رؤية الفوضى: استطلاعات عن انحسار الحضارة الغربية

العنوان: رؤية الفوضى: استطلاعات عن انحسار الحضارة الغربية.

المؤلف: ب. ج. براندر.

ترجمة: هاشم أحمد محمد.

مراجعة: محمد عيد إبراهيم.

الطبعة: ط. 1.

مكان النشر: القاهرة.

الناشر: المركز القومي للترجمة.

تاريخ النشر: 2016.

الترقيم الدولي: 6-0370-92-977-978.

المقدمة

   قدم الفلاسفة والمؤرخون وعلماء الآثار القديمة أسبابًا كثيرة لقيام الحضارات وانهيارها، فقد شبه هيجل الفيلسوف الألماني المجتمعات بالأفراد الذين ينقلون شعلة الحضارة من واحد إلى آخر، ويرى أن الحضارات تنمو على ثلاثة مراحل: الأولى حكم الفرد، والثانية حكم طبقة من المجتمع، والثالثة حكم الناس. بينما يرى أوزوالد شبنجلر أن الحضارة مثل الكائن الحي تُولد وتنضج ثم تموت. ويقدم المؤلف في هذا الكتاب رأي العديد من المفكرين الاجتماعيين الذين حذروا من انحسار الحضارة الغربية المعاصرة ورأوا أنه قد حانت نهايتها على الأقل في شكلها المادي والحسي والعلمي والتقني وغير الديني والتوسعي.

   وقد تناول الكاتب الموضوع من خلال مقدمة وأربعة أجزاء، يتناول الجزء الأول مشكلة الغرب من خلال ثلاثة فصول، والجزء الثاني أوزالد شبنجلر “المتنبئ المُعَلّم” في ثلاثة فصول، والجزء الثالث بعنوان آرنولد توينبي “المؤرخ المعلم” ويتكون من ثلاثة فصول، بينما يتناول الجزء الرابع بتريم أ. سوركين “المُحَلِّل المُعَلّم” في خمسة فصول.

الجزء الأول: مشكلة الغرب

الفصل الأول: التقدم والشك

بدأ براندر في هذا الفصل بتوجيه نظرة الشك في التغيرات المتعاقبة التي اكتسحت الثقافة، وبدأ يتساءل في خضم هذا الانتقال أين تقودنا مثل هذه الاتجاهات؟ هل تمثل انحرافًا عابرًا؟ أم نشهد نوعًا من النهضة ستغير طبيعة الثقافة إلى شيء مختلف؟ أم أننا مقبلون على نهاية عصر الثقافة الغربية؟.

 وعند تأمل الحكماء حالة الغرب تختلف وجهات نظرهم ما بين من تصور انتصارات علمية وعدالة عالمية وهم المتفائلون الاجتماعيون، ومن تصور انهيارًا اقتصاديًا وكوارث بيئية ونووية وقبضة حديدية من الطغيان وهم المتشائمون الاجتماعيون.

  وقد عرض المؤلف وجهات نظر مختلفة عن مسار الإنسان على مر العصور القديمة باختلاف المجتمعات، وقد استنتج منها أنها دورة من الصعود والهبوط غير ذات علاقة، أى بدايات صغيرة إلى قوة وازدهار ثم فخر وغرور وخراب نهائي. إلا أن براندر أشار الى تميز في العصور الحديثة الذي كان رواده مفكرون أمثال روسو وهيوم، حيث ظهر تبني لعقيدة جديدة لقيادة البشر واستخدام العقل الحر في تقدم إنساني شامل يأخذ شكل الخط المستقيم الصاعد، وقد استمر هذا التوجه مطردا حتى العصر الحالي رغم تعرضه للحظات من الضعف.

  وقد عرض براندر كافة المراحل التي مر بها المجتمع الغربي منذ طرد فاتحوا الأندلس من أوروبا، وبداية رحلات الاستكشاف، وغزو الإمبراطوريات، التي كانت جميعها بمثابة إرهاصات لثقافة تنمو بقوة وثقة. وفي القرن الثامن عشر تطورت الزراعة مما أدى إلى القضاء على شبح المجاعات الذي كان يطارد البشر في العديد من دول العالم,، وقد قاد التقدم الزراعي إلى التقدم الصناعي وتكوين الثروات وتطور الاكتشافات في علم المعادن والآلات والبناء، وقد ترتب على ذلك زيادة عدد السكان وظهور المدن الكبرى والحضرية.

  وأوضح براندر أنه رغم كون هذا التغيير في مجمله تغييرا ماديا إلا أنه قد حدث تقدم اجتماعي بحصول الإنسان العادي على اعتراف وأهمية غير مسبوقة في التاريخ، فقد وضعت العديد من القوانين التي أدت الى تحسين أوضاع الأجور وتخفيض ساعات العمل والاهتمام بالتعليم.

  من ناحية أخرى قاد التقدم الذي حدث في وسائل النقل مسارات جديدة للسفر والتجارة، فبدأت حركة تنقل إلى بقاع جغرافية جديدة والاستقرار فيها، فنزحت من أوروبا موجات عديدة من الهجرة خلال منتصف القرن التاسع عشر فصاعدًا، ففي غضون ثلاثة عقود بين عامي 1870 و1900 انتقل ما لا يقل عن عشرين مليون أوروبي عبر البحار لكي يستقروا في مناطق العالم الجديد في أمريكا الشمالية وأمريكا والجنوبية وأفريقيا وأستراليا.

   ولكن سرعان ما حطمت الحرب العالمية الأولى الاعتقاد الشائع أن عالم الجنس البشري يقترب من الكمال، وطال أمد الحرب لسنوات, وانتهت بانهيار إمبراطوريات كبرى كالألمانية والنمساوية والعثمانية، وكان هذا بمثابة وهو جرس الإنذار الأول لانهيار الحضارة وانهيار القيم والفضائل. وسرعان ما اندلعت الحرب العالمية الثانية ولحق الدمار بأوروبا ومناطق كثيرة من دول العالم، وهنا بدأ تضاءل عظمة أوروبا وهيمنة الجنس الأوروبي، ولم يعد أحد يتوقع كمالًا اجتماعيًا أو ارتقاءً للبشرية.

الفصل الثاني: أجراس الإنذار

لم يحدث في التاريخ منذ أيام روما القديمة أن كان لامبراطورية نطاق نفوذ واسع مثل الإمبراطورية البريطانية التي هيمنت على ربع أراضي العالم، ورغم دلالة ذلك على انتصار الحضارة الغربية العالمية لكن كان الحكماء والمفكرون يشعرون بالخوف من سلامة ومستقبل الثقافة وما ترتكز عليه. وفي الولايات المتحدة الأمريكية وفي نفس الفترة تقريبًا شعر هنري آدمز المؤرخ والمفكر الشهير باضطراب عميق فيما أسماه “التفاؤل السطحي والرضا بالذات الذي يخفي المظهر الخارجي الخادع للمجتمع”، وأصبح يعرف هذا التخوف بمزاج نهاية القرن fin-de-siecle, وهي عبارة لا تدل على نهاية القرن فقط, بل على مظاهر التدهور والتفسخ الاجتماعي.

 وبدأت التخوف من العجز الاجتماعي يظهر في مقالات صحفية عن هبوط معدلات المواليد وتزايد معدلات الانتحار والجنون والجريمة.

  وقد اختلف الكاتب الروسي تولستوي مع الفرضية العامة التي ترى إن الحضارة الأوروبية ستحرر العالم، واعتقد أن أوروبا تحطم نفسها وتفسد أفريقيا والهند والصين واليابان بفرض تقدمها وثقافتها هناك، وكان الحل هو تجديد المسيحية لمنع المجتمع من الانهيار، فقد أصبحت القساوة والوحشية وحقارة القلوب تميز في روح الرجل الغربي حيث رأى الحكماء خلف بهجة الثقافة أعراض الانحسار الداخلي والتجرد من الإنسانية.

  لذا توقع جاكوب بوركهارت انهيارًا وشيكًا للصحة السياسية والاقتصادية للحضارة، كما استجلى العالم النفساني ماكس نوردو علامات التدهور في الحالة الجسدية والعقلية لأفراد المجتمع بسبب التغييرات الضخمة في الحياة التي أحدثتها التكنولوجيا وفورة الحياة، وذكر نوردو أن إحدى السمات الأكثر وضوحًا في الانحلال الفكرى هي الأنانية وتوقع أن المستقبل سيحفل بتسرب الانحسار الأخلاقي مما يدمر جميع طبقات المجتمع،

 وقد تجلت هذه الأفكار في روايات أدبية للمؤلف الأمريكي جاك لندن والمؤلف الإنجليزي هـ.ج. ويلز وغيلرهم.

            الفصل الثالث: رؤى الانحسار

   يبحث الكاتب في هذا الفصل رأى المفكرين الاجتماعيين في انحسار الثقافة الغربية الحديثة، وتفسير أسباب حدوث هذا الانحسارز فتطرق الكاتب لفكر “إرنست فون لاسو” الذي وضع تدرج للنمو الثقافي بداية من مجتمع التعدين وصولًا إلى مجتمع الصناعة وظهور العلوم والفنون، ويرى لاسو أن كل ثقافة تجئ إلى الوجود بكمية معينة ومحدودة من الطاقة الحيوية كالتي يملكها إنسان أو حيوان، ثم تحتضر، وتتشكل الثقافة من عقيدة دينية ثم يُهاجَم الدين بالعقلانية والتشكيك، فيضعف الدين فتتأثر الثقافة، ثم تظهر ثقافة جديدة تتمتع بالحيوية.

   أما المؤرخ الأمريكي “هنري آدمز” فيرى أن الثقافة الغربية أصبحت مهددة بالانهيار، وأوضح أن الحضارة لم تظهر تطورًا مستمرًا بل تحركًا ثابتًا نحو الحضيض. فمن الناحية الاقتصادية رأى أن العالم يتجه نحو نظام ذي نزعة اشتراكية، والحضارة كتعبير عن طاقة اجتماعية تتبدد خلال أربعة أطوار: الديني والآلي والكهربائي والأثيري، وهو ما أُطلق عليه القانون العلمي للتاريخ، وحسب آدمز سينتهي الأمر بكارثة نهائية في 2025 تقريبًا.

كما صار “بروكس آدمز” على نهج هنري آدمز في كتابه قانون الحضارة والانحسار الذي نُشر في لندن 1895 الذي أشار فيه أن تاريخ الجنس البشري ينتقل من الهمجية إلى الحضارة ثم يعود إلى الهمجية، ففي مراحل الحضارة المبكرة أنتج أنماطًا فنية ودينية وعسكرية في مجتمع منظم طليق غير مركزي، وعندما تطورت الحضارة تجمع الرأسمال الاقتصادي وبدأت المركزية في النمو فظهرت بذور الانهيار، في النهاية تشتد المركزية وتتبدد طاقة المجتمع ويتفشى التفكك فيه.

أما عالم الطبيعة الروسي “نيقولاي دانيلفسكي” فقد اتفق مع الفصائل السياسية الروسية التي عارضت التغريب وحث على الاتحاد مع الشعوب السلافية لصنع مصيرها بعيدًا عن الغرب، وأكد أن ثقافة أوروبا كأي حضارة أظهرت الإمكانية المبدعة المتأصلة في طبيعتها ثم ستنتهي دون أن تستمر في أي ثقافة أخرى.

  ووضع دانيلفسكي خمسة قوانين أساسية لتطور الحضارات: القانون الأول: الحضارة الأصلية وهي مجموعة من الشعوب تتحدث اللغة نفسها وتملك قدرة روحانية على التطور. القانون الثاني: الشعب القادر على بناء حضارة يجب أن يمتلك استقلالًا سياسيًا. القانون الثالث: المبادئ الأساسية للحضارة لا يمكن أن تنتقل إلى حضارة أخرى، ولكن يمكن أن يُنقل تأثيرها بدرجات أكبر أو أقل بحرية تامة. القانون الرابع: الحضارة لا يمكن أن تصل إلي نموها الكامل والخصب إلا عندما تكون شعوبها متنوّعة وتظل في مجموعات مستقلة بدلًا من اتحادها في وحدة سياسية واحدة. القانون الخامس: أي حضارة يمكن أن تتطور بشكل غير محدّد، إلا أن زمن حمل الثمار يكون وجيزًا، ولا يمكن أن تتكرر الثقافة مرة أخرى.

   أما “والتر شوبرت” فقد تنبأ أن الغرب سيفقد هيمنته ويظهر الشرق بقيادة روسيا ليحتل الصدارة، ورأى أن على مدار التاريخ هناك أربعة أنماط مختلفة من الحياة تظهر وتستمر فترة من الزمن ثم تزول، ويهيمن كل نمط منها على حقبة كاملة، والثقافة الأكثر تناغمًا مع هذه الحقبة تنهض لتبرز وتهيمن. وقد أطلق على أحد هذه الأنماط اسم “الزاهد”، ويظن من يعيش في نموذج الزاهد أن العالم وهم وخطأ ويهجر العالم لاكتشاف الجوهر النهائي للحقيقة. أما النوع الآخر فهو “المنسجم” وهنا يعتبر الإنسان الكون مثاليًا ولا يحتاج توجيهًا إنسانًيا لإعادة بنائه، ويعيش الإنسان المنسجم في سلام. أما النمط الثالث فهو “البطولي” حيث يكون مهمة الجنس البشري أن يضع الأشياء في الموضع الصحيح، وهو عصر يكون مليء بالحيوية والطاقة ورغبة في القوة، ويكون الإنسان مبتعدًا عن الله ولكنه أكثر فهمًا للعالم المادي، ويعلن شوبرت أن العلمانية هي قدر الإنسان البطولي. والنمط الرابع والأخير هو “المسياني” نسبة للمسيح المنتظر، فهو مثل الإنسان البطولي يجاهد المسياني لتغيير العالم بشكل فاعل، لكنه لا يعتبر الأرض عبدًا يروض بل مادة خام في حاجة إلى التشريف والتكريس.

  واعتبر “نيقولاي برديائيف” العصر الحاضر العصر الأكثر خطورة، ورأى إيقاع التاريخ يتحول بصورة كارثية، وأنكر التقدم الصاعد المستمر للغرب، وأشار أن العصور الوسطى المسيحية هي فترة استعادة النظام حيث جمعت الشعوب الأوروبية مخزونًا من القوة الداخلية، أما العصر الذي بدأ قرابة القرن الثالث عشر فيمثل نقطة الذروة في التاريخ الأوروبي، ثم بدأ نفاذ المخزون المتراكم من الحيوية دون تجديد، وفي القرن التاسع عشر كان الناس يشعرون بنتائج عصر النهضة السعيد الواعد، ومع انتهاء هذا القرن كان الانحسار واضحًا للعيان وأنذر الحسار المتسارع بالدمار التام.

  وأخيرًا أشار “ألبرت شفايتزر” في كتابه فلسفة الحضارة إلى انحسار وانتحار ثقافة الغرب، ولاحظ أن طوال العصور الماضية ارتبطت حالة الحضارة بالفلسفة التي سادت، فعلى سبيل المثال الرومان القدماء بتعايشهم مع فلسفة الاستسلام المتشائمة لم يكن لديهم أُسس ثقافية إيجابية لتقدم إمبراطوريتهم، وفي المقابل طورت الحركة الفلسفية خلال القرن الثامن عشر في أوروبا المعرفة بالتنوير وتنشيط الثقافة، والثقافة الغربية هدفها تهذيب الفرد والمجتمع وتحقيق تقدم البشرية من الناحية الروحية على مدى القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، لكن في القرن الأخير انهار مضمونها الأخلاقي.

الجزء الثاني: أزوالد شبنجلر “المتنبئ المُعَلّم”

الفصل الرابع: شبنجلر والانحسار

عرض الباحث في هذا الفصل رؤى المؤرخ الألماني والفيلسوف “أوزوالد شبنجلر” حول انهيار الحضارة الغربية، فقد حفزت القضية المتنامية بين كتل القوى العظمى شبنجلر للتركيز على ألمانيا في إنذاره بالخطر من سياسة البلاد الخارجية الطائشة، وعندما بدأت التوترات تمس الثقافة الإنسانية كتب كتاب “انهيار الغرب” وتنبأ فيه بانهيار تدريجي لحضارة الغرب عبر الزمن.

لم يلق الكتاب رواجًا داخل ألمانيا حيث رفضته جميع دور النشر، فاتجه إلى فينيسيا وطُبع الكتاب ولاقى رواجًا ضخما، وتُرجم إلى معظم اللغات، رأى البعض أن شبنجلر المفكر الأقوى والأكثر نشاطًا الذي ظهر على الساحة الألمانية منذ عصر نيتشه.

 رفض شبنجلر فكرة تحليل التاريخ بالمنطق، واعتمد على أسلوب المقارنة بين الثقافات الثمانية الرفيعة التي اختارها في دراسته بدلًا مما أسماه التسلل التاريخي، واكتشف تشابهات في الطريقة التي تطورت بها الثقافات، حيث أن هناك ارتباط بين الدين والفلسفة والعلوم والفنون وفي السياسة والتنظيم الاجتماعي.

 الفصل الخامس: الثقافات الرفيعة

شبه شبنجلر الثقافات بالكائنات الحية فكل ثقافة لها حياتها الخاصة والفريدة مستقلة عن البشر، وللثقافة دورات حياة ثابتة ومتوقعة تولد وتنمو وتضمحل وتموت، فهي لها متوسط عمر طبيعي متوقع بحوالي ألف سنة من الممكن أن تزيد أو تقل، فبينما تنمو جميع الثقافات على النمط الرئيسي نفسه تحتفظ كل واحدة منها بهويتها المتميزة, والشكل الذي تتخذه الثقافة بتحدد بالطريقة التي ترى بها الزمان والمكان.

كما رأى شبنجلر أن لكل ثقافة رمز يمثل أساسا لها ويكون له تأثيرًا محددًا، فهو يكيف الثقافة وفق نمط فريد وخاصة في أفكارها وإبداعاتها، وقد درس شبنجلر في هذا الفصل ثلاث ثقافات وهم الكلاسيكية والعربية والغربية.

الفصل السادس: الثقافة والحضارة

   أعطى شبنجلر مصطلحان مختلفان للحضارة والثقافة، حيث عرَف الثقافة على أنها فترة نمو المجتمع وفترة نشاطه الإبداعي، فهي فترة طفولته وشبابه ونضجه. أما الحضارة فهي الفترة المتأخرة والنهائية للمجتمع وشيخوخته “طور انحساره وضعفه”.

طور الثقافة: رأى شبنجلر أن الإنسان ما قبل الفترة الثقافية عاش بدون تاريخ، ولم تكن له دولة ولا سياسة ولا طبقات اجتماعية، ولم تكن الحياة أكثر من تكرار بلا معني، وتلت هذه الفترة فترة أخرى تمثلت في الانتقال من الحياة البدائية المحكومة بعلاقة الحاكم والخاضعين له إلى علاقة قانونية خاصة بين مالك الأرض والفلاح، مستندًا إلى أخلاق الأرستقراطية والشرف والولاء، وبدأت ظهور الطبقات الاجتماعية وانجذب أبناء الثقافة بصورة تدريجية نحو البلدات  ومنها تطورت الدولة كوسيلة للحكم واتخذت أشكالًا ناضجة، وظهرت طبقة اجتماعية جديدة “قاطنة للمدينة”، وبدأ ينظر أفراد الطبقة العليا نظرة استصغار لطبقات الاجتماعيين البدائيين، وشعروا بالاحتقار للريف، وعندما تميزت المدينة عن الريف انفجر الإصلاح الديني، وبدأ النضال لإعادة الإيمان الروحي كما كان في مراحله الأولى.

وشهدت العهود الأخيرة للثقافة توسعًا جغرافيًا في قوتها وتأثيرها وبدأ تتمدد الثقافة بقوة مع البرتغال والأسبان في القرن الخامس عشر، وحملوا قوتهم وأساليبهم إلى أقصى أطرافها البعيدة، وعندما دخلت الثقافة مرحلة الخريف بلغ شكل حكومة الدولة الذروة مع الحكم المطلق، وعندما بلغت الثقافة نهايتها نمت المدنية وسيطرت على الريف وحلت الديكتاتورية المتزايدة للمال وأصبح المجتمع مستعدًا لدخول طور الحضارة.

طور الحضارة: رأى شبنجلر أن زمن الثقافة تُعاش فيه الحياة كأمر بديهي، أما في مرحلة الحضارة تصير الحياة مشكلة يتم التعامل معها بعقلانية، وتتنازل الروح عن مكانتها وتحل محلها أحكام العقل. ووصف شبنجلر فترة ما قبل الثقافة بأنه زمن بلا شكل، فكانت فترة الثقافة تمُارس بسهولة، أما مع مجئ الحضارة يبدأ الشعور بالغربة, وتظهر فكرة أن الأشكال يجب أن تتجدد أو التخلص منها من أجل حرية الإبداع، ويعود المجتمع إلى زمن اللاتشكل الذي كان ما قبل الثقافة، ويبدأ المجتمع في فترة من الثورات الاجتماعية العنيفة والحروب الضاربة.

  وفي كل حضارة اُعتبرت المدينة العملاقة المركز المتفوق للشئون المركزية الهامة، وبالتالي سيطرت المدن الكبرى، ولم يعد الريف ذو أهمية، حيث دمرت المدينة مشهد الريف، كما أصبح المال هو القوة المتفوقة وجرى استبدال الممتلكات بالمال السائل وأصبح تحقق أية فكرة متوقف على المال، وأصبح الرجل قوي لأن لديه المال على عكس ما مضى، فقد كان الرجل ثريًا لأنه قوي، وعندها تنتقل الزعامة من المثاليين الأخلاقيين إلى صناع المال، وعندما تدخل المال في مجريات الحياة السياسية أصبحت الانتخابات ساحة حرب لمرشحي الحزب، وهو ما أدى بدوره إلى أن تحولت الانتخابات إلى ثورات سلمية بشكل شرعي ثم تحولت إلى خدع معقدة.

  وارتبط فقدان الدين في طور الحضارة بشكل مباشر بالفقدان العامّ للإخصاب الروحي لإنسان الحضارة، فقد نجح في مواجهة العالم الخارجي، لكنه لم يعد يواجه العلية القدسية فيه، وتعلم أن يعرفها فقط من ناحية السببيّة الآلية المدنسّة.

   وفي كل مجتمع متقدم يظهر الانتقال من طور الثقافة إلى طور الحضارة، كما تظهر أعراض القوة المبدعة الهابطة وتتفوق العملقة، ويعتبر التغير مرادفا للتطور، ويُمثل تدهور الفن الفصل الأخير من كل الحضارات حتى وإن احتملت البقاء طويلًا.

  وإن ظهرت محاولات عرضية في أثناء فترة الحضارة لإنعاش قيم وأنماط وروح مرحلة الثقافة السابقة، تكون محاولات عقيمة وهو ما أسماه شبنجلر “التدين الثاني”.

انحسار الغرب: يرى شبنجلر أن الثورة الفرنسية 1789 هي نهاية طور ثقافة الغرب وبداية طور حضارته، وتوقع شبنجلر قبل نهاية الحرب العالمية الأولى أن النزاع ما كان إلا بداية لكثير من الحروب القادمة، وأن الغرب يافعًا كحضارة سيتطلب انحساره مئات السنين.

واعتقد شبنجلر مثل لاسو نيقولاي دانيلفسكي أن الثقافة العظيمة القادمة للبشرية قد تظهر في روسيا.

الجزء الثالث: آرنولد توينبي “المؤرخ المعلم”

الفصل السابع: توينبي والتاريخ

  لاحظ توينبي ثغرات في فكر شبنجلر، فهو لم يوضح كيف تنشأ الحضارات من مستنقع الظروف البدائية، واعتبر ظهورها مجرد لغز، لذا قام باستقصاء كل حضارة بشرية مدونة بدءًا من العصور التاريخية الأقدم حتى الزمن الحاضر، وقام بفحص أصولها وتطورها وانحسارها في كتاب “دراسة التاريخ”، وقد كونت تحقيقاته العميقة بعيدة المدى في التاريخ أساسًا قويًا لفهم الأحداث الجارية، وأثرى مخزونه المتزايد من المعرفة حول العالم الحديث كتاباته التاريخية، وتخلى أيضًا عن التحيز للتاريخ الذي كان شائعًا آنذاك كظاهرة أوروبية، ولم يقيد نفسه بأمم أو أجناس بعينها، لكنه وسع نظرته لتشمل الحضارات كلها.

ولم تنقذ المعرفة الواسعة توينبي من النقد، واشتكى المؤرخون أن توينبي كمؤرخ ذهب بعيدًا بدخوله في عوالم الفلسفة واللاهوت، واعتبر آخرون فرضياته اعتباطية، واعترض الفلاسفة على أحكامه الأخلاقية الصريحة، وشعر الليبراليون بالاستياء لاقتناعه أن الدين يمثل قوة إيجابية في التطور الإنساني، وكره المحافظون وجهات نظره السلمية عن الحرب، لكن ظلت دراسته راسخة تبرز جدارتها لحد بعيد كجهد جرئ ومثير لعقل واسع الاطلاع.

انحرف توينبي عن شبنجلر في نظرته لرواية الجنس البشري، ولكنه تطابق معه في الأهداف الجوهرية، فكلاهما منشئ نظام، وباحث نظريات كبرى، ومحقق للانتظام والاتساق مع القوانين التي تحاكي الماضي.

الفصل الثامن: الحضارات

أشار توينبي أن الحضارة نوع من المجتمع البشري، والنوع الأدنى الذي لم يبلغ حالة التحضر هو المجتمع البدائي، واقترح توينبي أنه قد يوجد نوع اجتماعي ثالث وهو المجتمع المتمايز عن الحضارة مثل تمايز الحضارة عن البدائية. ولم يتبن توينبي التمايز الكلامي بين “الثقافة” كمجتمع متقدم و”الحضارة” كمجتمع في حالة انحدار، فالحضارة والمجتمع عنده مترادفين.

والجدير بالذكر أن تصنيف توينبي للمجتمعات المتحضرة في التاريخ هو الأكثر اكتمالًا ودقة بين التصنيفات السابقة، فقد عرض يناءً قويًا لإجراء مقارنات ثقافية، كما كان يجري دائمًا تحسينات كلما اكتشف دليلًا أثريًا جديدًا، وأوضح أن الفترات الرئيسة لظهور وأفول الحضارة هي التكوين, والنمو, والتوقف والتفكك.

أولًا التكوين: رصد توينبي تحول المجتمعات البدائية من السكون إلى النهوض إلى الحالة الإنسانية بطريقة حركية، بما يرفعه لمستوى الحضارة.

ثانيًا النمو: استنتج توينبي أن التوسع الإقليمي ليس معيارًا لتقدم الحضارة، وافترض أن التكنولوجيا المتطورة دليل على النمو داخل الثقافة، لكن رغم تطور التقنيات في بعض المجتمعات الا أن الحضارة ظلت بها ساكنة، لذا صرح توينبي أن البهارج المادية للجنس البشري أشياء تافهة.

ثالثًا التوقف: حسب استعمال توينبي “التوقف” يعني فقط الخطوة الزائفة الأولى التي تضع الحضارة على طريق الانحدار والتردد والترنح للوصول إلى دعامة تقي من السقوط من فوق صخرة المنحدر الثقافي، وتكون النهاية لا للحضارة بل لمحاولتها الجريئة للصعود المستمر، ويحدث ذلك عندما يفشل المجتمع في الاستجابة للتحدي.

رابعًا التفكك: عقب توقف الحضارة يتفجر الخلاف والنزاع بين الطبقات السياسية والطبقات الاجتماعية وبين أفراد المجتمع، وهذا الانشقاق الاجتماعي الذي كان غائبًا في أثناء فترات النمو، يظهر في لحظة التوقف ويحطم الفصائل المتحاربة إلى ثلاثة أجزاء أشد عداوة: الأقلية المهيمنة، والطبقة العاملة الداخلية، والطبقة العاملة الخارجية. الأولى ستصبح ذات يوم الطبقة الحاكمة المبدعة، والطبقتان الثانيتان هما الأتباع المواطنون الأصليون والمتبنون. ويطلق على هذه المرحلة “زمن المتاعب”، وقد عانت جميع الثقافات من مرحلة الانحدار والتفكك المدمرة هذه.

وقد وجد توينبي أن الحضارات تنحدر بإيقاع منتظم، ولكنها لا تسقط في انحدار تحتي بشكل مستمر، فهي تنحدر في شكل موجات.

الفصل التاسع: احتمالات تقدم الغرب

أشار توينبي الى أنه يمكن إرجاع الصعود الحديث للغرب إلى التقدم التكنولوجي غير المسبوق، مما أعطى المجتمع هيمنة وسطوة على البشر، ومنذ الحرب العالمية الأولى فقدت الثقافة هذه الهيمنة لا في مجال التقنية وحدها بل في المجال العسكري والسياسي والاقتصادي.

وظل توينبي ممتنعًا عن إبداء حكم قاطع عن التساؤل “هل توقفت الحضارة الغربية بالمعنى الدقيق؟”, وأشار أنه على رغم تمييز ثقافة الغرب الا أن المجتمع يظهر أعراضًا حقيقية من التوقف والتفكك، لذا فالخطوة القادمة للثقافة هي دولة عالمية، ويعتقد توينبي أن حكومة واحدة توحد العالم بأكمله سيكون أمرًا محتومًا في المستقبل القريب. ولم يتفق توينبي مع شبنجلر أنّ عمر المجتمعات محدد وفناءه إجباري.

ولم ير توينبي أية أوهام حول وضع الدين في المجتمع الغربي الحديث، فقد رأى المسيحية وقد أخذت في الضعف بالفعل منذ زمن طويل، وعلى رغم ذلك فقد اعتقد أن ميلادًا جديدًا قد يهل وينقذ الحضارة، كما رأى أن وحدة الجنس البشري في ظل حكومة عالمية لن يكون ممكنا إلا بتأييد من الله. وفي حين يجمع الغرب الحديث ثقافات عالمية معًا في بوتقة سياسية واقتصادية وتقنية واحدة، فكذلك ستلتقي الأديان الرئيسية، فتندمج دون أن تفقد تنوعها، وسوف تستمر في انسجام كورالي يمكن كل البشر على اختلاف فكرهم بالدخول في مشاركة مع الله.

الجزء الرابع بتريم أ. سوروكين “المُحَلِّل المُعَلّم”

الفصل العاشر: سوروكين وأزمة الغرب

  قدم سوروكين دراسة تكون من أربع أجزاء بعنوان “المحركات الاجتماعية والثقافية” Social and Cultural Dynamics لتوضيح أزمة الغرب، وقد اعتبر هذا الكتاب من أعظم أعماله، فهو تحليل اجتماعي كامل للتاريخ.

لا تركز دراسة سوروكين علي الحضارات، فقد اعتبر الحضارة بعيدة عن كونها تشكل وحدة ثقافية، فلا تعتبر سوى مقلب نفايات ضخم ومعقد من عوامل ذات صلة وغير ذات صلة، فاتخذ سوروكين “أنظمة ثقافية” أساسية مثل الفلسفة والأخلاق وكيف ترتبط ببعضها البعض فيما أسماه “النظام الأعلى”، ويرى سوروكين أن النظام الأكبر في أوروبا في القرون الوسطى “تصوري”, أي لا تتكشف جوهر الحقيقة إلا بطريقة روحية، وتدور فيه المفاهيم حول الروح والعقل، الشيطان والخير والشر، وينظر إلى المعرفة من خلال التجربة الدخلية, الوحي الإلهي، الحدس، الإيحاء، واعتبر سوروكين أن القيم الروحية هي القيم الانسانية ويستوفي ذوو النزعة التصورية حاجاتهم بالابتعاد عن الدنيا إلى الله.

ميز سوروكين بين نوعين من العقليات التصورية: الزاهد: الأكثر تطرفًا الذي يرى الدنيا مجرد وهم، وقد سادت العقلية الزاهدة في المعتقدات الهندوسية والبوذية والمسيحية المبكرة والصوفية الإسلامية.

النشيط: يتفق مع الزاهد على المبادئ الأساسية لكن بدلًا من الانسحاب من الدنيا يعمل على تغيير أساليبه ويدافع عن النظم الدينية ومهنته أن يمد اليد للآخرين.

  من ناحية أخرى يتصور الحسيون أن الإشباع الأقصي للرغبات أفضل طريقة للمعيشة، ويعتبر الثراء المادي (السلع المادية، والسلطة، والشهرة) الوسيلة للرضا، وبذلك عندما تضيع الثروة تصبح القوة هي المتحكم الاجتماعي وأساس المعيشة الجالبة للسرور.

  لا يحمل الحسي أية قيم أخلاقية حقيقية، ويعتبر الحسيون أن التصوريين لم يتواجدوا في التاريخ إلا كحادثة شاذة، ولكن في الحقيقة هو نمط للمعيشة واسع الانتشار، وعلى الجانب الآخر اعتبر التصوريون أن الطرق الحسية خطأ وبدعة. وقد وجد سوروكين أنهما نمطان مختلفان للمعيشة ويقفان على أقطاب معاكسة ومتناقضة، ويظل كل نمط محتفظ بأساليبه وقيمه وغير راض على التعرف على النمط المعارض له.

وأوضح سوروكين أنه أحيانًا على مدار التاريخ يظهر نمط ثالث يدمج بشكل رائع طرق الحياة التصورية والحسية، ونتج عن هذا الاندماج نظام ثقافي ثالث أطلق عليه “الطور التكاملي”، وهو مصطلح يعبر كيف تتكامل القيم الثقافية الأساسية، وقد تعتبر الحياة التكاملية أسلوبًا وسطًا تحترم فيه كافة الجوانب الروحية والطبيعية والإنسانية، يبحث فيه الشخص عن تغيير نفسه وتعديل بيئته الخارجية، ويجد الإنجاز في الطرق الروحية والدنيوية معا.

الفصل الحادي عشر: التغير في الفنون

تناول سوروكين اختبار نظريته بدراسة صعود وهبوط أطوار الثقافة الكبرى الثلاثة في الفنون، وبدأ في تصنيفها طبقًا لسماتها تصوريًا أو تكامليًا أو حسيًا، ثم قارن سوروكين التغيرات في الفنون بالتغيرات في العقلية الثقافية. فقام بدراسة التصوير الزيتي والنحت والعمارة والموسيقى والأدب والنقد.

الفصل الثاني عشر: الحقائق المتغيرة

عندما كشف سوروكين عن ثلاثة عقليات أساسية تندرج تحت نظم الثقافات الثلاثة الكبرى أثبت وجود ثلاثة أشكال أساسية للحقيقة:

فالثقافة التصويرية: تقوم على الله والملائكة والأرواح، والبرهان الوحيد هو الكتاب المقدس الموحي به من السماء.

والثقافة التكاملية: تقوم على حقيقة العقل، وتتعلق بالأمور المتسامية وأمور الدنيا، وتُدرس الحقيقة بالاستدلال المنطقي واستكشاف العالم التجريبي بعلوم العصر مثل فلسفة أفلاطون وأرسطو في اليونان القديمة.

والثقافة الحسية: التي تعتمد على الحواس وتركز بشكل أساسي على العالم التجريبي، فعلوم الطبيعة هي الأساس لدراسة الحقائق.

ولكي يتتبع سوروكين أنواع الحقيقة الثلاثة في أوروبا قام بتحليلها إلى ستة اتجاهات رئيسية من نظرية المعرفة، وهذه الاتجاهات هي المذهب العقلي، التصوف، الإيمائية، التجريبية، الشكوكية، النقد.

 وقد استنتج سوروكين بعد هذه التصينفات الست استنتاجين، أولًا: الاعتقاد بأن الفكر البشري تطور من الإيمان إلى الرشد أو التجربية اعتقاد خاطئ، فقد كان التغير جزءًا فقط من تقلب الصور الأساسية الثلاثة للحقيقة. ثانياً: أن نظم الحقيقة شاركت الفنون في الثورة الكبرى من التصويرية إلى التكاملية إلى الحسية.

وفي تقدير سوروكين يجب على الأشكال الأساسية الثلاثة من إيمان وعقل وأحاسيس ألا يحارب أحدهم الآخر بل يجب أن تتعاون ويكمل بعضها البعض، فإن الثقافات التي قصرت أنفسها على وجهة نظر واحدة أفقرت وجهة نظرها بلا داع، فالاعتماد على الجوانب الثلاثة يدفع البشر إلى الاقتراب من الثراء المتنوع للحقيقة المطلقة.

اكتشف سوروكين أن توازناً لأنماط الحقيقة الثلاثة لم يحدث في أوروبا ولكن ثبت أن التيار الأقوى هو حقيقة الإيمان يليه مباشرة الحواس، وأخيرًا جاء على هامش صغير العقل، لكن في العصر الحالي كافحت الحواس لكي يكون لها الاحتكار الكامل والنظر إلى الإيمان على أنها خرافة والى العقل على أنه تخمين.

تحولات العلم:

جاءت التحولات الكبرى التي اكتسحت الثقافات من عصر لآخر بتغييرات واسعة في حقل العلوم الطبيعية، فقد أثبت سوروكين من خلال تحليلاته أن العلم قد تراجع في العصر التصوري، بينما ازدهر الاختراع والاكتشاف في العصر الحسي، وأشار سوروكين أن بالرغم من التقدم الهائل في القرون الأربعة الماضية إلا أن الاتجاه هذا لا يمكن استمراره ويبدو أنه يقترب من النهاية.

تسمح كل الثقافات بوجود أسباب للظواهر، ولكن يقع الاختلاف حول الأسباب وأين يجب البحث عنها، فالعقلية التصويرية تبحث عن السبب في العالم المتسامي، بينما تبحث العقلية الحسية فيما وراء تصورات الأحاسيس لتفسير السبب، بينما يبحث مفكروا العصور التكاملية عن السبب في كل المجالات المتسامية والتجريبية.

ومع أطوار الثقافة تتغير الأفكار حول الزمن، ففي عصر التصوري يميل الزمن إلى أن يكون مطلقًا ونوعيًا وغالبًا يعبر عن نشاط قدسي ويتسم بمساحات زمنية هائلة، فالزمن هنا مكافئ للخلود وبالتالي سيطمس الماضي والحاضر والمستقبل معًا. أما الزمن الحسي فهو كمي تمامًا يحدد الحركة والمدة والتعاقب في الوجود الدنيوي للإنسان، ويميل إلى الدقة والتقسيمات قصيرة الأجل.

الفصل الثالث عشر: الروابط الإنسانية المتغيرة

تحولات الأخلاق والقانون

-الأخلاق التصورية: أطلق سوروكين عليه (أخلاق المبادئ) واعتقد أنه نظام مطلق ثابت لا يخضع للنسبية انبثق من الله والمصادر المتسامية، يستخدم من أجل تقريب الأتباع وإنقاذ أرواحهم ولتوحيدهم بألوهية الله.

ساد هذا النظام في أوروبا الغربية من القرن الخامس حتى الخامس عشر، وقدمت المسيحية معيارًا أخلاقيًا حميدًا أطلق عليها سوروكين “أخلاق الحب”، حيث كانت قيمته الأعلى الإحسان اللانهائي من إله الحب وكان يتطلع إلى قيمة الإيثار من المسيحيين.

-التغيير الأخلاقي في العصر التكاملي: ظلت القواعد الرئيسية للأخلاق مقدسة ومطلقة، لكن المبادئ الثانوية تُركت لعقل الانسان، ولم تعتبر السعادة لذة بل نتيجة للمعيشة وفقًا للجانب القدسي من طبيعة البشر.

-الأخلاق الحسية: أطلق عليها سوروكين “أخلاق السعادة”، فهي من صنع الإنسان وهي نسبية متغيرة، تتغير الأخلاق فيها بتغير الظروف. وتؤسس الأخلاق فيها على اللذة البدائية فتقوم على متعة اللحظة كهدف أعلى للحياة.

وقد شهدت الأخلاق الحسية حالة انحدار مع مقدم العصر المسيحي، واختفت أخيرًا في القرن الخامس عندما حلت محلها أخلاق المبادئ والحب في كتابات ذلك العصر، ولكن سرعان ما عاد النظام الحسي مرة أخرى في القرن الخامس عشر، وقد رأى سوروكين أن الأنظمة الحسية في العصر الحديث أصبحت أكثر دينوية وشهوانية، فقد وجد سوروكين أنها سرقت من أمن الحياة وراحتنا ورفاهيتنا.

نال القانون أيضًا نفس النمط من التغيير، ففي العصور التصورية صنف الكفر وتدنيس المقدسات والبدع من الجرائم ضد الدين، بينما مال القانون الحسي نحو إلغاء معظم الجرائم ضد الدين والقيم، ثم التشديد على الجرائم ضد الراحة الجسمانية وقيم الملكية، وسمح بحماية خاصة للطبقة الحاكمة، وبصفة عامة يختلف شدة العقاب قليلًا بين أنواع الثقافة فقد كان القانون التصوري أكثر حدة لأنه شجع على سلوك أخلاقي أسمى، فقد تعتمد الشدة بدرجة أقل مع الثقافة حين تستقر، فكلما كانت الثقافة مستقرة تميل العقوبات للطف والاعتدال والعكس صحيح.

تحولات العلاقات الاجتماعية

لاستكشاف العلاقات الاجتماعية في التاريخ الأوروبي حدد سوروكين ثلاثة روابط أساسية تربط الناس بعضهم ببعض: الرابطة الأسرية، العقد المتفق عليه بدون قيد، والإكراه القسري.

-الرابطة شبه الأسرية: لاتقتصر فقط على قرابة الدم، فمن الممكن أن تحدث بين الأصدقاء، فهم يشتركون في البهجة والحزن والنجاح والفشل، ويساعدون ويدعمون بعضهم البعض.

-الرابطة التعاقدية: علاقة أكثر محدودية، تهدف إلى الكسب أو الفائدة الشخصية، أى أعطي لكي تُعطى، ولكن لكي تكون الرابطة حقيقية لابد أن تنطوى على حرية الطرفين وإلا تتحول العلاقة إلى علاقة إكراه.

-علاقة الإكراه: علاقة أحادية الجانب فالطرف المهيمن حاكم مطلق يمارس القوة، ولا يشعر فيها الطرفان بأي اهتمام برفاهية الآخر وأحيانًا يصل الأمر إلى حد العداء.

انتقل سوروكين من العلاقات الاجتماعية إلى أنماط الحكومة التصورية والحسية، والحكومة في الثقافات التصورية يستثني منها الأغنياء والأقوياء جسديًا، والمنظمون الاقتصاديون والسياسيون، وتبقى السلطة العليا في يد الحكومة الثيوقراطية، وتكون القوانين مطلقة باعتبارها صادرة من مصدر قدسي، ويجد فيها وسطاء الوحي والأنبياء أو القديسون مكانًا مهمًا في التنظيم السياسي. أما في حكومة الثقافة الحسية نجد من يستطيع تطوير القيم الحسية، ويكون هم الأغنياء والطبقة العسكرية وبناة الإمبراطورية وحتى المستغلون الاجتماعيون أو زعماء العصابات الإجرامية الأقوياء. بينما المراحل التكاملية فقد اختارت مزيجًا من شكلي الحكومة الرئيسية بالإضافة إلى عنصر علماني من الحكومة الدينية.

أما معنى الحرية لدي العقلية التصورية فهي ليست التمتع بالحقوق السياسية والمدنية ولا بالحريات الموضوعة في الشكل الدستورى، ولكنها بالنسبة لهم تلبية رغبة مساوية للمعيشة على حافة العبودية. بينما تنظر العقلية الحسية إلى الحرية على أنها اكتساب وسائل إرضاء الرغبات الحسية طويلة البقاء.

الحروب والثورات

أراد سوروكين التعرف على كيفية تزايد الحروب أو نقصانها من فترة لأخرى فدرس مدة الحروب وقوة الجيوش وعدد الجنود، وقد اكتشف سوروكين أن كل جيل تقريبًا شهد حربًا، فلم تظهر دولة في أوروبا سلمية، فلم تختلف نشوى الحرب بين الثقافة التصورية إلى الثقافة الحسية، ولكن يأتي الاختلاف في دوافع حمل السلاح. فقد كافحت المجتمعات التصورية من أجل أسباب دينية، بينما مالت المجتمعات الحسية للكفاح من أجل الحصول على مصادر طبيعية أو لزيادة مستويات المعيشة.

وبالانتقال إلى الثورات رأى سوروكين أن من المحتمل أن يشهد كل جيل اضطرابًا داخليًا أو أكثر لأسباب سياسية أو دوافع اجتماعية واقتصادية ودينية، وكما الحال في الحروب لا يمكن التنبؤ بالثورات في كل الظروف الاجتماعية، وقد بلغت الثورات ذروتها في عصور التحول الثقافي والاجتماعي، وكانت الفترة الأكثر عصفًا عندما تتغير الثقافة من شكلها التصوري إلى مرحلة حسية جديدة.

الفصل الرابع عشر: نحو حضارة جديدة

اكتشف سوروكين ثلاثة اتجاهات تتكشف في العصر الحالي، أولًا- إبداع ثقافي، ثانيًا: ثقافة حسية، ثالثًا: شتلات مبكرة لنظام ثقافي جديد صاعد ومتزايد ببطئ.

رأى سوروكين أن منذ بداية التاريخ حتى القرن الرابع عشر استقرت القيادة المبدعة للجنس البشرى في آسيا وشمال أفريقيا ومصر، وكانت شعوب أوروبا الغربية آخر من حمل مشعل الحضارة، ولكن على مدى العقود الخمس والست الماضيين استطاعت أوروبا أن تحقق تقدمات رائعة في الفنون والسياسة والاقتصاد والعلوم، وقد وجد سوروكين أن الثقافة الغربية في الفترة الأخيرة في طريقها إلى الانحدار والانكماش عقدًا بعد عقد، وبدأت تنمو في مناطق أخرى مثل روسيا الحديثة واليابان والصين والهند وإندونيسيا وبلدان عربية أخرى، وهي تمثل تطور اجتماعي وسياسي وعلمي وتقني, وبالتالي تمارس تأثيرًا جديدًا في الشئون الدولية وتصدر أديانها وفلسفاتها وفنونها وقيمها الثقافية إلى الغرب.

الأزمة والتحول

كتب سوروكين أن أزمة الثقافة في أوروبا حاليًا ليست إحدى الأزمات العادية التي تطرأ من وقت لآخر على أوروبا، ولكنها أحد التحولات العظمى في تاريخ الجنس البشرى، فقد وجه سوروكين انتقاده للثقافة الحسية التي حطمت العنصر البشري وبيئته، والتي جردته من القيم الأساسية، فقد تنبأ سوروكين بأن التحلل من القيم الثقافية والبشرية وباختفاء الرأي العام والضمير الاجتماعي ستفقد العقود والمواثيق قوتها، وسينهار المجتمع التعاقدي، وستنجرف الديمقراطية والرأسمالية، وستتحول الديمقراطية إلى أسطورة لدى معظم الناس، وستتساوى القوة مع الحق، وستندلع الحروب البشرية، وسيحدث تدهور اقتصادي وتنحدر مستويات المعيشة، وستزداد معدلات الفقر وبالتالي ستزداد معدلات الجريمة، وستصبح الراحة والسعادة أكثر ندرة، ومنه سوف ينشق المجتمع ويُستقطب، فيكون هناك حسيين متعلقين بالمتعة واللذة وفاسدين أدبيًا، وستخرج أقلية من القديسين وأنبياء الدين معارضون للتنديد بالقيم وستناضل لمدة طويلة، وفي النهاية يتضاءل القطاع الحسي ويفشل ويسود العنصر الجديد الصاعد.

من المحنة إلى الإحياء

لا تتوقع الدراسة نهاية للثقافة الغربية ككل، فأزمة العصر الحديث ما هي إلا مرحلة مؤقتة في عملية التجديد، فقد لاحظ سوروكين أن لن يترك الناس إلى الأبد في معاناة، فهناك عناية إلهية مرشدة كما شهدنا في العديد من عصور التاريخ، فبعدها تدخل المجتمعات فترة البعث، لذلك يرى سوروكين أن أبناء الثقافة الحسية الفاسدة بحاجة إلى تهذيب النفس، وأن تدخل القيم الروحية والأخلاقية حياتهم وثقافتهم، فبعد فترة من الانضباط سينشد الحسيون المحررون من الوهم إلى الثقافة التصورية ليتعلموا القيم والحقيقة، وكما رأى سوروكين فمن المنطقي أن تتبع المرحلة الحسية مرحلة تكاملية متوازنة، بالرغم أن الانتقال سيستغرق وقتًا طويلًا.

حذر سوروكين من الحرب الحديثة بتقنياتها المتطورة وتنبأ بوجود مادة تفجير بسيطة ستدمر العالم أجمع، وبعد ظهور القنبلة الذرية جدد تحذيره بأن النظام الحسي سيعرقل العملية المبدعة للبشرية، ووضع سوروكين في أوائل الأربعينات شروطاً لتقييد النزاعات المسلحة وإنشاء منظمة عالمية فعالة بين الأمم، فيجب التخلص من سيادة الدول في مسائل السلام والحرب، وأيضاً أن يحكم العالم حكومة عالمية واحدة.

وجد سوروكين أن الحاجة الأكثر إلحاحا في عصرنا هو وجود الرجل الذي يستطيع التحكم في نفسه ورغباته، يبحث عن القيم الأبدية للثقافة والمجتمع، فيمكن لمثل هذا الرجل أن يبني مجتمعًا وثقافة، وهذا التغيير الأخلاقي أعظم من أي تغيير تقني وعلمي، فبدون مبادئ أخلاقية لا يكون هناك إلا الضغينة.

ويمكن للدين أن يكون له دور في حالة أن تتعاون كافة المجموعات الدينية على تحول السلوك البشري والمؤسسات الاجتماعية والثقافية من خلال حب إيثاري، وهو ما وافق عليه الكثير من المعلمين الأخلاقيين أن الحب الايثاري هو الوسيلة لإعادة بناء الثقافة والمجتمع.

في خاتمة الدراسة أوضح الكاتب أن العديد من المفكرين يكتشفون انحدارًا في الثقافة الغربية، فالبعض منهم يأتي بأفكاره عن طريق الحدس، والبعض الآخر يستلهم الأنماط الموجودة في التاريخ أو الاقتصاد. كما أنهم يختلفون في مدى رؤيتهم، فالبعض يركز على التهديدات الوشيكة كالحكم الاستبدادي، ويصور آخرون عهد مظلم جديد من الدمار والفوضى، ويتخيل آخرون تفتح ونمو حضارة جديدة.

طبيعة الحضارة: اتفق المفكرون على رفضهم لتقسيم التاريخ لفترات قديمة ووسطى وحديثة، ووضعوا خطة مفصلة لمراحل الثقافة، وأقروا أن الثقافة قد تنقل إلي ثقافة أخرى بعض السمات فقط، لذا الحضارات لا تموت.

أنماط من الماضي: لا يبحث كُلّ المفكرين الاجتماعيين الذين يحسون بانحدار في الثقافة الغربية عن دليل من الأنماط من الماضي, لكن منهم من فعل ذلك مثل شبنجلر وتوينبي وسوروكين، وبرغم أهمية وجود الأنماط في التاريخ الا أن هدفهم لم يكن فقط الإشارة إلى ظاهرة في التاريخ بل ذهبوا لموضوعات حيوية لم يتصد لها أغلبية المؤرخين وعلماء الاجتماع.

كآبة أم تحذيرات: رغم أن المفكرين يدقون أجراس الإنذار حول الأخطار التي تلوح في المستقبل القريب والبعيد، لكن اتُهموا في رؤيتهم لانحدار الثقافة الغربية بالتشاؤم واليأس.

الانحسار يهل: أوضح الكاتب أن موت الثقافة البشرية مثل فناء أي شئ آخر, ولا يمكن إثباته حتى يحدث, وليس بوسعنا سوى دراسة البيانات وفحص الدليل، وهناك علامات كثيرة تدل على انحدار الحضارة الغربية رصدها المفكرون على مدار الدراسة.

مستقبل الغرب: لا يتوقع كل مراقبي الغرب المعاصرين سقوطها الوشيك، فيرى البعض مثل هنري آدمز, وبرديائيف, وسوروكين, النهاية وشيكة بينما يعتقد آخرون مثل شبنجلر وتوينبي, أن الثقافة قد تمضي متثاقلة لقرون, وإذا أنكرنا أن الغرب ينحدر فيمكن أن نتقدم ببساطة للأمام، ونثق في الثقافة التي تخبرنا بما نفعله.

عرض:

أ. أمل أحمد رمضان

ماجستير في العلوم السياسية من كلية الدراسات العليا الأفريقية، جامعة القاهرة.

عن أمل أحمد رمضان

شاهد أيضاً

دراسات حول الصهيونية

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

في الخطاب والمصطلح الصهيوني

الصهيونية وخيوط العنكبوت

الصهيونية والحضارة الغربية الحديثة

الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ

عن الحرية أتحدث

أ. رقية ممدوح الجعفري

تمر السنوات تلو السنوات ولا زال الإنسان يسأل نفس الأسئلة الكبرى، باختلاف الإجابات على مر العصور. ولكن من يتابع أخبار الشرق، يجد أننا ندور في حلقات مفرغة منذ عقود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.