المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم: أبو القاسم حاج حمد نموذجًا

المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم*

(أبو القاسم حاج حمد** نموذجًا)

الجيلاني بن التوهامي مفتاح****

لقد أجمع علماء التفسير منذ القديم – فيما نقله الزركشي – على شروط كثيرة لابد من مراعاتها عند تفسير القرآن أجملوها في أربعة شروط هي :

1- الأخذ بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أحاديث في التفسير .

2- الأخذ بقول الصحابي، وخاصة فيما لا مجال للاجتهاد فيه، كالأمور الغيبية والناسخ والمنسوخ .

3- الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى غير معناها الحقيقي، أو إلى غير مرادها .

4- الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع[1].

واستمر العمل بهذا المنهج كحد يعرف به الرأي الممدوح من الرأي المذموم إلى أواخر القرن الماضي، حيث سادت العالم مناهج جديدة، ومع مرور الزمن وتغلغل هذه المناهج وتمكنها من عقول بعض المفكرين داخل العالم الإسلامي  ظهرت مدرسة فكرية حديثة[2]  تدعو إلى تجديد فهم القرآن فهمًا عصريًّا، متبنية في ذلك ما توصل إليه العقل البشري من مناهج وعلوم – وخاصة الغربية – على رأسها علم الألسنية الحديثة وغيره. وكان من أهم آراء المدرسة الفكرية الحديثة الدعوة صراحة إلى تجاوز كل الأدوات المنهجية التراثية؛ لأنها – حسب رأيها – تمثل فترة زمنية معينة، ثم تبنيها الأدوات المنهجية المعاصرة، مثل المنهج التاريخي والمنهج البنيوي والمنهج الجدلي وغيرها.

 وقد أخذت على نفسي البحث في هذا الموضوع المثير ، واخترت لذلك نموذجًا من أبرز نماذج هذا الاتجاه وهو أبو القاسم حاج حمد الذي صدرت له عدة كتابات في منهجية القرآن من أهمها: كتاب العالمية الإسلامية الثانية، وكتاب: منهجية القرآن المعرفية. ولقد تعرض الكاتب في هذين الكتابين إلى قضايا منهجية عديدة في فهم القرآن، وذلك من خلال ما دعا إليه من:

1- تجاوز التفسير التراثي للقرآن من مناهج وأدوات تحليلية بحجة أنها تمثل فترة زمنية معينة أطلق عليها اسم العالمية الإسلامية الأولى.

2- الأخذ بمحددات منهجية جديدة تلائم الفترة الزمنية الحالية، العالمية الإسلامية الثانية.

إشكالية البحث:

إلى أي حد يمكن لنا أن نعتبر محاولة أبي القاسم حاج حمد محاولة تجديدية أصيلة -بمعنى أنها محاولة تجديدية من الداخل وليست من الخارج- وإلى أي مدى قد أسعفه منهجه المقترح في تجاوز القراءات الأخرى التى يعتبرها الكاتب دلالة واضحة وتعبيرًا عن روح ومصداقية العالمية الإسلامية الثانية؟

سبب اختيار  موضوع البحث:

لقد دعتني لاختيار هذا البحث أمور منها:

1- أنه بغض النظر عن صواب الكاتب أو خطئه فقد تناول القرآن بفهمٍ جديدٍ، الأمر الذي يدعو إلى دراسة هذا الاتجاه الجديد في التفسير .

2- وضوح رؤيته وموقفه، مع رفضه للمناهج التفسيرية القديمة وتبنّيه آراءً وأفكارًا مخالفة.

3- عدم وجود دراسات نقدية وتحليلية تناولت أفكار الكاتب بالنقد والتحليل العلمي الدقيق، في حين أن هناك كتبًا أخرى مشابهة له قد ظهرت بعده إلا أنها قد قتلت بحثًا مثل كتاب “الكتاب والقرآن قراءة معاصرة” لمحمد شحرور . فالسؤال الذي يطرح نفسه لماذا هذه الردود الكثيرة على كتاب محمد شحرور في حين أننا لا نجد شيئًا من ذلك حول كتاب أبي القاسم حاج حمد رغم أن التشابه بين الكتابين كبير؟

4- اهتمامي بالموضوع لطرافته وجدته، فشغلت نفسي بالبحث فيه محاولاً الالتزام بالموضوعية والمنهجية العلمية؛ إحقاقًا للحق، وبيانًا لما يمكن أن يؤخذ على الكاتب، ومناقشة أفكاره وتحليلها؛ وذلك للكشف عن خلفيته الثقافية ونقدها.

أهمية البحث:

تكمن أهمية البحث في النقاط الآتية:

1- رغم أن الأفكار التي طرحها الكاتب تعد غريبة إذا ما قارناها بما تعارفت عليه الأمة فقد لقيت هذه الأفكار بعض الرواج داخل الساحة الفكرية الإسلامية، ولا أدل على ذلك من قيام المعهد العالمي للفكر الإسلامي بطبع كتاب منهجية القرآن المعرفية، وعقد ندوة له في القاهرة سنة 1992م بمشاركة عدد كبير من المفكرين.

2- أن هناك أزمة منهجية حقيقية في الفكر الإسلامي، وأن المناهج القديمة بما هي عليه الآن غير قادرة على إنشاء الحلول المناسبة لما يواجه الأمة من مشكلات.

3- أنه رغم غرابة الأفكار -كما سبق ذكره- وتبرم بعض المحافظين وتحفظهم منها، إلا أنني ممن يؤمن إيمانًا عميقًا بأن طريقة التحفظ والتشكيك في كل جديد مخالف هي طريقة غير سليمة وغير موافقة لروح شرعنا الحنيف، فكم من آية كريمة تعرض آراء المخالفين وحججهم بأسلوب قد يعجز عنه أصحابها أنفسهم، ثم تعالجها معالجة علمية، فتبقي على ما هو حق وصواب، وتسقط ما هو باطل وخطأ. لذا كان البحث والنظر في مثل هذه الكتابات ذا أهمية بالغة في تلاقح الفكر الإسلامي قديمه وحديثه وتحصينه الحصانة العلمية الهادفة وتهيئته لحمل الأمانة والاستجابة الكاملة للتحديات المفروضة عليه داخليًّا وخارجيًّا .

حدود البحث:

سيعتمد هذا البحث أساسًا على كتاب «العالمية الإسلامية الثانية»؛ وذلك لأسباب من أهمها:

1- أن كتاب «العالمية الإسلامية الثانية» يمثل عصارة فكر الكاتب، وخاصة في مسألة منهجية فهم القرآن الكريم .

2- أن معظم الأفكار الواردة في كتابه «منهجيّة القرآن المعرفيّة» – السابق الذكر – قد سبق أن وردت في كتاب العالمية الإسلامية الثانية .

وكتاب العالمية هذا – بغض النظر عن صوابه أو خطئه – يعد كتابًا جديدًا في بابه، غريبًا في طرحه عن الحس الإسلامي المعهود، فقد عرض فيه صاحبه مفهوم العالمية الإسلامية الأولى، والتى بدأت بظهور الإسلام، وانتهت في زماننا هذا بظهور كتاب العالمية الإسلامية الثانية، ومن أهم خصائص العالمية الأولى البساطة والتعلق بظواهر الألفاظ، ثم خلف هذه العالمية الأولى العالمية الإسلامية الثانية التى بشر بها الكاتب، ومن أهم خصائصها الظهور والمعرفة الرمزية، وبناءً عليه فقد تعرض الكاتب إلى مسائل مثل القرآن والوحدة البنائية والنسخ، ومصطلحات مثل الأمية وغيرها مما هو مفصل في هذا الكتاب .

منهجية البحث:

أما المنهج الذي سأتبعه في هذا البحث، إن شاء الله ، فهو المنهج التحليلي المقارن ، والذي من سماته:

1- عرض الأفكار وتحليلها، وإرجاعها إلى أصولها، والوقوف على آليات إنتاجها .

2- نقدها وتقويمها في ضوء مناهج ومحاولات أخرى مشابهة .

إشكالية الكاتب، فرضياته وأجوبتها:

نظرًا للأسلوب الخاص الذي اتبعه المؤلف في كتابه هذا – (العالمية الإسلامية الثانية)، مما جعل مسألة استعراضه وفق هيكله الأصلي أمرًا شبه متعذر، وذلك لتداخل أفكاره وعناوينه- فإن هذا البحث سيعمل على انتهاج طريقة خاصة يُرجى أن تؤدي المقصود بأوجز عبارة وأوضحها، وذلك بالتركيز على أهم الأفكار الأساسية الواردة في هذا الكتاب ومحاولة عرضها بأسلوب منهجيّ مبسّط يسهّل على القارئ متابعتها وفهمها دون جهد.

أ. إشكالية الكتاب:

ما القضية التي شغلت ذهن المؤلف ردحًا من الزمن مما دعاه إلى كتابة هذا الكتاب؟ بعد التتبع والاستقصاء عثرتُ على بعض الفقرات التي تحدد هذا الأمر، أهمها اثنتان:

أولاهما: «ماذا سيحمل العربي -وهو في قمة تخلفه- الآن للعالم الذي تجاوزه حضاريًّا؟ وكيف سيتحول العربي من دائرة الانفعال السلبي بالعالمية الأوروبية المعاصرة، إلى دائرة الفعل الإيجابي باتجاه عالمية بديلة؟»[3].

ثانيتهما: «كيف يمكن طرح القرآن على مستوى الحضارة العالمية الراهنة، وضمن أفقها؟ ليستطيع أن يقود المسلم أولاً إلى خارج التخلف، ثم يقود معه العالم إلى حيث البديل؟»[4].

إذًا يحصل من دمج الفقرتين السابقتين الصياغة الآتية:

كيفية إمكان فهم القرآن فهمًا جديدًا يتناسب والأفق المعرفي المعاصر ليصبح قادرًا على نقل العربي المسلم أولاً من دائرة التخلف والانفعال السلبي إلى دائرة الفعل الإيجابي ثم قيادة العالم كله إلى عالمية جديدة.

ب. فرضيات الكاتب وأجوبته:

ما هي العالميّة الإسلامية الأولى وما خصائصها؟ وما العالميّة الإسلاميّة الثانية وما خصائصها؟ وفِيمَ تختلف كل منهما عن الأخرى؟

الفرضية الأولى: العالمية الإسلامية الأولى:

خصائصها: هي عالمية تمتد منذ البعثة النبوية إلى عصرنا الحاضر ، وهي عالمية تأتت من خلال صراع الحق مع الباطل عبر سياق المراحل التاريخية للتشكلات الدينية، التي بدأت بالعائلة -آدم- في صراعه مع إبليس، ثم تمر بالقبيلة -موسى وقومه في مقابل فرعون وقومه- ثم تصل إلى العالمية الإسلامية، عالمية الأميين في مقابل الأمية الفارسية والأمية الرومانية ذات الجذور الهيلينية وإن اتخذت المسيحية بشكل معين[5].

ومن خصائص هذه العالمية أنها خاصّة بالأميين؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُـوا بِهِـــمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَـكِيم} [الجمعة: 2-3]، وتكون مسئوليتها ملقاة على عاتق العرب، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِـــكَ وَسَــوْفَ تُسْـــأَلُونَ} [الزخرف: 44]، وموقع تفاعل العرب -الأمة الوسط- مع غيرهم هو الوسط من العالم القديم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُـــــولُ عَلَيْكُــمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

ومن خصائص تلك العالمية أنها تتعامل مع القرآن في إطار بنائه اللفظي؛ لأنه لم يكن ممكنًا لعقلية إنسان تلك المرحلة النفاذ إلى المنهج القرآني عبر التحليل؛ لذلك كانت القدوة الرسولية الحسنة تمثل الصلة الحية ما بين حقائق الوعي القرآني في مطلقها وتصورات الوعي البشري في نسبيتها التاريخية، لذلك عـرف الرسول بأنه الأسوة الحسنة[6].

وهذه العالمية هي عبارة عن مرحلة تاريخية انتقالية ما بين مرحلة الدين القومي -التجربة الإسرائيلية- وما بين العالمية الإسلامية الثانية[7]. وقد مرت هذه العالمية في تدهورها بمرحلتين :

1- مرحلة أولى تميزت بعدم البحث عن بدائل خارج الإسلام وتواصل قوى التجديد ضمن ظروف مختلفة .

2- مرحلة ثانية : تعتبر نتيجة للمرحلة السابقة وخاتمة للعالمية الإسلامية الأولى ومن أبرز مظاهرها :

أ – تمزق الكيان …ب – البحث عن بدائل وضعية …جـ – الارتداد للأصول الحضارية القديمة …

د – التمايز بين العربي وغير العربي…

هـ – قيام الدولة الإسرائيلية[8].

الفرضية الثانية : العالمية الإسلامية الثانية:

خصائصها: الآن هو بداية ظهورها؛ إذ كل الشروط الموضوعية قد توفرت لها، فعودة اليهود من وراء التاريخ وسيطرتهم على العالم تعدّ مقدمةً لإنهاء العالمية الإسلامية الأولى وبداية العالمية الإسلامية الثانية التى تتولّد تاريخيًّا من خلال تدافع عربي – إسرائيلي ينتهي بالإنسان العربي -شاء أم أبَى- إلى تبني الحضارة العالمية البديلة[9].

ومن خصائص هذه العالمية أنها عالمية شاملة لقوله تعالى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَـــــرِهَ الْمُشْرِكُون} [التوبة :33][10]  وحامل خصائصها هو العربي الذي حمل خصائص العالمية الأولى. وموقع انطلاقها هو الوسط العربي العالمي لتشمل كل الأنساق الحضارية والدينية لما تبقى من الشعوب الأمية غير الكتابية والكتابية[11].

ومن خصائصها أيضًا أنها تتعامل مع القرآن ضمن إطار منهجي عميق، وعبر ضوابط الاستخدام الإلهي للمفردة، وهو استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح، يتعارض مع ما وثقه العرب في لسانهم البلاغي، ويصطدم كذلك بمرجعية الموروث[12]. لذلك فهي تستبدل هذا «المنهج» بالقدوة الرسولية الحسنة بفضل ما أتيح لها من «الخصائص العالمية» التى لم تكن متوفرة للعالمية الأمية[13].

وباختصار فإن العالمية الإسلامية الأولى هي عالمية محدودة تركزت في وسط العالم القديم في حدود الشعوب الأمية، وهي عالمية تفتقد المنهج وتهتم بأشكال الألفاظ دون مضامينها، وهي عبارة عن مرحلة انتقالية بين المرحلة القبلية والمرحلة العالمية الإسلامية الشاملة. أما العالمية الإسلامية الثانية فهي شاملة تتجاوز الوضعيتين اللاهوتية والمادية باتجاه الالتزام بمقتضيات السلام والوحدة في التجربة البشرية. وهي عالمية تتولد عبر الصراع العربي اليهودي، فاليهود بما أمدهم الله به من مال وبنين وهيمنة على العالم، والعرب بما أمدهم الله به من موقع وسط وأساس مادي ضخم يختصر الجهود والزمان باتجاه ظهور العالمية الثانية[14].

وبعد إعطاء فكرة عامة حول إشكالية المؤلف وفرضياته ، وبعد إبراز الإطار العام للكتاب وقبل الانتقال إلى إيراد أهم الأفكار في أطروحة المؤلف، يُستحسن عرض المنهجية التى اتبعها الكاتب في عرض هذه الأفكار .

منهجية المؤلف:

وإن كان المؤلف لم يفرد مبحثًا خاصًّا لبيان المنهج الذي اتبعه في كتابه، إلا أنه بعد استقراء أفكاره وتحليلها، ظهرت بعض العبارات التى تشير إلى المنهجية التى تبناها المؤلف، وهي تتضح في:

  1. المنهج التحليلي:

وهو ما يرى المؤلف أنه تميز به عن الأقدمين في فهم القرآن، حين يقول «لماذا خصنا الله في هذا العصر بالرؤية المنهجية للقرآن؟ ولماذا يختلف أسلوبنا التحليلي في التعامل مع القرآن عن الأسلوب التفسيري التقليدي؟ وبمعنى آخر لماذا نلجأ نحن إلى الوحدة الناظمة، في وقت لجأوا فيه هم إلى التعامل مع الكثرة؟ الفارق هنا يكمن في اختلاف أسلوب المعرفة، فالفكر التحليلي قد يبنى حضاريًّا في عصرنا العلمي الراهن على معالجة الكثرة ارتدادًا بها إلى الوحدة وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي[15]. ويرى المؤلف أن في «تطبيق هذا الأسلوب الحضاري في فهم القرآن بالبحث في وحدته المنهجية عن الناظم يضعنا في مرحلة متقدمة جدًّا لفهم هذا الكتاب، ويمكننا من حل العديد من المعضلات الفكرية التى كــانت مستعصية الحــل في الماضي»[16].

ويفهم مما سبق أن التحليل عنده هو:

  • معالجة الكثرة ارتدادًا بها إلى الوحدة.
  • وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي.
  1. الألسنية المعاصرة:

أو الحفر الألسني على حد تعبير المؤلف، وهذا ما يسمى بالمنهج البنيوي، ويضيف المؤلف بأنه طبق هذا المنهج في دراسته للقرآن قائلاً «فأخذت بتطبيق المنهج على (نماذج) من هذه الإشكاليات، ومن بينها -على سبيل المثال- ضوابط الاستخدام اللغوي في القرآن، وتحديد العائد المعرفي في معنى المفردات بطريقة ألسنية معاصرة تختلف عن الاستخدام الكلامي الشائع في اللسان العربي القديم»[17]. ويقول في موضع آخر «إن معالجة النص القرآني عبر ضوابط الاستخدام الإلهي للمفردة هو استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح – وهو – ما يتعارض مع ما وثقه العرب من لسانهم البلاغي ويصطدم كذلك بمرجعية الموروث»[18].

  1. المنهج التاريخي:

يقول المؤلف: إنه مَنْهَج لفهم التاريخ -فهمًا إسلاميًّا- منطلقًا من علاقة الغيب، المدروسة والمحققة، بحركة الواقع البشري، وذلك من خلال منطق التدافع والدورات من لدن آدم عليه السلام وإلى عصرنا الحاضر . وهذا المنهج لا يعمد إلى إلغاء المناهج الأخرى في فهم التاريخ وإنما يستوعبها ثم يتجاوزها بإضافة بُعدِ غـائب وهو بُعدُ التدافع الوضعي – الديني[19]. ويحاول المؤلف أن يبيّن الفرق بين منهجه وبين المنهج الماركسي بقوله «بمعنى آخر أكثر وضوحًا نقول: إن المنهج القرآني يأخذ بالغائية، ولكن خلافًا لمنطق الفلاسفة الغائيين فإننا لا نقول بالغاية المسبقة كوسيلة تحكم مسار الحركة العامة وتتجه إليها جبريًّا»[20]. ولتوضيح ذلك يقول «حسابات الجدلية المادية كانت معقولة في أوقات طرحها فهي نوع من إبصار المستقبل بحسابات الحاضر وضمن منهج متطور لعلم السببية، غير أن الذي فات الجدلية المادية أن كل ظاهرة تتعامل معها ذات عمق كوني ولها امتدادها النهائي إلى عالم الغيب الذي يشكل النتائج، ليس ارتباطًا بمقدماتها الجدلية ولكن تقديرًا بالحكمة لما يجب أن تكون عليه النتائج. وغالبًا ما تأتي هذه النتائج لتوضح الغائية في التسخير لما يريد أن يوفق الله أو ضدّ التسخير لما لا يريد أن يوفق[21] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب}[النور:39]

ويرى المؤلف أن مفهوم الحركة في التاريخ البشري من خلال القرآن لا يقوم عبر الصراع الطبقي كما هو الحال في النظرة الغربية، وإنما يقوم عبر أشكال دائرية، بدءًا بالشكل الفردي ثم الشكل القومي وانتهاء بالشكل العالمي. وبعبارة أوضح أن هناك جدلاً بين الإنسان والكون يتم عبر أطوار تاريخية ثلاثية، فالانفصال المادي للإنسان من الكون عبر مراحل ثلاث «مواد مختلطة من النسيج الكوني تتحول إلى كائن عضوي ويتحول إلى إنسان» يقابله اندماج الإنسان بالوعي في رحم الكون عبر مراحل ثلاث «الطور العائلي، الطور القومي، الطور العالمي» وهي «تماثل ثلاثية الخلق في الرحم»[22].

هذا وقد نبّه المؤلف إلى أمور منهجية تتعلق بأخلاقيات البحث العلمي جديرة بالذكر ، ومن أهمها:

  1. يحذر المؤلف من الإسقاطات الإيديولوجية في فهم القرآن، ويرى أن «التمسك بالحقائق هو الأصالة الحضارية ودلالة النضج العقلي المنهجي وليس تسيبات الحوار السلبي»[23].
  2. يدعو المؤلف إلى احترام التخصصات، ويرى أن مسألة تحليل القرآن «هي محاولة جديدة تتطلب استيعابًا مسبقًا لعدة علوم تخصصية في مجالات: التاريخ، واللغة، والطبيعيات، والفلسفة، إضافة إلى علوم الثقافات القديمة والأديان المقارنة[24]. ولا أعتقد أنه بإمكاني ادعاء هذا النمط من الاستيعاب الموسوعي . لم أطرح – إذًا – سوى مقدمة التحليل المنهجي وكيفيته ، على أمل أن ينهض بالعبء الضروري طائفة من العلماء المتخصصين في مختلف المجالات»[25].
  3. أنه لا بد من معرفة حقيقة منهجية مهمة وهي أننا لا نحاسب الأوائل من خلال متاحات عصرنا، ولا نعد ذلك عائدًا إلى نقص فيهم وكمال فينا «وإنما يعود إلى طبيعة مقومات تجربتهم وخصائص تكوينهم التاريخي والاجتماعي»[26]، إذًا فالأمر خارج عن نطاقهم فليراع كل ذلك أثناء البحث.

 أهم آراء المؤلف مع ذكر أدلته وبراهينه:

  1. الجمع بين القراءتين:

ينطلق المؤلف في تقرير هذه المسألة من فهمه لقوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5] فيرى الكاتب هنا أن الله سبحانه وتعالى قد طلب من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم قراءتين:

الأولى: هي قراءة خالصة لتجليات القدرة الإلهية في الكتاب الكوني المفتوح دون كيفية محددة تتجلى في الكائنات فـ «هي قراءة كونية شاملة لآثار القدرة الإلهية وصفاتها وخلقها للظواهر ذات المعنى وتحديد هدف الخلق»[27] وهي «قراءة تأتي باسم الله المقدس أي بوصفه خالقًا، والخلق صفة يتفرد بها هو وحده»[28].

الثانية: «قراءة ليست باسمه، ولكن بمعيته؛ لذلك لم تأت الآية في الشطر الثاني على نحو المقدمة، فلم يقل (واقرأ باسم ربك الأكرم) ولكن {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم} فجعل العطف على الربوبية، وأعطى الأمر الثاني {اقْرَأْ} اتجاهًا مستقلاً، والأمر واضح بالنظر إلى حركة الواو في القراءة الثانية. فدليل المعية هنا في {وَرَبُّكَ}»[29]  فهذه قراءة تدل على آثار كرم الله في خلق الكون وتسخيره للإنسان؛ لذلك جاءت عبر وسيط خارجي -القلم- للإنسان، وهو ما يسمي بالعلم الوضعي، ويسميه المؤلف بالعلم الموضعي. إذًا فهما قراءتان فريضتان «ربانية وإنسانية» تتم الأولى بالله والثانية بمعيته. فمن عطل الثانية وقع في أسر الكشف الصوفي؛ مما يؤدي إلى انتقاص قيمة الفعل الإنساني والتأثير على مردوده الحضاري مثلما حدث للإنسان العربي . أما تعطيل القراءة الأولى فيؤدي إلى نفي الدور الإلهي في الكون والارتماء في أحضان الحلولية الوضعية التى تطورت وانتهت في شكلها المادي الجدلي، وربط الإنسان ودمجه بالطبيعة واستغنائه بالقلم عن خالقه، وهذا ما عبر عنه المقطع الثاني للسورة {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6)أَنْ رَآهُ اسْـــتَغْنَى(7)إِنَّ إِلَى رَبِّــكَ الرُّجْعَى} [العلق: 6-8] والرجعى هنا خلافًا لقول المفسرين لا تعنى الإرجاع الأخروى، وإنما هي دلالة العود على الأثر نفسه؛ لأنها تصريف من الرجع، أي الاسترداد الآني كالسماء ذات الرجع، وهذا الارتداد لا يعني غياب الفعل الإلهي قبلها عن القدرة الإلهية وإنما غيابها من وعي الإنسان المستعلي بالقلم. ومما يؤكد هذا المعنى الدنيوي وضع دعوة الزبانية كمقابل شرطي لـ {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} [العلق : 17]  دعوة تتم في الدنيا؛ لأنه ليس في الآخرة هناك جماعة يلوذ بها الإنسان، وكذلك كلمة {الناصية} رمز الاستعلاء والطغيان فتسفع كرمز للإهانة»[30].

من هنا يفهم «أن القدرة الإلهية في تداخلها مع الفعل البشري تظل مهيمنة على نتائج الفعل البشري الحضارية باحتوائه سلبيًّا إن كان فعلاً خاطئًا، وباحتوائه إيجابيًّا إن كان فعلاً صالحًا.. والمبدأ الخاص بوجود الله في مسيرة الفعل البشري توفيقًا وتضليلاً لا يأتي دومًا ضمن مواصفات حتميّة، فلله تقدير الأمور وللإنسان تدبيرها في إطارها الموضعي»[31].

  1. القرآن وضوابط الاستخدام اللغوي:

قسم المؤلف هذه المسألة إلى مبحثين، وهما:

أولاً: التمييز بين التوظيف الإلهي للغة والتوظيف العربي:

وهذا المبحث هو من أهم المباحث التي انبني عليها فكر المؤلف، بل قل إنها الركن الأساسي الذي أقام عليها صرحه؛ لذلك سيعمل البحث على إطالة النفس في إيضاح هذه الفكرة وإيراد أمثلتها التى تناثرت في معظم مباحث الكتاب.

يرى المؤلف أن هناك فرقًا بين لغة القرآن وبين لغة العرب «فالاستخدام الإلهي للمفردة يرقى بها إلى مستوى المصطلح»[32] «بحيث ينتفي منطق المشترك والمترادف»[33]؛ لأن القرآن مركب على اللغة كأداة تعبيرية، وبما أن منهجيته المعرفية ضابطة لكل الموضوعات التى يعالجها، فإن لغته يجب أن تكون منضبطة كذلك، فلا يعطي للمفردة الواحدة أكثر من معنى مهما اختلف موضعها وسياق توظيفها، وإلا لوقع التضارب بين مفردات القرآن واختلفت التأويلات والتفاسير . كل هذا يتعارض مع ما وثقه العرب في لسانهم البلاغي، ويصطدم كذلك بمرجعية الموروث وتداعيات العرب البلاغية[34].

وقد أورد المؤلف عدة أمثلة تؤيد وجهة نظره، ومن هذه الأمثلة ما يلي:

أ. الفرق بين اللمس والمس: إن العرب لم يفرقوا بينهما وجعلوهما من قبيل المترادف، في حين أن “لمس” تعني قرآنيًّا التناول باليد أو الاحتكاك العضوي والحسي، و”مس” تعني التفاعل العقلي والوجداني؛ لذلك لم يمنع الله لمس المصحف فهو للبشر أجمعين وكيفما كانت حالاتهم فلهم أن يتناولوه. أما مس القرآن بما يعني التفاعل مع مكنوناته وأعماقه فيتطلب حالة من الاستعداد {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون} [الواقعة : 77-79]»[35].

ب. الفرق بين الرؤية والنظر والشهود: يرى المؤلف أن “الرؤية” تتعلق بالأمور الحسية، وآلتها العين المجردة، أما “النظر” فيتعلق بالأمور المعنوية التى تعتمد على التأمل والإدراك، وآلتها العقل، واستدل على ذلك بقوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف : 143] . «وقد طلب موسى رؤية الله عبر النظر، بمعنى أن يرفع عوائق الرؤية الحسية أو حجابها ليمكن النظر، والنظر يرتبط بالمخيال والتأمل، وقوى الإدراك خلاف الرؤية الحسية بالعين المجردة {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام :77] فالنظر عقلي والرؤية حسية. ولهذا قال الله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَـــا نَاظِرَة} [القيامة :22-23] فهنا يتعلق النظر إلى الله بالوجوه، وليس العين المجردة التى ترى، في حين أن العقل هو الذي يدرك قيمة الأمر وينفعل به {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْـــرَةٍ فَنَظِـــــرَةٌ إِلَى مَيْسَــــــرَةٍ } [البقرة:280] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين} [البقرة :69] ولهذا خاطب إبراهيم ابنه إسماعيل بالنظر في أمر الرؤيا المناسبة، أي تقليب الرأي فيها، ثم اتخاذ قرار قاطع كمن يرى الأمر عيانًا في حقيقته {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} [الصافات :102] وكذلك ميز القرآن بين البصر والرؤية العينية، فالبصر إدراك {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُون} [غافر: 58]. فالبصر إدراك والسمع استيعاب {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون} [الأعراف: 179]

وكذلك ميز القرآن بين شهود الأمر بمعنى حضوره وبين رؤية الأمر بالعين. وهكذا قال {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة : 185] فهناك حضور للشهر في الزمان والمكان؛ حيث يكون الإنسان مقيمًا، ثم استثنيت حالتان، مقيم مريض، وغير مقيم مسافر . ولم يطلب الله في هذه الآية رؤية الشهر؛ وذلك لأن الشهر لا يرى بالعين وإنما الأهلة. ورؤية الأهلة كرؤية إبراهيم لها {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} والشهور حساب {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه} [التوبة :36] فأن يشهد الإنسان الشهر يعني أن يكون حالاً حين توقيته، ولا علاقة لذلك برؤية الهلال كما يعتقد الكثيرون[36].

ج. الفرق بين اللدنية والعندية : يقول المؤلف: «اللدنية أوثق صلة من العندية، فاللدنية تضمر جوانية الذي يعطي، أما العندية فتضمر ما يكون لديه. فحين يكون الوحي لمحمد فإنه من لدن الله {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم} [النمل :6] أما أم الكتاب وهي الآيات المحكمات، التى تعتبر أصلاً له من قبل تشيؤه في لغة ما، فهي لدى الله بالغة ما بلغت من العلو والإحكام بحيث تهيمـن على كل متشابه»[37]  {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم} [الزخرف :4].

د. الفرق بين الخلق والجعل: يرى المؤلف أن «الخلق من عالم الغيب كما يقتضي الأمر الإلهي إبداع الشيء من غير أصل أو احتذاء، أم الجعل فهو من عالم الشهادة حيث مجرى الصيرورة، وتحول الشيء من شيء وتصييره على حالة دون أخرى، فالله قد خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، فالخلق أمر إلهي والجعل صيرورة طبيعية، وهكذا يلتقى جدل الغيب بجدل الطبيعة، ولكنه لقاء على غير انفصال، وإنما ضمن قراءة كونية واحدة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَــنُ الْخَالِقِين} [المؤمنون: 14]»[38].

هـ . الفرق بين الإيمان والإسلام: يقول المؤلف: إن «الإيمان هو القاعدة العامة للتدين، ولكنه نوعان:

  1. إيمان حسي يقوم على المرئيات، مثال ذلك بني إسرائيل الذين هم أقل مرتبة من الأميين العرب الذي رفعوا إلى مرتبة الإسلام .
  2. إيمان غيبي يقوم على التسليم بالوعي ويطلق عليه الإسلام. فالإسلام هو إيمان مضاعف {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه} [النساء :136] فالعرب قد بلغوا مرتبة الإسلام قبل أن يستكملوا مرتبة الإيمان، فحين وصفوا أنفسهم بالإيمان أنبأهم الله بأن صفتهم هي الإسلام، إسلام الأنبياء {قَالَتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًاإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [الحجرات : 14].

وسبب رفع الأميين العرب إلى مرتبة الإسلام هو ارتباطهم بإمام المسلمين ونبي الأرض المحرمة والرسالة الخاتمة {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(161)قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْــلِمِين} [الأنعام: 161 – 163]. فإسلامه من عالم الأمر الإلهي -وبذلك أمرت- وهو فوق عالم الإرادة الذي يتصدره موسي كإمام للمؤمنين {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف : 143] . وفوق عالم المكان والمشيئة الفطرية الأولى بإمامة إبراهيم {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] فعبر كافة هذه الأبعاد مجتمعة رُفعَ الأميــون العرب الى مرتبــة الإسلام»[39].

ثانيًا: القرآن وضوابط الاستخدام المنهجي النبوي للغة:

يرى المؤلف أن أي حديث لا يتفق لفظه مع ظاهر ألفاظ القرآن هو حديث مردود وإن صح سنده «فإني أؤكد أيضًا على التوافق والانسجام التامين بين لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ولغة القرآن، بحيث لا يحدث التضارب في المعاني والدلالات، واتخذت نموذجًا لذلك الحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»، وأوضحت تضاربه مع آيتين وردتا في القرآن؛ الأولى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم} [البقرة: 104] وكذلك {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء :46] إن دلالات راعنا التى نهى الله عنها مرتين واستبدلها (بانظرنا) خطيرة جدًا، فراعنا تحط من قدر الناس بتحويلهم إلى -رعية- من مـرعى حيث يقودها الراعي بعصاه»[40].

ويرى المؤلف أن أسباب الدس على الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت من قبل تأثيرات اليهود «فالعرب كانو أميين، أي غير كتابيين، فالتمس بعضهم لدى اليهود تفصيلات لما أجمله القرآن، وبما يعوض لديه النقص في خلفيات التراث»[41].

ويقول المؤلف «إن مجرد البحث في ضرورات التوافق بين متن الأحاديث النبوية ودلالات الألفاظ القرآنية المبنية على ضوابط منهجية ومعرفية، يقود حتمًا للبحث في علاقة السنة بالقرآن، وليس في قولنا هذا ما يبطل السنة، بل على النقيض من ذلك فإننا نؤكد على ضرورة الالتزام بمرجعية السنة الصحيحة التزامًا لا لبس فيه ولا غموض، وذلك لسبب أساسي وجوهري يتعلق بضبط اجتهادات الأمة وعلمائها ومفكريها فيما يأخذونه من منهجية القرآن. فلو لم يكن الرسول بقوله وفعله الصحيحين يشكل المرجعية التطبيقية لمنهجية القرآن لوقع اختلاف كبير بين المجتهدين، مثال على ذلك: إنه إذا لم يكن الرسول قد حدد الفجر بركعتين والمغرب بثلاث ركعات والعشاء والظهرين بأربعة، وجئنا نحن لنقول: إن صلاة الفجر صلاة انفلاق بين خيط أبيض وخيط أسود، وتستوجب الثنائية في ركعتين، وأن الغروب شفق مركب من ثلاثة ألوان بما يعني التركيب من بعد الانفلاق، فيكون المغرب في ثلاثة من الركعات، وأن الغسق ليل واستواء رحماني على العرش، والاستواء على كرسي رباعي القوائم فيكون العشاء أربعة .. لو قلنا كل ذلك، ومهما أتينا من أسانيد، لكثر الجدل ولاتُّهمنا بالعرفانية، ولتاهت الأمة بين مجتهد وآخر، يدعى كل منهم أنه يملك ناصية المنهج القرآني ويستمد منه المعرفة والأحكام. إلى أن يقول: فلا يمكن أن تكون شرعة القرآن هي شرعة (التخفيف والرحمة) ثم نستجيب لروايات تنسب إلى الرسول تطبيق شرعة (الأصر والأغلال) على المسلمين .. أراد اليهود تزييف كل ذلك، فطعنوا في التطبيق الرسولي من الرجم وإلى قطع الأيدي، وقالوا بأن الإيمان أرفع درجة من الإسلام، وبرعوا في دس كل ذلك على الأحاديث، وانصرف المسلمون إلى السند وليس إلى المتن، وإلى المنسوبات وليس إلى المنهج، وتلك كارثة لا زالت تلم بنا إلى اليوم»[42].

وللتأكيد على قيمة السنة ودورها التاريخي يقول «ضمن خصائص الوعي في تلك المرحلة لم يكن ممكنًا للإنسان التعامل المباشر والنفاذ الواضح للمنهج القرآني عبر التحليل. من هنا اتخذت (النبوة) شكل الصلة الحية والتوسط الفعال ما بين حقائق الوعي القرآني في مطلقها وتصورات الوعي البشري في نسبتها التاريخية، فعرف الله الرسول بأنه «الأسوة الحسنة» أي القـدوة العمليــة التى يحتذي بها العرب (عمليًّا) في حالة (الغياب النظري) لوعي المنهج»[43].

  1. إشكالية الارتباط بين العرب والعالمية الإسلامية الثانية:

يحاول المؤلف أن يؤصل لمسألة العروبة من خلال القرآن بحيث يبقي للعرب دورهم الريادي والقيادي مع تجنب إثارة حساسية الآخرين، يقول «فالمسألة هنا لا ترجع إلى ذاتية عربية، ولكن إلى سياق دور تاريخي ومضمونه. لابد لكل دور تاريخي من مرتكز اجتماعي، وعبر منطلق التدافع الذي يولد الخصائص النقيضة، وإلا أصبحت النظريات والفلسفات أفكارًا تائهة في الفراغ.. فثمة تحليل جدلي لهذا التدافع العربي – الإسرائيلي، والذي سينتهي بالإنسان العربي، شاء أم أبى، إلى تبنّي الحضارة العالمية البديلة، فالقضية هنا ترتبط بالدور وليس بالذات»[44].

ويزيد المسألة تعميقًا وتأصيلاً بدراسة بعض المفاهيم وإعطائها بعدًا يخدم مذهبه، فكلمة «الوطن التى وردت في القرآن مرة واحدة بصيغة الجمع تعنى عنده المواضع المختلفة {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة} [التوبة :25] ويقابلها مفهوم الدار الذي ينتقل مع أصحابه إلى حيث يرتحلون في حين أن مفهوم الوطن يعني الاستكانة للمكان والتموضع فيه، فالـوطن لا يرحل وإن رحل أصحابه»[45].

فالدار سياج بمعنى الحمى والحرم لا يقبل باختراقه ولا الخروج منه، فهو دائرة محكمة مهما ارتحل بها الإنسان؛ ولذلك تستمد الدار جذرها مما يدرأ عنه تمامًا، كمن يدرءون بالحسنة السيئة. فأهمية هذا المفهوم «الدار» أنه يرتبط بخصائص تكوين الشخصية العربية، فدارها هو حماها وشرفها، وكذلك من الحمى تولد مفهوم الحرم حيث حِمى الله سبحانه وهو البيت الحرام في مكة.

«ثم إن الدار لا تحمل صفة المكان وخصائص المكان وإنما تحمل صفة أصحابها، فهناك فرق جوهري بين قول الله سبحانه {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين} [الأعراف:145] ، وقول مثل -سأوريكم مكان الفاسقين- فالمعنى الأول يشير إلى وراثة الصالحين لدار الفاسقين. فصلح الدار بصلاح من سكنها. أما القول الآخر فيعني الآخر جعلهم فاسقين»[46].

فخروج العرب كشعب قبائل مؤلف بين قلوبها لا يعني تلاشيهم في الآخرين وذوبانهم، وإنما كان استقطابًا للحضارات التقليدية في وسط العالم القديم. فقد خرجوا كشعب قبائل وليسوا كقومية وحملوا معهم ديارهم -الخطط- فخروجهم لم يكن نفيًا؛ لأن النفـي عقـاب {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْض} [المائدة :33]، فخروجهم كان مع ديارهم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} [آل عمران: 110] أما الخروج من الدار فهو فتنة وفناء للنفس {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُـوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } [الممتحنة:9]»[47].

فالأمة الوسط التى تعني الشهادة على الناس بالمفهوم القرآني، هي الأمة العربية التي تعنى استرجاع الذات أو الدار بالمفهوم القومي المعاصر، وقد أدى الخروج إلى تكوين الأمة الوسط، ولكن بمنطق مفهوم «الدار» الذي لا يشكل وطنًا ولا وحدة قومية، ولكن بمنطق التأليف القبلي {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِم} [الأنفال:63] ، إذًا كيف يمكن أن يوجد الرابط الذي يشد الديار والأمة الوسط خارج معنى القومية والوطنية؟

الرابط هو اتخاذ مكة قبلة جاذبة للأمة الوسط والديار، فالله الذي هيأ الموقع الوسط للأمة الوسط، هو الذي هيأ مكة قبلةً لها؛ ولذلك ربط القرآن بينهما {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُـــــولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} [البقرة: 143] ، ويظهر هذا المعنى بصورة أكثر وضوحًا في قوله تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} [البقرة:144]، فمكة هي المركز الجاذب للشخصية العربية، فما يصيبها يصيب الشخصية العربية، وأما ما يصيب غيرها فيتعلق بالديار مثل ما أصاب الديار الفلسطينية، فقد أخذ شكلاً تضامنيًّا ولم يتحول إلى انفجار للحمية، فالمفهومان (الدار والقبلة) حالا دون الحشد القومي ضد إسرائيل»[48].

  1. الخلط في التركيز على النزعة الأخروية:

يرى المؤلف أن أصحاب الفكر التقليدي، وعلى رأسهم المفسرون، قد أخطأوا خطأ شنيعًا نتيجة جهلهم بالمنهج واتباعهم الطريقة التجزيئية، وعدم تبصرهم بأسرار اللسان العربي الدقيق المميز الذي نزل به القرآن قد أوقعهم في فهم خاطئ لآيات القرآن المتعلقة بالدنيا والآخرة، فجمدوا أوصال الإنسان الفكرية وغلوا كمالاته؛ فلا ينفعل بالطبيعة مستوعبًا لها، ولا يفعل فيها متحركًا بها، وذلك بتركيزهم على النزعة الأخروية وجعلها الحقيقة النهائية، والاتهام الدائم للنفس الإنسانية بالحيوانية، هكذا فسروا جملة من الآيات {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَــــــــانُوا يَعْلَمُـــــونَ} [العنكبوت:64] {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُور} [لقمان: 33].

فمن طبيعة الحياة أنها تجذب الإنسان وتغرقه في حركيتها الوضعية، وتغيّبه عن حقائق الغيب المطلقة؛ لهذا جاءت القراءة لترقى بالإنسان وتتجاوز به لهو الحياة ولعبها… فاللعب ليس مرادفًا للهو -فاللهو هو إحساس فطري يتعلق بأشكال الحركية الوضعية ويلهي صاحبه عن التعلق بالله. وأما اللعب فهو موقف جاد عمليًّا يحكم على نتائجه باللعب متى ما صرف الإنسان لهوًا عن قيام الجدية في زمانها ومكانها[49].

فالطواف حول الكعبة عمل جاد، فإذا فعل في وقت الصلاة المفروضة يعد لعبًا لوقوعه في غير زمانه ومكانه، ودليل ذلك قوله تعالى {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُـحًى وَهُمْ يَلْعَبُون} [الأعراف :98] فهنا يلعبون لوصف حياة عملية جادة مقابلها النوم {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونََ} [الأعراف : 97] .

ويؤكد الله على أن علاقته بالدنيا ليست علاقة لهو ولعب {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 16 – 18]

كان لغياب المنهج الذي فهم به القرآن أثره في إضفاء معانِ عكسية على موقف الإنسان إزاء فعله الذاتي ، وعلى موقفه من الحياة الدنيا فسادت النزعة الأخروية على نحو سلبي، كما سادت نزعات التعجيز والتجهيل والتواكل، فأصبحت الدنيا غير مطلوبة لذاتها في وقت خلقها الله بالحق[50].

  1. منهجية القرآن وضوابط التشريع:

يرى المؤلف أن الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء، أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة لكل عصر على حسب أوضاعه وأعرافه وقيمه، بهذا يستوعب القرآن الكريم متغيرات العصور، ويبقى كما أراد الله له صالحًا لكل زمان ومكان. وحاول أن يؤصل لهذه الفكرة من خلال فهمه للآية الكريمة التي تقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} [المائدة: 48]، محللاً إيّاها على النحو الآتي «ولتحليل تركيب هذا النص يمكن إيراده على نواحٍ شتى لاستبانة الفارق في المعنى – لكل منكم شرعةً ومنهاجًا في هذا المبنى المحرف يعني أن الله قد قيّد التشريع به وأنزله أمرًا دينيًّا دون الرجوع إلى أبعاد أخرى. أما النص بـ -لكل جعلنا منكم- فيعني أن الله يرد التشريع إلى -منكم- أي جعلنا التشريع منكم مطابقًا لخصائصكم وتكوينكم وأعرافكم. وبمعنى أكثر تحديدًا أن الله ينزل حكمه متوافقًا مع أخلاقية الواقع وسلوكيته ضمن توافق تام مع الظرف التاريخي، فالشرعة والمنهاج هما استخلاص إلهي مقيد بشخصية الواقع، وقد أراد الله عبر هذا النص -أن يطلعنا على نسبية التشريع المنزل تبعًا للحالات التاريخية والأوضاع الاجتماعية المختلفة … إن عقوبات القطع والرجم والجلد كانت سارية المفعول في ذلك العصر التاريخي السابق على الإسلام، أما الثابت هو المبدأ وليس الشكل»[51].

  1. معنى الاسترجاع النقدي التحليلي -القرآن بين التصديق والهيمنة:

يعد هذا المبحث أيضًا من أهم المباحث التي ركّز عليها المؤلف في كتابه يقول «بنص الآيات فالقرآن مصدق لما قبله من الكتب السماوية، أي أنه مصدق لموروث البشرية الروحي. غير أن التصديق يرتبط -بالهيمنة- على ذلك الموروث. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه} [المائدة: 48] فالتصديق، إذًا، ليس عفويًّا، وإلا لما لزمت الهيمنة {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]. وهذه الهيمنة ترجع إلى أمرين:

الأول: ما أصاب نصوص تلك الكتب من تحريفات {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه} [المائدة: 13].

الثاني: النسيج العقلي الأسطوري والتراثي والخرافي المسيطر على ثقافات تلك الحقب، وتلبس معاني النصوص بحيث أعطت في كثير من الأحيان نقيض معانيها»[52].

«وليستطيع القرآن أن يفعل ذلك يجب أن يكون متميزًا بأمرين:

أولاً: حفظ الله لنصوصه من التحريف.

ثانيًا: حمل القرآن لإطار معرفي ومنهجي يمكنه من الاسترجاع لما سبق من موروث روحي.

والاسترجاع النقدي القرآني لا يتم على مستوى تصحيح الوقائع فقط.. فليس هذا هو المقصد النهائي، وإن كان ذلك مدخلاً ضروريًّا له، وإنما يتجه المقصد لما يتضمنه القرآن من محددات منهجية تتضمنها هذه المســائل وغيرها»[53].

ولقد ضرب المؤلف عدة نماذج تطبيقية يوضح فيها فكرته منها:

أ. استرجــاع قصة آدم عليه السلام***:

إن الموروث التوراتي يرى أن الله قد خلق آدم عليه السلام فجأة وعلى صورته، ثم سلخ حواء من ضلعه، وأفاض المياه، وخلق الأنفس والأشجار والنجوم، أي بمنطق كن فيكون، وحشد كل الأشياء ليدعوها آدم عليه السلام بأسمائها، إلا أن القرآن يعطي صورة أخرى معاكسة تمامًا لتحريفات اليهود للمسائل الآتية :

  1. كيفية خلق آدم عليه السلام: إن القرآن يميز بين اصطفاء الله لآدم عليه السلام من بين بشر مفسدين في الأرض وجعله خليفة {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَــالَ إِنِّي أَعْـــلَمُ مـا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] وبين خلق البشرية من صلصــال من حمأ مسنون في مبتدأ الخلق[54].

فهناك فرق بين الخلق والجعل:

أ. فالخلق هو إنشاء من جديد وعلى غير مثال سابق، وهو من عالم الغيب كما يقتضي الأمر الإلهي في إبداع الشيء من غير أصل.

ب. أما الجعل فهو صيرورة ضمن خلق كائن، وهو من عالم الشهادة؛ حيث مجرى الصيرورة وتحول الشيء من شيء وتصييره على حالة دون أخرى، وهو إشارة إلى نسبية العلاقة ما بين ظواهر الخلق وحياة الإنسان ضمن عالم الطبيعة أو الشهادة، وهو جعــل يقوم على الرحمة[55]. والآيات القرآنية الدالة على ذلك كثيرة منها: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} [الأنعام: 95 – 96] فهذا تعبير عن صيرورة طبيعية نسبية يخاطب بها العقل الإنساني في واقع المتحولات الطبيعية ومعناها للإنسان.. إنها دورة النمو . وقوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر} [الأنعام: 97]، فهذه الآية تبين علاقة الإنسان بمظاهر الخلق، فالله لم يخلق النجوم لنهتدي بها، بل خلقها كظواهر فلكية، ولكنه جعلها لنا لنهتدي بها. وآية {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون} [النحل: 5] لا تنهض دليلاً على الفرق بين الخلق والجعل، فالآية جاءت ضمن سياق، ولتوضيح ذلك لابد من إيراد ما قبلها من الآيات، قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَــافِعُ وَمِنْهَـــا تَأْكُلُون} [النحل: 3-5] ففي آية 4 تكررت كلمة الخلق بدون عطف على خلق قبلها في الآية 3، أما الآية 5 فقد عطفت على ما قبلها خلق الإنسان، فمعنى هذا أن الخلق في الآية منصب على ظاهرة الخلق الإلهية نفسها وليس على الدفء والمنافع والأكل، فهذا – (جعلٌ) وزيادة في الدقة، فهناك علامة وقف جائز بين الأنعام خلقها -و- لكم فيها –[56].

والفعل الإلهي كما هو محدد في القرآن لا يصدر بمحض القدرة الإلهية المطلقة مع قدرة الله على ذلك، ولكنه يصدر عبر توسطات جدلية إذ يبتدئ -أمرًا- ثم يتحقق عبر الإرادة حتى ينتهي إلى التشيؤ، وذلك مما تدل عليه الآية {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [يس: 82] فأمر الله كن فيكون متحقق عبر إرادة تنتهي إلى تشيؤ[57].

وهكذا يتناوب الخلق والجعل في سياق صيرورة تاريخية واحدة لتعطي معنى التداخل بين عالمي الغيب والشهادة، ولتربط بينهما بحيث لا يخلد الإنسان إلى جدل الطبيعة – الجعل ولا يتجاوز كليًّا جدل الغيب -الخلق- مثال على ذلك[58] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَــــنُ الْخَالِقِين} [المؤمنون: 12-14].

  1. كيفية هبوط آدم عليه السلام: قبل أن يبدأ المؤلف تحليل القصة وإعطائها الفهم الذي يراه مناسبًا، بدأ بتوضيح الفرق بين مصطلحي: الروح والنفس.

فالروح تمثل قناة اتصال بالوحي والملأ الأعلى وهي من متعلقات عالم الأمر الإلهي المطلق، فحين سأل سائل عن الروح أشير عليه بقلة العلم في هذا المجال {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، ولكن هذا لا يعني عدم إمكانية معرفة ذلك، فقد جاء الجواب بعدها {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا} [الإسراء: 86]. أي سلب الروح يستلزم معه سلب قناة الاتصال؛ لذلك جعلها هي الواسطة التي عبرها يلهم بعض عباده للقيام بأمر دعوته {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُون} [النحل: 2].

أما النفس فهي طاقة الحياة في الإنسان، وهي تعود في تركيبها إلى التفاعل الجدلي الكوني، وهي بذلك قابلة للاختيار لطبيعة تركيبها عبر الانقسام الجدلي، وهي القابلة للوفاة والحياة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 1-7] فتركيبها -أي النفس- عائد إلى هذا التفاعل الجدلي الكوني[59].

إذًا فهبوط آدم عليه السلام هو سلب الروح عنه، وهبوطه من خصائص قوة الروح إلى خصائص النفس الطبيعية، فأصبح يجوع ويعرى ويظمأ، بعد أن كان لا يعتريه شيء منها عندما كان متلبسًا بخصائص الروح؛ لذلك فالصياغة القرآنية واضحة هنا {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} [طه: 118-119][60].

  1. الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام: عندما خاطب الله الملائكة بقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 30] وقتها لم يكن آدم عليه السلام قد خلق بعد، أما احتجاج الملائكة فكان حول سلوك البهائم البشرية التى كانت موجودة حينذاك، فظنت أن الله سيجعل خليفته منهم، وهم على ذلك السلوك، وعندما أذن الله بميلاد آدم عليه السلام من أبوين بشريين ونفخ فيه من روحه، علمه الأسماء ووضعه أمام الملائكة {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [البقرة: 31]، فكلمة الصدق هنا تشير إلى ظن الملائكة بإفساد آدم عليه السلام في الأرض، فبين الله لهم بالأسماء أنه مفارق لما عهدوه من السلوك البشري البهيمي.

ولكن ما هي هذه الأسماء ؟

الأسماء هي محمولات الأسماء المذكورة في سورة النساء {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} [النساء: 23] والدليل على هذا:

أ. أن الضمير في الآية يتعلق بشيء موجود وكائن (عرضهم)، أي الموجود الحسي والواقعي، وليس الموجود الذهني، حيث يقال: ثم عرضها بما يشير لذات الأسماء.

ب. أن الأشياء المعروضة لم تكن كائنات بشرية، أو ظواهر طبيعية، أو مواد أو أفعال، فالملائكة تعرف ذلك من قبل وليس هو اسم علم، فالملائكة تعلم الأسماء المتعلقة بالشيئية، بل الاسم الذي لا تعلمه الملائكة هو اسم المحمول الذى يستند على حالة أو قضية، أي أسماء كلية {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْـــــمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فحواء اسم علم وهي امرأة، ومحمولها زوجة، واسم المولودة الأنثى علم ومحمولها ابنة، وكذلك اسم المولود الذكر علم ومحموله ابن، فهذه هي الأسماء التى تعلمها آدم عليه السلام وليس غيرها كما يقول المتكلمون وغيرهم[61].

ب. استرجاع قصة نوح عليه السلام: استنتج المؤلف من استرجاع قصة نوح عليه السلام أمورًا وهي:

  1. نفي أن يكون لنوح عليه السلام ذرية، وبالتالي نفى تفوق الجنس السامي وأفضليته على بقية الأجناس.
  2. تقدم الحضارة البابلية وتفوقها في علوم شتى من فلك وعلم نفس وغيرها من العلوم، وأنها قامت وازدهرت بتعاون بين الملائكة والإنس.
  3. تفوق نوح وقومه في ميادين شتى؛ من علوم فيزيائية وفضائية ورياضية، فهم قد فهموا كيفية الخلق وخصائص كل من القمر والشمس، ثم فهموا أصل التكوين؛ ومما يدل على إعجازها أن نوحًا قد بنى فلكه في خمسين عامًا، ولم يكن ذلك بالشيء الغريب عنهم، فهذه كلها حضارات ما زالت تعد لغزًا في تاريخ البشرية .
  4. نفى أن يكون لنوح عليه السلام ذرية، وما توهمه أنه ابنه قد بيّن القرآن بطلان ذلك، فالله وعد نوحًا بإنقاذ أهله من الطوفان، ولكنه لم ينقذ من دعاه نوح عليه السلام ابنًا، فلما تساءل نوح عن الوعد، أجابه الله بأنه عمل غير صالح، أي أنه نتاج خطيئة امرأته التى أثبتها القرآن {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] .

وخلص من هذه القصة بتحريم التبني وبيان مساوئه، وذلك بربط ثلاث قصص نبوية لتأييد ما ذهب إليه.

أ. قصة ابن نوح ، حيث إنه لم يستجيب لنداء الأبوة، مع دعوته له قرونًا، ولو بدافع التعاطف؛ لأنه ليس بينهما رابط وراثي حقيقي.

ب. قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع زيد وعدم إمكانية التعامل معه نفسيًّا داخل المحيط العائلي إلا بكتمان ما في نفسه.

ج. قصة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز؛ حيث كانت في مقام أمه بالتبني، ولكنها في النهاية لم تستطع أن تمسك نفسها، وهَمَّا ببعضهما[62].

  1. علل مسألة الوقوف بعرفات والإفاضة منها بأنها إحياء لذكرى نزول نوح عليه السلام في عرفات ثم إفاضته منها، وإعطاء معنى لمفهوم الزمان وكماله في القرآن، واستدل على ذلك بأمور:

أ. القرينة اللفظية في قوله تعالى {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِين} [المؤمنون: 29] فهذا أمر من الله له بالدعاء بطلب منزلاً مباركًا، وهذا ما يتوافق مع المكان المبارك الذي ذكره الله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين} [آل عمران: 96]. وحتى لا يلتبس المكان بغيره من الأماكن المقدسة فقد جاءت قرينة تدفع ذلك الالتباس: وهي أمر الله لنبيه بالإفاضة في الحج من عرفات مثلما أفاض أناس آخرون منها {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [البقرة: 198-199] فَمَنْ هؤلاء الناس إن لم يكونوا نوحًا عليه السلام وقومه.

ب. وأكثر هذه القرائن دقة هي هذه القرينة، وهي تماثل وقوفنا بعرفات بتوقيت إقلاع نوح عليه السلام ورسوه، فنحن نقف في النصف الثاني من اليوم التاسع من ذي الحجة، فالنصف الثاني نهاية يوم، واليوم التاسع نهاية عقد، يماثلها من قصة نوح عليه السلام أنه لبث ألف سنة إلا خمسين عامًا، والسر يكمن في فهم مسألة الحساب بالسنة والاستثناء بالعام. فالسنة لغة تصدر عن تسنّه الأشياء ارتباطًا بتأثير الشمس {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّه} [البقرة: 259] فالسنة دلالة على الشهور الشمسية، أما العام فهو دلالة على الشهور القمرية {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] فكل ثلاثمائة سنة شمسية تعادلها ثلاثمائة وتسع سنوات قمرية، أي بزيادة ثلاث سنوات قمرية على كل مائة سنة شمسية . فالحساب إذن: 950سنة شمسية + (50 سنة قمرية والتى تعادل 48,5 شمسية) = 998,5 سنة شمسية، فيبقى على تمام الألف سنة ونصف وقت إقلاع نوح عليه السلام بفلكه، وهذا هو عينه توقيت وقوفنا بعرفات في جمع وقصر صلاتي الظهر والعصر. وفي نهاية هذا التوقيت نزل قوم نوح عليه السلام من الفلك، ثم أفاضوا من مرتفع عرفات باتجاه المشعر الحرام. وهكذا أمرنا من بعدهم {ثُمَّ أَفِيضُــوا مِــنْ حَيْثُ أَفَــــاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199][63].

ج . استرجاع نموذج القربان الإبراهيمي: يرى المؤلف أن هناك أخطاءً قد وقعت في فهم مسألة القربان الإبراهيمي

  1. منها ما قد حصل من إبراهيم عليه السلام نفسه:

أ. أنه لم يتأول الرؤيا ويصرفها إلى القربان بحكم قرينة الذبح.

ب. أنه لم يصرف هذا القربان إلى الإبل بحكم تماثلها البنائي مع البناء الكوني المسخر .

ومصدر هذا الالتباس يرجع في أساسه إلى طبيعة التركيب الذهني لإبراهيم عليه السلام، فعقليته من نوعية العقليات المباشرة التى تتعامل مع صور الأشياء وليس رمزياتها، فحتى معرفته لله تمت عبر وسائط، من شمس بازغة وقمر بازغ وكوكب بازغ، أي مكتملة الهيئة، ثم لما اعتراها الانتقاص تخلى عنها واكتشف إلهه الواحد.

  1. ومنها ما قد حصل من المفسرين الإسلاميين وهي:

أ. أنهم قد رجعوا في تفسيرهم إلى الموروث اليهودي المحرف.

ب. أن مكوناتهم العقلية قد ارتبطت بالتنسيق العام لِكَم من المعارف المتراكمة، وفق إنتاج ثقافات ذلك العصر ، وغاية ما وصل إليه بعض أفذاذهم هو التحقق من هذا الكم المتراكم، بالجرح والتعديل، أو تحديد أصول لقراءته، كما فعل الشافعي، لكن دون تجاوزه واكتشاف نسقه المعرفي[64].

والآن إذا كان الله لم يطلب قربانًا بشريًّا فماذا طلب؟ ولماذا؟

للإجابة على هذا يورد المؤلف أمورًا يرى أنها جملة من الحقائق المسترجعة والمخالفة بشكل جازم للموروث .

أولاً: أن الرؤيا كانت منامية، والرؤيا مناطها التأويل ليفهم ما فيها من دلالات على الواقع، كما أول يوسف رؤيا الملك، ويعقوب رؤيا يوسف عليه السلام. والرؤيا ليست وحيًا، فالوحي يكون يقظة.

ثانيًا: أن إسماعيل عليه السلام هو الذي رأى في رؤيا أبيه أنها أمر إلهي {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر} [الصافات: 102] ولم يقل إبراهيم عليه السلام إني أمرت بل قال {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك} [الصافات: 102] فلو كانت رؤياه أمرًا من الله لبطل معنى الآية في سورة الأنعام {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُم} [الأنعام: 137]

ثالثًا: أن إسماعيل عليه السلام لم يكن طفلاً مسلوب الإرادة، فقد بلغ السعي مع أبيـه { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّـــــعْي } [الصافات: 102] وكان أهلاً للاستشارة {فَــــانْظُرْ مَـــاذَا تَــرَى} [الصافات: 102] وهنا نفي للجانب المأساوي المزدوج في الابتلاء، بمعنى طلب القربان البشري، وأن يكون المطلوب طفلاً .

رابعًا: أن «أنْ» في النداء الإلهي لإبراهيم عليه السلام ليست زائدة، فليس في القرآن زوائد، بل فيها لفت نظر بأن إبراهيم عليه السلام قد ابتلي نفسه بنفسه في غير موضع الابتلاء طاعة لله؛ لذلك جازاه الله على ذلك {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْــزِي الْمُحْسِنِين} [الصافات: 105] وفداه بذبح عظيم.

خامسًا: أن الذبح العظيم ليس كبشًا، بل هو غير ذلك، فإبراهيم عليه السلام يكرم ضيفه بعجل حنيذ، فكيف يفدى الله ابن إبراهيم عليه السلام بكبش؟

الآن ما هي الدلالة المنهجية من وراء هذا التحليل؟

من الواضح أن الله قد طلب قربانًا، وأنه قد اختص إبراهيم عليه السلام بالذات لتأدية هذا القربان، فلماذا القربان؟ ولماذا إبراهيم عليه السلام ؟ القربان هو شكر لله على الكونية المسخرة للإنسان، على أن يكون القربان حيوانًا تتماثل مواصفاته البنائية مع بنائية الكونية نفسها، ولا يكون ذلك إلاّ في الإبل سماء مرفوعة كارتفاع الإبل بقوائمها وجبالاً نصبت كسنام الإبل وأرضًا سطحت كخف الإبل[65] {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت} [الغاشية: 17-20].

د. استرجاع قصة موسي عليه السلام: اختار الله موسى عليه السلام ضمن تجربة محددة كشف فيها عن التطبيق الفعلي لوجود الغيب في حركة الواقع، تلك هي قصة موسي والعبد الصالح كما جاءت في سورة الكهف في الآيات 60 إلى 82 ، وهي في عمقها ليست قصة، ولكنها تحليل فلسفي لوجود الله في فعل الإنسان، وكان موسي هو المقصود بالدرجة الأولى بهذه القصة؛ حيث كان إيمانه قبل تلقيه كلمات ربه مشبعًا بقيم الحضارة المصرية {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْــتَ فِينَـا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18]

فبعد أن أصبح موسى عليه السلام نبيًّا وقاد قومـــه نحو منعطفهـــم التاريخي الجديد (الخروج) وبحكم تكوين عقلية تلك المرحلة؛ حيث كان جوهر عقائدها هو تجلى الله بالخارق من أعماله، وتجسيد إرادته بشكل ملموس، فكان لدخول موسى مرحلة التعامل مع الغيب بمعزل عن الخطاب المباشر يستدعى نمطًا جديدًا في الفهم يربط ما يظهر من الحقائق الموضوعية التى يعطيها الإدراك بخلفياتها في عالم الغيب، وكان لابد لهذا الأمر أن يتم عبر التجربة الحسية؛ حتى يتسنى له إدراك العلاقة بين الغيب والشهادة، وتم هذا الأمر عبر العبد الصالح الذي خاطب موسي أولاً {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68] أي فهم الأمور في حقائقها عن الله، وكان الأمر وتمت التجارب الثلاث؛ خرق المركب، وقتل الغلام، وأخيرًا بناء الجدار . وفي كلها صبر العبد الصالح، واستنكر موسى ولم يصبر.

واستنكار موسى كان على حسب ما بدا له من خرق للسفينة لإغراق أهلها وقتل نفس بغير حق وبناء الجدار لمن لا يستحق. وكان تفسير العبد الصالح بأن ما أحدثه بالسفينة وإن كان ظاهره عيب إلا أنه سيؤدى إلى نجاتها من الملك، وفي قتل الغلام بأن ذلك كان رحمة بوالديه، وهذا درس في العناية الإلهية، وفي الثالثة أن الجدار كان تحته كنز ليتيمين وكان دون شك سينقض وقت وصولهما، فأقامه حفاظًا على ذلك الكنز من أن يتخطفه أصحاب تلك القرية قساة القلوب {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77].

ومما يستفاد من هذه التجارب الثلاث هو إدراك الاحتجاب والوجود في آن واحد، أي احتجاب الله عن الفعل البشري، وهو موجود فيه وقابض على نتائجه، وهذا ما كان إدراكه واجبًا على موسى عليه السلام.

ولاشك أن هذا أمر يصعب إيجاد منهج له يحدد كيفية التعامل معه واستيعابه، وإنما يعتمد على قدرة التأمل الخاص لكل إنسان، غير أن فهم حكمة اتجاه الإرادة الإلهية في الفعل وتطبيقها في الحركة، لا ينحصر في نماذج معينة من شأنها أن تعطينا قواعد قياسية مطلقة، ولكن بفهمنا نموذجًا واحدًا يصبح بمقدرونا سحب تعميم مبدئي على سائر النماذج الأخرى، وهذا ما فعله العبد الصالح في اختياره للنماذج التى تطابقت مع مراحل خاصة من حياة موسى، فما هي هذه التجارب الثلاث التى عاشها موسى عليه السلام[66]؟

هذه المراحل الثلاث قد ذكرها الله في سورة القصص من آية 7 إلى آية 29.

فالتجربة الأولى هي تجربة السفينة، فمن ورائها ملك يأخذ كل سفينة غصبًا، وهي تماثل تجربة حياة موسى عليه السلام الأولى في التابوت حين ألقته أمه في اليم ومن ورائه فرعون آمرًا بقتل كل طفل إسرائيلى.

أما التجربة الثانية فهي قتل الغلام فيما بدا لموسي عليه السلام بغير نفس، وهي تماثل تجربة المرحلة الثانية من حياة موسى حين وكز أحدهم فقضى عليه. فكما أن العبد الصالح بريء وغير مسئول عن قتل الغلام، فكذلك موسى عليه السلام، فهو غير مسئول مسئولية حقيقية عن قتله الرجل .

أما التجربة الثالثة فهي تتمثل في بناء الجدار ،فهي مماثلة للمرحلة الثالثة من حياة موسى، عند وروده ماء مدين. فهناك أولاً التوقيت، فقد ورد موسى عليه السلام ماء مدين ليجد في الحال بنتين تذودان. وفي التجربة المقابلة يصل موسى عليه السلام والعبد الصالح، ليجدا في الحال جدارًا يريد أن ينقض.

إذًا نلاحظ بتركيز شديد أن نتائج الأعمال حين يتحكم الله فيها بقدرة خفية، لا تنتج عنها النتائج المتوقعة شرطيًّا[67]، كما حدث في مراحل الحياة الموسوية، وما قابلها من تجارب العبد الصالح.

«أما القيمة الفلسفية لتجربة موسى فتتمثل في نفي المصادفة بما يدفع الإنسان لفهم عنصر التوقيت في الحركة الكونية المنضبطة زمانًا ومكانًا في سياقها. وهذا ما نسميه بـ (حكمة التوقيت) وهو علم دقيق له دلالاته الحية في الحركة الموضوعية، كما أن له دلالاته الحية في التصريف الإلهي»[68].

العلاقة بين مقدمات المؤلف ونتائجه:

سأعمل الآن على دراسة أفكار الكاتب وتحليلها داخليًا ومحاولة معرفة مدى انسجامه مع ما وعد به من منهجية. وقبل الشروع في هذا الأمر تجدر الإشارة إلى أمرين هامين:

أ. سأركز عمومًا على دراسة أمثلة المؤلف ونماذجه؛ لأن بها -كما يقول هو نفسه- تعرف منهجيته وفلسفته؛ حيث يقول «فنحن نطرح النموذج من بعد الاسترجاع القرآني، ليولد من خلاله قاعدة فهم تتحول إلى محدد نظري، يتكامل مع غيره من المحددات في نماذج أخرى كثيرة لتأطير المنهج»[69]. فصحة منهجه مرهونة بصحة نماذجه؛ لذا وجب التركيز عليها وإعطاؤه حقها من الدراسة والتمحيص، خلافًا لما قاله الدكتور طه جابر العلواني في مقدمته لهذا الكتاب وتأكيده من أن «المهم أن لا يشغل القارئ عقله وفكره بتلك الأمثلة والنماذج، بل عليه أن يركز على المحددات المنهجية والقضايا الفلسفية المثارة. فالمنهج هو قضية هذا الكتاب، ومحددات المنهج وأبعاده هي صلبه»[70].

ب. سيعمل الباحث قدر الإمكان على تناول الأمثلة والقضايا الواضحة والملزمة التى لا تحتمل غالبًا تعدد الأوجه، وذلك من خلال ما رسمه المؤلف لنفسه من مقدمات.

  1. القرآن وضوابط الاستخدام اللغوي:

لقد قسم المؤلف – كما مر – هذه المسألة إلى مبحثين، بحَث في الأول الفرق بين التوظيف الإلهي للغة والتوظيف العربي، وفي الثاني ضوابط الاستخدام المنهجي النبوي للغة. فلنبدأ بأولهما .

أولاً : التمييز بين التوظيف الإلهي للغة والتوظيف العربى:

لقد بدأ المؤلف بالتناقض مع نفسه منذ البداية، فهو من جهة يحاول أن يبرهن على الفرق بين التوظيفين، وكان أهم هذه الفوارق عنده هو أن لغة القرآن لا تقبل الترادف والاشتراك؛ مما جعلها تتعارض مع ما وثقه العرب في لسانهم البلاغي، ثم يأتي من ناحية أخرى فينسف ما قد قرره سابقًا، فيقول «وخلافًا لقول كثيرين لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها كلمة تنوب عن الأخرى في حدسها ومعناها ولسانها، فكلماتها كالعربى الذي أنشأها تتميز بذاتية خاصة بكل منها»[71]. فهل بقى للشطر الأول من كلامه من معنى؟! ومع ذلك سوف نعمل على دراسة أمثلته آخذين بعين الاعتبار مبدأه في نفي الترادف والاشتراك، ولننظر إلى أي حد وفق إجرائيًّا في إثبات نظريته.

أ. الفرق بين اللمس والمس: يقول المؤلف -كما مر- بأنه استقرأ آيات القرآن وحللها فوجد أن هناك فرقًا بين اللمس والمس، فاللمس تعني قرآنياً التناول باليد أو الاحتكاك العضوي والحسي، والمس تعني التفاعل العقلي والوجداني. إلا أنه على الرغم مما تذرع به من منهجية تحليلية قد اقتصر على آية واحدة من بين ما يقارب ستين آية جاء معظمها بغير ما ذهب إليه المؤلف، ولتدل على أن المس معناه الاحتكاك المادى، وليس الإحساس والوعي بالمعاني فقط كما ذهب إلى ذلك، ومن هذه الآيات قوله تعالى {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَار} [النور: 35] {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَة} [البقرة: 80] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَات} [آل عمران: 24] {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُن} [البقرة: 236] {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47] فهل المس هنا يعني التفاعل العقلي؟! فالمس هنا واضح بأنه احتكاك مادي، فمس النار للجسم حركة مادية، والولادة العادية تكون بعد مس الرجل زوجته عضويًّا أي بعد جماعها، لذلك اعترضت السيدة مريم على الأمر ورأت أنه خلاف العادة، وهكذا باقي الآيات فكلها تعنى الاحتكاك المادي بين النار والأجسام المحترقة.

ب. الفرق بين الرؤية والنظر والشهود: يرى المؤلف -كما سبق ذكره- أن الرؤية تكون بالعين، والنظر بالعقل، والشهود معناه حضور الشيء ومعاينته. وقد جزم بأنها لا تحتمل غير هذه المعاني. وبنظرة بسيطة في الآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن يتبين مجانبته للصواب وعدم دقته، بل حتى الآية التي استدل بها على الفرق بين الرؤية والنظر هي في الحقيقة حجة عليه، قال تعالى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَـــــــوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]  فالكلمتان كما هو واضح قد تعاقبتا على نفس المعنى، وهو الرؤية الحسية، وإلا كيف يستقيم المعنى إذا كان النظر إلى الجبل بمعنى النظر العقلي، وما فائدة الشرط وجوابه في الآية؟! ومما يزيد الأمر غرابة أن المؤلف قد أورد آية أخرى هي على نقيض ما ذهب إليه {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُـــــرُّ النَّاظِرِين} [البقرة: 69] فالنظر هنا بالعين وليس بالعقل لتعلقه باللون، وإلا لبطل معنى الآية.

أما الآيات الأخرى التي وردت في هذا الشأن فهي كثيرة، منها قوله تعالى {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْت} [الأحزاب: 19] معناها على مذهب المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بعينه المجردة عقول المنافقين كيف تفكر إليه[72] حتى صارت أعينهم تدور كالذي يلفظ آخر أنفاسه. وكذلك قوله تعالى {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض} [التوبة: 127] وهذه أيضًا معناها على مذهبه، أنه إذا أنزلت سورة فكر بعضهم في بعض. ولكن هل يقول بأن (إلى) هنا تحمل معنى (في)؟ فلو قال بذلك لأراح واستراح لقوله بالترادف الذي نفاه سابقًا.

أما ورود (ترى) بمعنى علم فالآيات في شأنها كثيرة، منها قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل} [الفيل: 1] ترى هل كان النبي صلى الله عليه وسلم حاضرًا في كل هذه الوقائع مشاهدًا لها بأم عينيه، أم أن هذه الأمور كلها من أنباء الغيب أوحاها الله إلى نبيه الكريم وعلمه إياها؟ قال تعالى {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين} [هود: 49].

ولكن مما يؤسف له حقًّا أن المؤلف لما شعر بتضارب منهجه وعدم اتساقه سارع إلى المغالطة والتأويل، فقد أوّل قوله تعالى {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] قائلاً : «ولهذا خاطب إبراهيم ابنه إسماعيل بالنظر في أمر الرؤيا المناسبة، أي تقليب الرأى فيها، ثم اتخاذ قرار قاطع كمن يرى الأمـــر عيانًا في حقيقته»[73]. وعلى الرغم من هذا التكلف والتعسف في فهم الآية ما زال معنى الرؤيا  هنا مجازيًّا لا يستقيم ومذهب المؤلف. ثم هو قد اعتمد على السياق في ضبط المعنى، ونسى أنه قد قرر في منهجيته أن ألفاظ القرآن ترقى إلى درجة المصطلح «بحيث لا تعطى المفردة أكثر من معنى واحد محدد حيثما استخدمت في الكتاب، وكيفما اختلف سياق توظيفها»[74] وهاجم الأوائل في الوقت نفسه في اعتمادهم على السياق في فهم القرآن، يقول «لذلك لا يمكن تفسير القرآن بالاستطراد والتداعي على السياق»[75]. فلماذا هذا التذبذب وعدم الاتساق؟!

أما تحديده للشهود بمعنى الحضور حصرًا فهو أمر في غاية الغرابة. ولا يعرف ما المقاييس التى يستند إليها المؤلف في تحديد معاني الكلمات. فالعجب ليس في قوله أن هذه الآية {فَمَنْ شَهــِدَ مِنْكُمُ الشَّـهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] تعنى «حضور للشهر في الزمان والمكان؛ حيث يكون الإنسان مقيمًا»[76] فهذا المعنى قد قال به المفسرون قبله، قال القرطبي رحمه الله «وشهد بمعنى حضر، وفيه إضمار، أي قال من شهد منكم المصر  في الشهر عاقلاً بالغًا صحيحًا مقيمًا فليصمه»[77]. وقال ابن عاشور رحمه الله «وشهد يجوز أن يكون بمعنى حضر، كما يقال: إن فلانًا شهد بدرًا وشهد أحدًا وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله، فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل شهد أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافرًا، وهو المناسب لقوله بعده {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر} [البقرة: 185]» الخ[78].

وإنما العجب في تحكمه في معنى اللفظ واقتصاره في ذلك على آية واحدة -مع أنه ادعى بأنه يتناول القرآن في كليته- وترك غيرها من الآيات الواضحة التى تخالف رأيه ولا تحتمله، منها قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] فهل شهد هنا بمعنى حضر؟! لا بل هي بمعنى بيّن وأقام الأدلة[79]. وقوله تعالى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 86] وقوله {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] وقوله {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام} [البقرة: 204] فهل يعنى مما تقدم من الآيات الحضور والمعاينة؟!

ج. الفرق بين اللدّنيّة والعندّية:  يفهم المؤلف اللدنية في قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُــرْءَانَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم} [النمل: 6] على أنها «ذاتية الذي يعطى أي جوانيته»[80]، أما العندية فهي «ما يكون لديه وليس لدنه»[81] ثم يبنى على ذلك أحكامًا فيقول «فحين يكون الوحي لمحمد فإنه من لدن الله -وهي- إفاضة من الذات الإلهية، أما أم الكتاب وهي الآيات المحكمات التى تعتبر أصلاً له من قبل تشيؤه في لغة ما، فهي لدى الله بالغة ما بلغت من العلو والإحكام بحيث تهيمن على كل متشابه»[82] {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَــابِ لَدَيْنَــا لَعَلِــيٌّ حَكِيم} [الزخرف: 4].

فهو يرى أن أصل القرآن الذي هو فيض من جوانية الله، هو الآيات المحكمات التي كانت لدى الله -أي خارج جوانيته- في شكل غير مفهوم، ثم دخلت جوانية الله فحلت رموزها في لغة ما، تقول كيف هذا؟ يقال لك: هذا عين ما قاله، وإليك مزيدًا من تناقضه وقوله على الله بغير علم:

  1. ذكر أن القرآن من لدن الله -أي من جوانيته- وهو العلم اللدني الذى هو عبارة عن تشيؤ لغوي لأم الكتاب التى كانت لدى الله، أى عند الله، أي خارجة عنه، وقد قال -هنا بترادف لدى وعند- قولاً صريحًا لا يمكنه إنكاره.
  2. أن العلم اللدني -أي القرآن- هو خاصية لا تكون للجميع ولا لبعض الرسل، في حين أن العلم بأصول الكتاب -العلم العندى الخارجي- ممكن إدراكه حتى لغير الأنبياء، فالقرآن كما هو فرع عن الآيات المحكمات، في الوقت نفسه هو أرقى منها ولا يناله إلا الخاصة.
  3. وأما العلم بأم الكتاب ومحكمه فيوهب للراسخين في العلم ليتجاوزوا به المتشابهات، فهو بهذا قد جعل القرآن متكونًا من أم الكتاب التى هي عبارة عن رموز، ثم من المتشابهات التى هي تشيؤ لهذه الرموز في لغة ما، عبر إفاضة جوانية من الذات الإلهية، وكأن أم الكتاب -الآيات المحكمات- كانت أوضح وأظهر قبل دخولها إلى الجوانية -الذات الإلهية- منها بعد دخولها فيها، ثم فيضانها عنها في شكل لغة[83]. تعالى الله عن كل هذا علوًّا كبيرًا .
  4. والعلم بأم الكتاب يصعب تحويله إلى علم موضوعي إلا بالمدى الذي يكون فيه المتلقى مهيأ لذلك؛ لأنه علم مدخله العبادة والطهر، ومجاله مكنون القرآن وليس باطنه[84]. فهذه الكلمات المعدودة حوت من الأخطاء والتناقضات ما حوت. فهو يقول: العلم بأم الكتاب، ولا ندرى ماذا يقصد بالعلم هنا؟ ولكن نأخذه بمقابلها وهي العلم الموضوعي أي الذهني أو الواقعي، والمعقولي، فيكون بهذا «العلم بأم الكتاب» هو: الوجود الصوري أو اللاواقعي، والفردي[85]. ثم ربط هذا العلم الصوري واللاواقعي والفردى بالطهر والعبادة – ولعله يقصد نفسه؛ لأنه ليس هناك من أحد اكتشف هذه الجواهر العلمية إلا هو – حتى يمكن تحويله إلى شيء موضوعي خاضع للتجربة والاختبار . ولعمرى إنه لضابط علمى ما بعده ضابط.

د. الفرق بين الخلق والجعل: الأساس عند المؤلف في هذه المسألة أن الخلق هو إبداع من غير أصل أو احتذاء، أما الجعل فهو تحويل الشيء وتصييره من حالة إلى أخرى. ثم جاء بآيات كشاهد على صحة ما ذهب إليه. والواقع أن المؤلف قد كفى غيره مؤونة الرد عليه وأبطل بآخر كلامه أوله، فهو يقرر أولاً بأن الخلق هو إبداع من غير أصل، ثم بعدها بسطر يقول بأن الله خلق الإنسان من طين[86].

وبعد هذا التناقض الذي ما فطن له، ظهر بمظهر المدقق الواثق من علمه المتواضع للحق، الذي لا تفوته شاردة ولا واردة، مستدركًا على نفسه بما يمكن أن يلتبس على العالم المدقق فضلاً عن غيره. قائلاً  «.. ويمكن للمدقق في القرآن أن يعتمد على آية {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون} [النحل: 5] – وكأنه أحصى كل الآيات وما وجد إلا هذه الآية تحتمل شبهة التعارض مع منهجه -ليستدل على عدم قيام الفارق في الاستخدام بين العبارتين؛ إذ يستخدم الله هنا {خَلَقَ} لتعطي نسبية العلاقة. إن الأمر ليس قطعًا على هذا النحو، ولا بد من إيضاح أسلوبنا في التحليل اللغوي للقرآن {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون} [النحل: 3-5]

في الآية 4 تكررت كلمة الخلق ولكنها لم تعطف بالواو على كلمة خلق السماوات في الآية 3، غير أن “والأنعام خلقها” في الآية 5 جاءت معطوفة على ما قبلها… “خلق الإنسان” .. فالخلق في الأنعام ليس ارتباطًا بالدفء والمنافع والأكل للإنسان، فهذا جعل، ولكنه معطوف على خلق الإنسان أي ظاهرة الخلق الإلهية نفسها. وزيادة في الدقة القرآنية نجد أن هناك ما يسمى بعلامة الوقف الجائز ما بين «والأنعام خلقها» «ولكم فيها»[87]. وظن أنه بهذا الكلام قد قطع الطريق أمام أي اعتراض، وما عرف أنه قد كشف عن مزيد من تناقضاته، وإليك بعضها:

  1. لقد حاول فيما تقدم تحقيق أمرين مهمين بالنسبة له: أ. إزالة شبهة الاعتراض عليه بهذه الآية. ب. إيهام القارئ بأن المؤلف قد صدر في نتائجه عن بحث علمي دقيق.

وما عرف أن الاعتراض ليس في {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا} بل في {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَة} فالخلق من نطفة وليس من غير أصل ولا احتذاء. أما ادعاء التحليل واعتماد المنهج العلمي فيؤيده قوله «وزيادة في الدقة القرآنية نجد أن هناك ما يسمى بعلامة الوقف الجائز ما بين والأنعام خلقها ولكم فيها»، وما درى أنه قد أوقع نفسه في مزيد من التناقض، فعلامة الوقف الجائز التى استدل بها على دقة ما ذهب إليه، ليست جزءًا من القرآن بل هي من وضع علماء عصور الانحطاط اللغوي -على حد تعبيره- لضبط الوقوف الصحيحة وبيان جائزها من ممنوعها.

أما الآيات الواردة في هذا الشأن فكثيرة، منها قوله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] {خَلَقَ الإِنْسَــــانَ مِنْ صَلْصَــالٍ كَالْفَخَّــار} [الرحمن: 14] {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [آل عمران: 59] فالخلق هنا من شيء سابق، ففي الآية الأولى من ماء، وفي الثانية من صلصال، وفي الثالثة من تراب، فما بال منهجه التحليلي غفل عن هذه الآيات وغيرها؟!.

هـ – الفرق بين الإيمان والإسلام: فهم المؤلف من الآيات الواردة في سورة الحجرات أن الله قد رفع الأميين العرب إلى درجة الإسلام قبل استكمالهم مرتبة الإيمان، ودلل على ذلك بأنهم حين أخطأوا فوصفوا أنفسهم بالإيمان أنبأهم الله بأن مرتبتهم هي الإسلام الذي هو أرفع درجة من الإيمان الذي هو مرتبة بني إسرائيل. فهو كما نرى قد وقع في تناقضات فهو بهذا الفهم قد ناقض نفسه للأسباب الآتية:

  1. أن كل همه من وراء هذا الكلام هو إبطال دعوى اليهود بتفوقهم العرقي وإثبات تفوق العرب عليهم باعتبار أن الجنسين نقيضان[88]. وأنهما طرفا الجدل في ظهور العالمية الثانية -التى بشر بها المؤلف- إلاّ إنه بهذا الفهم قد أثبت عكس ما كان يريد، حيث أعطى اليهود صفات أرفع من الأعراب. قال تعالى بعد نهى الأعراب عن ادعاء الإيمان وإخبارهم بحالهم الحقيقية التى هي الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحجرات: 15]، فهو قد جعل اليهود مؤمنين بالله ورسوله ومجاهدين في سبيل الله بالأموال والأنفس وشهد لهم بالصدق، في حين أنه لو طبقنا منهج المؤلف في اجتزاء الآيات لقيل: إن صفات الأعراب كما قال تعالى {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [التوبة: 97-98] وقال تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُون} [التوبة: 101].

فهل فكر المؤلف في كل هذا قبل أن يقول في كتاب الله بغير علم؟

ثانيًا : ضوابط الاستخدام المنهجي النبوي للغة:

إن كل ما قاله المؤلف وأكد عليه من اعترافه بالسنة لا يعدو أن يكون اعترافًا بوجودها التاريخي لا اعترافًا بحجيتها ومصدريتها حاضرًا ومستقبلاً؛ لذلك فهو يفهم الأسوة الحسنة المذكورة في قوله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَــوْمَ الآخِــرَ وَذَكَــــرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] بأنها القدوة العملية الخاصة بالعرب في عهد النبي  في حالة الغياب النظري لوعي المنهج[89]، أما العالمية الإسلامية الثانية فإنها بخلاف ذلك[90] لأنها عالمية «تستمد من القرآن ولأول مرة نهجه الكلي، بكافة الشمولية والاتساع كما يستطيعها الإنسان»[91]؛ لذلك لا حاجة لها ولا عود لها «إلى ما ثبت وما لم يثبت من أحاديث الرسول»[92] 

لذلك فإن المتأمل في أقوال المؤلف ومنهجيته التى تناول بها بعض الأحاديث النبوية ليَظهر له جليًّا رده للسنة وإنكار حجيتها[93] ولا أدل على ذلك من الأمور التالية:

أ. أن المنهجية التى وضعها المؤلف لقبول الأحاديث وردها هي منهجية غير علمية، ولا أدل على ذلك من المثال الذي جاء به للبرهنة على صحة ما ذهب إليه وهو حديث «كلكم راع» فقد رده المؤلف لمجرد شبهة التعارض اللفظي الذى انقدح في ذهنه مع آيتين كريمتين (آية البقرة 104، وآية النساء46) . ويمكن إبطال هذه الشبهة من جهتين:

  1. بلوغ الحديث إلى درجة التواتر المعنوى، فقد رواه البخاري ومسلم في ستة عشر موضعًا كلها بلفظ رعى ومشتقاته، وكلها تحمل معنى الرعاية والمسئولية.
  2. لو افترضنا جدلاً أن ألفاظ الحديث تتعارض مع آيتين، فما قولنا في شأن الآيات الكريمة التالية {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} [المؤمنون: 8] و {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} [المعارج: 32] و {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] ففي الآيتين الأوليين الأمر واضح أن الله سبحانه وتعالى قد مدح المسئولين المحافظين المؤدين لأماناتهم، وفي الثالثة الأمر كذلك واضح أن الذم منصب على الرهبان وليس على لفظ الرعاية؛ مما يشعر بأن الرعاية مطلوبة ومستحبة ولو أخذ بها الرهبان ما استحقوا ذلك الذم.

ب. أنه وفق منهج المؤلف أن كل شيء انقدح في الذهن أنه يحط من قيمة الإنسان هو أمر مردود، فتكون العبادات وعلى رأسها الصلاة هي أول الأمور عرضة للرد لما في ظاهر حركاتها من إذلال للإنسان وإهانته، فلا يمكن أن نقول بأن الله كرم الإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ} [الإسراء: 70] ثم نقبل بأحاديث تأمر الإنسان بالخنوع والركوع ودس وجهه في التراب، أليس في هذا إهانة للناس وحطًّا من كرامتهم. حسب منهج المؤلف .. ثم نأتي بعد ذلك ونشط في فهم الألفاظ، ولكي نخدع أنفسنا بما يوهم أنه دليل وأنه حل لإشكال الآيات الواردة في هذا الشأن، نأتي فنقول بأن الصلاة هي مطلق الدعاء، والزكاة هي النماء، والحج هو القصد، ونستغنى بالمعاني اللغوية عن المعاني الشرعية، ونصل بالتالي إلى إنكار السنة والشرع جملة .

ج. ومما يمكن أن يعتبره الباحث دليلاً على إنكار المؤلف لحجية السنة حكمه على الصحابة رضى الله عنهم -نقلة السنة- بالإحيائية والأنيمية، والتى تعنى البساطة العقلية في أسوأ مظاهرها، يقول «من ذلك أن العربي في مرحلته الأنيمية كان يعيش وضعًا بدويًّا ينتشر فيه على مساحات صحراوية وصخرية جرداء، وأعنى بالتحديد البيئة الطبيعية -الجغرافية التى عاش ضمنها عرب وسط الجزيرة الذين كانوا وعاء الإسلام البشري. ومن خصائص هذه الحالة العقلية النظرة السكونية لحركة الظواهر الطبيعية لمنطق التكرار والتعاقب.. كل شيء وجد كاملاً منذ البداية، ثم يكرّر نفسه بروتينية تعاقبية دائبة ومكرّرة ومتناوبة … الشمس والقمر … الليل والنهار … الاتساع والضيق … الزيادة والنقصان، وفي إطار فهم إحيائي للظواهر نفسها”[94]، ويقول في موطن آخر واصفًا الصحابة ومن بعدهم من علماء السلف رضى الله عنهم بالإحيائية «كانوا ضمن (حالة عقلية تاريخية) تتعامل بطبيعتها مع الأشياء في كثرتها وتعدّدها. هذا ما يسمى بالعقلية الأنيمية في تطور الفكر البشري، وهي عقلية تاريخية ذات خصائص فكرية محددة أهمها التعامل مع ظواهر الطبيعــة كأن بها حيــاة خاصة (إحيائية) والتعامل معها في استقلاليتها الكيانية عن بعضها… لذلك بقيت العقلية تفسيرية مظهرية تنتشر في الكثرة دون القدرة على احتوائها بالتحليل. ولهذا السبب بالذات لم يتوقف المفسرون التقليديون لدى ما قام به الرسول من إعادة ترتيب لآيات القـــرآن خلافاً لأشكال التنزيل».[95]

ولعله أيضًا هذا هو السبب الذي جعل المسلمين ينصرفون إلى السند والمنسوبات لا إلى المتن والمنهج، الأمر الذي سهّل على اليهود تزييف الأحاديث والدسّ على رسول الله بما يتنافى وعلائمه التى بشر بها القرآن، وتلك كـارثة ما زالت تلــم بنا إلى اليوم[96]، فهو بهذه التهمة والشبهة قد فتح الباب على مصراعيه للطعن في القرآن نفسه، لأن الناس الذين نقلوا هذه الأحاديث المزيفة والمدسوسة هم أنفسهم الذين نقلوا القرآن.

والباحث في العالمية الثانية ليعجب كيف استثنت منهجيّتُهُ الصارمة الرسول بذاته من هذه المرحلة التاريخية وعدم نعته بالإحيائية، علمًا بأنه سبق وأن طبق هــذا المنهــج على غــيره من الأنبياء ؟؟![97].

ومن الأسباب التى جعلت الباحث معتقدًا بعدم اعتراف العالمية الثانية بحجية السن ، وأنها لا تعدو عند صاحبها أن تكون تجربة عربية[98] مرحلية، يمكن النظر في المقارنة التى عقدها المؤلف في كتابه لبيان الفرق بين العالميتين.

جدول الفرق بين العالميتين

العالمية الإسلامية الأولى العالمية الإسلامية الثانية
1-     المبني اللفظي للقرآن

2-     القدوة الرسولة الحسنة (السنة)

3-     التطيبق في إطار الخصائص المحلية

1-     المعنى القرآني

2-     المنهج (الجمع بين القراءتين)[99]

3-     الخصائص العاملية (الفلسفة والتطور العلمي)[100]

ومن خلال المقارنة التى قدمها المؤلف يمكن أن يُستنتج أن «القدوة الرسولية» الحسنة المتمثلة في سنته قد اختفت واستُعيض عنهـا بالمنهـج البديل (الجمع بين القراءتين) وفي هذا إسقاط واضح للاعتراف المجرد بالسنة النبوية كما يرى الباحث.

ولا شك فإنه لابد من النظر -من الوجهة الأخرى- فيما أورده المؤلف في مداخل كتابه التأسيسية من عبارات تؤكد ضرورة الالتزام بالسنة. فإنه يمكن أن يقع في أحد الاحتمالين التاليين:

1- اضطراب رأى المؤلف في هذه المسألة وعدم وضوحه فيها، الأمر الذى جعله يناقض ما يقول ويذم نفسه بنفسه، إذ إنه قد ذكر في أول كلامه أن السنة هي المرجعية والعاصم للأمة من الاختلاف، وخاصة في الأمور التعبدية، وذكر مثالاً لذلك الصلاة وعدد ركعاتها، وقال بأن القول فيها بالرأي يؤدي إلى الاختلاف والوقوع في العرفانية. ثم بعد كل هذا التأكيد على مرجعية السنة والتنفير من مخالفتها يفاجئنا في المجلد الثاني من العالمية بكلام طويل حول الصلاة وعدد ركعاتها وحكمة توقيتها، والحج وأركانه وحكمته[101] وكأنه ليس هو ذاك الذي ذمّ هذا النوع من الكلام، وهو بهذا قد كشف عن أمرين:

أ – عدم وفائه بما وعد به من الالتزام بالسنة في مثل هذه الأمور مما قد يعنى أنه لا يعترف حقيقة بحجية السنة.

ب – اتهام الذات بالعرفانية؛ لأنه قال أن القول بهذا يؤدى بصاحبه إلى الوقوع في العرفانية، ولهذا الظن ما يبرره لما قاله في مواطن أخرى من كتابه كقوله «جبريل قوة روحية مطلقة ولا متناهية، تعلو على الزمان والمكان، فيصبح قابلا لأن يتجلى الله فيه دون إفنائه أو دكه كما حدث للجبل … ومحمد بخصائص اسمه (المحمول – أحمد) هو مطلق كوني ولكن في إطار الزمان والمكان والوعي الذي (يدمج) بينهما {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَــــانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيم} [الحجر: 87]. فاتحد الاثنان -لعله يقصد فاتحاد الاثنين- أحمد وجبريل في كلية كونيـة واحدة يمكن لها أن تفرض (جبرية إلهية) على الوجود كله انطلاقاً من عالم (الأمر الالهي). لذلك لم يكن الجهاد سوى (تحريض) من أحمد لأمته، ولو أراد بقدراته الخاصة مجاهدة الآخرين لأبادهم، ولكنه اكتفى بتحقيق نبوّته الخاتمة على مستوى (عالم المشيئة) الموضوعية»[102].

2- أو أن المؤلف يعي ما يقول، وأن ما ذكره من اعترافٍ بحجيّة السنة هو مقدمة جدلية يتبعُها بيان يمكن أن ينقضها تمامًا. ومثل هذا الظن يمكن أن يؤكده الباحث من خلال ما يأتي:

أ. ما ذكره المؤلف في أول كتابه حول الندوة التى عقدت في القاهرة حول كتابه (منهجية القرآن المعرفيّة) سنة 1992م، وما أثارته هذه الندوة وغيرها من إشكالات واعتراضات[103]، ثم عقب على ذلك كله بقوله: «هؤلاء جميعًا قد تناولوا كتاب العالمية الإسلامية الثانية من زواياهم، الوضعيون برفض تعديه على حقولهم العلمية المعرفية المعاصرة، وبالذات في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية. واللاهوتيون[104] برفض تجاوزاته لمحددات فكرهم الديني السائد والموروث تاريخيًا عن حقب التدوين في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، والمقايسون له بما كان وما هو كائن[105]. وبالرجوع إلى هذه الندوة وجدت أن من أبرز الاعتراضات والانتقادات التى وجهت إلى المؤلف هي قضية إنكاره للسنة[106]، لهذا لم يكن للمؤلف من بدّ للتخفيف من حدّة هذه الانتقادات وتهميش مخالفيه إلا أن يضع هذه العبارات في أول كتابه، والعبرة في النهاية بالمنهج الذي وضعه وبالنتائج التى انتهت إليها المقدمات.

ب – ذكر المؤلف في كتابه (السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل) أن من أخطاء العروبيين واليساريين السودانيين عمومًا حرقهم للمراحل اللازمة وكشفهم عن وجههم الحقيقي مما جعلهم لا يصمدون أمام هجمات الإخوان، يقول «واستطاع الإخوان محاصرة الفكر القومي العربي الثوري عبر الثغرة اللاتّراثية واللاتّاريخية في تركيب ذلك الفكر مؤكدين علمانّيته»[107] ويقول في موطن آخر  «كانوا -أي العروبيون- يعمدون إلى تصور ذاتي لعروبة مستجلبة غير العروبة في السودان، أي خارج تراثيتها وتاريخيتها في السودان نفسه، ومن هنا تحرق مرحلة كاملة عبر مفهوم عدمي، ثم لا تلبث هذه المنظمات أن تكشف نفسها في العراء أمام هجمات الإخوان وحزب الأمة»[108]، ويظهر للباحث أن المؤلف استفاد من تلك التجارب وحاول أن لا يقع فيما وقع فيه غيره فتظاهر بالاعتراف بحجية السنة تماشيًا مع الأمر الواقع إلى أن تُحلّ هذه المشكلة تدريجيًّا، يقول «وإلى أن يتدرج تاريخنا الراهن لحل هذه الموضوعية الدقيقة التى سيتبعها تغير في النظرة (الأيديولوجية) للدين والتراث والشخصية، فإن المركزية السودانية هي صيغة التفاعل المحلية بين مختلف هذه القوى، وهي الصيغة الإيجابية الوحيدة التى تحفظ للعروبة استمرارية دورها التاريخي المركزي مع الأطراف إلى أن تصبح العروبة ملهمة للآخرين الذين سيستقبلون تأثيرها الإيجابي. عدا ذلك فإن سقوط المركزية السودانية بشعارات المغالاة القومية لن يؤدى في الظرف الراهـن إلاّ إلى تأكيد المصادمات العصبية»[109].

إن هذه الاستراتيجية -عند المؤلف- تنعكس بالتأكيد على استراتيجيّاته الأخرى، ومنها : السير في اتجاه التيار عند الشدة والخروج عنه في أقرب تفرع عنه للالتفاف عليه.

2– إشكالية الارتباط بين العرب والعالمية الإسلامية الثانية:

لقد كان لمقولة الصراع العربي الإسرائيلي الأثر البالغ في توجيه فكر المؤلف، مما حدا به إلى استدعاء مفاهيم غريبة، ومحاولة إلباسها قسرًا للآيات الكريمة. وهو كعادته يورد تصورات ويتعب في إثباتها ثم ما يلبث أن يأتي عليها من أساسها. فقد حدد في أول كلامه عدة مصطلحات تعتبر إبداعات جديدة في الفهم سحرت كثيرًا من المولعين بتوليد الألفاظ وتنميقها دون النظر إلى مضامينها وما تؤدى إليه من نتائج.

والمصطلحات التى أوردها هي: الدار ، والعروبة، والوطن، والقومية.

وتجنبًا للتطويل سنقتصر في البحث على مصطلح (الدار) وبيان اضطراب المؤلف في فهمه وسوء توظيفه، ففي بداية كلامه (الدار) عنده تعنى الحمى والحرم والخصائص والخطط، وهي ترحل برحيل أصحابها وتقيم حيث أقاموا. وقد أورد آية على أساس أنها دليل على صحة دعواه، فجاء الدليل على خلاف قصده، قال: فهناك خلاف جوهرى بين قول الله تعالى {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين} [الأعراف: 145] وقول مثل «سأوريكم مكان الفاسقين» ثم بدأ في التحليل قائلاً «فالمعنى الأول يشير إلى وراثة الصالحين لدار الفاسقين، فتصلح الدار بصلاح من سكنها»، فنسى نفسه أنه قد قرر بأن الدار ترحل مع أصحابها، ونسى أنه في مرحلة المقارنة والاستدلال على الفرق بين المكان الذى لا يرحل والدار التى تعنى الخصائص والخطط وترحل برحيل أصحابها، مواصلاً خلطه بين المعاني حيث يقول «أما القول الآخر (مكان الفاسقين) فيعنى جعلـهم فاسقين»[110]. ولو عكس القول لاستقام الحال حسب ما قرره سابقًا، ولكن الآية لا تستجيب له، ثم هناك شيء آخر: ألم يقرر في مبحث آخر أنّ (رأى) تعنى الرؤية بالعين فكيف أصبحت هنا تعنى الوراثة؟ وكيف سمح لنفسه باستخدام السياق في تحديد المعنى بينما عاب فيه الأوائل؟!

ثم أردف بدليل ما بعده دليل فقال «لذلك تستمد الدار جذرها مما يدرأ عنه، تمامًا كمن يدرأون بالحسنة السيئة»، ونسى أن الدار من دَوَرَ الثلاثي الأجوف وهي اسم جامع للبناء والعرصة والمحلة[111] أما درأ فهو ثلاثي مهموز الآخر ويعنى الدفع[112]. ومما لا يحتمل الشك في أنه انتهى في آخر كلامه إلى اعتبار أن الدار تعنى المكان هو قوله «فما يصيب مكة يصيب الشخصية العربية في جذر تكوينها، وما يصيب خارج مكة فيتعلق بالديار، مثل ما أصاب الديار الفلسطينية» ولعله أخذ هذا المصطلح من الإعلام العربي في فترة ما قبل السلام.

إذًا «فالقدس ليست قبلته وإنما البيت الحرام، والديار الفلسطينية ليست دياره وإنما هي ديار الفلسطينين. فالمعركة لم تتسع لكل الديار العربية»[113]، ولم يكتف بذلك بل انتهى أخيرًا إلى إدانة مفهوم الدار والقبلة «فالمفهومان (الـــــدار) و(القبلة) كانا يحولان دون الحشد القومي المركز في المعركــة ضد إسـرائيل»[114].

أما الآيات التى تدل على أن الدار تعنى المكان والمحل الذي يسكنه الناس فهي كثيرة منها قوله تعالى {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَـحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين} [الأعراف: 78] {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَـــــحُوا فِي دَارِهِــــمْ جَاثِمِـين} [الأعراف: 91] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِـمْ جَاثِمِين} [العنكبوت: 37] فهل أن معنى هذه الآيات أنهم أصبحوا في خططهم وخصائصهم جاثمين؟! أم أنهم أصبحوا في أماكنهم جاثمين، وهو الصواب.

وقال تعالى {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاس} [الأنفال: 47]، وقوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243] فهل هذا يعني أنهم خرجوا من خصائصهم وخططهم؟! .

وقال تعالى {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب: 27]، فهل أن المسلمين ورثوا خصائص اليهود وخططهم أم أنهم ورثوا منازلهم ومحلاتهم؟!

3- معنى الاسترجاع النقدي التحليلي «القرآن بين التصديق والهيمنة»

لقد أجاد المؤلف عمومًا في فهم قوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه} [المائدة: 48]، وإن كان بعض المفسرين القدامي قد أشار إلى هذا المعنى، حيث يقول ابن كثير بعد ذكر أقوال بعض السلف «وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله[115]. إلاّ أن المؤلف عند ضربه للأمثلة وتطبيقه لمفهوم الهيمنة والتصديق وقع في تناقضات وخلط عجيب. والأمثلة التى ضربها أربعة كما مر معنا أثناء عرض أفكاره.

أ. استرجاع قصة آدم عليه السلام:

1– كيفية خلق آدم عليه السلام: يرى المؤلف بأن الذي خُلق أولاً هم البهائم البشرية وليس آدم عليه السلام كما يزعم «الفكر التوراتي». أما آدم فإنه قد وقع اصطفاؤه فيما بعد من بين سائر البهائم بنفخ الروح فيه، وزعم أن القرآن قال ذلك وقد اعتمد في ذلك على التفرقة بين الخلق والجعل، وقد سبق بيان خطئه في ذلك، إلا أنه بقى بعض الملاحظات التى يحسن ذكرها في هذا المقام:

أولاً: أن ادعاؤه بأن آدم عليه السلام اُصطفى من بين البهائم البشرية هو قول يحاكي قول المجوس كما ذكر ذلك ابن عاشور رحمه الله في تفسيره[116]. أما الآيات التى تعارض هذا القول فهي كثيرة وصريحة، منها قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين} [الحجر: 28-29]. {ِإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين} [ص: 71-72] فحوار الله مع الملائكة توضحه هاتان الآيتان، فالحوار كان قبل الخلق والتسوية وليس بعد وجود البهائم البشرية وإفسادها في الأرض كما يقول المؤلف. وكذلك قوله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [آل عمران: 59]. فأين البهائم البشرية التى سبقت آدم عليه السلام؟!

فإذا كان المؤلف يعتمد على المنهج التحليلي حقًّا فما باله اقتصر في تحليله على كلمتى آدم  وبشر دون التطرق إلى كلمة إنسان مع أنها أكثر ورودًا من سابقتيها؟! قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون} [الحجر: 26] {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِين} [السجدة: 7] {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّار} [الرحمن: 14].

فمن هو هذا الإنسان الذى تجاهله المؤلف يا ترى؟! أليس هو ذاك «الفرد المنتخب الملقب بآدم»؟! قال تعالى {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم} [الانفطار: 6] {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15].

وأخيرًا ما قوله في كلمة بشر في الآيات اللاحقة؟ قال تعالى {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر} [مريم: 20] {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّه} [آل عمران: 79] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} [الكهف: 110]. فهل يعقل أن يكون معنى بشر هنا الحيونات البهيمية؟! فإذا أقرّ ذلك فمعناه أن الخليفة هم الأنبياء فقط، أما باقي البشر فهم مازالوا في طور البهيمية البشرية ينتظرون الطفرة الداروينية حتى يصبحوا آدميين.

ثانيًا: إنه اعتمد في هذا على فهمه الخاطئ لقوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَــــيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [يس: 82] فقدرة الله عنده محكومة بالمنهج الجدلي فلابد لفعل الله من المرور بثلاث مراحل، أمر – ولا ندري هذا الأمر نفسه كيف جاء وعبر أي منهج تكوّن؟ – ثم إرادة ثم تشيوء. فخطؤه -كما ترى- واضح حيث جعل الإرادة تابعة للأمر ولو عكس لأصاب. فأنت تريد ثم تأمر ، وليس تأمر ثم تريد، وإلا لكان ذلك عبثًا .  وقد أراد أن يعضد هذا الفهم بشاهد آخر من القرآن وهو قوله تعالى {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِــدَةٌ كَلَمْــحٍ بِالْبَصَـــر} [القمر: 50] فقال وهذه الآية التى تدل في ظاهرها على الإطلاق قد سبقتها آية أخرى توضح هذه التوسطات {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ولا ندرى كيف يوضح السابق اللاحق؟ وأين هذا التوضيح الذي يتوافق مع فهمه؟ هذا إذا تسامحنا معه في استغلال السياق للبرهنة على رأيه؛ لأنه كما مر معنا سابقًا قد أكد على قصور هذا المنهج في فهم القرآن الكريم.

2– كيفية هبوط آدم عليه السلام: بعد أن حقق المؤلف ودقق في الفرق بين الخلق البشري وبين الخلافة الآدمية انتقل إلى مسألة أخرى لا تقل خطورة عن سابقتها وهي مسألة الهبوط الآدمي. ورأيه معروف كما مر سابقًا، ويتلخص في أن هبوط آدم عليه السلام هو سلب الروح عنه وهبوطه من خصائصها إلى خصائص النفس الطبيعية فابتلى لذلك بالجوع والعطش، أما أدلته في ذلك فهي منهجية منع الترادف والاشتراك اللفظي .

والمعترض فيه على المؤلف ليس تفريقه بين الروح والنفس فهذا محل خلاف واجتهاد، وإنما المعترض فيه عليه هو تناقضه المنهجي ولا أدل على ذلك من:

أ. قوله بالمشترك اللغوي خلافًا لمذهبه قال «والحالات الروحية كما حالات الهبوط متعددة ومتنوعة» ثم عددها «ذلك هبوط آدمى عن خصائص الروح المتعالية جسديًا على الطبيعة على مستوى عالم الأمر الإلهي، وهناك هبوط روحي آخر بيناه على مستوى الذي انسلخ من آيات ربه، وهناك خصائص الروح القدسي للمسيح عيسى ابن مريم، وهناك تنزل الروح على من يشاء من عباده»[117].

فقد أعطى للهبوط معنيين، وللروح أربعة معان، ونزيده معانٍ أخرى للروح منها، قوله تعالى {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وتعنى جبريل عليه السلام، وكذلك قوله {نَـــزَلَ بِـهِ الـــرُّوحُ الأَمِـــين} [الشـــعراء : 193 ] {وَكَذَلِـكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] تعنى الإسلام والإرشاد والهداية.

ب. تصريحه بأن الذي ميز آدم عليه السلام عن أبويه اللذين هما من المملكة البهيمية البشرية، هو نفخ الروح فيه. فهل هذا يعني بأن آدم عليه السلام عاد إلى حالة البهيمية البشرية الأولى ما عدا بعض ذريته المصطفين من المرسلين ومن المصلحين المكلفين بأمر الدعوة؟! ثم لمن بُعث هؤلاء المرسلون والمصلحون إذا كانت هذه البهائم البشرية مسلوبة الروح تحاكي في طبعها البهائم العجماوات؛ وأخيرًا من هو المخاطب مع آدم عليه السلام بالنزول، إذا كان هبوط آدم يعنى نزوله من خصائص الروح إلى خصائص النفس؟! قال تعالى {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين} [البقرة: 36] فإن قال إبليس، فقد أقام الحجة على نفسه حيث ساواه بآدم عليه السلام ولا دليل. وإن قال آدم u وزوجته -حواء – قيل له فالضمير هنا للجمع، وأيضًا آدم عليه السلام ليس عدوًّا لحواء.

3- الأسماء التى تعلمها آدم عليه السلام: لا نريد الدوران في حلقة مفرغة، فالمؤلف ليس عنده معيار خاص يتناول به النصوص يمكن للمرء أن يناقشه من خلاله. فهو يخلط بين المصطلحات اللغوية والمصطلحات المنطقية، حتى إن القارئ ليحار في متابعته، ودليلنا على هذا الخلط هذه الملاحظات التى تبين اضطراب المؤلف وتذبذبه منها:

أ. لقد ذكر بأن الضمير في {عرضهم} يعود على شيء موجود وكائن -لعله يقصد عاقل- وليس على الموجود الذهني اللغوي -الأسماء- وإلا لقال عرضها، ثم أكد بأن هذا الشيء المعروض ليس بشرًا ولا ظواهر طبيعية أو أفعالاً، إذًا فما هي؟ يجيبنا المؤلف إجابة غير علمية فيقول «فمن عُرضوا على الملائكة كانوا يتصفون بأسماء محمولة تقرر حالتهم، وهي حالة يفترقون بها عن أوضاع أولئك الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء أي افتراق هوية وخصائص… إذن لم تكن أسماء حجر وشجر كما يرد في الميراث اليهودى وإنما أسمـاء محمــولات بشرية»[118]، ثم ينكص على عقبيه، فبعد أن قرر سابقًا بأن الذين عرضوا على الملائكة يفترقون عن أوضـاع أولئك المفسدين في الأرض[119] يعود فيقول «وقد تولى آدم تعريف من عرضوا على الملائكة بأسماء محمولاتهم قطعًا للإفساد في الأرض»[120].

ب . لقد كشف المؤلف عن عدم امتلاكه لمنهج واضح لفهم اللغة العربية والمنطق: فأما من الناحية اللغوية فقد احتج بأنه لو كان الضمير في {عرضهم} عائدًا على الموجود الذهني لقال عرضها، أي بإفراد الضمير وتأنيثه، وإنما الضمير يعود على الموجود الحسي والواقعي، ثم نفى كما تعلم أن يكون هذا الموجود بشرًا أو ظواهر طبيعية وبمعنى أنه ليس بمحسوس، إذًا فماذا يكون؟ فهذا التناقض واضح وصريح. ولكن ليس المقصود هذا، فالمؤلف حفظ أو سمع شيئًا ولا يعرف معناه. فالنحاة بعد استقرائهم للغة وجدوا أن ضمير الغيبة المذكر الجمع لا يعود إلا على جمع مذكر عاقل، قال تعالى {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه} [النور: 37] وقال {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32] وليس أرساهم، بل يمكن في غير القرآن أن نقول والجبال أرساهن بضمير الغيبة الجمع المؤنث. ولا علاقة بالحسي والذهني في هذا الباب.

أما من الناحية المنطقية فهو قد فَصَل الأعراض عن جواهرها، فقال بأن الذي عُرضَ على الملائكة هو أسماء محمولات، وقد اعتمد في التفريق بين اسم العلم والمحمول على كتاب في فلسفة اللغة للدكتور محمود فهمي زيدان، وبعد الرجوع إلى هذا الكتاب وجدت أن المؤلف قد جانبه الصواب فيما قرأ، وذلك لثلاثة أمور مهمة ذكرها زيدان فيما نقله عن «فريجة» و«رسل» للتفرقة بين اسم العلم والمحمول في القضية المنطقية:

أولاً: أن اسم العلم أمر معين يدل على معناه بنفسه دون حاجة إلى غيره، أما المحمول فأمر عام يحتاج إلى اسم علم يبين معناه. 

ثانيًا: أن الكلمات الدالة على السور- كل – بعض – لا معنى لها إذا ارتبطت باسم العلم بينما لها معنى إذا ارتبطت بالمحمول.

ثالثاً: أنه لكي نفهم اسم العلم لابد أن نكون على وعي وإدراك بمسماه سواء بالرؤية أو القراءة، أما المحمول فهو معنى نسنده إلى شيء ما لنحصل على تقرير أو قضية[121].

فهل الاسمان أحمد والمسيح اللذان جعلهما المؤلف محمولين يحتاجان إلى أمر آخر يبين معناهما؟ وهل يقبلان التسوير بكل أو بعض؟ وهل يصح الإخبار بهما؟ ومما يؤكد أن المؤلف لم يستوعب الشيء الذي قرأه ما يلي:

  1. تعبيره بمصطلح «اسم المحمول» بدل «المحمول»، فالثاني عبر به واضعوه ليشمل الاسم العام مثل إنسان، والصفة مثل مجتهد، والفعل اللازم مثل يمشى[122]. أما تعبير المؤلف فلا يشمل إلاّ الاسم العام، فتأمل!
  2. اقتصاره على العلاقة الواحدية وهي ما يسمى بالقضية الحملية التى تشمل اسم العلم والمحمول مثل محمد مجتهد، ومحمد يمشى، وتغافله عن بقية العلاقات الأخرى الثنائية مثل زيد أطول من عمرو، والثلاثية مثل زيد أعطى النقود إلى عمرو، والرباعية مثل زيد أرسل خطابًا إلى عمرو بطريق البريد، وكل هذه العلاقات تسمى قضية علاقية وليست حملية[123].

وبعد هذا لنفترض جدلاً أن منطق اللغة العربية يقبل بتطبيق هذه النظرية الفلسفية، فهل أن آية {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [البقرة: 31] هي قضية حملية حتى نقول باسم العلم والمحمول؟!

والغريب في الأمر أن المؤلف يجزم ويقرر بأن القرآن يحدد استخدامه لمفردة اسم بمعنى اسم المحمول وليس اسـم العلم[124]، وكأن القرآن نزل ليصدق فريجة ورسل.

ب. استرجاع قصة نوح:

سيعالج البحث في هذه المسألة نقطتين:

  1. نفى المؤلف أن يكون لنوح ذرية واعتماده في ذلك أساسًا على قوله تعالى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح} [هود: 46] حيث فهم أن الآية تدل على أن نوحًا كان لا يعرف أن ذلك الذي دعاه ابنه هو في الحقيقة ابن زنا. والمؤلف بهذا الرأى قد كشف عن خلط فكري ومنهجي سبق أن وقع في مثله مرات كثيرة؛ وذلك لأمرين :

أولاً: اقتصاره على قراءة واحدة في تقرير المعنى في حين أن هناك قراءة ثانية تساعد على إزالة أية شبهة أو معنى فاسد قد يفهم من الأولى. فالقراءة الأول {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح} بفتح الميم وتنوين اللام ورفع غير، أما الثانية {إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِح} بكسر الميم ونصب غير على المفعولية، فيكون المعنى هنا واضحًا في أن الذي عمل غير صالح هو ابن نوح. هذا إذا اعتبرنا أن المؤلف ممن يعترف بالقراءات، ولكنه ليس بذلك[125]، وهو بهذا قد طعن في القرآن نفسه لأن القراءة التي بنى عليها رأيه وهي قراءة حفص عن عاصم ليست بأوثق من غيرها من القراءات فكلها مجمع على تواترها، خذ مثلاً كلمة {وسارعوا}[126] في آل عمران فقد قرأها نافع وابن عامر بحذف الواو قبل السين في حين قرأها الباقون بزيادة الواو قبل السين {وسارعوا}  فبأي القراءتين يأخذ المؤلف وعلى أي أساس؟ فرد قراءة واحدة يقودنا حتمًا إلى رد القرآن نفسه لوحدة الطريق واستواء الرتبة. ولكن قد يعترض معترض ويقول من خلال المصحف العثماني، فيقال له: المصحف العثماني نفسه يحمل نفس الاختلافات والفروق . والطعن في هذه الفروق هو طعن في القرآن نفسه؛ لأنها هي القرآن. والواجب على المسلم هو العمل بواحدة واعتقاده صحة الأخرى.

ثانيًا : أنه خالف ما وعد به من منهجية التعامل مع القرآن في وحدته، فاقتصر في بحثه على ما يشتبه أنه يوافق رأيه من الآيات غاضًا طرفه عن غيرها من الآيات التى لا تتناسب وما يصبو إليه من رأي. ومن هذه الآيات قوله تعالى {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُون} [المؤمنون: 27] فالذي خاطب فيه نوح ربه هو ابنه كما ورد ذلك في آيات سورة هود السابقة الذكر. وقوله تعالى {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيل} [هود: 40] فهذه الآية توضح أن هلاك بعض أهل نوح كان بسبب الكفر لا بسبب شيء آخر بدليل قوله {وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيل}. أما آية سورة التحريم التى استدل بها المؤلف على زنا امرأة نوح وامرأة لوط فيوضحهما قوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا ءَايَةً لِلَّذِينَ يَخَافُــونَ الْعَــذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات: 35-37]. قال ابن عاشور «والآية تشير إلى أن امرأة لوط كانت تظهر الانقياد لزوجها وتضمر الكفر وممالاة أهل القرية على فسادهم، قال تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]، فبيت لوط كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين، فلذلك لم ينج منهم إلا الذين اتصفوا بالإيمان والإسلام معًا»[127].

  1. قوله بأن الوقوف بعرفات والإفاضة منها هو إحياء لذكرى نزول نوح بعرفات ثم إفاضته منها، واستدل على ذلك بقرائن ثلاث وهي:

الأولى: أن اللفظ الذي وصف به المكان الذي طلب من نوح عليه السلام الدعاء من الله بالنزول فيه هو نفسه اللفظ الذى وصفت به بكه، فهذا دليل حسب رأيه على أن المكان الذي نزل به نوح هو مكة وبالتحديد في عرفات، ونسى أن عرفات ليست داخلة في الحرم المكي.

الثانية: وقد جاء بها المؤلف لرفع الشبهة والالتباس والتأكيد على أن المكان الذي هبط فيه نوح هو مكة دون غيرها، وهي ما استنتجه من قوله تعالى {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّــهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [البقرة: 198-199] فعد الناس المذكورين في هذه الآية هم قوم نوح عليه السلام ونحن أمرنا بأن نفيض مثلهم، ونسى أن عرفات مهبط نوح كما زعم ليست هي مكة المكان المبارك[128]، أما الناس المذكورون فهم بعض القبائل العربية التى كان لها حجها الخاص بها قبل الإسلام، وقيل إبراهيم عليه السلام، ووجه لفظ الناس بأن ذلك شائع في كلام العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجمع منها قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] والمخاطب واحد وهو النبي عليه السلام[129].

الثالثة : وهي قرينة بلغت في دقتها ووضوحها مما لا يحتمل معها أي شك، وهي قرينة لغوية حسابية، فأما اللفظية فهي تفريقه بين السنة والعام، واعتمد في ذلك على كلمة يتسنه من قوله تعالى {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]ربط التسنه الذي هو التغير بحركة الشمس، فجعل السنة هي للحساب الشمسي والعام للحساب القمري. ثم ربط هذا الأمر بقوله تعالى {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] فاستنتج كما استنتج المفسرون من قبله مثل القرطبي[130]، بأن ثلاثمائة سنة شمسية يعادلها ثلاثمائة وتسعة أعوام قمرية. وهذا أمر لا اعتراض عليه عمومًا فهو محل خلاف وإن كان حصر دلالة العام على الشهور القمرية منازع فيه لدلالة بعض الآيات على خلاف ذلك، منها قوله تعالى {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُون} [يوسف: 47] {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون} [يوسف: 49] فعبر بالسنين والعام على شيء واحد، سواء قلنا بأنها الشهور الشمسية أو الشهور القمرية.

أما المعترض عليه فيه فهو حسابه واستنتاجه الخاطئ في أن يوم الوقوف بعرفة هو نفس اليوم الذي هبط فيه نوح  ، وقد جانب الصواب في هذا لأمور :

  1. من أخبره بأن نوح عليه السلام قد استغرق في بناء فلكه خمسين عامًا.
  2. من أين له بأن اليوم التاسع هو نهاية عقد، فالعقد الزمنى هو عشر سنوات، أما العقود العددية فهي تبدأ بالعشرة وتنتهى بالتسعين[131] وفرق بين التسعة وبين التسعين. ولعله اشتبه عليه الأمر بين جمع القلة الذي يبدأ بالثلاثة وينتهى بالتسعة وبين العقد الزمني.
  3. أنه حتى لو افترضنا أن ما قاله سابقًا صحيح، فإن الوقوف بعرفة هو في النصف الثاني من اليوم التاسع من ذي الحجة في حين أن هبوط نوح عليه السلام في آخر النصف الثاني من القرن العاشر بما يوافق آخر النصف الثاني من اليوم العاشر من ذي الحجة. فأين كل هذا مما ذكره المؤلف؟!

ج. استرجاع قصة إبراهيم عليه السلام:

يعد هذا المبحث خير مثال على التناقض المنهجي والخلط الفكري لدى المؤلف لأمور منها:

أولاً: لقد ناقض المؤلف نفسه وأتى على نظريته من الأساس، فقد اعتمد في إثبات عالميته تاريخيًا على تقسيم تطور الفكر البشري إلى ثلاث مراحل، وهي المرحلة الإحيائية ثم المرحلة الثنائية ثم المرحلة الجدلية. وقد جعل نبي الله إبراهيم عليه السلام خير نموذج -حسب رأيه- للعقلية الإحيائية التى ترى بالكثرة المستقلة. ثم جاء بعدها كعادته وأثبت نقيض هذا الكلام ، فجعل نوحًا وقومه ومن قبله من الأمم البابلية من ذوي العقليات المبدعة ذات الحضارة التى «بلغت في خصائصها غير المكتشفة حتى الآن حد الإعجاز» ويؤكد هذا بعدة شواهد:

  1. فهمهم لتطورية الخلق{مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13-14] .
  2. علمهم اليقيني بالتركيب الفضائي {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15].
  3. فهمهم الدقيق لخصائص القمر كمصدر للنور وخصائص الشمس كمصدر للضوء والحرارة، وبسقوط ضوء الشمس على سطح القمر يتحول إلى نور {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16].
  4. استغراق نوح خمسين عامًا في بناء فلكه العظيم على مرأى من قومه. ولم يروا ذلك معجزة لشيوعه بينهم وقدرتهم على مثله. ثم ورث نوحًا حضارات أخرى شامخة مثل حضارة عاد وثمود[132].

فإذا كان هذا هو شأن الحضارات السابقة لإبراهيم. فما بال التطور رجع القهقري إلى الصفر عند وصوله إلى إبراهيم وموسى من بعده إلى أن غمرت هذه الإحيائية العالمية الإسلامية الأولى؟!

ثانيًا: لقد جانب المؤلف الصواب في حق نبي شهد الله له بالرشد {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَــــاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَـــا عَاكِفـُونَ} [الأنبياء: 51-52] وآتاه حجته  {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} [الأنعام: 83] وجعله للناس إمامًا {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} [البقرة: 124] واتخذه خليلاً {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125] ووصفه بكونه أمة وبرّأه من الشرك {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين} [النحل: 120] فتخطى كل هذه الشهادات البينات من الله العزيز الحكيم، ووصفه بالشرك وعبادة الكواكب وجعله يعاني ويكابد دورات زمنية عديدة حتى حالفه الحظ واكتشف إلهه «فحتى حين تطلع لاكتشاف الإله فقد أبصره أولاً في شمس بازغة ثم قمر بازغ ثم كوكب بازغ أي اكتمال الهيئة، ثم حين تخلى عنها فبسبب من انتقاص هيئتها، حين كسوف الشمس وخسوف القمر وطمس الكواكب[133] فإبراهيم عليه السلام محظوظ بأن عاش كل هاته المدة حتى شهد هذه الكسوفات والخسوفات، وهو محظوظ أيضًا أنه استطاع أن يلاحظ طمس الكواكب بعينه المجردة، وإلا لمات على الشرك.

ثالثًا: لقد عارض المؤلف صريح القرآن، فجعل الشمس أولاً ثم القمر ثانيًا ثم الكوكب ثالثًا، في حين أن القرآن عرض هذه القصة على عكس هذا الترتيب {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون} [الأنعام: 76-78] ولم يكتف بذلك بل جعل الأفول الذي هو غياب الشيء، كسوفًا وخسوفًا وطمسًا، فوقع في القول بالترادف والاشتراك من حيث لا يشعر، وكل هذه الالتواءات التى جاء بها لا لشيء إلا ليثبت ما اعتقده مسبقًا من نظرية تطور الفكر البشري ليثبت مصداقية العالمية التى بشر بها. أما قصة إبراهيم عليه السلام فواضحة، ولو تأمل السياق لعرف أن ما حكاه القرآن على لسان إبراهيم هو في طور محاجة قومه، وإلا لماذا عندما أفل القمر قال {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين} [الأنعام: 77] فهذا أسلوب عقلي وحسي استعمله إبراهيم عليه السلام ليقنع قومه مثلما فعل معهم في تحطيم كل أصنامهم إلاّ كبيرهم لعلهم يتعظون به {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون} [الأنبياء: 58] ولا أدل على هذا من الايات الواردة بعد ذلك {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} [الأنعام: 78-83] فأين هو فهم القرآن في وحدته الكلية، الذي طالما تمسك به المؤلف، فتطاول بهذا الفهم على عباقرة التاريخ، ونعتهم بالتجزئة وقلة الفهم؟!

والآن نأتي إلى الرؤية الإبراهيمية التى بقيت لغزًا محيرًا من عهد إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا إلى أن جاء المؤلف فكشف عن تأويلها «الصحيح». ولي على هذا بعض الملاحظات:

  1. أنه طعن فيمن آتاه الله النبوة، فقد جعله إنسانًا ساذجًا إلى درجة أنه يقدم على ذبح ابنه لمجرد منامات رآها، في حين جعل ملك مصر أكثر فطنة وحكمة حين تريث في تأويل رؤياه وقَبِل تعبيرها من أحد سجناه، فهل هذا يعنى أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد بلغا إلى هذا الحد من البساطة العقلية والإحيائية حتى يقدما على أمر هو من صنيع المشركين؟ فأين هذا القول من قوله تعالى {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51] فهل يعقل أن نبي الله إبراهيم عليه السلام يتبع مناماته ويهم بذبح ابن رُزِقه بعد ما بلغ من الكبر عتيًا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَــاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَــــمِيعُ الدُّعَاء} [إبراهيم: 39]؟!
  2. لقد أقر المؤلف بأن رؤيا إبراهيم عليه السلام هي رؤيا منامية وليست وحيًا. فلماذا يأتي بعد ذلك ويقول «من الواضح أن الله قد طلب قربانًا»[134] فهل تنقلب المنامات إلى طلب إلهي؟! ووفق هذا ألا يعنى أن ملك مصر هو نبي كذلك ما دامت رؤياه تساوى رؤيا إبراهيم عليه السلام، وبما أن الله قد طلب من إبراهيم عليه السلام فكذلك يقال بأن الله قد طلب من ملك مصر؟!
  3. أنه مما يؤكد أن رؤيا إبراهيم عليه السلام هي وحي من عند الله قوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُن} [البقرة: 124] فما هي الكلمات التى ابتلى الله بها إبراهيم إن لم يكن منها أمره بذبح ابنه؟ قال ابن عاشور رحمه الله «فلعل منها الأمر بذبح ولده، وأمره بالاختتان، وبالمهاجرة بهاجر إلى شقة بعيدة، وأعظم ذلك أمره بذبح ولده إسماعيل بوحي من الله إليه في الرؤيا، وقد سمى ذلك بلاء في قوله تعالى {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِين} [الصافات: 106] فأين منهج التحليل والاستقراء وأين الموضوعية العلمية التى ادعاها المؤلف في منهجيته؟!

د. استرجاع قصة موسى عليه السلام:

لقد سبق وأن بينا التناقض المنهجي لدى المؤلف في مسألة تاريخ مراحل تطور الفكر البشري فلا حاجة لإعادة ذلك الكلام هنا، ويكفى الآن الإشارة إلى أمر خطير طالما حذر منه المؤلف، وهو مسألة التهوين من قيمة الفعل البشري «كان لغياب المنهج الذي فهم به القرآن أثره في إضفاء معانٍ عكسية على موقف الإنسان إزاء فعله الـــذاتي»[135].

فالمؤلف رغم لومه الشديد للأوائل ونعتهم بقلة التبصــر والتجهيل والتعجيز[136]، نجده يتبنى صراحة مذهب الجبريين والإشراقيين يقول «فجدل الطبيعة ينفى جدل الغيب مرتدًا إلى منهجية علمية شاملة تؤمن بوسائلها المادية في البحث. أما جدل الغيب فإنه لا ينفى جدل الطبيعة ولكنه يستحوذ عليه في قبضته الكلية بطريقة لايستطيع جدل الأرض أن يكشفها؛ لأنها تتم بمعزل عن مقاييسه، ولكنها مع ذلك تتم داخل زمانه ومكانه بقوة خفية لا نجد لها تفسيرًا»[137]، ثم يتساءل بعد ذلك وكأنه يملك الإجابة عن ذلك «فكيف يجرى الأمر إذًا حين يهيمن الغيب خارج دائرة المنظور؟ كيف يتحول الغيب إلى حقيقة واقعية في حياة الإنسان»؟ ثم يردف ذلك بسرد أمثلة قصة العبد الصالح مع موسي عليه السلام ومقارنتها بحوادث جرت لموسى نفسه، انتهت بنا إلى رفع المسئولية عن موسى في كل ما فعل بل ويلومه على الاعتراف بذلك «ولو راجع موسى هنا هذه الواقعة في تجربته مع العبد الصالح لاكتشف أن ذلك القتل كان مقدرًا، وأن الله قد أجراه بكيفية أدت إليه دون أن يكون موسى مسئولاً مسئولية حقيقية»[138]، وبهذه العقلية تتلاشى كل المقاييس العلمية وندخل في مجاهيل الإشراقات والإلهامات «لاشك أن إدراك مثل هذا الأمر يحتاج إلى تدبر عميق وبطريقة خاصة. إذ يصعب استنباط منهج لتحديد أسلوب الاستيعاب»[139]. وبهذا يصبح سحق الشعوب وإهانتها، واغتصاب إسرائيل لفلسطين وانحناء العرب أمامها كل ذلك بقدر الله وتوقيته[140].

هل بهذا الفهم للقرآن يصبح العرب قادرين على تجاوز التخلف الحضاري ثم قيادة العالم إلى العالمية البديلة؟!

4– الجمع بين القراءتين:

الحقيقة أن كل ما قاله المؤلف حول هذه المسألة وردده أتباعه، القرآن منه براء ولا أصل له إلا في خلفيات أصحابه الفكرية. وبدون إطالة فالمؤلف قد كشف عن عدم إدراكه لأبسط قواعد اللغة، فقد جعل الواو في قوله تعالى {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم} [العلق: 3] للمعية، واستنبط من ذلك ما سماه بالقراءة الثانية التى هي بمعية الله، وبتعريف المفعول معه وبيان شروطه يتبين تهافت المؤلف وقوله في كتاب الله بغير علم، فالمفعول معه  هو اسم فضلة وقع بعد واو بمعنى -مع- مسبوقة بجملة، ليدل على شيء حصل بمصاحبته، أي معه، بلا قصد إلى إشراكه في حكم ما قبله، نحو سرت والجبل، وشروط النصب على المعية ثلاثة:

  1. أن يكون فضلة «أي يصح انعقاد الجملة بدونه».
  2. أن يكون ما قبله جملة.
  3. أن تكـــون الواو تسبقه بمعنى مع[141].

أما الواو في هذه الآية فهي للاستئناف وليست للمعية، ولا أدل على ذلك من رفع الاسم بعدها، ولو كانت للمعية لكان الاسم الذي بعدها منصوبًا.

والمؤلف بالجمع بين القراءتين سيحاصر إلهه ويكشف عقله ويضبط حركته حاضرًا ومستقبلاً حتى لا يفاجئنا بمتغيراته يقول «فمن يصل إلى مستوى التوحيد بين القراءتين ليرى فعل الإرادة الإلهية النسبية في الكون فإنه لن ينتهى إلى الجبرية كفلسفة؛ وذلك لسبب بسيط وأولى وهو أن الانتهاء فلسفيًّا إلى هذه الجبرية يعنى تقنين الفعل الإلهي نفسه وضبط حركته الحاضرة والمستقبلة واستخلاص برنامج عمل استراتيجي مفصل لا تفاجئه أي متغيرات ولا تنأى عنه أي حسابات، وهذا معناه بقول آخر أن نكتشف العقل الإلهي من جهة وأن نكتشف إرادته بين المتناهيات الكونية كبرًا وصغرًا.. وقتها فقط نصل إلى تقنين الإرادة الإلهية لنتخذ منها قانونًا جبريًّا»[142].

هكذا، وفي ظل العالمية الإسلامية الثانية التى يبشر بها المؤلف ستكشف أسرار الألوهية وتقنن إرادتها فلا يستطيع بعدها أن يفاجئ العالم بأى مكروه، وبالتالى يعم السلام الكوني.

هل بهذا الخلط الفكري والتناقض المنهجي سيعاد تشكيل العالم وينقل العرب من دائرة التخلف والانفعال السلبي إلى دائرة الفعل الإيجابي ثم قيادة البشرية كلها إلى عالمية جديدة؟!

5– منهجية القرآن وضوابط التشريع

والآن نأتي إلى القوانين التشريعية المنظمة لحياة الفرد والجماعة وفق منظور العالمية الإسلامية الثانية، عالمية الجمع بين القراءتين .

يرى المؤلف أن الشرائع الدينية كلها بما فيها الشريعة الإسلامية هي أمور نسبية خاضعة للتطور التاريخي «إذن التشريعات على اختلافها هي نسبية حسب الواقع التاريخي»[143] إذًا فما الحل وما مصير الحدود الثابتة بالنصوص القطعية كجلد الزاني وقطع يد السارق؟ يجيبنا المؤلف بـ«أن الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء، أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة لكل عصر على حسب أوضاعه وأعرافه وقيمه»[144] وهو بهذا المبدأ ينزع عن الشريعة كل خصوصية فتصبح قابلة لأن تكون شيوعية إن حلت في بيئة شيوعية، وليبرالية إن حلت في بيئة ليبرالية ووثنية إن حلت في بيئة وثنية، ما دام حتى الإيمان نفسه خاضع للنسبية والتطور التاريخي، فالسجود للأصنام الذي يقوم به أكثر من ثلث سكان العالم هو أمر لم يعد شركًا ولا قضية الإيمان العصرية «إذًا هناك تغير جذري في المفهوم الإيماني نفسه وفي وسائل تحققه اليقينية، ليست القضية الآن السجود لصنم أو اتخاذ أرباب أو ممارسة علاقات فلكية وأبراجية معينة… المشكلة الإيمانية الآن هي في توجه الإنسان كليًا نحو الاتحاد بالطبيعة عبر منهجية العلم بديلاً عن التوجه إلى الله كونيًا عبر منهجية الخلق. وكما يعني هذا الوضع فارقًا جذريًّا في مفهوم الشرك كذلك يعني فارقًا جذريًّا في النتائج الإيمانية – فحتى مفهوم التعبد نفسه يتغير حسب الزمان والبيئة، فالصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الأشكال التعبدية لم تعد صالحة لعصرنا – من هنا تصبح قاعدة المفهوم التعبدي في عصرنا هي التوجه الدائم إلى الله بالفعل ضمن الحركة العملية في الواقع»[145]، فالتوجه الدائم إلى الله عنده كما مر معنا هو للكشف عن عقله والتحكم في إرادته.

والمؤلف وفق منهجه التاريخي ينفى أي عودة إلى الخلف «ليس هناك عودة إلى الخلف أو رجوع إلى الإسلام»[146] فليس هناك عودة إلى جلد الزاني وقطع يد السارق ولا إلى السنة النبوية[147] لأن كل ذلك «يبدو غريبًا في عصر العلم والوضوح أن نربط خطابنا بغيب يحتجب عنا»[148] .. وهذه القطيعة هي مع الإسلام فقط أما مع الغرب وتراثه فتواصل واستلهام «هناك تصدح في ساحات فيينا كل مساء روائع الموسيقى التى أصبحت عالمية، وفي زواياها تنتصب تماثيل العباقرة من أبنائها الذين استلهموا معنى النغمة في الحياة، وتتجمل متاحف إيطاليا واللوفر بتلك اللوحات والرسومات والنحوتات التى تشد أوتار النفس وتصور عليها أحاسيسها، وكم هي خالدة مسرحيات ابن العصر الفيكتوري (شكسيبر) الذي تعيش لندن أمسياتها معه، وكم هو رائع (تولستوي) في كل ما كتب»[149].

هكذا بات واضحًا هدف المؤلف من عالميته الجديدة، هو جعل العالم الإسلامي يحاكي في حركاته وسكناته العالم الغربي ولكن تحت ستار تأويل النصوص الدينية.

أخيرًا هل أن كل هذه القضايا المبدئية الخطيرة التى تمس بما هو معلوم من الدين بالضرورة هي قضايا جزئية لا ينبغي للقارئ أن يشغل بها فكره؟!

وفي ختام هذا الفصل نحاول جمع شتات ما تقدم واستنتاج منهجية المؤلف الحقيقية التى توخاها في كتابه، وهي كما يلي :

  1. التجزئة وبتر النصوص عن سياقاتها، بدلاً من استقراء جميع النصوص واستخلاص ما تعطيه من نتائج.
  2. التناقض المنهجي، وعدم الوضوح.
  3. التعميم في الأحكام وعدم اتباع قواعد المنهج العلمي.
  4. جهله التام بالتراث، وضعف اطلاعه على علوم العصر ومناهجه مما حدا به إلى مناقضتها ومخالفتها في أغلب الأحيان. مثل نفيه لمسألة الترادف التى يفهم من كلامه وكأن المدارس اللسانية مجمعة على ذلك، واستهجانه للسياق الذي تعتمده أشهر المدارس اللسانية المعاصرة وهو ما عبر عنه «تشومسكي» باختلاف المعاني تبعًا لاختلاف البني العميقة[150]. وما عبرت عنه المدرسة الوظيفية بأن «الكلمات الوظيفية تتميز عن المورفيمات المعجمية، لأنها مورفيمات غير مستقلة، ولا تكتسب معناها إلاّ بالنسبة للبنية النحوية التى تدخل فيها ويطلق عليها أيضًا المؤثرات البنيوية أو الكلمات الفارغة أو هي بالأحرى أدوات»[151].
  5. غياب الموضوعية العلمية، وسيطرة العاطفة والصبغة الأيديولوجية على معظم مباحث الكتاب[152].
  6. بناء نظرياته على فهمه الخاطئ للسان العربي، وجهله بأبسط قواعده مثلما حدث في مسألة الجمع بين القراءتين وغيرها.
  7. رده للسنة واعتماده في ذلك على مقدمات خاطئة أوحت له بها تداعياته الفكرية.
  8. إنكاره لما هو معلوم من الدين بالضرورة كقوله في مسألة التشريع بثبات المبدأ دون الشكل.
  9. القسوة والشدة على المخالفين وخاصة الأوائل منهم.
  10. استخفافه بالقيم الإسلامية في مقابل احترامه لغيرها.
  11. الدغمائية[153] والجمود الفكري.، من أخطر الأشياء التى وصم بها المؤلف هي الدغمائية والجمود الفكري؛ حيث ينفى عن أفكاره صفة النقص ويرفض مبدأ الإضافة والتعديل لها «فكتاب العالمية ليس خلاصة فكر تجريبي لأعدل فيه، فالمحددات النظرية التى تضمنتها الطبعة الأولى عام 1979م بما في ذلك (الجمع بين القراءتين) مثلاً هي محددات مستمدة من رؤية (منهجية ومعرفية) للقرآن الكريم وكذلك سائر المحددات الأخرى».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أصل المقالة منشورة في:

الجيلاني بين التوهامي مفتاح (2001). المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم: أبو القاسم حاج حمد نموذجًا. مجلة المسلم المعاصر. ع. 101. ص ص. 13- 56. و ع. 102. ص ص.9- 67.

والمقالتان في الأصل: بحث تكميلي مقدم لنيل درجة الماجستير في علوم الوحي والتراث (القرآن والسنة) كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية – الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا – مارس 1998 م.

** محمد أبو القاسم حاج حمد، سوداني الأصل . يعود نسبه إلى قبيلة الرباطاب، وهي من أعرق القبائل في شمال السودان، وهو من أسرة تدين في ولائها للطائفة الختمية.

**** الجامعة العالمية الإسلامية. ماليزيا.

[1] الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (بيروت : دار المعرفة للطباعة والنشر، ط 2)، م2، ص 156 – 161.

[2] أعني بالمدرسة الفكرية الحديثة تلك المدرسة التي تبني رجالاتها مقولات منهجية حديثة وحاولت تطبيقها في فهم القرلآن الكريم متجاوزة الأدوات التفسيرية المعهودة، ومن أبرز رجالاتها محمد أبو القاسم حاج حمد، ومحمد شحرور، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد.

[3] الحاج حمد، محمد أبو القاسم، العالمية الإسلامية الثانية (بيروت : دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1996)، م1، ص 133.

[4] المرجع السابق، م 1، ص 376.

[5] انظر المرجع السابق، م1، ص 48.

[6] انظر المرجع السابق، م 1، ص 68.

[7] انظر المرجع السابق، م 1، ص 123.

[8] انظر المرجع السابق، م 2، ص 263.

[9] انظر المرجع السابق، م 1، ص 49- 50.

[10] انظر المرجع السابق، م 2، ص 122.

[11] انظر المرجع السابق، م 1، ص 48+ 50.

[12] انظر المرجع السابق، م 1، ص 56.

[13] انظر المرجع السابق، م 1، ص 68.

[14] انظر المرجع السابق، م 2، ص 263، 341+ 346+ 424+ 331.

[15] المرجع السابق، م 2، ص 506.

[16] المرجع السابق، م 2، ص 508.

[17] المرجع السابق، م 1، ص 55.

[18] المرجع السابق، م 1، ص 56.

[19] انظر المرجع السابق، م 1، ص 50- 51.

[20] المرجع السابق، م 2، ص 242.

[21] المرجع السابق، م 2، ص 243.

[22] المرجع السابق، م 2، ص 25- 26.

[23] المرجع السابق، م 2، ص 107.

[24] الأصل أن يقول: ومقارنة الأديان.

[25] المرجع السابق، م 1، ص 46.

[26] المرجع السابق، م 2، ص 169.

[27] المرجع السابق، م 1، ص 456.

[28] المرجع السابق، م 1، ص 457.

[29] المرجع السابق، م 1، ص 457.

[30] المرجع السابق، م 1، ص 457- 458- 463- 465.

[31] المرجع السابق، م 1، ص 466- 467.

[32] المرجع السابق، م 1، ص 56.

[33] المرجع السابق، م 1، ص 169.

[34] انظر المرجع السابق، م 1، ص 56.

[35] المرجع السابق، م 1، ص 55.

[36] المرجع السابق، م 1، ص 435- 437، وانظر كذلك م 2، ص 54- 55.

[37] المرجع السابق، م 1، ص 436.

[38] المرجع السابق، م 1، ص 473- 474.

[39] المرجع السابق، م 2، ص 185- 187.

[40] العالمية م 1، ص 59- 60.

[41] المرجع السابق، م 2، ص 440.

[42] المرجع السابق، م 1، ص 62- 66.

[43] المرجع السابق، م 1، ص 68.

[44] المرجع السابق، م 1، ص 49- 50.

[45] المرجع السابق، م 2، ص 274- 275.

[46] انظر المرجع السابق، م 2، ص 227.

[47] انظر المرجع السابق، م 2، ص 276- 277.

[48] انظر المرجع السابق، م 2، ص 278- 280.

انظر أيضًا مجلة قراءات سياسية، 5/ 1/ شتاء 1995 فقد نشرت هذا الكلام في مقال بعنوان: “المفهوم القرآني للعروبة والدار في مقابل القومية والوطن”، ص 9- 25.

[49] انظر المرجع السابق، م 2، ص 414- 418.

[50] انظر المرجع السابق، م 2، ص 419.

[51] المرجع السابق، م 2، ص 495- 496.

[52] المرجع السابق، م 1، ص 79.

[53] انظر المرجع السابق، م 1، ص 80- 81.

*** ملاحظة: كلمة عليه السلام هي زيادة من عندي وليس من النص الأصلي.

[54] انظر المرجع السابق، م 1، ص 96.

[55] انظر المرجع السابق، م 1، ص 96، 473- 474.

[56] انظر المرجع السابق، م 1، ص 473- 474.

[57] انظر المرجع السابق، م 1، ص 97.

[58] انظر المرجع السابق، م 1، ص 474.

[59] انظر المرجع السابق، م 1، ص 98- 99.

[60] انظر المرجع السابق، م 1، ص 100.

[61] انظر المرجع السابق، م 1، ص 102- 104.

[62] انظر المرجع السابق، م 1، ص 89- 96.

[63] انظر المرجع السابق، م 2، ص 224- 226.

[64] انظر المرجع السابق، م 1، ص 85- 88.

[65] انظر المرجع السابق، م 1، ص 81- 85.

[66] انظر المرجع السابق، م 1، ص 383- 392.

[67] انظر المرجع السابق، م 1، ص 392- 398.

[68] المرجع السابق، م 1، ص 404- 405.

[69] العالمية، ، م 1، ص 81.

[70] المرجع السابق، م 1، ص 22.

[71] المرجع السابق، م 1، ص 157- 158.

[72] والصحيح أن يقول تفكر فيه، ولكنه يقع في القول بالترادف.

[73] المرجع السابق، م 1، ص 435.

[74] المرجع السابق، م 1، ص 56.

[75] المرجع السابق، م 1، ص 57.

[76] المرجع السابق، م 1، ص 435.

[77] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، ط 3، 1967)، ج 2، ص 299.

[78] الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير (تونس: الدار التونسية للنشر، الكتاب الأول)، ج 2، ص 173.

[79] ابن عاشور، نفس المرجع، ج 3، ص 186.

[80] العالمية، م 1، ص 436.

[81] المرجع السابق، م 1، ص 436.

[82] المرجع السابق، م 1، ص 437.

[83] انظر المرجع السابق، م 1، ص 436.

[84] انظر المرجع السابق، م 1، ص 437.

[85] انظر د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، (بيروت: دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، 1982م)، ج 2، ص 448.

[86] العالمية، م 1، ص 473.

[87] المرجع السابق، م 1، ص 474.

[88] انظر المرجع السابق، م 2، ص 524.

[89] انظر العالمية، م 1، ص 68، و م 2، ص 484.

[90] انظر المرجع السابق، م2، ص 484.

[91] المرجع السابق، م 2، ص 334.

[92] المرجع السابق، م 2، ص 332.

[93] انظر ما قاله الدكتور محمد عمارة في سمينار “منهجية القرآن وأسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية”، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتب القاهرة، الموسم الثقافي، 1991- 1992، ص 42؛ حيث ذكر أن أبا القاسم حاج حمد ينكر السنة وكان ذلك بحضوره.

[94] العالمية، م 2، ص 487- 488.

[95] المرجع السابق، م 2، ص 507.

[96] انظر المرجع السابق، م 1، ص 65- 66.

[97] انظر نموذج القربان الإبراهيمي السابق الذكر.

[98] انظر المرجع السابق، م 2، ص 77- 79- 142.

[99] انظر المرجع السابق، م 1، ص 505، و م 2، ص 505.

[100] المرجع السابق، م 1، ص 68.

[101] المرجع السابق، م 2، ص 199- 227.

[102] العالمية، م 2، ص 196- 197.

[103] المرجع السابق، م 1، ص 29- 30.

[104] يقصد به بعض الأفاضل كالشيخ الغزالي رحمه الله، والدكتور على جمعة وعيرهم من العلماء الأفاضل الذين أنكروا عليه فكره.

[105] المرجع السابق، م 1، ص 31.

[106] انظر ما قاله الدكتور محمد عمارة في السمينار السابق ذكره، ص 42.

[107] المأزق، م 2، ص 332.

[108] المرجع السابق، م 2، ص 335.

[109] المرجع السابق، م 2، ص 742.

[110] العالمية، م 2، ص 275.

[111] لسان العرب، مجلد 4، ص 298.

[112] الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، تحقيق د. مهدي الزخزومي و د. إبراهيم السامرائي، (بيروت: دار ومكتبة الهلال)، ج 8، ص 59.

[113] العالمية، م 2، ص 278- 279.

[114] المرجع السابق، م 2، ص 280.

[115] إسماعيل بن كثير، تفسير القرآن العظيم، (القاهرة: مكتبة التراث)، ج 2، ص 65.

[116] الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 1، ص 399.

[117] العالمية، م 1، ص 100- 101.

[118] العالمية، م 1، ص 103.

[119] للأمانة العلمية إليك نص ما قاله: “فمن عرضوا على الملائكة كانوا يتصفون بأسماء محمولة تقرر حالتهم، وهي حالة يفترقون بها عن أوضاع أولئك الذين يفسدون في الأرض ويشفكون الدماء، أي افتراق هوية وخصائص” العالمية، م 1، ص 103.

[120] انظر العالمية، م 1، ص 103.

[121] انظر د. محمود فهمي زيدان، في فلسفة اللغة، (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1985م)، ص 13- 14.

[122] المرجع السابق، ص 12.

[123] المرجع السابق، ص 12.

[124] انظر العالمية، م 1، ص 103.

[125] أبو القاسم حاج حمد، منجية القرآن المعرفية، طبعة جديدة محدودة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 69.

[126] عبد الفتاح القاضي، البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة، ص 70.

[127] ابن عاشور، مصدر سابق، ج 27، ص 8.

[128] لا يعني هذا أنني أحط من شأن عرفة وإنما من باب المحاجة فمكة الموصوفة بالبركة غير عرفة التي يزعم المؤلف أنها مهبط نوح.

[129] انزر ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، (مصر: شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، ط 3، 1969)، ج 2، ص 293- 294.

[130] تفسير القرطبي، م 10، 387.

[131] محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين (بيروت: دار المعرفة، ط 3، 1971م)، المجلد 6، ص 518.

[132] العالمية، م 1، ص 90- 91.

[133] المرجع السابق، م 1، ص 85.

[134] العالمية، م 1، ص 84.

[135] العالمية، م 2، ص 419.

[136] انظر المرجع السابق، م 2، ص 419.

[137] المرجع السابق، م 1، ص 383.

[138] المرجع السابق، م 1، ص 396.

[139] المرجع السابق، م 1، ص 392.

[140] انظر المرجع السباق، م 1، ص 48.

[141] الشيخ مصطفى غلاييني، جامع الدروس العربية، (صيدا: المكتبة العصرية، ط. 22، 1989)، م 3، ص 72؛ وانظر أيضًا محمد بن علي الصبان، حاشية على شرح الأشموني لألفية ابن مالك، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع)، م 2، ص 137.

[142] العالمية، م 1، ص 449.

[143] العالمية، م 2، ص 449.

[144] المرجع السابق، م 2، ص 497.

[145] العالمية، م 2، ص 497- 498.

[146] المرجع السابق، م 2، ص 332.

[147] انظر المرجع السابق، م 2، ص 332.

[148] المرجع السابق، م 2، ص 333.

[149] المرجع السابق، م 2، ص 423.

[150] انظر مقال محمد الشايب، “المدرسة التوليدية التحويلية”، من كتاب: أهم المدارس اللسانية، (تونس: منشورات المعهد القومي لعلوم التربية، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، 1990)، ص 86- 90.

[151] د. محمد الحناش، البنيوية في اللسانيات، (الدار البيضاء: دار الرشاد الحديثة، ط 1، 1980)، ص 172.

[152] العالمية، م 2، ص 333.

[153] اصطلاح يشير في الفلسفة والعلوم إلى طريقة في التفكير تقوم على أساس مفاهيم وصيغ لا تقبل التغيير، بغض النظر عن الشروط النوعية للمكان والزمان، ونجد مصدر القطيعة في تطور المفاهيم الدينية ومطلب الإيمان بالعقائد الكنسية التي نتأكد على أنها حقائق لا تُنازع وتعلو على النقد. الموسوعة الفلسفية، ص 377.

عن الجيلاني بن التوهامي مفتاح

شاهد أيضاً

القراءات الحداثية للقرآن: وظيفة التأويلية الحداثية للقرآن في الخطاب المعاصر

أ. طارق حجي

رغم كثرة تلك الدراسات التي تتناول «القراءات الحداثية للقرآن»، سواء بشكلٍ تثميني أو بشكلٍ ناقد، إلا أنه يبدو وكأن معظم هذه الدراسات تنخرط مباشرة في نقاش طبيعة هذه التأويلية ونتائجها وتفاصيلها الجزئية، دون أن تتساءل أولًا حول سبب ظهور هذه التأويلية ضمن فضاء الخطاب الحداثي العربي والإسلامي من الأساس.

أمين الخولي ومقومات مدرسة التأويل الحداثي

د. شريف عبد الرحمن سيف النصر

يعد الشيخ أمين الخولي من أوائل من دعوا إلى دراسة القرآن كنص، من دون النظر إلى أي اعتبار آخر، والمقصود طبعا بدون النظر إلى أي اعتبار ديني. ووفقا لهذا المفهوم أصَّل الخولي لـ"منهج" في التعامل مع القرآن الكريم، يتجاوز سؤال المصدر ويفصل النص القرآني عن قدسيته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.