معنى الحياة في العالم الحديث

العنوان: معنى الحياة في العالم الحديث

المؤلف: عبد الله بن عبد الرحمن الوهيبي.

الطبعة: ط. 1.

مكان النشر: القاهرة.

الناشر: مركز تكوين للدراسات والأبحاث.

تاريخ النشر: 2021.

عدد الصفحات: 455 ص.

إن العالم المعاصر عالم مثقل بالمشكلات التي تهدد كيان الإنسان باعتباره إنساناً، لقد أًصبح إنسان اليوم مثقل بالبحث عن ذاته، يئن تحت صرخات جوهره الإنساني الباحث عن الغاية والمعنى من الوجود في هذا العالم المادي الذي نعيش فيه اليوم، هذا العالم الذي لا يعرف سؤال الغايات ولا ينظر لما هو أبعد من الأفق المحكوم بقوانين المادة.

 من هنا تأتي أهمية موضوع هذا الكتاب الذي بين أيدينا، فهو مساهمة دسمة في مناقشة إحدى إشكاليات الإنسان المعاصر والمتمثلة في “أزمة المعنى”، حيث يهدف هذا الكتاب إلى تقصي طرف من جذور هذه الأزمة وفحص بعض خلفياتها التاريخية وملامحها النفسانية وتحليل تجلياتها ومظاهرها في البنية العاطفية وأنظمة العلاقات والفنون المعاصرة، كذلك انعكاساتها على مفهوم الذات والموقف من الجسد والوعي بالزمن، وذلك انطلاقاً من نافذة الأسس النظرية والتطبيقية “لفردانية تحقيق الذات”، حيث يرى الكاتب أن الإشكالية الرئيسية التي تحيط بمعنى الحياة ترتبط ارتباطاً جوهرياً بالتكوينات الثقافية والاجتماعية للذات الحديثة وبنيتها الفردانية المعاصرة. وفي هذا الإطار يتتبع الكاتب تفسيرات وشروح نظرية عديدة عبر حقول العلوم الاجتماعية والنفسية والفلسفة الأخلاقية والسياسية وذلك بهدف تنظيم صيغ تفسيرية تسهم في فهم مآزق الذات الحداثية وتكشف علاقتها بأزمة المعنى في العالم المعاصر، ثم ينهى الكاتب هذه الدراسة بالإجابة عن سؤال المعنى من خلال تقديم صيغة إجمالية للسردية القرآنية لمعنى الحياة.

مدخل نظري

يبدأ الكاتب هذا الجزء بمناقشة مفهوم “معنى الحياة” مبيناً أنه – بحسب ما يرى الباحثين- يتضمن تقريباً أهم الأسئلة الوجودية الكبرى المتعلقة بالغاية من الوجود والخلق، وحاجة أفعال الإنسان أن تؤسس على شئ ما، وكذلك الحكمة من وجود الألم والمعاناة والموت وما يتعلق به من أسئلة.

ويبين الكاتب بعض من مظاهر الأزمة المعاصرة المتعلقة بالمعنى وهي الاستعمال السلبي لمفهوم “معنى الحياة” سواء بنفيه أو التعبير عن غموضه وتفلته، وأن ذلك أصبح استعمالاً ظاهراً في إطار المنظور الحداثي للعالم لأنه يعبر عن أزمة عامة تحيط بهذا السؤال في فضاءات الثقافة الغربية، ولكن من المؤسف أنه بات يُستعمل أيضاً بين بعض المنتمين إلى البيئات الإسلامية على الرغم من كون معنى الحياة يُعد من بديهيات التصور الإسلامي.

ينتقل الكاتب إلى التأكيد على مسألة أن البحث عن معنى الحياة ليس ترفاً فكرياً مجرداً وإنما هو أمر ينبع من داخل البنية الدماغية والحيوية للإنسان، فالفرد ينزع إلى تبرير الوجود الذي يراه من حوله، ولذلك نجد ميلاً إنسانياً عاماً إلى الإيمان بأي نوع من المواقف الأيديولوجية إن كانت تفسر الأحداث والواقع بشكل منسجم بتقديم مبدأ جامع يتجمع وراءه كل ما يحدث ويفسر جميع ما يقع.

فالإنسان لا ينفك أن يلحظ بحدسه الداخلي إمكانية وجود أعماق أبعد في جوانب الوجود المختلفة، وتظل الدوافع قائمة في نفسه لمقاربة كنه الأشياء ومعناها الكلي، فحتى حاجات الإنسان الغريزية ترتبط عنده بمعنى ما وكأن كيانه الذاتي مدفوع دفعاً مقلقاً إلى تجاوز الحوافز الحيوانية الخالصة. من هنا يستدعي الكاتب تفسير ماكس فيبر لأزمة المعنى بأنها راجعة إلى مسار تطورات العلمنة والعقلنة في تاريخ الغرب الحديث، حيث يرى أن الفهم العلمي للعالم هو السبب في محو القداسة عن الكون واستبعاد صلته بالرب، وأن العالم موجه على نحو له معنى أخلاقي، فالنظرة التجريبية للعالم –الموجهة بأكملها توجيهاً رياضياً- من حيث المبدأ تظهر الإنكار لكل طريقة من شأنها أن تتسائل عن معنى ما للأحداث الجارية داخل العالم.

وانطلاقاً من هذا المأزق ومع تراكم الثقافة المعلمنة منذ عصر النهضة وحتى الآن تفاقمت الأزمة حتى تبلد الإنسان المعاصر، لا سيما في البلدان الغنية، وأًصبح غير مكترث بالأسئلة الوجودية الكبرى، ولا يجد غضاضة في تجاهلها أو التعايش مع مواقف لا أدرية تجاهها. وعلى الرغم من هذا يبين الكاتب أنه، حتى لو تم تجاهل هذه الأسئلة على مستوى الرؤى الكونية فإنها لا تلبث وتعود للبروز أمام الفرد في مجريات الحياة اليومية التي مهما بلغت من طيب العيش والراحة فإنها لا تخلو من مصاعب ونقائص تحيط بالبنية البشرية من كل جانب. فالملذات تبهت والأفعال اليومية تصبح مملة والصداقات والعلاقات تتخللها الرتابة، ففي هذه اللحظة، التي يصفها الفيلسوف الألماني بأنها اللحظة التي يشعر فيها الفرد شعوراً كاملاً بالخروج من اللحظة الآنية ويتجلى فيها الضعف الإنساني المتمثل في الخوف والألم والمرض والوحدة والموت واستحالة الاعتماد على العالم، يعود المرء مرة أخرى ليسأل ما فائدة هذا كله؟ يبحث بذلك عن المعنى. وفي هذا السياق يقف الكاتب عند ثلاثة حالات (الملل الضجر، المعاناة والألم، والموت) ليناقش دلالتهم وارتباطهم الشديد بالبحث عن المعنى من الحياة، وهم ثلاث نماذج يمثلون ما أطلق عليه الكاتب “الحدود الحتمية للتجربة البشرية” وهي الحدود التي لا يلبث الإنسان عند الوصول إليها أن يتساءل ويبحث عن المعنى.

وعلى الرغم من ضخامة سؤال المعنى وجوهريته للكائن الإنساني إلا أن المنظومات الحداثية لم توله الاهتمام الكافي، وتم تركه للتحديد الفردي الذاتي، وهو ما يسميه الكاتب تذويب سؤال المعنى أو فردنته، أي تحويل سؤال المعنى ليكون مشكلة فردية، وذلك في ظل عملية العلمنة التي ذبلت في ظلالها جميع الغايات التي تخرج عن نطاق ازدهار الفرد وتقدمه الذاتي، وفقدت الأهداف المتعالية وعلى رأسها الأهداف الدينية الأخروية بداهتها – بل وأحياناً مشروعيتها- في حياة الأفراد، وباتوا لا يجدون غضاضة في رسم أهداف دنيوية حصراً لحياتهم ولا صلة لها بما هو خارج العالم أو بما هو متعال.

ينتقل الكاتب إلى الجزء الأخير من هذا المدخل النظري والذي يبحث فيه عن الإجابات المعاصرة لسؤال المعنى، وفي هذا الإطار يصنف الإجابات إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: إجابات النفي والتشكيك، وهي الإجابات التي تنفي مشروعية سؤال المعنى أو حقيقته أو ضرورته. ومن النماذج المعبرة عن هذا الصنف النافي للمعنى هم الملاحدة والتيارات العدمية.

الصنف الثاني: الإجابات الهروبية، وهي الإجابات التي تقر شكلياً بأهمية السؤال ومشروعيته إلا أنها تتهرب فعلياً عن إثبات إجابة بعينها.

هذا الصنف يرى أن كل فرد له أن يُنشئ إطاراً يساعده على بناء حياة جديرة بالعيش، لكن لا يوجد لديه أي دليل إرشادي كامل لمعنى الحياة، وهذا الصنف الذي يصبغ المعنى بالصبغة الفردية ويرفض المعاني المفارقة والغايات الكلية والمسبقة هو – حسب ما يراه الكاتب- المسيطر على الخطاب السائد في المشهد الثقافي المعاصر. وهنا يضرب الكاتب مثالاً على هذا التيار الفكري بما عبر عنه المخرج الامريكي وودي آلن في إحدى لقاءاته التي تناول فيها رؤيته السوداوية للعالم وأن كل شئ سينتهي في وقت ما ومع ذلك فإن دور الفنان يتمحور حول إقناع الناس أن الحياة تستحق أن تعاش، ولذلك يقترح تقنية “التشتيت” كحل لهذه المعضلة، فانشغال الإنسان في تفاصيل حياته اليومية واستغراقه فيها يشتت النفس عن التفكير في المأزق الوجودي.

في هذا السياق يرى الكاتب أن المشهد الإعلامي والتجاري والاستهلاكي المعاصر يسهم في تكريس هذا الأسلوب التجنبي.

الصنف الثالث: الإجابات الإثباتية وهي التي تؤكد على أهمية السؤال، وتقدم إجابات متنوعة ترى أنه يتحقق بها معنى الحياة. ويدمج الكاتب هذه الإجابات العديدة ويصنفها إلى سبع إجابات رئيسية:

مساعدة الآخرين – خدمة الإنسانية – الانخراط في مهمة أو قضية تخدم البشرية لأجل جعل العالم أفضل – السعادة الفردية – تحقيق النجاح المادي والتفوق المعنوي – الاستمتاع باللحظة الحاضرة – التجرد من الذات وتحرير النفس – الحب سواء شريك الحياة أو الأبناء.

ويعلق الكاتب بشكل مختصر على هذه الإجابات بما يفيد أنها تشترك جميعها في كونها معلمنة ودنيوية ولا تتجاوز العالم المنظور.

الفصل الأول

الأنا في العقود الأخيرة

يحاول الكاتب من خلال هذا الفصل أن يرسم خارطة تمهيدية للظروف التي تأزم ضمنها سؤال المعنى، وبيان ملامح نموذج الفردانية الحداثية الذي أدى لتكريس أزمة المعنى. وفي هذا الصدد يبدأ بتناول بدايات ظهور الارتباكات النفسية والهوياتية في الحداثة، حيث يرى أن الحداثة من خلال ارتكازها على جدلية الهدم والبناء والتحولات السريعة والتدمير المستمر للأشياء والعلاقات والذوات والهويات بهدف خلق بدائل جديدة دائماً، وجوهر الحداثة القائم على عدم الثبات والتمركز والرسوخ والرغبة المستمرة بالتجريب والتغير والتنويع وتثوير الإمكانات والخيارات تؤدي بأبناء الحداثة إلى حالة من الارتباك والاغتراب عن الذات والعالم.

ومع توسع الحريات الفردية في النصف الثاني من القرن العشرين وسيادة الفردانية الاجتماعية والأخلاقية ازدادت وتيرة هذه التحولات. وهنا يقف الكاتب عند لحظتين مهمتين في القرن العشرين تكشفان عن طبيعة التحول في النموذج الثقافي والاجتماعي المعاصر للهوية والذات والعلاقات، اللحظة الأولى تخص تطورات النموذج العلاجي في الحقل النفسي (العلاج النفسي الوجودي تحديداً)، واللحظة الثانية تتعلق بظهور أزمة المراهقة.

أما بالنسبة للموضوع الأول فيذكر الكاتب أن تطور النماذج العلاجية في الحقل النفسي ارتبط بتقلبات الواقع الاجتماعي والثقافي في الغرب الأوروبي والأمريكي، وتعدد المحاولات النظرية والتطبيقية لمعالجة الأزمات النفسية المختلفة. فمنذ مطلع الخمسينيات من القرن العشرين وصاعداً تركزت معظم شكاوى زوار العيادات النفسية على موضوعات متقاربة تدور حول فقدان الشعور بالأنا أو الإحساس بالفراغ أوالركود أو انعدام المعنى. وهنا يشير الكاتب الى ظهور بعض العلاجات النفسية التي وصفت بالاتجاهات الإنسانية في علم النفس الحديث، ومن أشهر هذه المعالجات ما يعرف بـ “العلاج النفسي الوجودي”، ومن الأطروحات البارزة فيه الطريقة العلاجية التي اقترحها إرفين يالوم حيث تقوم أطروحته – اللادينية – على حث العميل على مواجهة ما يسميه بالاهتمامات الأربعة القصوى للوجود وهي الموت والحرية والعزلة وفقدان المعنى.

فبالنسبة للموت يرى يالوم أن التوافق مع الموت والتصالح معه يساعد العميل على الحياة كلياً في الحاضر، وكذلك الأمر بالنسبة لفكرة الوحدة أو العزلة تكون بالتقبل، أما الحرية فيسعى إلى مساعدة العميل على اكتشاف حريته وتعزيزها وتحمل مسؤولية قراراته. وأخيراً يرى يالوم أن البشرعليهم أن يتقبلوا فقدان المعنى لوجودهم لأنه لا هدف كلي للكون ولا دلائل للحياة غير تلك التي يضعها الفرد لنفسه. وهنا يقترح يالوم على المرضى أن يبتكروا معنى لحياتهم الشخصية أو ينشغلوا بقضية ما أو بتعبيره “يغمروا أنفسهم في نهر الحياة”.

يبين الكاتب بناءاً على ذلك مدى تجذر العلمنة في المنطق العلاجي للأزمة النفسية لأنه قد انتقلت التشخيصات التقليدية (الدينية والأخلاقية) للأزمات المذكورة (كالشعور بفقدان المعنى أو الفراغ أو العجز) من مفهوم الانحراف الروحي إلى مفهوم المرض، وأصبحت هذه الآلام الباطنية لا يُنظر إليها من منظور الجفاف الروحي الناجم عن نبذ الإيمان والإعراض عن هدايات الله تعالى، وإنما بات الأمر يتمحور حول العلاج المبني على محاولة فهم المشاعر المؤذية للحد من ألمها، وتمكين الفرد من التعايش معها، وكأن هذه الممارسة العلاجية المعلمنة – التي ترفض التوق إلى المتعالي كالإيمان الديني – تزيف الوضع الإنساني بدلاً من أن تسعى في حل حقيقي لإشكاله.

ففي المحصلة يرى الكاتب أن شهرة النماذج العلاجية الإنسانية ارتبطت بمظاهر أزمة معنى حياة الفرد التي أًصبحت واقعاً جماعياً في القرن العشرين، وانعكست سلباً على استقرار الهوية وتماسك الذات، واستدعت ضرورة المواجهة مع الإشكاليات الوجودية الكبرى كالموت، وهو الأمر الذي سعت هذه المناهج العلاجية للتصدي له.

ينتقل الكاتب إلى الموضوع الثاني وهو ما يتعلق بأزمة المراهقة، وذلك لاستكشاف دلالتها على طبيعة النموذج الثقافي الجديد للذات وتحولات المعنى.

يبين الكاتب اعتناء الحقل النفسي بهذه المرحلة العمرية التي تفصل بين السن المبكرة وبين الكبار، حيث انتشرت خلال القرن العشرين صورة نمطية شائعة عن المراهقة بأنها مرحلة عمرية ترتبط بالتوتر والتمرد والبحث عن الاستقلالية، وتعود معظم سماتها إلى 3 سمات رئيسية: الصراعات مع الوالدين، التقلبات المزاجية، وسلوكيات العنف، بالإضافة إلى شيوع الربط بين المراهقة وبين أزمة الهوية عند الفرد.

في هذا الإطار ينتقد الكاتب هذا التصور الثابت عن المراهقة، ويشير إلى أن العديد من الدراسات تقول بأن مرحلة “المراهقة” هي من نتاج الثقافة الغربية الحديثة، وأن 60 في المائة من المجتمعات لم يظهر على مراهقيهم علامات تدل على الاعتلال النفسي. فتأزيم المرحلة المسماه بالمراهقة في الواقع يتناغم ويتعمق مع تطورات النموذج الفرداني لتحقيق الذات واستقلاليتها وأصالتها الهوياتية، وهو النموذج نفسه الذي يكرس أزمة المعنى.

يحاول الكاتب هنا الكشف عن ملامح فردانية تحقيق الذات وعلاقته بأزمة المعنى، فيسلط الضوء على بعض تجليات هذه الظاهرة والمتمثلة في اكتشاف الذات انطلاقاً من الذات، وعدم السماح لأحد أن يتدخل في هذا الأمر، وكذلك إنتاج الواقع من هذه الذات، وحب الذات وبناءها ووضع أهداف مثل تقبل الذات، واكتساب هوايات جديدة، وتحقيق أهداف الحياة والتطور الشخصي والاستقلالية، والسيطرة على المحيط البيئي.

ويذكر الكاتب ما ترصده بعض الدراسات من تحولات في معنى الحياة عند الأفراد نتيجة لهذه النزعة، فبعد أن كان الناس يجيبون حين يُسألون عن أهدافهم في الحياة بإجابات تتعلق بالحياة العائلية السعيدة وتحسين جودة حياة أبنائهن، أصبح الناس يتحدثون بلغة مختلفة وأصبحت الإجابات تتضمن عبارات مثل تحقيق الذات، البحث عن الهوية وتطوير القدرات الشخصية. ويذكر الكاتب أن هذا التصور قد تعمق في بنية الثقافة المعاصرة وأصبح كالأمر البدهي والمنظور الوحيد الذي ينظر من خلاله الافراد إلى ذواتهم وإلى العالم.

وقد ظهر هذا النموذج الثقافي بوضوح في قطاعات عامة من أبرزها قطاعات إدارة الأعمال، وكان من مظاهر ذلك تطور استراتيجيات الموارد البشرية في الشركات، حيث تعمل على توجيه الشباب إلى الانخراط في مغامرة الوظيفة التي يكتشف من خلالها ذاته.

ومن نتائج هذا النموذج أن لاحظ عدد من الباحثين الغربيين شيوعاً نسبياً لنوعين على الأقل من الاضطرابات الشخصية: النوع الأول يتعلق بتكاثر الميول الشخصية النرجسية نتيجة الانشغال المفرط بالهوية الشخصية، والنوع الثاني يُعرف باضطرابات الشخصية الحدية، وهو نمط شامل من عدم الاستقرار في العلاقات مع الآخرين، وفي الصورة عن الذات وفي الوجدان والاندفاعية الواضحة.

وهذه الملامح تشكل كما يذكر الكاتب النسخة المعاصرة من الفردانية الليبرالية والآفات المتصلة بها، فهي النسخة التي يسميها تشالز تايلو “فردانية تحقيق الذات”، ويشير إلى أن تضحية الناس بعلاقاتهم أو حتى برعاية أطفالهم من أجل تحقيق ذواتهم في المجالات المهنية أوالإبداعية وغيرها ليس أمراً غريباً، ولكن الجديد – في العقود الأخيرة- هو أن كثيراً من الناس يفعلون ذلك تحت ضغط الحث الفرداني المتزايد لتحقيق الذات، فيشعرون أنه ينبغي عليهم فعلاً تقديم تلك التضحيات مقابل “تحقيق الذات” وإلا فستضيع حياتهم هدراً. وتتجلي هذه النسخة في أكثر صورها تطرفاً في الجدالات الجندرية المعاصرة وحق الفرد في اختيار هويته الجنسية.

بالإضافة إلى ذلك فقد تسللت لغة التسويق والدعاية إلى هذا النموذج الثقافي، حيث أًصبحت “الأنا” علامة تجارية وموضوعاً للتداول في السوق، وذلك من خلال عرضها وتنصيب المرء نفسه نجماً أيقونياً.

وفي هذا السياق يبين الكاتب أن من آثار هذا النموذج انتشار مرضي الإدمان والاكتئاب في عصرنا، حيث يعتبر عالم الاجتماع الفرنسي آلان إهرنبرغ في كتابه “تعب المرء أن يكون ذاته” أن الكآبة والإدمان باتساع نطاقه والذي شمل إدمان العمل، الطعام، الأجهزة الإلكترونية، مشاهدة الأفلام وغيرها هو من نتاج التصور الفرداني عن “السيادة” الحرة على الذات نتيجة تضخم مساحة صنع القرارات اليومية في حياة الفرد التي تجعله في ضغط مستمر يهرب منه للإدمان أو يقع في دوامة الكآبة.

الفصل الثاني

الذات الحديثة: الجذور والآثار

يبدأ الكاتب في هذا الفصل بالبحث في جذور مفهوم الفردانية والذاتية، أي سؤال “الأنا” وعلاقته بالتصور الحديث للذات والهوية باعتباره أحد المفاهيم الأساسية للتي تؤسس للأطروحة الحداثية بجانب العقلانية والحرية. وفي هذا السياق يعود لبدايات ظهور فكرة الاعتقاد بتفرد الذات في أطروحات أوغسطين 430م حيث نشأ في هذه الفترة تصور واضح عن الأعماق الباطنية للفرد والوعي الحميمي بالذات وعن الدور المركزي لهذه الأعماق في بلوغ الحقيقة والوصول إلى الله.

وهنا يبين الكاتب- من الناحية المعرفية- مركزية الذات الباطنية في أطروحة أوغسطين، فهو أول من اعتبر وجهة نظر المتكلم أساسية للبحث عن الحقيقة. ثم جاء رينيه ديكارت ليضيف تغييراً جذرياً على هذا المنظور من خلال فكرة أن المعرفة لا تتأسس باكتشاف نظام ما موجود أو متصور كما هو حال العديد من الفلسفات اليونانية، إنما المعرفة تبنى في داخل الذات، فالمعرفة لدى ديكارت ترتكز على الذات الباطنية حصراً، وقد مثلت هذه النظرة تحولاً كبيراً في الفكر الغربي حيث نصبت الأنا الذاتية مركزاً للفكر.

يضيف الكاتب أيضاً في تتبعه للمحطات التاريخية الهامة في الفكر الغربي والمؤسسة لمفهوم الفردانية أن حقل النظرية السياسية والقانونية ساهم في ترسيخ النزعة الذاتية والمنظور الفرداني، ويظهر ذلك جلياً بفحص الأسس النظرية لأطروحة الحق الطبيعي ونظريات العقد الاجتماعي التي تتأسس على منظور الفرد المكتفي بذاته والمستقل عن كل رابطة اجتماعية أو سياسية، وذلك بافتراض صورة يصفها الكاتب بأنها خيالية مخترعة عن جود بشري سابق لتأسيس المجتمع والدولة حيث يوجد الفرد فقط في “حالة الطبيعة” فريداً متوحداً.

ينتقل الكاتب لمحطة تاريخية أخرى في مسار التطور الحداثي وموقع الفردانية فيها وهي تأثير فلسفة هيغل، حيث يتحدد مبدأ هيغل للذاتية في خاصيتين كما يبين:

1- التفكر الذاتي: والاعتماد على مقولات العقل للسيطرة على موضوع خارجي.

2- الاستقلال الذاتي: أي أن يَمنح الفرد – أو الجماعة – قانوناً خاصاً لأفعاله انطلاقاً من إرادته، فتشرع الذات مبادئ سلوكها وعلاقتها بالآخرين.

ويبين الكاتب أن فلسفة هيغل ظلت مسيطرة على التيار الحداثي الرئيسي إلى أن استهدفها نقاد الحداثة وسعوا لدحض مبدأ الذاتية كما فعل نيتشه ومارتن هايدغر وميشيل فوكو وجاك دريدا وغيرهم، حيث طرأ التحول على نزعات التمركز حول الذات، وبدأت تظهر مسارات ثورية لنفي مركزية الذات والتشكيك في وحدة الذات القبلية، بحيث تهدف إلى فتح الطريق أمام الذات لاستيعاب التغيرات والتبادلات التي تعرض لها داخل حركة الزمن، وهذا ما يطرح بصور متنوعة عند رموز تيار “ما بعد الحداثة”.

وبالرغم من هذه التغيرات إلا أن الكاتب يرى أن النزعة الفردية المتعلقة بالتعبير الذاتي وتحقيق الذات والرضا عنها واكتشاف الأصالة والبحث عن المعنى بصورة ذاتية فردية لا تزال هي المهيمنة والمؤثرة في النموذج الثقافي المعاصر. وهنا يؤكد الكاتب على أن نموذج الذاتية هو العامل المشترك بين الفلسفات الحديثة على تنوعها، فهى متمسكة بتنزيل نموذج “الأنا أفكر” منزلة القطب المتعالي الذي يجعل ما عداه مجرد موضوع للسيادة والهيمنة، فما منحته الأديان لمفهوم الإله منحته الفلسفة الحديثة للإنسان/الذات.

وفي هذا السياق يقف الكاتب مع إحدى تجليات الذاتية والفردنة والعلمنة في الكتابات الحديثة وتحديداً السير الذاتية والروايات، مؤكداً على الصبغة العلمانية والفردانية التي بدأت تصبغ كلاً من السير الذاتية والروايات الحديثة، فالسير الذاتية لم تعد لسبر أغوار النفس بقدر ما أصبحت التفاف مفرط حول الأنا، وكذلك الروايات لم تعد تستهدف – كما في صورتها الكلاسيكية – ما هو كلي وشامل، بل أصبحت تتأسس على رؤية للعالم محورها الأفراد، في ظل فصل للذات عن محيطها العام واستبعاد الدلالات الدينية للوجود، دفعاً للرواية الحديثة إلى ترميم الفجوة بين الذات والموضوع والبحث عن المعنى المفقود، ذلك المعنى الذي كان يتوفر في الأدب والاشعار القديمة أما الرواية اليوم فما تفعله هو التأكيد على استحالة المعنى، حيث يتحدد دور بطل الرواية الحديثة في مواجهة الواقع الخالي من المعنى أو في محاولة اختراع معنى ما.

في الجزء الأخير من الفصل واستكمالاً لتحليله لسياق تبلور الذاتية الحداثية، يتناول الكاتب دور أنظمة الاتصال الشبكية المعاصرة. فقد ساعد بروز المنصات الجديدة التي تقوم على تسهيل ابتكار الهويات المستقلة، وتتيح للفرد تقديم نفسه للعالم بأشكال متعددة وبهويات قابلة للتعديل وإعادة الإنتاج، إلى زيادة تعقيد أزمة الهوية الذاتية وارتباكها، فحين لا يتمكن الفرد من اكتشاف أو تحقيق ذاته الأصيلة في العالم الواقعي فإن الفضاء الافتراضي يتيح له ذلك، ولكن يزداد الارتباك عندما تتأرجح الذات بين صورتها الافتراضية وصورتها الواقعية، هذا بالإضافة للطبيعة التسويقية لعرض الذات في الشبكات التواصلية وتكريس الذات كعلامة تجارية، هذا فضلاً عن انغماس الفرد في أنماط عيش مطروحة من الآخرين إن فشل في طريقة لإنتاج ذاته فإنه يستهلك ذواتاً مقترحة.

وفي نهاية الفصل يؤكد الكاتب على أن المسار الذي سلكته الذات في الفكر الغربي الحديث جعلها موقع الإنتاج الحصري للمعنى.

الفصل الثالث

مآزق الأصالة

في سياق بحث الكاتب عن جذور أزمة المعنى والتي قادته إلى تحليل تطورات النزعة الفردانية كما هو الحال في الفصل السابق، فإنه في هذا الفصل يناقش بعض دعاوى الفردنة النظرية ويستعرض نماذج من الجدل المعاصر حول تشكل الذات وبناء الهوية الشخصية.

وفي هذا الإطار يبدأ الكاتب بإيضاح توهمات “الأنا” النقية تجاه المجتمع، حيث يبين أن الصيغة الشعبية المنتشرة عن الوعي الذاتي في الثقافات الليبرالية تدفع الفرد الى الإحساس أنه وحيد، فهذه النزعة نحو الاستقلال الذاتي والافتراض المتطرف عن ذات نقية من الآخرين، والتعامل مع العالم كموضوع منفصل تماماً عن الذات، يحقق للفرد متعة خاصة نتيجة شعوره بأن كل ما هو فريد وهام يخص ذاته أي يعود بالفضل إلى طبيعته لا إلى الآخرين، لكنه في نفس الوقت يوقع الفرد في الصراع بين الرغبة بالعلاقات الوجدانية مع الآخرين وعدم القدرة الشخصية على الاستجابة لهذه الرغبة. وهنا يؤكد الكاتب أن الأمر لا يتعلق بمشكلة فردية وإنما ببنية الشخصية الاجتماعية للناس في العصر الحديث.

ينتقل الكاتب إلى توضيح آثار مركزية حرية الاختيار الذاتي على القيمة والهوية ومن ثم على المعنى، حيث يبين أن هذا التصور القائم على “الأنا النقية” خاوياً وخالياً من المعنى، فاعتقاد كون الذات منتجاً شخصياً مستقلاً تماماً، ورفض التأثيرات الخارجية بدعاوى الانعتاق من الوصاية والإكراه والسلطة الأبوية، وإعادة النظر في أدوار الفرد الاجتماعية كافة، كل ذلك ينعكس سلباً على قيمة الحرية نفسها، لأن الحرية التامة حرية خاوية لأن الاختيار الحر وقيمته تتحقق حين تكون بعض الخيارات أكثر أهمية وقيمة من خيارات أخرى، فتحييد كل العراقيل أو محوها لأجل الوصول إلى أنا “نقية” من “شوائب” المجتمع، أو بالأحرى قيوده التي تضمن مبادئه وتقاليده وقيمه، لا يفضي إلى شئ ليس لأن “الأنا الصافية” مجرد وهم ليبرالي أصيل بل لأن “الأنا” في هذه الحالة ستكون مجردة من كل قصد أو غرض محدد. فالرغبة في إخضاع كل جوانب حياة الفرد الاجتماعية إلى القدرة على تحديد ذاته بذاته على نحو عقلاني هي رغبة لا معنى لها، لأن مقتضى التحديد الذاتي غير متعين، ولذلك فإن أيديولوجية التحديد الذاتي لمعنى الحياة تجعل الفرد أمام نوعاً من العدمية النيتشوية معتقداً أنه ليس نتاج قصد أبدي أو إرادة كائن ما.

وهذه الرؤية الفردانية المغالية لتحرر الذات تجعل حرية الاختيار غاية في حد ذاتها، وهذا يعنى أنه كلما مارس الفرد هذه القيمة أصبح أكثر حرية. وهذا ما يبين الكاتب عدم صحته موضحاً أن التزامات الفرد في الحياة هي ما يعطيها عمقاً وليس العكس.

ينتقل الكاتب إلى شرح عمق ارتباط الذات بالمجتمع في التكوين والاستدامة الهوياتية، وأن هذا هو الأصل وليس الفردانية المغالية. وفي هذا الإطار يعرض بعض الجدالات النظرية التي أثارها علماء الاجتماع والنفس والنقد الأدبي في القرن العشرين حول مفهوم “الذات الفردانية” في محاولة لاستخلاص أثر هذه الجدالات في تعميق فهم أزمة المعنى وتشوش هوية الذات الحديثة، وتتضمن هذه النقاشات عدة منظورات مختلفة منها:

1- منظور يرى أن الذات لا يمكن أن يكون لها وجوداً حقيقياً إلا ضمن ذوات أخرى، بمعنى أن الذات تجد هويتها الأخلاقية من خلال عضويتها في وحدات اجتماعية كالأسرة، والجوار، والقبيلة، والبلدة. وهذا يتفق مع حاجة الإنسان للانتماء لمجتمع ولثقافة، ولا تقتصر هذه الحاجة على الحاجة الفطرية للارتباط الإنساني، بل هي حاجة معرفية كذلك، لأن المجتمع يمنح الفرد أنظمة الدلالة وبنى التفسير التي تتيح للفرد فهم العالم، فضلاً عن كون المجتمع يشارك في رسم حدود التفرد الذي يتمتع به الفرد، فهو لا يقوم بالتسوية بين الناس، بل إنه يعطي كلاً منهم فردانيته المميزة. وبهذا الرأي يقول الفيلسوف الاجتماعي يورغن هبرماس بأن الفردية ظاهرة منتجة اجتماعياً لأنها حصيلة مسار التنشئة الاجتماعية، فالهوية الشخصية للفرد إنما توجد لأنه ينتمي إلى جماعة ما، ولأنه يلتزم بمؤسسات تلك الجماعة في سلوكه الخاص.

وهذا المنظور الذي يكشف عن تجليات المجتمع داخل الفرد يفسر ظاهرة تشابه الأفراد المستقلين في المجتمعات الفردانية. وهذا المنظور يكشف عن أن كل صراع بين الفرد والمجتمع هو في الحقيقة صراع داخل الفرد نفسه. وهنا يشير الكاتب إلى معنى مهم وهو أن نقل الصراع من صراع نفسي داخلي إلى صراع بين الفرد والمجتمع يحول القضية التي يخوض الفرد صراعاً بشأنها من كونها سؤالاً أخلاقياً أو قيمياً إلى سؤال حرية في مواجهة السلطة، فلا يعود السؤال هل ما أفعله صواب أو خطأ؟ بل يصبح هل أنا حر في فعل ما أريد أم خاضع لسلطة ما؟ فيصبح سؤال الحرية بديلاً عن أي تساؤل أخلاقي أو قيمي أو معرفي، وهذه الطريقة تمثل نوعاً من الهروب من الأبعاد الدينية أو الأخلاقية للسؤال.

 2- اما المنظور الثاني فيقوم على ربط الهوية الذاتية باللغة، فمعاني الكلمات والدلالات الأساسية التي يختزنها الفرد ليست سوى معاني المجموعة التي يحادثها. فاللغة تعمل على إنشاء الذات وإدماجها في إطار المجموعة مهما توهم الفرد استقلاله عنها، لأنه ليس بإمكانه أن يكون ذاتاً بنفسه، وإنما يكون ذاتاً نسبة إلى آخرين، فالذات – كما يقول- “لا توجد إلا داخل شبكات المحادثة”.

وبعد أن قدم الكاتب هذين المنظورين يؤكد على ملحظ هام وهو أن بعض الأطروحات الساعية لترميم الذات بتأكيد صلات الذات الثقافية والاجتماعية بالآخرين لا تزال تعاني من مشكلات عميقة لأنها مازالت تحوم حول المصادر غير المتعالية التي تضمن ثبات المعنى وتماسك الهوية الثقافية.

ينتقل الكاتب بعد هذا الطرح إلى مناقشة بُعد آخر من أبعاد أزمة فردانية تحقيق الذات، وهي الحاجة إلى “الاعتراف”، فهوية الفرد التي يبتكرها بصورة مستقلة ذاتياً تظل رهينة اعتراف الآخرين بها، وهذا يشكل عليه عبء كبير ومعاناة من فقدان الاعتراف به، مما يدفعه في حالة النبذ إلى التعويض بطرق شتى، إما بالولع بالمشاهير كنوع من الاندماج الشعوري معهم، أو الانتماء المتعصب لفريق كرة قدم، أو حتى حزب أو جماعة، أو الهروب والتخلي والانطواء المرضي على الذات وترك التواصل مع الآخرين تماماً.

ويختم الكاتب هذا الفصل بتناول أثر مهم من آثار نزعة الفردنة وهو فردنة الأزمات والمشاكل العمومية وتحويلها إلى اضطرابات شخصية، ومن ذلك أزمة المعنى وآثارها، حيث يتم شخصنة هذه الأزمة واعتبارها مشكلة فردية، في حين يتم التعامي عن المشاكل البنيوية التي تمس جوهر الهياكل السياسية والاجتماعية للمجتمعات ذاتها التي بسببها ظهرت أزمة المعنى وغيرها من الأزمات.

الفصل الرابع

الطريق نحو الجسد

في هذا الفصل يعرض الكاتب مجموعة من النتائج التي أدى إليها المفهوم الذاتي للأصالة الفردية فيبدأ بأول نتيجة وهي تفشي النسبوية المعرفية والأخلاقية.

يبين الكاتب انتشار ما يسميه بالمزاج الشكوكي في الحقول العلمية والأكاديمية وانتقاله إلى الثقافة العامة في ظل عالم ما بعد الحداثة، الذي بدأ يُروَج فيه للاتجاهات العدمية التي ترفض أي شكل مطلق وكوني للحقيقة، فالحقائق الموضوعية مجرد تشكيلات وتأويلات تمارسها القوى الثقافية والاجتماعية، والمعرفة تخضع للتحريف والانتقاء وإعادة التأويل بصورة واعية أو غير واعية. ولذلك رأت هذه التيارات الثقافية أن الحل يكمن في الاستعاضة عن مفهوم الحقيقة بمفهوم المنظور والموضعة، فلا يكون الهدف من البحث الوصول إلى الحقيقة الموضوعية لأنه لا وجود لها، بل الهدف دراسة آليات وشروط إنتاج المعرفة وفحصها وتفكيك أنظمة الحقيقة لكشف انحيازاتها المضمرة.

هذه الحالة من السيولة النسبوية زادت من تعقيد أزمة المعنى، فكيف يمكن للفرد أن يعتنق معنى صلب للحياة، والبحث النظري يؤكد أن الغايات الأخلاقية والتصورات العقائدية الكلية تخفي في أعماقها انحيازات السلطة وتأويلات ورغبات القوى النافذة في التاريخ وفي الواقع؟ بل إن الشكوك تتكاثر حيال وجود وثبات الحقيقة نفسها.

أما النتيجة الثانية التي يعرضها الكاتب للإفراط في النزعة الذاتية للفردانية الليبرالية المعاصرة فهي نزعة العدمية، وتعد العدمية الأيديولوجية العبثية التي تقف في مقابل أي اعتراف بالوجود الغائي من العالم. والسردية العدمية تدور حول مجموعة من الأفكار: فالحياة في تصورها لا تطاق لأنه لا معنى لها، والولادة خطيئة، والإلحاد نتيجة حتمية لبشاعة العالم، والإنتحار عمل بطولي. كما تمجد العدمية الأنشطة التدميرية وتمقت الحب وكل ما يقوي صلة الذات بالعالم.

يبين الكاتب أن العدمية المطلقة يتعذر الالتزام بنتائجها العملية لأنه لا مفر من إثبات معنى ما في الوجود، حتى أن عدد من الباحثين لاحظ مفارقة لافتة في هذا السياق، وهي محاولة استنباط معنى من عمق الاعتقاد بعدم وجود معنى. فمَن يتحدثون باستمرارعن عبث الحياة يبدو أنهم يجدون معنى في معرفتهم بحقيقة أن الحياة بلا معنى، فهم يشعرون بنوع من الفخر لشجاعتهم في مواجهة انعدام المعنى. ومن جهة أخرى فإن هذا الاعتراف والقبول بحقيقة أنه لا معنى للحياة يشبع الدافع المتأصل في الطبيعة البشرية تجاه المعرفة ومن ثم فهو ذو معنى. لذلك فإن الكتابات ذات النزعة العدمية تطرح معنى للحياة ولوعلى نحو أجوف، لأن الإنسان كائن ميتافيزيقي أي يشعر – بحكم طبيعته- أنه لا يستطيع أن يحيا بدون اتصاله بحقيقة تعلوه وتتسيد وجوده، وإذا أعرض عن الإله كمصدر للحقيقة والوجود فإنه لا يلبث أن يصنع له بديلاً يؤلهه.

في الجزء الأخير من هذا الفصل يشرح الكاتب تطورات الموقف من الجسد في ظل حالة النسبوية والعدمية، حيث يصبح الجسد الملاذ الأخير الذي تجري فيه محاولات تأسيس المعنى.

فبعد أن استهدفت الاتجاهات العدمية تفكيك وتحطيم المؤسسات السلطوية كلها المتجسدة في الكنيسة والوطن والعائلة وسائر الأيديولوجيات حتى تتحرر الذات، لم يبق أمام هذا التحرر التام للذات إلا قيود الجسد كمرتكز مادي يحمل الذات ويحتويها، ومن هنا يبدأ صراع جديد من صراعات التحرر يستهدف الجسد. فتهاوي السرديات العقائدية والمؤسسات الدينية والاجتماعية التي كانت تمنح المعنى واليقين والاستقرار ألجأ الفرد للتعويل على جسده المادي ليوفر له شيئاً من اليقين الحسي، من هنا تزايد الاهتمام بالجسد وأصبح يعامل بوصفه ظاهرة يجب تشكيلها وتزيينها وترويضها تعبيراً عن هوية الفرد، ويتجلي ذلك في تطور تقنيات الهندسة الوراثية والجراحة التجميلية والاهتمام المفرط بأنظمة الحمية الغذائية ورسم الوشم الغريب والثقوب والعلامات الجسدية غير التقليدية، كعلامة على عدم الانتماء إلا للذات، وليكون الجسد مشروعاً لاكتشاف وتطوير الذات وليتناسب مع هوية الفرد الذاتية. هذا بالإضافة إلى تعريض الجسد لبعض المخاطر الآمنة نسبياً كمحاولة للاقتراب الآمن من الموت، حتى يشعر الفرد بالامتنان لمجرد بقائه على قيد الحياة ويكتفي بذلك عن أي معنى علوي.

الفصل الخامس

اختلاق المقدس والأديان البديلة

يؤسس الكاتب هذا الفصل على مسلمة مفادها أن الإنسان كائن ميتافيزيقي في جوهره، فحتى لو كان ملحداً فإنه لا يمكنه أن يعيش خلواً من أي تدين أو تأله أو رؤية كلية متعالية تجعل لحياته معنى. ومن هذا المنطلق يتناول الكاتب الأديان والمقدسات البديلة التي اخترعها الإنسان المعاصر بعدما نحَّا الدين بعيداً. وهذا في حد ذاته يثبت خطأ الفكرة القائلة باضمحلال التدين في العالم الحديث في إطار العلمانية، فعملية العلمنة – كما يبين الكاتب – ما هي إلا انتقال للصفات الإلهية إلى كيانات أخرى، إما إلى البشر أو إلى العالم الطبيعي بقوانينه ونظام السببية الآلية فيه، أو إلى القوى الاجتماعية ممثلة فيما يعرف باليد الخفية عند آدم سميث على سبيل المثال، أو إلى التاريخ كما هو ظاهر بوضوح في عقيدة التقدم. لكن يظل هدف اختراع مركز ماورائي – أيا كان هذا المركز روحاني أو مادي – لصيق بطبيعة الإنسان.

وفي هذا السياق يعرض الكاتب جملة من المقدسات الدنيوية الحديثة والمعاصرة ويبين علاقتها بسؤال المعنى. فيذكر الكاتب أن ظاهرة اختراع “الاديان البديلة” بدأت في وقت مبكر من الحقبة الحداثية وتحديداً في الثورة الفرنسية 1789 وذلك بعد الانقلاب على المطلقات التقليدية (النظام الكنسي والعقائد المسيحية)، حيث بدأ يظهر دين “القومية” لتصبح به الدولة القومية هي محل ولاء الفرد الأول والمركزي، وأصبح الدستور بديلاً عن النص الديني، وتحية العلم والنشيد الوطني بديلاً عن ترانيم الكنيسة، واستبدلت رابطة الأخوة في الدين بالمواطنة. وكذلك فإن الماركسية والشيوعية والنازية كانت بمثابة أديان لأصحابها يقاتلون من أجلها ويضحون في سبيلها.

ثم ينتقل الكاتب إلى تسليط الضوء على الروحانيات البديلة التي شاعت في أنماط التدين المعاصر والتي تتناغم مع مفهوم فردانية تحقيق الذات والعلمنة في بنية الثقافة الغربية، فهو تدين يتمحور حول حرية الخيار الفردي ويلفق معتقداته من رموز وعقائد وتعاليم تنتمي إلى تقاليد دينية وروحانية متعددة، ويولي عناية خاصة للجوانب المتصلة بإدارة الذات والنجاح الحياتي، وكأن الفرد بذلك يصنع دينه الخاص. ويشير الكاتب إلى أبرز أنماط هذا التدين وهو مفهوم الشيلية (sheilaism) وهذا المفهوم اشتقه عالم الاجتماع الأمريكي روبرت بيلا وزملاؤه في كتابهم “عادات القلب” من حديث أجراه مع ممرضة تدعي (شيلا لارسون) وهي تصف نفسها بأنها تؤمن بالإله وترفض التعصب الديني ولا تزور الكنيسة وتعتمد على صوت ضميرها الداخلي، وتقول إن الأهم هو أن تحب نفسك وتكن لطيفاً معها وتعتني بمن تحب وأن هذ هو جوهر الدين.

يعلق الكاتب على ذلك بأن ارتكاز أنماط التدين المعاصرة على التجربة والاختيار الفردي بدلاً من العقائد الصلبة ينسجم مع التيار الثقافي السائد، حيث السيولة والنسبية وانهيار الأسس اليقينية للتدين التقليدي، فلِتَعَذُر البرهنة اليقينية في نظره يكتفي الفرد المعاصر بالاستناد إلى التجربة الروحية الشخصية.

وخلافاً للأديان التقليدية لا تنطوي الروحانية المعاصرة على سمو غيبي، بل مرجعيتها النهائية دنيوية محضة، منحصرة بلذة الرضا الوجداني، وتعتمد الطرائق الروحانية المعاصرة لبلوغ التجربة الروحانية على جملة نشاطات تأملية وعملية مثل الريكي واليوغا والتايتشي والعلاج بالروائح وبعض أشكال العلاج النفسي أو بعض جوانب من المسيحية أو غيرها من الأديان.

ثم يتحدث الكاتب عن “التحليل النفسي” بوصفه ديناً، فيبين أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر تم إخضاع الحياة الداخلية للإنسان للملاحظة والبحث والدراسة، ورفضوا التفسيرات الكنسية، وكتبوا أطروحات تفسيرية سببية معلمَنة للظواهر الداخلية، كما في التحليل النفسي عند فرويد. وكانوا يعتقدون أن الحل يكمن في الكشف عن الآليات النفسية المنتجة للاضطراب والاختلال الداخلي، وأن إدراك هذه الآليات وإخضاعها للتحليل الواعي كافٍ للعلاج واستعادة التوازن الداخلي. وتكمن جاذبية هذا النموذج – كما يبين الكاتب – في كونه يوفر إشباعاً بديلاً للتطلعات الإنسانية التي تبحث عن معنى للحياة بادعاء إمكانية الوصول للحقيقة بعد تجاوز الاضطرابات التي تحول بين الواقع وبين أنفسنا، وهو بذلك أصبح بديلاً عن الدين، حيث يعد المعالج النفسي هو الملجأ، وكأنه حل للإنسان محل الرب، فهو يترجم للمريض آلامه لكنه لا يزيل تلك الآلام، لأن المشكلة الوجودية لا تزال موجودة، وإن كان الاصغاء الذي يمنحه المعالج النفسي والتساؤلات التي يقدمها للمريض تشعره أنه يتقاسم آلامه، وتساعده في اكتشاف معنى ذلك الألم وتحديده، وهذا يفسر كثرة اعتياد زيارة العيادات النفسية في عالمنا المعاصر.

 يشير الكاتب بعد ذلك بصورة مختصرة إلى مساحة أخرى من مساحات الديانات البديلة وهي الرياضات المعاصرة وانطوائها على بعض الملامح الدينية، فيذكر الكاتب بعض الدراسات التي ترصد التشابه بين التقاليد الدينية والرياضية من حيث إن كلاهما له مبان خاصة للتجمع والقيام بنشاطات معينة، وكلاهما لديه إجراءات للتنفيذ، وكلاهما يعتمد على التكرار والانتظام. ويبين الكاتب أن قوة هذه التشابهات تهيئ الرياضة لتكون – للمهووس وللمتعصب على الأقل – ديناً بديلاً، لأنها تتضمن ولاءات وطقوس رمزية وجمالاً حسياً وإشباعاً بدنياً وفكرياً واستعراضات وإحساساً عميقاً بالانتماء، وبالتالي فإن هذه المضامين النفسية والروحية تمنح الفرد إطاراً للمعنى.

وأخيراً يختم الكاتب الفصل بالإشارة لفكرة تقديس السوق وتديينه، حيث يذكر الكاتب أن هناك عدة تجليات دينية في السوق الرأسمالية، ويظهر ذلك بضوح في اختلاق مقدسات في صورة علامة تجارية مسجلة متمثلة في الماركة (Brand)، حيث تسعى الشركات إلى صنع التوجهات الثقافية الجماهيرية وابتكار رابط حصري معها، فشركة آديداس تسعى إلى أن “تحول الإنسان إلى الأفضل”، واستاربكس تبيع “تجربة لا مجرد قهوة”. فهذه الشركات الضخمة لا تكتفي بأن تكون موقع إنتاج وإنما تود أن تعبرعن القيم وتصنعها. فرواد التسويق قد استغلوا حالة الفردانية الحالية ونقاط ضعفها المتمثلة في التوق للمعنى والانتماء وعيش عوالم وروابط اجتماعية أو رمزية مشتركة، وسعوا إلى تصميم عوالم حياة للمنتجات المراد تسويقها، فيشعر الفرد بالانتماء إلى عالم ذلك المنتج.

وفي نهاية الفصل يؤكد الكاتب أن المقصود من هذا الفصل تقرير الاحتياج الفطري إلى التأله، وهو ما قاد المجتمعات الحداثية إلى ابتكار أشكال كثيرة من المقدسات والأديان، في محاولة من الإنسان الحداثي إلى ابتكار معنى للحياة يصلح أن يكون بديلاً عن الرؤى التي تطرحها الأديان.

الفصل السادس

المشاعر والرومانسيات المعاصرة

يستكمل الكاتب في هذا الفصل ما ابتدأه في الفصل السابق، فيركز في هذا الفصل على مقدس آخر تضخمت قيمته وآثاره في المخيلة الحداثية المعاصرة وهو الحب والعلاقات الحميمية. وفي هذا الإطار يبدأ الكاتب بطرح بعض التوضيحات النظرية حول موقع المشاعر والأحاسيس من اهتمامات الذات المعاصرة، فيوضح أن هناك ولع معاصر بالمشاعر المتدفقة وباستفزاز أحاسيس الذات وإشباعها والتلذذ بإثارتها وذلك بالرياضات المثيرة، أو الحب، أو الكحول والمخدرات، أو القمار، أو الأفلام والمسلسلات.

ثم يشير الكاتب إلى تطور المعتقدات الليبرالية داخل الحركة الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الأوروبية والأمريكية في القرن العشرين، فبعد التخلص من الأنظمة الديكتاتورية وترسيخ الحريات العامة أصبح الاهتمام الآن منصباً على الحصول على الحق في التعبير عن الحالات العاطفية دون قيود وضغوط وكبت للمشاعر، وهذا الاحتفاء بالشعور الانفعالي عند الإنسان المعاصر يعد أداة لتحقيق الذات.

وفي نفس هذا السياق يشير الكاتب إلى بعض الأبحاث التي تناولت ظاهرة الاهتمام الشديد بالتفاصيل الصغيرة (الطاولة والكرسي الوثير، والكلب والقط، ووعاء الأزهار) لتحقيق السعادة، وكذلك الملاحظة العاطفية الفاحصة لتفاصيل السلوك الروتيني ودقائق المسكن والملبس وسائر الممتلكات. يفسر عالم اجتماع فرنسي هذا السلوك نحو أشياء الحياة اليومية وغمر العلاقة مع هذه الأشياء بالعاطفة أنه محاولة لإعادة السحر أو القداسة المفقودة إلى العالم.على صعيد آخر ينجذب البعض لجماليات السفاحين وكلمات الموسيقى الفظة، والولع بالوشوم الصادمة وغيرها من المظاهر، حيث يفسر بعض الباحثين هذا الانجذاب لهذه الأمور وغيرها من مظاهر الولع بالشعور بالنسبة للفرد والتي تتجلى في الحفلات الصاخبة والتراقص بين الشباب والفتيات على أنغام صاخبة وتعاطي المخدرات والكحول بأنه محاولات للشعور الكامل بالحياة من خلال الكثافة الشعورية والتنقيب المستمر عن المحفزات والأحاسيس الخارجية، وهو في حقيقته ينبع – كما يقول الكاتب – من ثغرة روحية غائرة.

بعد بيان الكاتب لبعض ملامح ظاهرة الاهتمام بالشعور لدى الإنسان المعاصر، يذكر أن هذه الظاهرة قد ألقت بظلالها على نمط العلاقة بالدين والتدين، فأصبح المحتوى الديني الوجداني في مركز اهتمام الفرد، ليس للوصول لغاية عقائدية محددة بل للاستمتاع بطقوس الصمت والتأمل والانغماس الوجداني في الطبيعة، وهذا الأمر يدل على تسيد مفهوم “التجربة” في تناول أو اعتناق دين أو معتقد ما في الثقافة المعاصرة، وهي من آثار الولع بالكثافة الشعورية لأن التجربة الروحية التي بات يُختزل فيها الحقل الديني يهيمن عليها الطابع الانفعالي والوجداني المحض.

ينتقل الكاتب بعد هذا إلى “الحب” بوصفه قيمة أساسية للعلاقات الحميمية ومنبعاً مركزياً للمعنى في حياة الإنسان. يبين الكاتب أن من سمات تجربة الحب انها تملاً الفرد بشعور قوي ينسيه النقص الروحي ويعطيه شعوراً مخدراً يساعده في تعويض هذا العطش الروحي الدفين. ومن هذا المنطلق يذكر الكاتب أنه قد تكاثرت المؤلفات التي تتناول الحب وصلته بالمعنى، ومن ذلك كتاب زيغومنت باومان “الحب السائل”، وكذلك كتاب الفيلسوف الفرنسي آلان باديو “مديح الحب” وغيرهم. إلا أن هذه المؤلفات تلتقي في نقطة مركزية هي الاشتغال على مفهوم الحب بوصفه مساحة فريدة من أجل اختراع تجربة معنى مغايرة لكل الادعاءات التقليدية، فهم يسعون إلى تحميل الحب مسؤولية استنقاذ معنى الحياة. فالحب يتضمن إمكانية توفير المعنى للإنسان المعاصر.

ويشير الكاتب هنا إلى أن المراد بالحب ليس مجرد الارتباط العاطفي المعهود، بل تلك العلاقة الروحانية المقدسة، فالحب يفرض نفسه كبُعداً من أبعاد المطلق والمقدس، والدليل على ذلك أننا مستعدون لكل شئ من أجل مَن نحب. فالحب وفقاً لهذه الرؤية مفهوم متعال أو فوقي، فهو يضطرنا إلى تجاوز ذواتنا بحكم تعالي الشخص المحبوب الذي يتغلب على أنانيتنا الطبيعية، وهذا يطبع العلاقة بطابع ديني من حيث حقيقة الممارسة السلوكية.

من ناحية أخري يشير الكاتب إلى تعاظم قيمة العلاقات العاطفية الغرامية اليوم بسبب هيمنة النموذج الثقافي لـ “فردانية تحقيق الذات”، لأن علاقات الحب مهمة وحيوية باعتبارها مساحة اختبار للهوية التي اختارها الفرد لذاته.

ومن منطلق الثقافة الفردانية ينتقل الكاتب إلى الحديث عن نموذج ما يسمى بالعلاقة الخالصة أو النقية، وهو نموذج يفترض نشوء تعاقد مؤسس لأغراض ذاتية، ويقوم على علاقة حرة بين فردين يتمتعان بحقوق متساوية، ويمكن الدخول فيه والخروج منه بإرادة حرة. وقد قدم هذا النموذج بوصفه انتصاراً للحب والحرية والاستقلالية، وهزيمة النظام الأبوي ومؤسسة الأسرة القديمة. والشاهد في هذا النموذج أنه يضخم من قيمة الشعور العاطفي كمرتكز للعلاقة حتى وإن تلاشى بعد ذلك، ويربط كثافة هذا الشعور بمعنى حياة الفرد.

في الجزء الأخير من الفصل يشير الكاتب إلى أزمات علاقات الحب في عالمنا المعاصر ومصادرها وآثارها على الذات والهوية والمعنى، ومن ذلك فقدان الأمان النفسي في ظل نموذج العلاقة النقية المتحررة من أية قيود. وكذلك حدة الآلام الناجمة عن التمركز حول الذات وارتهان قيمتها إلى الاعتراف داخل العلاقة الرومانسية. هذا بالإضافة إلى أن القداسة التي مُنحت للعلاقة الغرامية المعاصرة تواجه خطرين: حتمية الانطفاء والرتابة، وعلى فرض تجاوز هذه الأزمة فإنها لابد لها من مواجهة حتمية الفقد والفناء إما بالانفصال أو بالموت، وهذه حتمية تهدم القداسة الموهومة لهذه العلاقة باعتبارها مصدر معنى الحياة، فالذات سوف تقف حينها عاجزة حينما يخلو العالم من المحبوب وبالتالي من المعنى.

الفصل السابع

الفن والمعنى المؤجل

يذهب الكاتب في هذا الفصل إلى مساحة أخرى من مساحات بحث الإنسان المعاصر عن المعنى، وهي مساحة الفن. حيث يتناول في هذا الفصل سياق ودلالات تحول الفن إلى قيمة مستقلة، ومن ثم تحوله ليصبح هدفاً نهائياً ومنتجاً رئيسياً للمعنى، بل وشكلاً من أِشكال التدين، معوضاً بذلك ضمور الاعتقادات التقليدية وتسيد العقلنة وتأُثيرات الرأسمالية الصناعية.

يبدأ الكاتب أولاً بعرض علاقة الفنون التاريخية بالدين، وطبيعة التوترات الواقعة بين دنيوية الفن وأخروية الدين، حيث يبين الكاتب أن الفنون حظيت منذ قديم الزمان بأهمية كبيرة في الثقافات البشرية، فقد رأى بعض الفلاسفة القدامى أن الفنون وسيلة لتحصيل المعاني الأخلاقية وتهذيب الطبع. ومن هذا المنطلق استثمرت المسيحية هذه الأطر الأخلاقية الفلسفية القديمة، ورأت أن الموسيقى يمكن استعمالها كوسيلة لإعلاء كلمة الرب، وأنها طريقة فعالة لإيقاظ الشعور الديني، وكذلك الصور الفنية والرسومات والتماثيل التي اتخذتها الكنائس. إلا أنه قد أثيرت بعض الجدالات والصراعات في التاريخ الكنسي حول التناقض الواقع بين مادية النشاط والمنتج الفني ودنيويته، وأخروية التدين، وما تساهم فيه الأولى من تعكير صفو روحانية الاعتقاد الديني. ويذكر الكاتب أنه وقع نظير ذلك في التراث الإسلامي أيضاً ومن أوضح نماذج ذلك مفهوم السماع الصوفي، حيث اتخذت بعض التيارات الصوفية ألواناً من الفنون كالغناء الممزوج ببعض المعازف والرقص سبيلاً لتحصيل بعض المعاني والأحوال القلبية الرفيعة.

وفي هذا السياق يسوق الكاتب توضيحاً هاماً للشاطبي – رحمه الله – يفك الالتباس الناجم عن التقارب والتشابه الظاهري والوهمي بين الانفعال الديني والانفعال الفني. وخلاصة قول الشاطبي أن الانفعال الناجم عن سماع القرآن والذكر هو انفعال محمود لا يتعد اقشعرار الجلد ولين القلب، استنباطاً من قوله تعالى “ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله”، وهو انفعال يتسم بالسكون لا الحركة والإنزعاج، والسكوت لا الصياح. بخلاف الانفعال الفني الغنائي والموسيقي، فهو يثير الطرب ويولد الاضطراب الراقص لما فيه من “ثوران الطباع”.

وفي هذا الإطار ينتقل الكاتب إلى تحليل جوهر الانفعال الفنى ومعناه، فيبين ابتداءاً أن العلاقة بين الدين والفن تتشابك بطرق مختلفة، فالدين يتعلق بفعل الإنسان وكينونته في علاقته مع اللامرئي، بينما الفن يتعلق بصنع المرئي، ولكن تبعاً للامرئي، فهناك مساحة ما غيبية داخل هذين المجالين. ويتضح ذلك في حيرة كثير من التفسيرات النقدية – التي يسوق الكاتب مجموعة منها – والتي تسعى إلى الكشف عن جوهر الفعل الفني ودلالة الانفعال الذي يقع لمتلقيه والتي تدور في مجملها حول شوق الإنسان إلى العالم العلوي أو البحث عن كمال وجمال مفقود في هذا العالم، وكذلك التوق البشري إلى الخلود.

وبناءاً على هذه الخلفية ينتقل الكاتب إلى الاهتمام الحداثي بالفن كغاية تامة بديلة عن الدين، بل ديانة مستقلة بذاتها تؤسس معنى للحياة. فأًصبح الفن في الحداثة يُنظر إليه بوصفه تعبيراً عن الأصالة الفردانية ونموذج لتعريف الذات. وقد انفصلت الفنون الحديثة عن سطوة التقاليد الدينية والاجتماعية، وأصبحت أمراً مستقلاً بذاته بحيث تتأسس التجربة الفنية والجمالية على نفي التعالي والالتزام الحصري بالنزعة الإنسانوية أو بنوع من الحياد. فالفن قد أصبح بمثابة النشاط الميتافيزيقي القادر على إنقاذ العالم الموحش الغارق في المادية، لأن الفن بعمومه – كما يرى الشاعر الأمريكي أرشيبالد مكليش – يكمن في المطلق الذي يتجلى في إدراك العلاقات بين الأشياء، وفي تلك الروابط الخفية التي تقع تحت الظواهر، وفي فهم التجانس الكوني، وهذا التجانس هو ما يجعل للتجربة الفنية معنى.

ويضيف الكاتب أن من دوافع الفكر الحداثي أيضاً في التشبث بالفن، أن الفن يحظى بميزة انسجامه مع التوجه الروحاني المعلمن المتصاعد، والذي يسعى إلى استنباط روحانيات بلا دين، وهذا يمكن العثورعليه في الفن والموسيقى، فهى تمنح الفرد متعة روحانية خارج الدين وكذلك خارج الدنيا وشواغلها.

وفي الجزء الأخير من الفصل يوضح الكاتب دور الفن في تأجيل سؤال المعنى أو نسيانه، فالفن بسبب مضامينه الانفعالية والوجدانية يوفر إشباعاً روحياً مؤقتاً أو يوهم بالإشباع الروحي، وهذا الشعور الفني الكثيف والمتكرر يلغي دوافع الفرد للبحث عن المعنى. وقد شهد الوقت المعاصر انفجاراً في كمية الفنون إنتاجاً واستهلاكاً خاصة في ظل التطور الرقمي الكبير، فضخامة الإغراء الاستهلاكي للمتع باتت تخرج سؤال المعنى من دائرة الاهتمام. هذا فضلاً عن أن مضامين الفنون المعاصرة ترسخ الإجابة الدنيوية عن سؤال المعنى، وذلك من خلال التصور العدمي للكون أو العبثية والعشوائية، وأنه لا معنى للحياة إلا في علاقات الحب الجارف، ومطاردة الأحلام والنجاحات الكبرى، حيث لا مجال للحديث عن المصير الأخروي.

الفصل الثامن

المعنى والزمان

يتناول الكاتب في هذا الفصل مسبب آخر من مسببات أزمة المعنى في الحياة الحديثة، وهو ما يتعلق بمعنى الزمن وتحولات الوعي الحداثي به، لأن المعنى يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالزمن لكونه ينبني على التوجه الغائي وهو حالة مستقبلية. ومن هنا يبدأ الكاتب الفصل بالحديث عن تحولات الزمن في التاريخ المعاصر.

وفي هذا السياق يبين الكاتب أن موقف المجتمعات الغربية من حركة الزمن مرت بثلاثة أطوار: طور الاهتمام بالماضي وإعلاء قيمة الاقتداء بالأجداد. ثم طور الاهتمام بالمستقبل والذي بدأ من بدايات الحداثة واقترن بالتطورات السريعة والضخمة في العلوم التجريبية، وشعر الإنسان الحديث بأنه كل شئ وأنه قادر على أي شئ وأنه هو الذي يصنع التاريخ، ومن ثم ارتفع سقف التوقعات لما يمكن أن يصل إليه شكل العالم في المستقبل مع عجلة التطور التقني السريع، ولكن سرعان ما أصيبت هذه النظرة اليوتوبية بصدمات متتابعة في القرن العشرين وعلى رأسها صدمة الحربين العالميتين وما نجم عنها من كوراث واهتزاز الثقة في الحضارة الحداثية وفي مشروعية السرديات الكبرى وبالأخص مشروعية سردية التاريخ التقدمي. فجاء الطور الثالث من أطوار الوعي الزماني وهو ما يسمى بالحاضرية، وهو تصور برز في العقود الأخيرة من القرن العشرين حيث تمحور الوجود الفردي في اللحظة الآنية وقطع صلاته بالماضي والمستقبل.

يوضح الكاتب أن هذا الوعي الجديد المنشغل باللحظة الحاضرة متأثر بقوة بالنموذج الفرداني والانكفاء على الذات. فالفرد المعاصر الذي نشأ في كنف الفردانية يعيش لنفسه، لا يهتم لماضيه وأسلافه، ولا يعبأ بالأجيال القادمة. وقد كان هذا الاهتمام المعاصر باللحظة الآنية هو أحد وسائل الهروب من ألم الوعي بالزمن الذي فقد معناه عند الإنسان المعاصر، عندما فقد بعده العلوي المتعلق بوجود عالم آخر مع إدراك حقيقة الموت الحتمي. وبالتالي ازداد التركيز اليوم على فكرة الذوبان في اللحظة الحاضرة والانغماس فيها بحيث يكون لا وجود للماضي ولا وجود للمستقبل، وكذلك لا وجود للمعنى ولا حاجة إليه. وقد ظهر نتيجة لذلك مجموعة من الممارسات الروحية التي تساعد على التركيز في اللحظة الراهنة.

ثم ينتقل الكاتب للحديث عن إحدى سمات الحياة المعاصرة والتي ساهمت بقوة في ترسيخ مفهوم الحاضرية هي سمة السرعة في كل شئ، حيث فقد معها الإنسان المعاصر شعوره بالتاريخ الممتد نظراً للتتابع السريع للأحداث اليومية التي يعيشها. كما أن هذه السمة وعلى الرغم من أنها زادت من الاهتمام المعاصر باللحظة الآنية إلا أنها أثرت بالسلب أيضاً على قدرة الإنسان في عيش هذه اللحظة نظراً لتشتت الانتباه المستمر الذي يعيشه الإنسان المعاصر بين كثرة المهام والمنبهات والإشارات والإشعارات والصور والمشاعر التي تتكاثر يوماً بعد يوم مع التطورات التقنية وأنظمة الاتصال. وهنا يضيف الكاتب بأن أحد الأسباب الهامة لأزمة المعنى هو هذا الحضور المفرط في زمن لحظي متسارع، لأنه يفقد الإنسان وعيه العميق بالتجارب التي يعيشها أو بالاعتبار والتذكر، هذا فضلاً عن كون هذا السياق الصاخب يجعل الفرد دائم الشعور بفقدان اليقين وانعدام تماسك الذات والمعنى.

ينتقل الكاتب في نهاية الفصل إلى التأكيد على أهمية الزمن في بلورة المعنى، لأن المعنى لا يُبنى خارج الزمن، فهو يتبلور مع تتابع الزمان بماضيه ومستقبله. أما اللحظة الآنية فلا يمكن أن توفر المعنى لأنه بمجرد أن يبدأ الفرد في استيعابها سيجد أنها انقضت وأصبحت ماضياً، ويظل هو يلاحق السراب باستمرار. ولذلك يؤكد الكاتب أن الانغماس في اللحظة الحاضرة لا تجيب عن سؤال المعنى، بل تستبدله باقتراح عملي فارغ المضمون وتتجاهل ضرورة الإجابة عن السؤال لكي يصبح للفعل اللاحق قيمة ومعنى.

الفصل التاسع

من المعنى إلى التعبد

في هذا الفصل الأخير وبعد طول تحليل ومناقشة لأزمة المعنى وأبعادها وأسبابها يحاول الكاتب في هذا الفصل أن يقدم إجابة عن سؤال المعنى في ضوء الرؤية القرآنية.

يبدأ الكاتب بتيهئة السياق لعرض بعض ملامح الرؤية القرآنية لمعنى الحياة، وذلك ببيان عمق الاحتياج إلى التدين، مؤكداً على أن الاعتقاد بغائية الوجود ليس إثراءاً نظرياً أو إضافة معرفية، بل إن تشوشه أو انعدامه يهدد البنية النفسية للإنسان ويعرض اتزانه العقلي للمخاطر، فالوجود الإنساني على الأرض والعدم المحتوم الذي ينتظره وينتظر أحبابه والآفات التي تهدده بالمرض والمعاناة لا تفارقه طوال حياته تجعل من طبيعة وجوده – من وجهة النظر اللادينية- أمراً عبثياً مؤلماً للعقل. كما أن طبيعته المركبة من جسد مكون من لحم ودم يمرض وينزف ويموت ويتحلل، إلا أنه واع بوجوده ومدرك لواقعه ولديه شعور كلي بحركة الزمن، وفوق كل ذلك لديه توق دفين للخلود والأبدية. إضافة إلى ذلك فهو كائن مطالب دائماً بالاختيار بين بدائل متناقضة، وهو في عملية الاختيار هذه متحملاً للمسؤولية. هذا التكوين المركب وهذه القدرة على الاختيار لا يمكن استيعابها إلا ضمن الإطار الديني ومعاييره.

ينتقل الكاتب بعد هذه التهيئة إلى محور موضوع هذا الفصل وهو بيان ملامح التصور القرآني لمعنى الحياة، فيبين أن هذه السردية تتأسس أولاً وقبل كل شئ على التحقق الجازم أن المدار والغاية والمنتهى هو الله عزوجل، فلا يمكن أن تصح رؤية للعالم دون الإيمان بالوجود الإلهي واليقين بكماله المطلق ورعايته التامة ونفوذ أمره وإرادته، فهذه هي الركيزة الكفيلة بتشييد البنية التحتية المؤسسة للمعرفة الصحيحة والأخلاق الفاضلة ونظام المعنى المتماسك.

وتتشكل السردية القرآنية من منظور التاريخ العام، حيث ذكرت مبدأ المخلوقات من خلق العرش والكرسي والسماوات والأرضين وما فيهن وما بينهم وكيفية خلق آدم عليه السلام، ثم ما بعد ذلك إلى زماننا ثم أشراط الساعة والفتن والملاحم، ثم البعث والنشور وأهوال القيامة، ثم صفة النار والجنة. وهذه السردية لا تفهم إلا بمعرفة غاية القرآن الكبرى وهي دعوة العباد إلى ربهم سبحانه وتعالى.

ويبين الكاتب أن الذات في إطار هذه السردية تعرف البداية والنهاية وتحدد موقعها ومقتضيات وجودها داخل هذه السردية المجملة. ثم يأتي التفصيل بعد ذلك في كون حال الإنسان أنه مخلوق مكرم لله تعالى، وأنه أهبط إلى الأرض بعد معصيته لتكون مستقراً مؤقتاً له، ففيها يحيى ويموت ومنها يُبعث، وقد حمله الله الأمانة واستخلفه في الأرض، وأوضح له الغاية من وجوده وهي عبادته سبحانه، وابتلاه بالمتع ليختبره، وأخبره عن حتمية وروده الدار الآخرة، وسخر له الموجودات، وأخبره أن الدنيا عابرة وأنها لا تعدل شيئاً في زمان الآخرة، ووعد المؤمن بالنعيم الأبدي وخوف الكافر والمنافق من المصير الأليم في النار.

هذه السردية – كما يبين الكاتب- قد فسرت الحالة الإنسانية في أخص معضلاتها على نحو لا تمكن منافسته من أي سردية دنيوية أو معلمنة. ففي ضوء هذا المنظور يتحدد الموقف من الحياة برمتها ومن الألم ومن الموت ومن ألوان النقائص التي طبع عليها هذا العالم ويصبح المعنى فيهم واضحاً جلياً.

وفي نهاية الفصل يؤكد الكاتب أن ما يقدمه الوحي من معنى للحياة يقتضي من الإنسان التوجه لربه بالعبادة والخضوع والاستسلام، وليس مجرد أن يتوقف عند ما قدمه له الدين من إشباع عقلي ونفسي ببيانه معنى الحياة، فهذا تصور معلمَن للدين، فمعنى الحياة لا يتحقق على جهة الكمال إلا بالإذعان لمقتضى العبودية لله تعالى بتصحيح القصد والإيمان بالرسالة الحقة.

عرض:

أ. يارا عبد الجواد*

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحثة في العلوم السياسية.

عن يارا عبد الجواد

شاهد أيضاً

العولمة والحياة اليومية

العنوان: العولمة والحياة اليومية. المؤلف: لاري راي؛ ترجمة الشريف خاطر.

د. إبراهيم أبو العيش

د. فاطمة الزهراء محمد عبده

د. إبراهيم أبوالعيش رجل صنع حلمًا وعاش فيه بعمق، ليلهمنا كيفية تقديم نماذج ناجحة لحياة إيجابية صحية وكريمة في عالمنا المعاصر، هو عالم مصري في الكيمياء التطبيقية، حصل على جائزة نوبل البديلة في التنمية البشرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.