مفهوم الشرّ وصناعة الخوف في عصر ما بعد الحداثة

مفهوم الشرّ وصناعة الخوف في عصر ما بعد الحداثة:

أفكار من كتاب “الشر السائل: العيش مع اللابديل”*

زيجمونتنت باومان *   

ليونيداس دونسكيس*** 

ترجمة: حجاج أبو جبر ****

كيف يمكن فهم مفهوم الشر على أحسن وجه اليوم؟ الشر السائل أو الشر في عصر ما بعد الحداثة يرتدي ثوب الخير والحب على العكس مما يمكن أن نسميه الشر الصلب القائم على رؤية اجتماعية ترى الأمور من خلال اللونين الأبيض والأسود، حيث يمكننا بسهولة تحديد ماهية الشر في واقعنا الاجتماعي والسياسي. بل إن الشر السائل يعرض نفسه كأنه تقدُم الحياة المحايد والمتجرد من الأهواء، وكأنه السرعة غير المسبوقة للحياة والتغير الاجتماعي مع فقدان للذاكرة الأخلاقية. كما أن الشر السائل يرتدي عباءة غياب البدائل وامتناعها.

إننا نعيش في عالم بلا بدائل، إنه عالم يفترض واقعاً وحيداً للجميع، إنه عالم يطلق كلمة (مجذوب)، وفي أفضل الأحوال كلمة (غريب الأطوار)، على كل مَن يعتقدون بأن كل شيء له بديل، بما في ذلك أفضل نماذج الحكم وأعمق الأفكار، فضلاً عن أفضل المشروعات التجارية والهندسية. وربما لم يتعرض العالم من قبل لمثل هذا الطوفان من المعتقدات القدرية والحتمية كما هو اليوم، علاوة على تحليلات خطيرة كما لو كانت من بوق يطلق نبوءات واحتمالات قوية لأزمات وأخطار وشيكة، وتدهور وسقوط تدريجي، ونهاية العالم. وفي هذا المناخ المنتشر من الخوف والقدرية يسود الاعتقاد بأنه لا بدائل للمنطق السياسي المعاصر ولا لاستبداد الاقتصاد، ولا للمواقف تجاه العلم والتكنولوجيا والعلاقة بين الطبيعة والإنسان

البدائل ممنوعة. وخصخصة اليوتوبيا يعني نهاية الحديث عن المجتمع العادل والصالح، فما من قصص عن النجاح سوى قصص الحياة الفردية. إن مارغريت تاتشر[1] هي من ابتدعت مقولة (لا بديل)، وهذه المقولة تصلح أن تكون نقطة انطلاق النقاش حول هذه الظاهرة غير المسبوقة والجديدة كل الجدة، وأعني بذلك الإيمان القاطع بالحتمية الاجتماعية والقدرية المتمركزة حول السوق. فالاختلاف الأساسي بين العقود السابقة والزمن الذي نعيشه هو أن القول الفصل لدى سيغموند فرويد كان (البيولوجيا هي القدَر)، وأن القول الفصل لدينا ربما يكون (الاقتصاد هو القدَر).

ترتدي الأشكال الجديدة للشر عباءة الخير والحب، فالشر لن يكون واضحاً ولا بديهياً بعد اليوم. فعمليات القمع السياسي الخفيف والانتهاك الخفيف لحقوق الإنسان والصراعات العسكرية الخفيفة، تطمس الحد الفاصل بين الحرب والسلام وتمحوه. الحرب هي السلام، والسلام هو الحرب. فلا الأخبار السارة ولا الأخبار السيئة تتسم بالوضوح. وحتى إذا لم تقع حرب ولا غيرها من الكوارث، فقد صار من المحال أن نناقش أية أخبار دون تعمد إثارة الذعر والهلع بوساطة صناعة الخوف. فما دامت الأخبار سارة، فهذا يعني أنه لا توجد أخبار؛ فالأخبار السيئة هي الأخبار الصحيحة.

إن غياب الأحلام والبدائل واليوتوبيات يمثل جانباً مهماً من سيولة الشر. فالحداثة فقدت الروح الإنسانية الدافئة التي يتسم بها الحلم اليوتوبي، فاليوتوبيات تُرجمت بفاعلية إلى أيديولوجيات سياسية، وتم تجريدها من الرؤى البديلة وحصرها في مبدأ الواقع بدلا من الخيال. فسيولة الشر تعني انفصال مبدأ الخيال عن مبدأ الواقع، حيث صارت الكلمة العليا لمبدأ الواقع.

على مدار قرون كان الشيطان هو رمز الشر وتجسيده، والشيطان القديم كان يمثل الشر الصلب مع منطقه الرمزي المرتبط بالبحث عن الأرواح البشرية والمشاركة الفعالة في الأمور الدنيوية والإنسانية. فقد كان الشيطان يسعى ببساطة إلى قلب النظام الأخلاقي والاجتماعي الراسخ ويبطل شرعيته. وهذا يعني أن الشر الصلب كان شراً ملتزماً بلا أخلاق. وأما الشر السائل فقد ابتكر نظرية الإغواء وفك الارتباط، فأبطال الشر السائل يسعون إلى تجريد الإنسانية من أحلامها ومشروعاتها البديلة وقوى الرفض والممانعة2.

لقد كانت الحداثة الصلبة تتعلق بغزو الأراضي واستغلالها، وأما الحداثة السائلة فهي لعبة السلطة على طريقة «الاستغماية»، سواء أكانت ضربة عسكرية متبوعة بانسحاب أم أية ضربة أخرى من أجل زعزعة الاستقرار. وهكذا، فإن الشر السائل، في صورة الحملات العسكرية، يتجه لضرب استقرار الاقتصاد والحياة في أراض أو مجتمعات بعينها من خلال إثارة أكبر قدر ممكن من الفوضى والخوف والقلق وعدم الأمان، عندئذ يظهر الإرهاب تعبيراً خالصاً عن الشر السائل. فالإمبريالية تتعلق دوماً بألعاب السلطة الصلبة، وأما الإرهاب فيتعلق دوماً بسيولة الشر.

لقد صارت حريتنا اليوم تنحصر في الاستهلاك والوجاهة، وفقدت الارتباط بأهم شيء، ألا وهو الإيمان بأنك يمكن أن تغير شيئاً في العالم. لقد كان هذا الإيمان صفة أنبياء الحداثة ومنظريها ومفكريها وكتابها. وأما الآن فقد اختفت اليوتوبيات العظيمة بأسرها. إننا نعيش في زمن الروايات الكئيبة التي ترسم الكوابيس المفزعة وتستشرف كوارث المستقبل، وإن كانت تلك الروايات قد تحولت بسرعة إلى موضوعات سهلة وبسيطة لأغراض الاستهلاك.

 إن الشعور بالحتمية والقدرية يعززه عجزنا عن فهم الأسباب والطرق التي تنهار بها النظم الاقتصادية وأسباب حصار الأزمات الاجتماعية لنا، كما يعززه اعتمادنا الكلي على أسواق بعيدة وتقلبات في أسعار العملات في بلدان بعيدة. وهذا الشعور يعزز الوهم بأننا كأفراد قادرون على تغيير الأشياء بردود أفعال تلقائية فحسب، كأفعال الخير والإحسان، والكلمة الطيبة والتواصل المكثف، فيبدو أن القضية الأساسية هي مزيد من العلاقات الإنسانية المكثفة. ففي أثناء وقوع البلاء يسود منطق الكرنفالات والاحتفال الجماعي، بل واللهو والعربدة ايضاً.

إن حريتنا اليوم تنحصر في الاستهلاك والوجاهة. وهكذا فإن السيطرة والمراقبة والقوة غير المتناظرة التي ترتدي عباءة حرية الاختيار، وصناعة الخوف، وألعاب فضح الخصوصية، كل هذه الأشكال يتألف منها المزيج المركب للوضع الثقافي والاجتماعي الذي نسميه مجازاً «اللابديل» و«الشر السائل».

الإنترنت والشر السائل:

المراقبة الخفية تؤسس لمنطق عدم توازن القوة، فلن تعرف أبداً مَن أكون، ومع ذلك فإنني سأعرف كل شيء عنك. فهناك وهماً متروكاً لموضوع الرغبة الغامضة لدى الأفراد بأنهم سيحصلون على أكبر قدر ممكن من الاهتمام. إن تعليقاً مجهولاً عبر شبكة الإنترنت ينشر أكاذيب خبيثة تجرحنا وتؤذينا ببشاعة وتهيننا بقسوة، إن هذا المجهول الإلكتروني إنما هو أقرب إلى تعبير مثالي عن سيولة الشر الفعال والمترسخ بشدة في واقعنا. (إنك لا تعلم مَن أكون).

ففي زمن بحثنا المؤلم عن الاهتمام وهوسنا بالظهور واستكشافنا لأنفسنا، فإننا نحتاج دوماً إلى وعد جديد ووهم أشد قوة بأننا نحن البسطاء يمكننا الفوز باهتمام العالم أيضاً. ليس فقط النجوم وقادة العالم، بل أنت أيضاً، أيها الإنسان البسيط يمكنك أن تكون مهماً لشخص ما بسبب الطريقة التي تظهر بها وتسلك بها وتحيا بها، أو بسبب ما تمتلكه أو تفعله أو ترغب فيه، أو لأنك وجدت شيئاً يثير الضحك أو يستحق العرض أو الحديث عنه، وهي الأمور البشرية والسهلة التي لا يصعب فهمها أبداً.

لقد صارت التكنولوجيا والشبكات الاجتماعية أشكالاً جديدة للسيطرة؛ فصار بالإمكان رؤية الجميع وهم جميعاً يكشفون عن أنفسهم، ويسجلون بياناتهم، ويشاركون في هذه السيطرة3. وينصب الجهد على طرق الإبقاء على كل فرد في حالة لا توجد فيها إمكانية إخفاء أي شيء عن الأجهزة المسيطرة للدولة. وهكذا تحتضر الخصوصية أمام أعيننا، بل لم يعد لها وجود، فلم يعد هناك من رسائل لا يقرؤها ولا يراقبها غرباء، أو أشياء كما يرد في الأدب الكلاسيكي، كان يحق للكائن البشري، بل كان من واجبه، أن يحملها معه إلى القبر. إن ما اختفى حقاً هو ببساطة ما كنا نطلق عليه حقاً وصدقاً كلمة (سر)، لقد صار السر إما بضاعة معروضة للبيع وسلعة تجارية وكلمة مرور إلى نجاح عابر لحظي، أو نقطة ضعف تعبر عن نقيصة على المرء أن يخفيها، ومن ثم التعرض للابتزاز والتهديد بالفضيحة وسلب البقية المتبقية من الكرامة والاستقلال. فلم يعد للناس أسرار بالمعنى القديم الشريف، بل ولم يعد الناس يفهمون ما يمكن أن تعنيه هذه الكلمة.

إن الناس يذيعون بحفاوة حياتهم الحميمة في مقابل الظهور العابر في بؤرة الضوء. وهذه الاحتفالات باستعراض الذات ليست ممكنة إلا في عصر الاتصالات السريعة المتغيرة، في عصر الاغتراب غير المسبوق. إن مَثَل الذين يعرضون أنفسهم على صفحات الفيسبوك كمثل أصحاب المدونات الغارقين في النرجسية، ينفسون فيها عن أزماتهم وإحباطاتهم، ومنهم من يحاول التغلب مؤقتاً على مشاعر العزلة وعدم الأمان. وبهذا المعنى فإن الفيسبوك هو ابتكار ذكي ظهر في أوانه؛ فعندما لم يعد للناس طاقة بمشاهدة التليفزيون السيئ ولا قراءة الصحف السادية، ظهر الفيسبوك إلى الوجود.

ولكن ظهر مع الفيسبوك إمكانات الخطر القاتل والشر المميت. فالفيسبوك يجسد جوهر ظاهرة (افعل الأمر بنفسك)؛ تجرد من ملابسك وأرنا أسرارك، وافعل ذلك بنفسك، وبإرادتك الحرة، واسعد بما تفعل، فعليك أن تفعلها بنفسك يا عزيزي.

ماذا حدث لخصوصيتنا؟ هذا هو السؤال الذي يشغل الناس بدرجة متزايدة هذه الأيام. فهناك سعي فردي من أجل عرض الذات وظهورها في عالم تزداد فيه وسائل التواصل الاجتماعي بدرجة غير مسبوقة. فلا يبدو هنا أن الدولة أو الشركات هي التي تُعرِض الخصوصية للخطر، بل الأفراد الأحرار المولعون بالظهور والاستعراض، والحريصون على الاستغناء عن فكرة الخصوصية تماماً وهم يشاركون الغرباء دقائق حياتهم الشخصية4.

ولكن ماذا يكشف كل ذلك عن مجتمعنا؟ إننا أمام استنتاجات مزعجة عن الحرية الإنسانية لا تقل عن إدراك مقيت، ولكنه وجيه، بأن البشرية جمعاء تصير إلى أمة محل إعجاب وتبجيل، على الرغم مما تلقاه من تشريد وامتهان، إنها أمة الفيسبوك. ففي العالم المعاصر، نجد أن الاستغلال عبر الدعاية قادر على اصطناع حاجات الناس ومعايير سعادتهم، بل وعلى اصطناع أبطال العصر والتحكم في خيال الجماهير عبر السير الذاتية الناجحة، وهذه القدرات تدعونا لوقفة نتدبر خلالها إمكانية وجود نزعة شمولية «ناعمة»، بمعنى شكل محكم من تزييف الوعي والخيال الذي يرتدي عباءة الديمقراطية الليبرالية بما يسمح باستعباد الناس والسيطرة عليهم.

إن الأزمة الحقيقية تكمن في سيطرة اجتماعية ومراقبة شاملة متزايدة تكشف عما حدث لسياسة تجاوزتها التكنولوجيا في السرعة وفي الأداء. وعلى المرء أن يستخدمها، والرفض يُلقي بالمرء بعيداً إلى هامش المجتمع بلا قدرة على العيش ولا مشاركة في النقاش.

 إننا أمام فراغ أخلاقي تخلقه تكنولوجيا قد تجاوزت السياسة. فالشر يقبع (ويُعبد سراً) وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نوجه ضربة للأخلاقيات، ذلك لأن التكنولوجيا تملأ الفجوات التي تتركها السياسة والأخلاق العامة؛ فما أن تتصل بشبكة الإنترنت، فإنك في حِل من الواجبات والتَّبعات، فالإعلام هو الرسالة، والعيش عبر الإنترنت صار حلاً للصراعات الأخلاقية لوجودنا الحديث.

إن مجتمع الإنترنت هو مجتمع يستحوذ عليه الخوف، وصار مكاناً مثالياً لكل ما يتعلق بصناعة الخوف والإثارة الممنهجة للذعر والهلع. إنه يبرز ويكشف صعود التكنوقراطية المرتدية قناع الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، فإن مجتمع الإنترنت والمجال العام يغذي تلك المكونات الضرورية للتكنوقراطية ويرعاها باعتبارها أداتية ومنفصلة عن القيمة في كافة تجلياتها. وفي تلك الثقافة التي يسودها الخوف الدائم، وإثارة الذعر والهلع والتعديل والتغير الدائم تتحول الضحالة إلى ميزة لا نقيصة. واقع الأمر أن ثقافة الخوف هي ثقافة الضحالة، ولكن الضحالة تسمى هنا خطأ باسم القدرة على «التكيف» و«المرونة» (كما تُسمى السطحية بساطة). وهذا يفضي إلى ممارسات مؤسسية ضحلة، وإلى ألعاب استراتيجية لانهائية خالية من المعنى، وإلى بلاغة فارغة. وتنفصل المفردات عن المفاهيم، وتنتهي إلى ألعاب لغة بلا معنى.

فقدان الإحساس أو العمى الأخلاقي:

 التعبير عن فقدان الإحساس أو العمى الأخلاقي يمكن أن يكون بالمفهوم النازي «الحياة عديمة القيمة»، وهذه عبارة نازية تشير إلى قطاعات السكان الذين لا حق لهم في الحياة، ففى أيامنا هذه نشهد إشارة حديثة للمناطق والبلدان التي لا حق لمآسيها في أن تصبح أخباراً عاجلة ولا حق للضحايا المدنيين ولا ضحايا الإرهاب والعنف السياسي في تغيير العلاقات الثنائية بين البلدان حفاظاً على مصالحها.

مثل أوكرانيا [والآن فلسطين] التي تمثل مسألة حاسمة فيما يتعلق بحسنا الأخلاقي والسياسي. فكم عدد الضحايا والمآسي التي نحتاجها حتى نفيق؟ ما العدد الذي لا بد أن تصل إليه أعداد الضحايا حتى نشغل الحس الأخلاقي المعطل؟ لقد صرنا نقول إن موت شخص واحد إنما هو مأساة، وأما موت ملايين الناس فهو عملية إحصائية. وللأسف فإن هذا القول أكثر من صحيح. فالصراع بين العمى الأخلاقي وقدرتنا على رؤية أفراد آخرين باعتبارهم كائنات أخلاقية لا وحدات إحصائية ولا قوى عاملة إنما هو صراع بين قوى الارتباط والانفصال والرحمة واللامبالاة، وتلك الأخيرة هي علامة تدل على الدمار الأخلاقي والمرض الاجتماعي.

يقول التاريخ السياسي إننا يمكن أن ننسحب من قدرتنا على التعاطف مع معاناة الناس وآلامهم، وفي الوقت نفسه يمكننا أن نعود إلى تلك القدرة. فإننا قادرون على اختزال الإنسان إلى شيء من الأشياء لا تبث فيه الروح إلا عندما نتعرض نحن أنفسنا أو أبناء وطننا إلى الكارثة نفسها أو العدوان نفسه. وتبرهن آلية الانسحاب والعودة على ما أصاب الحياة والكرامة الإنسانية الأصيلة من عجز وهشاشة وتقلب.

الخاتمة:

ما المتشائم؟ هو متفائل عليم هكذا يقول الظرفاء، أو إنه متفائل ذكي، كما يعتقد كثيرون. واليوم يُعتقد أن المتفائلين سطحيون وتافهون، بل وحمقى ومغفلون. ويبدو لنا أن العمق والحكمة إنما يوجدان في التشاؤم والنبوءات المنذرة بنهاية العالم؛ فالقصص المروعة التي تنتظرنا في نهاية الزمان صارت صناعة منزلية حقيقية للخوف، وهذه القصص ترتبط بقضايا المسؤولية والجدية والعمق، في حين أن التفاؤل يشبه التبسم الأبله الذي يبديه معتوه القرية عندما يفرح ويبتهج ويهلل لأن أشعة الشمس ذهبية والطماطم حمراء.

ليس التفاؤل افتراضاً أبله بأن كل شيء رائع، بل هو رؤية تقول بأن الشر إنما هو أمر عابر لا يقدر دوماً على تدمير إنسانيتنا، واعتقاد بأنه توجد دوماً بدائل. وأياً كان الأمر فإن التفاؤل لا يصدر عن سذاجة ولا عن سطحية فکر، بل عن حكمة وعن تجربة عظيمة. إنه الإيمان بأن العالم شيء أعظم مني ومن البيئة المحيطة بي، وأنه مشابه لي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن مجرد وجودي في العالم وإمكانية التفكير والشك لهما هبة تستوجب الشكر والتقدير، فوجودي في العالم وقدرتي على التفكر في موضعي منه هما شهادة على أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، وأما غيري فعليه أن يحل قضية خيره أو شره. ليس التفاؤل مسألة تاريخية وحسب، بل هو مسألة ميتافيزيقية أيضاً، وهو ضد القدرية وضد الحتمية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* زيجمونت باومان (2018). الشر السائل: العيش مع اللابديل. ط. 1. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر. ص ص. 23 – 37، ص ص. 192 – 202.

** بروفسير علم الاجتماع في جامعة ليدز (ومنذ عام 1990م أستاذ متقاعد).

*** سياسي وفيلسوف وأستاذ جامعي ومنظر سياسي من الاتحاد السوفيتي.

**** أستاذ الأدب والنقد بأكاديمية الفنون بمصر.

[1] رئيسة وزراء المملكة المتحدة من 1979 الى 1990، ورئيسة حزب المحافظين، وأول امرأة تولت رئاسة وزراء المملكة المتحدة، لُقِبت بالمرأة الحديدية.

[2] Vytautas Kavolis: “Moral Cultures and Moral Logics,” Sociological Analysis, vol. 38 (1) (1977), pp. 331-344; “Civilizational Models of Evil,” in: M. Coleman and Nelson and M. Eigen, eds., Evil: Self and Culture (New York: Human Sciences Press, 1984), pp. 17-35; “Logics of Evil as Secular Moralities,” Soundings, vol. 68 (1985), pp. 189-211, and Moralizing Cultures (New York: University Press of America, 1993).

[3] Zygmunt Bauman, Consuming Life (Cambridge, UK: Polity, 2007), and Zygmunt Bauman and Leonidas Donskis, Moral Blindness. The Loss of Sensitivity in Liquid Modernity. Cambridge, UK: Polity, 2013

[4] S. E. Igo, “The Beginnings of the End of Privacy,” The Hedgehog Review, vol. 17, no. 1 (Spring 2015), p. 18.

عن زيجمونت باومان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.