التعليمية؛ وتركيزها على مركزية الإنسان، باعتباره الوسيلة التي يمكن من خلالها إحداث التقدم واستكشاف المجهول. ومن ثمَّ، أُهمِلَت الجوانب الروحية والأخلاقية التي أفقدت الإنسان توازنه على الحقيقة، ودفعته للهرولة وراء طموحات مادية بعيدة كل البعد عن الهدف السامي الذي خُلِق لأجله. لذا، كانت دعوة د. مراد مدويَّة في محاضرته بضرورة التعرُّف إلى ماهيَّة الحضارة الغربية المادِّيَّة، والعمل بالتوازي على استعادة ركائز التعليم الإسلامي باعتباره البديل الأمثل لمواجهة هذا التيار المادِّي الهدَّام. وهي دعوة جديرة حقًا بإيلائها النظر والاهتمام الكافي؛ بما يساعد على الخروج من حالة السقوط التاريخي الثالث المتمثل في عصر الحداثة وما بعدها.

*************

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تفريغ للمحاضرة الأولى من ثلاث محاضرات ألقاها د. عبد الحكيم مراد بولاية فلوريدا الأمريكية في عام 2011 تحت عنوان “جوهر التعليم الإسلامي= The Essence of Islamic Education” وهي منشورة على قناة “Islam on Demand” وهي منشورة في مارس 2011 على الرابط التالي:  https://tinyurl.com/ta44rna8

** أستاذ الدراسات الإسلامية.

[1] جاء هذا المعنى في قوله تعالى: “لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ (4) ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَاٰفِلِينَ (5) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ (6)” (التين: 4 -6).

[2] رواه عبد الله بن مسعود، وذكره السيوطي في الجامع الصغير، برقم 309.

[3] رواه أبو هريري، وأخرجه البخاري (6469)، ومسلم (2752) باختلاف يسير

[4] هو مبدأ في علم الكونيات يشير إلى أن خصائص الكون، كالثوابت الأساسية، يجب أن تكون متوافقة مع وجود الحياة البشرية أو أي مراقب لها، لأننا ببساطة موجودون لملاحظة هذا الكون.

[5] لا أدري لمَ استعمل د. عبد الحكيم مراد صفة “السَّاميَّة” على نحوٍ خاص للتمييز بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية. لكن يبدو أنه عمد إلى ذلك في هذا الموضع للتأكيد على خصوصية الحضارة الإسلامية كذلك بعلومها ومعارفها وطرائقها التعليمية، رغم تسرُّب الطرق الإغريقية التي شاعت في الحضارة الغربية إليها، وربما لأن العرب الذين حملوا راية الإسلام يرجع نسبهم إلى سام بن نوح عليه السلام.

[6] ومن بين استخلاصات “جيبون” في هذا الصدد رؤيته أن المسيحية كانت أحد العوامل الرئيسية في انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية، باعتبار أن تزايد التنصير نَشَر الانقسامَ، وزَرَع “عقلية إدارة الخدّ الآخر” التي قوَّضت قوة الإمبراطورية.

[7] فالتناظر، بمعنى التشابه، يعني إدراك أن كل شئ في الوجود ينتهي في حقيقته إلى أصل واحد، وأن هناك عناصر تشابه جمالية بين المخلوقات جميعًا تدل على هذه الحقيقة؛ أي أن أصلها جميعًا يعود إلى الإله الخالق الواحد.

[8] المور (Moor): يشير هذا المصطلح تاريخيًا إلى سكان شمال غرب أفريقيا المسلمين الذين حكموا أيبيريا، التي تضم إسبانيا والبرتغال وجزءاً من فرنسا وجبل طارق وأندورا.

[9] يبدو أن د. عبد الحكيم مراد يشير إلى “الكمال البشري” هنا بمعناه السلبي الدنيوي؛ أي الإعجاب بالنفس وإعلائها، دون أهداف أخرى سامية.

[10] الرؤية البروميثية (Promethean Vision) تُنسَب إلى “بروميثيوس”، أحد أساطير اليونان، الذي نصفه إله ونصفه إنسان. ومن صفاته التمرُّد والتوق إلى ابتكار أشياء جديدة واستنفار الطاقات في محاولة دائمة لتجاوز حدود القدرات البشرية. وبحسب البعض، فإنه رغم كون “بروميثيوس” مخادعًا بارعًا معروفًا بمكره، إلا أنه يُصوَّر غالبًا – للإنسان – على أنه شخصٌ صالح وبطل، والذي لولا تضحياته وجهوده لكان لا يزال غارقًا في عبوديةٍ جاهلةٍ للآلهة الجبَّارة.

[11] “دوائر العصر الجديد”: مصطلح يشير إلى مجموعة من المعتقدات والممارسات خارج الديانات السائدة، والتي غالبًا ما تُركز على مواضيع مثل الكلية، ووحدة الوجود ، وإيجاد الطاقة الإلهية في الذات والكون، وقد تشمل ممارسات مثل اليوغا، والريكي، وعلم التنجيم، وتفسير الأحلام. يُركز هذا المصطلح على مجتمع روحي منظَّم بشكل فضفاض، بدلًا من دين واحد موحَّد.

[12] ربما خصَّ د. عبد الحكيم مراد الحضارتيَن الإسلامية والغربية بالتناول؛ لأن الحضارتَيْن الأخريَيْن (الهندية والصينية) محصورتان جغرافيًا في كلٍ من الهند والصين على التوالي، إلى حدٍ كبير، وذلك على خلاف الأولَيَيْن.

عن وليد القاضي

شاهد أيضاً

الجمال بين الرؤية الإسلامية والعولمة

أ. د. زياد خليل الدغامين

تعد مواجهة التحديات التي تهدف إلى طمس الهوية الإسلامية، ومسخ قيمها، والعبث بمفاهيمها الدينية والثقافية من الضرورات الملحة التي تفرض نفسها على واقع الأمة.

البيئة الثقافية للصناعة والتقنية

أ. د. ممدوح عبد الحميد فهمي

لا أستطيع أن أبدأ هذا البحث قبل أن أُعرِّف القارئ بنفسي وبعلاقتي بموضوع البحث. ولدت في الجيزة وتلقيت تعليمي الجامعي في هندسة الطيران وفي الرياضيات في جامعة القاهرة في الستينيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.