نظرات في القرآن الكريم

نظرات في القرآن الكريم*

د. محمد عبد الله دراز**

القرآن في الأصل مصدر على وزن فعلان بالضم، نقول: قرأته قراءاً وقراءةً وقرآناً بمعنى واحد. وقد جاء استعمال القرآن بهذا المعنى المصدري في قوله تعالى: “إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرْآنه” [القيامة-17] أي قراءته.

ثم صار عَلمًاً شخصيًاً لذلك الكتاب الكريم. وهذا هو الاستعمال الأغلب، ومنه قوله تعالى: “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم”[الإسراء-9]. ويسمى أيضًاً الكتاب، ومنه قوله تعالى: “الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه” [البقرة-1،2].

وقد رُوعيَ في تسميته قرآنًا كونه متلوًاً بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًاً كونه مدونًاً بالأقلام. وفي تسميته بهذين الإسمين إشارًة الى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًاً، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول الينا جيلاً بعد جيل على هيئته التي وُضع عليها أول مرة. ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر.

وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءً بنبيها بقيَ القرآن محفوظاً في حرز حريز، إنجازاً لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر-9].

من خصائص القرآن البيانية

حديثنا الآن يجىء في شأن “الإعجاز اللغوي” للقرآن الكريم، واللغة ألفاظ. بيد أن هذه الألفاظ يُنظر فيها تارةً من حيث هي أبنية صوتية مادتها الحروف وصورتها الحركات والسكنات من غير نظر الى دلالتها، وتارةً من حيث هي أداة لتصوير المعاني ونقلها من نفس المتكلم الى نفس المخاطب بها، وهذه هي الناحية التي سنعالجها الآن، ولا شك أنها هي أعظم الناحيتين أثراً في الإعجاز اللغوي، إذ أن اللغات تتفاضل من حيث هي بيان أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس وأنغام.

أولاً- «القصد في اللفظ» و«الوفاء بحق المعنى»:

نهايتان كل من حاول أن يجمع بينهما وقف منهما موقف الزوج بين ضرتين لا يستطيع أن يعدل بينهما دون ميل ما إلى إحداهما:

فالذي يعمد إلى ادخار لفظه وعدم الإنفاق منه إلا على حد الضرورة لا ينفك من أن يحيف على المعنى قليلاً أو كثيرًا. ذلك أنه إما أن يؤدي لك مراده جملة لا تفصيلاً، فيكون سبيله سبيل من يقول في باب المحاجة: «صدَقوا، أو كذَبوا» وفي باب الوصف «حسن، أو قبيح» وفي باب الإخبار: «كان أو لم يكن» وفي باب الطلب: «افعل، أولا تفعل» لا زائد على ذلك. وإما أن يذهب فيه إلى شيء من التفصيل، ولكنه إذ يأخذه الحذر من الإكثار والإسراف يبذل جهده في ضم أطرافه وحذف ما استطاع من أدوات التمهيد والتشويق، ووسائل التقرير والتثبيت، وما إلى ذلك مما تمس إليه حاجة النفس في البيان، حتى يخرجه ثوبًا متقلصًا يقصر عن غايته، أو هيكلاً من العظم لا يكسوه لحم ولا عصب. ورُب حرف واحد ينقص من الكلام يذهب بمائه ورونقه، ويكشف شمس فصاحته. ورُب اختصار يطوي الكلام طيًا يزهق روحه ويعمي طريقه؛ ويرد إيجازه عيًا وإلغازا.

والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره؛ وإبراز كل دقائقه بقدر ما يحيط به علمه وما يؤديه إليه إلهامه لا يجد له بدًا من أن يمد في نفسه مدا؛ لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره، ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة. فإذا أعطى نفسه حظها من ذلك لا يلبث أن يباعد ما بين أطراف كلامه، ويبطئ بك في الوصول إلى غايته، فتحس بقوة نشاطك وباعثة إقبالك آخذتين في التضاؤل والاضمحلال.

عامة من نعرفهم من الفصحاء قدامى ومحدثين يُؤتون من هذا الجانب غالبًا، أعني جانب الإملال والإسراف، لا جانب الإخلال والإجحاف وأكثرهم تجمع بهم شهوة البيان إلى أبعد من هذا الحد، فمنهم من يذهب إلى التكلف والتفصح باستعمال الغريب من المفردات والتراكيب، فيكلفك أن تبدي وتعيد وتقبل وتدبر حتى تهتدي إلى وجه مراده. وهكذا لا يزداد كلامه بالبسط إلا ضيقًا عن الفهم. ومنهم من يلقى حول المعنى ركامًا من الحشو والفضول ينوء بحمله، أو يُلبسه ثوبًا فضفاضًا من المترادف والمتقارب يتعثر في أذياله. يحسب أنه يُوفي لك المعنى ويحدده، وفي الحق إنما ينشره ويبدده. ولعل أمثل هؤلاء طريقة من لو حذفت شطر كلامه لأغناك عنه ثاني شطريه.

ذلك على أن البلغاء مهما أوجفوا من ركابهم، ومهما اجلبوا بخيلهم ورجلهم لا يبلغ الواحد منهم بعمله غاية أمله، وإنما يصل كما قلنا إلى كمال نسبي “بقدر ما يحيط به علمه وما يؤديه إليه إلهامه فى الحال”، وآية ذلك أنك تراه حين تعقب كلام نفسه في الفينة بعد الفينة يجد فيه زائدًا يمحوه، وناقصًا يثبته. ولعله لو رجع إليه سبعين[1] مرة لكان له في كل مرة نظرة. وكلما كان أنفذ بصرًا وأدق حسًا، كان أقل من ذلك قناعة وأبعد همًا؛ إذ يرى وراء جهده غاية هي المثل الأعلى الذي يطمح إليه ولا يطاوعه، والكمال البياني الذي يتعلق به خياله ولا يناله (كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) [الرعد-14].

فإن سرك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على تمامهما بغير فترة ولا انقطاع، فانظر حيث شئت من القرآن الكريم، تجد بيانًا قد قدِّر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير، يؤدي لك من كل معنى صورة نقية وافية: «نقية» لا يشوبها شيء مما هو غريب عنها، «وافية» لا يشذ عنها شيء من عناصرها الأصلية ولواحقها الكمالية. كل ذلك في أوجز لفظ وأنقاه. ففي كل جملة منه جهاز من أجهزة المعنى، وفي كل كلمة منه عضو من أعضائه، وفي كل حرف منه جزءٌ بقدره، وفي أوضاع كلماته من جمله، وأوضاع جمله من آياته سر الحياة الذي ينتظم المعنى بأدائه.

وبالجملة ترى – كما يقول الباقلاني-: «محاسن متوالية[2]، وبدائع تترا».

ضع يدك حيث شئت من المصحف، وعد ما أحصته كفك من الكلمات عدًا، ثم احص عدتها من أبلغ كلام تختاره خارجا[3] عن الدفتين، وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعاني إلى ذاك. ثم انظر: كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله؟ وأي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك؟ فكتاب الله تعالى – كما يقول ابن عطية:- «لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب لفظة أحسن منها لم توجد[4]. بل هو كما وصفه الله (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود-11][5].

ثانياً- «خطاب العامة» و«خطاب الخاصة»:

وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس. فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب. ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم. فلا غنى لك – إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملاً من بيانك – أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى؛ كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال. فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك فيراها كل منهم مقدَّرة على مقياس عقله وعلى وفق حاجته فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم. فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، قهر متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القَرْءَانَ لِلذكر فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر) [القمر-17].

ثالثاً- «إقناع العقل» و«إمتاع العاطفة»:

وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان. وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها. فأما إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم. والبيان التام هو الذي يوفى لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معا.

فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟

لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غُلوا في جانب، وقصورًا في جانب. فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءً لعقلك. ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك. فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعُري ونبو عن الطباع. وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيًا أو رَشَدًا؛ وأن يكون حقيقة أو تخيلاً. فتراهم جادين وهم هازلون. يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويُطربون وإن كانوا لا يَطربون (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) [الشعراء- 224- 226].

وكل امرئ حين يفكر فإنما هو فيلسوف صغير. وكل امرئ حين يحس ويشعر فإنما هو شاعر صغير، فسل علماء النفس: هل رأيتم أحدا تتكافأ فيه قوة التفكير وقوة الوجدان وسائر القوى النفسية على سواء؟ ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فهل ترونها تعمل في النفس دفعة وبنسبة واحدة؟» يجيبوك بلسان واحدة: «كلا، بل لا تعمل إلا مناوبة في حال بعد حال، وكلما تسلطت واحدة منهن اضمحلت الأخرى وكاد ينمحي أثرها. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره، وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى هاتين الغايتين قصدًا واحدًا، وإلا لكانت مقبلة مدبرة معًا. وصدق الله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) [الأحزاب-4].

فكيف تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطلبتين على سواء، وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء؟ وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال. وأما أن أسلوبًا واحدًا يتجه اتجاها واحدًا ويجمع في يديك هذين الطرفين معا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقا وأزهارا وأثمارًا معًا، أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر، فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.

فمن لك إذن بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين. ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضى حتى هؤلاء الشعراء المَرِحين؟

ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عـن شـــأن. وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان. وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان ولا يبغيان. وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت ـ ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره[6] لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟

أو لا تراه في معمعة براهينه[7] وأحكامه[8] لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه) [الزمر-23]. (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) [الطارق-13، 14]

رابعاً- «البيان» و «الإجمال«:

وهذه عجيبة أخرى تجدها في القرآن ولا تجدها فيما سواه. ذلك أن الناس إذا عمدوا إلى تحديد أغراضهم لم تتسع لتأويل. وإذا أجملوها ذهبوا إلى الإبهام أو الإلباس. أو إلى اللغو الذي لا يفيد. ولا يكاد يجتمع لهم هذان الطرفان في كلام واحد.

وتقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من الشفوف، والملاسة والإحكام والحلو من كل غريب عن الغرض ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كدّ خاطر ولا استعادة حديث. كأنك لا تسمع كلامًا ولغات، بل ترى صورًا وحقائق ماثلة. وهكذا يخيل إليك أنك قد أحطت به خُبرًا ووقفت على معناه محدودًا، هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة، وكذلك… حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة[9] وجوهًا عدة. كلها صحيح أو محتمل للصحة، كأنما هي فص من الماس يعطيك كل ضلع منه شعاعًاً، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها، فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع. ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك رأى منها أكثر مما رأيت. وهكذا نجد كتابًا مفتوحًا مع الزمان يأخذ كلّ منه ما يُسر له؛ بل ترى محيطا مترامي الأطراف لا تحدّه عقول الأفراد ولا الأجيال.

ألم تر كيف وَسِع الفرق الإسلامية على اختلاف منازعها في الأصول والفروع؟ وكيف وسع الآراء العلمية على اختلاف وسائلها في القديم والحديث؟ وهو على لينه للعقول والأفهام صُلب متين. لا يتناقض ولا يتبدل. يحتج به كل فريق لرأيه، ويدَّعيه لنفسه، وهو في سموه فوق الجميع يُطلّ على معاركهم حوله، وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء وهؤلاء: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا) [الإسراء-84].

لعمري إن للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب تربيته معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات ومعجزات، وفي ترتيب آياته في كل سورة معجزة المعجزات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  منقول بتصرف من:
محمد عبد الله دراز. (2008). النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن الكريم/ تقديم عبد العظيم المطعني. الصفاة: دار القلم للنشر والتوزيع.

** أستاذ تاريخ الأديان بجامعة القاهرة، والتفسير بكلية دار العلوم واللغة العربية جامعة الأزهر، وفلسفة الأخلاق بكلية اللغة العربية.

[1] كما يروى عن زهير في تهذيب قصائده التي كان يسميها «الحوليات».

[2] أصل الكلمة «تتوالى» هكذا في كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، ولكننا نقلناها بالمعنى ولم ننقلها قصدًا الإصلاح خطأ مشهور بين المبتدئين، إذ يظنون كلمة «تترا» فعلا مضارعًا، وإنما هى اسم منصوب أصله وترا، أي متابعا. ولا يخفى أن جعل القرينة الأولى فعلا مضارعا من شأنه أن يقرر هذا الوهم في نفس الطالب فائرنا تعديلها على هذا الوجه مع التنبيه على ذلك.

[3] وكلام النبي وإن كان – لما أشربه من روح الوحي – أوجز وأفصح كلام تكلم به الناس، لا يبلغ في ر جازته واكتازه وامتلاكه بتلك الثروة المعنوية معشار ما تجده من ذلك في القرآن الكريم

[4] عن الإتقان.

[5] أول سورة هود (۱۱) – وأنت فأنعم النظر في هذه الآية الكريمة تجدها قد جمعت كل ما بسطناه في هذا الفصل بكلمتي (الإحكام) و (التفصيل) وأي إحكام وتفصيل؟ إحكام من (حكيم) متقن لا خلل في صناعته وتفصيل من (خبير) عالم بدقائق الأمور وتفاصيلها على ما هي عليه.

[6] اقرأ مثلاً سورة القصص وسورة يوسف عليه السلام.

[7] اقرأ مثلا قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ فِيهِمَا عَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَنَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (سورة الأنبياء ۲۱: ۲۲) وانظر كيف اجتمع الاستدلال والتهويل والاستعظام في هذه الكلمات القليلة. بل الدليل نفسه جامع بين عمق المقدمات اليقينية ووضوح المقدمات المسلمة ودقة التصوير لما يعقب التنازع من (الفساد) الرهيب. فهو برهاني خطابي عاطفي معا. هل تجد مثل هذا في كتاب من كتب الحكمة النظرية؟

[8] اقرأ مثلا قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرُ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى فَمَنْ عَفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتَّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانِ ذَلِكَ تَخْفِيفَ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة البقرة : (۱۷۸) وانظر الاستدراج إلى الطاعة في افتتاح الآية بقوله (يأيها الذينَ ءَامَنوا) وترقيق العاطفة بين الواترين والموتورين في قوله : (أخيه) وقوله: (بالمعروف) وقوله (باحسان)، والأمتنان في قوله (تخفيف مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَة) والتهديد في ختام الآية . ثم انظر في أى شأن يتكلم؟ أليس في فريضة مفصلة وفي مسألة دموية وتتبع هذا المعنى في سائر آيات الأحكام حتى أحكام الإيلاء والظهار. ففى أي كتاب من كتب التشريع تجد مثل هذا الروح؟ بل في أي لسان تجد هذا المزاج العجيب؟ تالله لو أن أحدًا حاول أن يجمع في بيانه بين هذين الطرفين ففرق همه روزع اجزاء نفسه لجاء بالأضداد المتنافرة ولخرج بثوب بيانه رقعا ممزعة.

[9] هذا مثل صغير: اقرأ قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب) (سورة البقرة: الآية ٢١٢). وانظر هل ترى كلامًا أبين من هذا في عقول الناس. ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة. فإنك لو قلت في معناها: إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه، ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر، ولا يحتسب، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت. ولو قلت يرزقه رزقا كثيراً لا يدخل تحت حصر وحساب أصبت. فعلى الأول يكون الكلام تقريرا القاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تحري وفقا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين. وعلى الثاني يكون تنبيها على سعة خزائنه وبسطة يده حل شأنه. وعلى الثالث يكون تلويحا للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدل عسرهم يسرا وفقرهم غنى من حيث لا يظنون وعلى الرابع والخامس يكون وعدًا للصالحين إما بدخولهم الجنة بغير حساب، وإما بمضاعفة أجورهم أضعافا كثيرة لا يحصرها العد. ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العاجب.

عن محمد عبد الله دراز

شاهد أيضاً

الخطاب الإلهي القرآني بين اللغة واللسان

د. سوسن الشريف

من أهم خواص القرآن أنه نص مطلق يستطيع الناس أن يفهموه في كل عصر، وفي كل مكان، بطريقة تجعلهم قادرين على معالجة مشكلاتهم انطلاقًا من هديه وتوجيهه.

في إعجاز القرآن

محمد الطاهر بن عاشور

لم أر غرضًا تناضلت له سهام الأفهام. ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى، مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن، فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.