سمينار مناقشة كتاب “الحداثة السائلة”

سمينار مناقشة كتاب “الحداثة السائلة”

 تحرير: أ. منال يحيى شيمي

عقد مركز خُطوة للتوثيق والدراسات سمينار لمناقشة كتاب الحداثة السائلة لزيجمونت باومان بتاريخ 30 أغسطس و 6 سبتمبر 2018.

الأساتذة المشاركون:

د. شريف عبد الرحمن

أ. مدحت ماهر

أ. منال يحيي

أ. مهجة مشهور

أ. هاني محمود

أ/ مدحت:

السؤال الاستهلالي عند مناقشتنا لكتاب باومان “الحداثة السائلة” هو لماذا نحتاج باومان أو أمثاله لندرك ونفهم ظواهر نعيشها، هل لديهم قدرة وصفية وتشخيصية للأمور أكثر منا؟ أقول إن هذا صحيح، ولكن ليس بالدرجة التي تجعلنا نقول إن باومان عرفنا ما لم نكن نعرف، وأنه صاغ أشياء لم نصيغها، فهناك من صاغها بأشكال مختلفة.

فأنا أقول أن الحداثة كمشروع بدأت معنا بالاحتكاك الأوروبي- الإسلامي من خلال الحملة الفرنسية -كما يقال-، فبدأت التساؤلات وبدأت التشخيصات حتى من جانب الغرب نفسه في لحظة حداثته المبكرة، إذا أخذنا رفاعة عندما كتب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” فقد لخص باريس من أرضيتنا، وكان يقف على أرض لها صلابة ولكن ليست حداثة، وقد أتى منها بأشياء وناقش قضايانا بالاشتباك معها، ولكن حتى عندما نقرأ له “المرشد الأمين” أو “مناهج الألباب” نجده يتكلم كواحد منا، هناك أفكار دخلت في أعماله بدون إدراك حقيقي لها، وأفكار أخرى دخلت بوعي، فمن الممكن ان نقوم بنقد لرفاعة وأمثاله على الجزء اللاواعي منهم الذي تسرب إلى أعمالهم، وليس هناك مشكلة في ذلك، وكل شيء يمكن مناقشته.

لما نأتي لخير الدين التونسي حين كتب “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” قام بدراسة حوالي عشرين -أو ما يقارب- نظام حكم أوروبي وغربي (فرنسا – انجلترا – نيوزيلندا….) جغرافيا ونظم حكم ونظم إدارة، كتاب حجمه حوالي 700 صفحة، وبه مقدمة من 75 صفحة من منظور عربي عثماني إسلامي مقاصدي مالكي.

في المائة سنة الأخيرة بعد ثورة 1919، تغرب كثير من مفكرينا وبدأوا يتكلموا على الغربي وكأنه ليس غربا ولكن كأنه الإنسان المطلق، وسَموُا الأوضاع في الغرب بأنها التقدم، والآن الذي يعاني منه الغرب من ثمن التقدم كانوا يريدون ان يورثوننا إياه، ولكن حدث نوع من أنواع المقاومة عبر القرن العشرين.

 ولذلك وبالنسبة لطرح باومان نتساءل مرة أخرى: أين نحن من هذه الأسئلة وهذه العناوين؟ هل نستطيع أن نقول على أنفسنا أننا حداثيين؟ هل نعيش الحداثة الصلبة أم الحداثة السائلة؟ حقيقة الأمر أننا لسنا بمعزل عن الحداثة وأثارها وجزء من أفكارها، وجزء من ذلك التأثير يأتي بوعي وجزء آخر باللاوعي، ولكن بالأساس أفكارنا حداثية؟ بالعكس فنحن نعمل كمركز خطوة على مشروع كبير عن القراءات الحداثية، لأننا أدركنا أهمية هذه المشكلة.

آخر ما قرأت بالأمس كتابا أعطاه لي د. هاني بعنوان “مناهج التجديد في النحو والبلاغة والأدب”، في نهاية الكتاب هناك فصل عن الجاحظ، فكان رائعا في كتابه الحيوان وفي فقرته التي ذكر فيها مدى التشابه الشديد بين القرد والإنسان، لكنه أرجع هذا التشابه الى أسباب خٌلقِية وخَلقية ودينية، ولو كان كعلماء العصر لعذا ذلك لأسباب مادية وتطورية إلى آخره.

والآن نتساءل: أين ذهب بنا هذا الفريق (الحداثيين العرب)؟ هم قاموا بالتأثير على التعليم والثقافة والآن الإعلام في بلادنا، فأنشأوا أجيال بدأت بجيل الأفندية، وهذه نقطة مهمة جدا في كتاب عبير عبد الباقي عن طبقة الأفندية في التاريخ المصري، تلك الطبقة التي تحولت فيما بعد إلى النخب الموظفة التكنوقراط والنخب الجامعية والأكاديمية، ولم يكن هؤلاء يمثلون الأكثرية في المجتمع ولكن رغم ذلك فبوجودهم وجدت مساحة حداثة حاكمة في المجتمع متشربة في الثقافة بالضرورة إلا أجزاء منها، فلابد أن نحكي هذا لأن الآن عندنا إشكالية كبيرة في الأسرة، فحالات الطلاق الآن أصبحت تقع بمعدل واحدة كل 4 دقائق، هذا رقم من إحصائيات محكمة الأسرة، في السنة الواحدة هناك 28 مليون حالة طلاق وهي نسبة كبيرة جدا.

 إذن لابد أن أكون مدرك لمشاكلي لأدرك إن كانت سيولة أو صلابة أو حداثة أو شيء آخر،حتى لو كان هناك تشوه في المجتمع، لا أريد أن يكون تشوها على طريقة باومان، أي نذكر انه تشوه وفقط، ولكن يجب تشخيص هذا التشوه جيدا. ما هو مهم هو  ألا يقوم باومان بتسييل أفكارنا، فعندما نتعرض للسيولة التي يعيشها المجتمع الغربي نراها ونحن على أرض صلبة أو نبحث عن هذه الأرض الصلبة ونحن نراها وليس بالضرورة أن تكون هذه الأرض الصلبة هي الحداثة.

 وهو عنده عوار كثير جدا في إدراكه للعالم، نفس قصة هابرماس عندما ذكر المجال العام وأشاع المفهوم في العالم كما أشاع باومان مفهوم السيولة، فالناس تتكلم عن مجالاتها العامة وكأنها متصلة بهابرماس، وهو كان يقصد المجال العام البورجوازي الذي ظهر في القرن 18 و19 في أوروبا في ظل معطيات معينة عملت صلات ومؤسسات وتكوينات نقابية وحزبية، فكان هابرماس يتكلم عن موضوع غير ما شاع عنه. مثل من أتوا لنا بالمجتمع المدني وقلنا عن جمعياتها الأهلية جزء من المجتمع المدني، وقد اتضح فيما بعد أن الأمر مختلف، فلا يصح أن أذكر المجتمع المدني وأدرس به التاريخ الإسلامي مثلما أراد الحبيب الجنحاني وفشل، واتضح أنه مجتمع له خصائص غير الخصائص التركيبية والتصنيعية التي حدثت مع الحداثة الغربية.

لقد أطلت في تلك النقطة ولكني أردت أن أخرج منها بسطر واحد أقول فيه: عندنا واقع مختلف وعندنا مشترك أو متقاطع، وعندنا فكر ينبغي أن نراه. مرة أخرى بيجوفيتش الذي عاش في قلب الشيوعية وفي قلب الغرب عارض رؤية الإنسان والواقع من خلال الحداثة الصلبة وتداعياتها السائلة، فأنا أحرص على هذا الرجل وأري أن أقرأ باومان من بيجوفيتش، لأن عندما تكلم باومان عن العقل والإنسان والعلم تكلم عنها بسيولة، وعرضه لأفكار الآخرين في هذه الأمور ليس بها شيء متماسك، بمعنى ما هو العقل الذي أوجدته الاستنارة، كانت عقول وليس عقل واحد، فيوجد ناس ألَهت العقل، وهناك آخرون حولوا العقل إلى ديانة، وهذا تيار وصل لموت الإله ووصل للسوبرمان وهكذا. وهناك من تكلم في الحداثة برفق من نفس أهل الحداثة وناس تكلمت عنها بنقد مثل ماركس وغيره وناس تكلمت باعتبارها الدين الجديد وانتهوا بنهاية التاريخ مع الانتصار الليبرالي.

د/ شريف:

إن شاء الله نخرج من هذه الجلسة بعلم نافع ونحن نبتغي الفهم الذي يترتب عليه عمل ينفع الإنسان في دنياه وآخرته، والحكمة هي ضالة المؤمن الذي يبحث عنها فحيثما وجدها فهو أحق بها. أنا أرى أن باومان أو التيار النقدي الغربي هو أشد حنكة في توصيف مشكلات الواقع، أنا لم أكن مطلع الاطلاع الواسع مثل د/ مدحت على التراث العربي والإسلامي في القرن العشرين في نقد الحداثة، ولكن من خلال مشاهداتي البسيطة واطلاعي على كتب رفاعة كنت أفتقد للرؤية التحليلية، فكان رفاعة يعرض ملاحظات ومشاهدات وانطباعات ومقارنات سريعة، ولكن الشغل التأصيلي الذي ينتمي لعالم المفاهيم وعالم الأفكار ويحاول أن ينقد الفكرة من خلال استقصاء جذورها، فأنا أرى أن التيار الإسلامي أو الحركة الثقافية الإسلامية مازالت عيالا على الغرب في هذا المجال، هذه وجهة نظر شخصية. عند نقدنا للحداثة نلجأ دائما الى المفكرين الغربيين في هذا المجال فنحن ما زلنا لا نملك أدوات النقد الداخلي لهذا المشروع، فطول المعايشة أو الاستغراق في المشاكل تولد عندنا نوعين من الاستجابة، إما أننا لا نرى المشكلة أو أننا نتخيل أن المشكلة معروفة وحلها متاح ولا يحتاج الى مناقشته. كان الغرب في مرحلة من المراحل إمبريالي متآمر، وفي مرحلة من المراحل أصبح ليبرالي، لكن في كل الأحوال المشكلة تكمن في هذه البنية من الأفكار التي تضع العقل في المركز وتعلي قيمة الإنسان وتضعه في غير موضعه، وحتى هذه العبارة نحن نقتبسها من أساتذتنا الذين تعلموا على يد أساتذة المشروع النقدي الغربي.

أنا أشعر بنوع من الغيرة الشخصية تجعلني أطمح أن يكون لدينا جماعة بحثية مكافئة تمارس النقد التحليلي الدقيق للأفكار وتضع معاييرها الخاصة ولا تتسرع للوصول إلى حلول قبل أن تثبر أغوار الفكرة التي تريد نقدها.

 كنا في ندوة المسيري –التي نظمها مركز الحضارة- نتساءل: ماذا بعد المسيري؟ كما لو كان المشروع فعلا يحتاج إلى استكمال. أنا أعلم أن المسيري تأثر بباومان في أجزاء كبيرة من البنية المفاهيمية التي قدمها باومان، فقد استخدمها المسيري بعد ذلك ولكنه أضاف بصمته الخاصة بما جعل الفكرة من الأفضل والأنسب والأليق أن تنسب للمسيري ولا تنسب لباومان. فربما لحامل العلم من هو أعلم منه. فالمسيري والباحثين الذين تتلمذوا على كتبه مارسوا عملية الفرم والهضم، عملية تقديم الرحيق أو العسل المكتمل، فباومان -في أوقات كثيرة- يقدم لنا طعاما نيئًا، وهذا ما لم نجده عند المسيري في أي من كتاباته، دائما كانت الفكرة في أفضل أشكال الطهي وجاهزة للتناول مباشرة، أي أنها في أفضل مراحل النضج. فقد هذا ما نحتاجه. أنا لا أقصد هنا أن أعلي من باومان فالحقيقة أني كنت أقرأ باومان وأنا متضايق، وانتهيت من قراءة الفصل الخاص بي في هذه الندوة وأنا ضغطي مرتفع، فهو من الناس غير المريحة.

وأريد أن أؤكد على ملاحظة في شدة الذكاء من أ/ مدحت عندما ذكر أن أرضية باومان التي يقف عليها هي مرحلة ما بعد وستفالين، أي أن في رأسه أن المواطنة هي الحل، فمشكلة المجتمع الفردي هي أن ننتقل به مرة ثانية لمجتمع المواطنة وأن نستعيد للدولة دورها، وهذه هي الحلول التي لا يستطيع باومان أن يتجاوزها وهي التي تشكل أفقه، ولا يتخيل حل خارج هذا الإطار ولا يتخيل دور ممكن أن تمارسه النظرية النقدية بخلاف الدوران في هذا الفلك، مشكلته أنه قيد نفسه قبل أن يقيده أحد.

إذن نحن في حاجة أن نتعامل مع الأفكار من داخلها كما أننا في حاجة أن نطور الأدوات التي من خلالها يمكن أن نمارس مثل هذا النوع من النقد ونحاول أن نستوعب الأفكار قبل أن نحاول أن نصل من خلالها إلى تصورات بديلة أو رؤى مقارنة، وفي النهاية محتاجين أن نفهم ما بين أيدينا، فنتعاون مع بعضنا لكي نصل إلى هذا الفهم من خلال قصة هذا الكتاب بلغة يرجى أن تكون مفهومة.

يقوم باومان بتلخيص فكرته الأساسية في المقدمات، فهو يطرح في المقدمات ما يسميه قصة الانتقال بين المقدمات والنتائج أو قصة التوسع التدريجي المتواصل للمسافة التي تفصل الظرف الحياتي الحالي عن نقطة انطلاقه، ومثل ما قال أ/ مدحت نقطة الانطلاق بالنسبة له أنه في البدء كانت الدولة، لا يوجد نقطة انطلاق قبل ذلك، وباومان عنده حساسية تجاه ما يسميه الصور الفتوغرافية، وهو يريد أن يتتبع المشهد المتحرك (الفيلم السينمائي) ويقترح السيولة كإطار نظري أو كنموذج تفسيري لفهم نمط الحياة التي نعيشها في الوقت الراهن وتوصيف حالة الإنسان المعاصر.

ما هي السيولة؟ كنا ندرس مع زملائنا في دورة المنهجية أن الأُطر النظرية قد تتوسع أو تتضخم لتصل إلى درجة المنظور، فيبدأ الكاتب باستعارة منظور واستخدامه كإطار نظري أو قد يتقلص المنظور ليصير مفهوما. فهو في هذه الحالة يستخدم السيولة كمفهوم ويحاول أن يستخدمها كإطار مظلي يفهم من خلاله الموضوع فيطرحه كإطار نظري أو نموذج تفسيري.

السيولة عند باومان هي عدم القدرة على الاحتفاظ بقوة تماسك بين المكونات في حالة السكون ومن ثم يتغير شكل السائل باستمرار ويدخل دائما في حالة من حالات الحركة التي يحتفظ من خلالها بالحالة المتماسكة.

إذن السيولة هي عدم القدرة على الاحتفاظ بقوة تماسك بين المكونات في حالة السكون ومن ثم يتغير شكل السائل باستمرار ويدخل دائما في حالة من حالات الحركة التي يحتفظ من خلالها بالحالة المتماسكة.

بالتالي تعاني السيولة من مشكلة مع المكان وعندها حالة ألفة مع حالة الحركة أي عندها ألفة أكثر مع الزمان، فالسيولة تتحقق من خلال الزمان وتعادي المكان لأنها لا تحتفظ بشكل محدد لفترة طويلة، وهي مستعدة بشكل مستمر أن تغير من شكلها، ومن ثم فإن جريان الزمن هو أهم من الحيز الذي تصادف أن تشغله السوائل، أي أهم من المكان أو اللحظة أو الصورة الفوتوغرافية. الزمن يشكل معنى مهم جدا في إطار الفكرة الحداثية، فالحركة هي الأصل، وهذا هو المعنى الذي استبطنه المهاجر الأمريكي وهو يستكشف ما يسميه العالم الجديد، إذ كان يتغلب على مشاكل المكان بالحركة وليس بالتوقف امام النقطة التي يواجه فيها المشكلة، فهو لا يراهن على المكان بمعنى أنه لا يعتبر أن الحل يوجد في هذه النقطة دون غيرها، فهو كان يتحرك من خلال المكان ويوظف عنصر الزمن لصالحه، فيقولوا أن الأمريكي عندما كان ينزل على السواحل الشرقية لأمريكا الشمالية ويجد أن قبيلة ما تعترض تقدمه ما كان ليتوقف ليواجه عناد هذه القبيلة، ولكنه كان يتحرك إلى الغرب فيكتشف مساحات اكثر سهولة في احتلالها، فكان يتحرك عبر المكان لا يتشبث به ويستفيد من سيولة الزمان في بناء التشكيل الحضاري الذي هو قبلة الحداثة.

 يجد باومان أيضا أن مفهوم السيولة يعطي مرونة كبيرة في التحليل، لأنه يسمح بأن يتحرك مفهوم الموانع -كما ذكر- بخفة، وكان المترجم موفقا في اختيار المرادفات الكثيرة لهذا المفهومن فهو يقول أن الموانع تجري وتنسكب وتنساب وتتناثر وتنهمر وتتسرب وتفيض وتتقطر وتنز وتسيل، فهناك ترادفات كثيرة جدا تعبر عن حالة من الحيوية، فالشيء السائل هو الشيء الحي فلا يسهل إيقافه كما هو الحال مع المواد الصلبة.

كيف يناسب مدخل السيولة الموضوع محل الدراسة؟ أو لماذا السيولة؟

هو يعلل ببساطة ذلك أن المقولات الصلبة لم تعد تصلح لفهم ما يمر به الإنسان المعاصر، ما يسميه باومان “مرحلة خلو العرش”، وهي المرحلة التي تشهد انفصال بين العقل والجوارح، القدرة على التفكير والقدرة على التصرف، السياسة والسلطة، القدرة على الاختيار والقدرة على الفعل، هو يذكر ان هناك انفصال بين كل هذه الثنائيات، فالقدرة تتحرك بلا عقل، والسلطة تتصرف بلا سياسة، والفعل يكون بغير مفاضلة أو مقارنة ببدائل أخرى مختلفة. هنا يتم الانتقال من السياسة أو من الواقع الذي كان قد تم تنميطه ومن ثم كان فيه معنى الصلابة بشكل ما إلى الواقع الذي لم يتم تنميطه بعد وفي حالة من السيولة أو المرونة.

أيضا من مظاهر السيولة للمرحلة المعاصرة افتقار الِوجهة التي يتحرك المجتمع نحوها، يقول باومان أن المجتمع الحداثي بعد أن وضع التقدم كغاية محركة لقوة المجتمع، لم يتفق على إجابة السؤال: ” نحن نتحرك لكي نصل إلى ماذا؟”، فنحن نتحرك إلى الأمام بشكل مستمر ولكن دون أن نحدد لنفسنا نقطة نعتبر أن الغاية قد اكتملت عند بلوغها، وهذا ما وصفه البعض في بداية التسعينات بنهاية التاريخ، واتضح فيما بعد أنه لم يكن نهاية التاريخ، فمازالت الحضارة في حاجه إلى غاية تتحرك من أجلها، فكأن الحضارة قد افتقدت هذه الغاية، فدخلت في مرحلة سيولة على مستوى تحقيق الغايات. لم يعد هناك نموذج لفكرة المجتمع العالمي، لم يعد مفهوما بدقة ما شكل المجتمع العالمي المستهدف، ففي اللحظة التي كان المجتمع مؤهلا فيها إلى العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي خرج علينا الفكر الحداثي يتحدث عن الصراع بين الحضارات ويتحدث عمن نحن ويتحدث عن الخصوصيات الثقافية وإلى آخره. يمكن القول أيضا أن الاقتصاد العالمي يعاني من نفس الإشكالية، فلم يعد هناك نموذجا واضحا ممكن أن يبلور الفكر الاقتصادي، كذلك بالنسبة للسياسة العالمية والانتقال من حدود الأمة إلى النطاق العالمي، لم تعد له خطوات واضحة يمكن اتباعها وصولا إلى هذه الغاية.

إذن آفة الحداثة من وجهة نظره أنها تشير إلى عملية لا غاية نهائية لها، مجرد مجموعة من العمليات الهشة والعابرة القابلة للتغير الدائم مستسلمة لسيرورة مستمرة ترفض الاكتمال أو التعريف التام والنهائي، يغيب شكلها دوما وتعتبر اللايقين هو اليقين والمرونة هي الثبات والزوال هو الدوام إلي آخر هذه المترادفات.

إذن الحداثة لم تحقق النظام الذي ارتأته، ومن الأساسيات التي يؤكد عليها باومان في المقدمة  “إن الحداثة السائلة ليست مرحلة جديدة ولكنها الشكل الجديد الذي أخذته الحداثة بعد أن فشل المشروع الحداثي الصلب في أن يحقق النظام الذي ارتأه على الوجه المطلوب”، بمعنى أن الحداثة بشكل أو بآخر كانت تستهدف تثبيت الأوضاع أي تفكيك أوضاع قديمة من أجل إعادة تشكيل أوضاع أكثر صلابة وثباتا في المستقبل، فإذا بها لم تنجح في تحقيق هذا الهدف فدخلت في مرحلة من السيولة المزمنة، لم تقد إلى نهاية التاريخ ولم تحقق النظام الصلب الذي وعدت به، لم تنجح في تحقيق الفردوس الأرضي، ولم يستمر النمو الاقتصادي، ولم يتحقق التصور الخطي الغائي للتاريخ، كل هذا على مدار قرنين من الزمان، فانعكست العلاقة وصار المجتمع يتعايش مع المرونة، ويتخلص من الثبات، يحترم قواعد اللعبة التي لا تدوم أطول من زمن اللعبة، بل أحيانا يحترام قواعد اللعبة التي لا تدوم وتنتهي قبل أن تنتهي اللعبة نفسها.

إذن وكأنه حدث انتقال من مرحلة الاستنارة التي كانت تستهدف الوصول إلى المُنتِج أو المُنتًج  المثالي إلى مرحلة السيولة التي تستهدف الوصول إلى المستهلك المثالي، مستهلك نهم لا يمكن إشباعه أي أنه لن يصل أبدا إلى مرحلة ال saturation أو الاكتفاء. فالهدف هنا هو الوصول بالمستهلك الى النهم الدائم، وكما ذكر في آخر الفصل أنه بعد أن كان المواطن يمارس الرقابة على السُلطة أصبح المستهلك يمارس الرقابة على السوق، بمعنى أنه دائم الاطلاع على مواعيد الأوكازيونات، أصبح هذا هو أفقه الجديد.

إذن هذه هي حالة السيولة التي يتحدث في إطارها باومان. حتى أنه يذكر عبارة لطيفة شعرت أنها منطبقة علي في وقت من الأوقات: “النخب المتعجرفة تحتقر الأشياء التي تتميز بطول البقاء فيما يهتمون بالأشياء العارضة سريعة الزوال، بينما من هم في أدنى السلم الاجتماعي يجاهدون بكل ما أوتوا من قوة لإجبار ممتلكاتهم القديمة للبقاء لفترات أطول”، فعند عودتي من السفر قمت بشراء السامسونج النوت 8، كنت وقتها متخيل أني لن أحتاج لشراء أي موبايل آخر، فقد دفعت 6 الاف جنيه في موبايل به كل المواصفات الللازمة، وبالتالي فيجب أن يستمر معي طويلا، ولكن اكتشفت أني أفكر بشكل لا يتلاءم مع حالة السيولة التي أصبحت تميز السوق الاستهلاكي وتشكل ملامحه والتي على أساسها يتم احتقار الأشياء التي تتميز بطول البقاء. فهذه سيولة مقيتة فعلا لأن الإنسان يحتاج أن يتماهى مع واقع غير عقلاني، فهو واقع يتميز بنهم بلا شبع.

 استخدم باومان أيضا في ثنائية السيولة والصلابة تشبيه فيه معنى البداوة أي معنى الانتقال، فالمعروف دائما أن الحضارة مرتبطة بالاستقرار وأن الحضارات قد نشأت على ضفاف الأنهار لوجود معنى الاستقرار بما يسمح بإمكانية التراكم والبناء على ما قام به الأقدمون، هذا كان مفهوم الحضارة في ذهننا، ولكن المفهوم الحديث للحضارة أصبح مرتبط أكثر بالقابلية على التنقل ورفض التمسك بالمكان، من هنا فقد أسماها باومان النخب البدوية، فهذه النخب لا تستقر بشكل دائم بجانب ما تملكه ومن ثم تستطيع أن تحكم وتسود من دون أن تثقل كاهلها بأعباء الإدارة المتعلقة بتصريف شؤون المكان التي تقيم فيه، هذا يعيدنا إلى الإمبريالية وما بعد الإمبريالية، بمعنى إمكانية الاحتلال عن بعد، فقد رأى المحتل القديم عدم جدوى وجوده في البلد المحتل بما يفرض عليه التزامات إدارة مرافقها الأساسية كالصرف الصحي والمواصلات والصحة والتعليم وغيره، فقد جاء للاحتلال وليس للخدمة، فأصبحت السيولة حل لهذا الوضع، فالمحتل لا يريد الا خيرات المكان دون أن أن يتحمل عبء هذا المكان.

كل هذا كان في مقدمات الكتاب التي جاءت في50 صفحة.

أ/ منال:

أنا شعرت أنك دخلت في الفصل الذي أنا مسئولة عن عرضه والذي يتكلم عن الزمان والمكان.

د/ هاني:

هذا شيء لاحظته في باومان، الأفكار الرئيسية تتكرر في كل فصل مع تطبيقات وأمثله جديدة. الأمر الثاني ولا أعلم إن كانت ميزة أم عيب، فهو يجزئ الفكرة على أكثر من فصل، وفي بعض الأحيان تشعر أن التفصيلات المذكورة في فصل كان من المفروض أن تكون في فصل أخر، مثلا فكرة “مصنع فورد” شعرت أنه في كل فصل يذكرها، على الرغم أني أعتقد أنها كان يجب أن تذكر في فصل العمل ولكنه ذكرها في الفردية كنموذج للحداثة الصلبة.

د/ شريف:

سأتوقف هنا لأشير فقط الى فكرة أساسية جاءت في مقدمة باومان هي أنه إذا كان الانتقال حدث من الصلابة إلى السيولة، فان أول ما استهدف من البنية الصلبة هي بنية الولاءات التقليدية، هذه الفكرة كان أول من قرأتها عندها هي الدكتورة هدى حجازي زوجة الدكتور المسيري، فكانت تعرف الحداثة أنها فكرة استبدال الولاءات التقليدية بولاء وحيد للدولة وهو ولاء المواطنة، وهو تعريف أعتبره جامع مانع لأن فكرة المواطنة فعلا هي أن يتخلى الإنسان عن كافة أشكال الولاءات للأسرة وللعائلة وللقبيلة، ويعتبر أن ولاءه الوحيد هو للدولة، ومن ثم يخاطب الدولة والدولة تخاطبه بدون أي وسائط، يقول باومان أن فكرة الولاءات التقليدية والواجبات والحقوق المعهودة تغل الأيدي وتقيد الحركة وتكبح زمام المبادرة والإقدام، فقد نظر مثلا الى الواجبات العائلية وكأنها نسيج كثيف من الالتزامات الأخلاقية التي تعوق المبادرات والفرص.

  وفي المقابل تم فتح المجال أمام الوصلات المالية، أصبح هناك علاقات تقوم على رأس مال والمبادرات التجارية والصناعية، تلك العلاقات التي ستعيد تشكيل الروابط التي تقوم عليها المسؤولية المشتركة بين الأفراد في المجتمع، ذلك أدى الى تذويب للأسرة وهذا ما ربطه باومان بفكرة الحب السائل والحياة السائلة، فكرة تذويب العلاقات أن الناس يجدوا أنفسهم فرادى في المجتمع، كلٌ عليه مسؤولية نفسه، لا يوجد أطر مرجعية يمكن أن ينتمي إليها الإنسان أو يحتمي بها في لحظات الخطر الاجتماعي، ليس هناك ركن شديد يحتمي به الإنسان، فقد تم تذويبه ويترك الإنسان في العراء، والوصلات التي تربط الناس حاليا هي وصلات المال والتجارة.

هذه كانت الأفكار الأساسية التي جاءت في المقدمات، وهي لم تكن مقدمات بالمعنى المتعارف عليه ولكن كانت فصل من فصول الكتاب.

أ/ منال:

أنا أيضا خرجت ببعض الأفكار من المقدمات سوف أقوم بتلخيصهم سريعا.

 أولا السيولة والصلابة ليستا ثنائية متعارضة، وإنما السيولم ما هي الا الإبنة الشرعية للصلابة. كما قال باومان أن الصلابة هي حالة الحداثة والسيولة هي مرحلة ما بعد الحداثة، وهم حالتان متلازمتان.

شيء أخر أراه مهم جدا أنه لم يكن السبب الأصلي وراء ذوبان المراكز الصلبة هو مسألة عداوة للصلابة بحد ذاتها، بل حالة من عدم الرضا بدرجة الصلابة التي اتسمت بها تلك المراكز الصلبة المتوارثة، فهي لم تكن صلبة كما ينبغي. ولذلك ذكرت لأستاذ / مدحت أنه هكذا يتجه باومان نحو الإيمان.

أ/ مهجة:

كيف يمكن فهم هذه العبارة ؟

أ/ منال:

في البداية قام الإنسان في مرحلة الحداثة بالانفصال عن الكنيسة، وعندما أسقط المطلق لجأ الى إنشاء مراكز صلبة جديدة، ثم اكتشف أنها لم تكن صلبة بما فيه الكفاية، لأن المطلق الوحيد قد تم حذفه وإلغائه، فكل المراكز الصلبة أو التي ظن الإنسان أنها كذلك كانت تستمد صلابتها من المطلق الأساسي، والذي عندما أعلن وفاته أو عدم وجوده فقد تم إعلان -كما ذكر المسيري- وفاة الإنسان نفسه، فبالتالي كل المراكز التي كنت تظنها صلبة لم تكن كذلك وقد أعلنت حالة السيولة من ذلك الوقت.

أ/ مدحت:

أنا في رأي أن الدكتور المسيري لم يذكر باومان رغم الاستفادة منه من أجل هذه النقطة، ففي النهاية باومان علماني، كذلك رغم كل النقد الرائع الذي تقدمه مدرسة فرانكفورت الا إنها تنطلق من أرضية علمانية.ود. المسيري لا يريد أن يصطدم مع أولئك الذين قد أخذ منهم الكثير، استفاد دكتور المسيري استفادة هائلة جدا من مدرسة فرانكفورت ومن باومان وقام بإنضاج أفكارهم بألفاظهم الخاصة “المجتمع التراكمي / المجتمع التعاقدي”، ولكن في النهاية يريد أن يقول أن رغم قولي بما تقولونه ولكن أزمتكم أنتم هي العلمانية.

د/ شريف:

يجب دراسة هذه النقطة عند باومان. أنا ترددت كثيرا أن أصفه مباشرة بالعلمانية لأنني عندما راجعت أرائه في الحداثة والهولوكوست وجدته يذكر أن الحداثة العلمانية لم تقضي تماما على الميتافيزيقا، بل استبدلت بها مقولات ميتافيزيقية جديدة، وهي تمثل صلابتها، وتدعي امتلاكها الحق في احتكار الحقيقة والوجود. يقول باومان: الإله يرمز إلى فكرة الواحد الأحد، إنه يتخذ مقولة لا تتخذ إله غيري. وقد استبدلت هذه المقولة في إطار الحداثة العلمانية بمقولة شعب واحد أحد، مملكة واحدة وحيدة، علم واحد وحيد، حزب واحد وحيد، حكم واحد وحيد، خط واحد للتقدم، طريق واحد للإنسان، أيديولوجية علمية واحدة، معنى صحيح واحد وفلسفة صحيحة واحدة.

 إذن كان باومان واعي بفكرة استبدال المراكز المطلقة بأخرى نسبية، أصل جذور اليهودية تجعل العلمانية فيها معنى علمانية منافقة، هو يظهر العلمانية ويستبطن معنى الإيمان بشكل أو بآخر. نحن في حاجة لدراسة الفكرة الذي يعبر عنها باومان، فكرة التدين بشكل مطلق للفكرة العلمانية.

أ/ مدحت:

هناك نوع من العلمانية  -بدأت بالفعل في مصر- وهي “العلمانية المستغنية” التي لا تدخل في الدين ولكن تقول لا تعترض عليه.

مثلا مصطفى النحاس كان يصلي في الحسين، لكن عندما قالوا له شعار الحزب “الله الوطن الملك” قال إيه اللي جاب الله هنا؟ لم يشعر مطلقا بعدم جواز مثل هذا السؤال. هو لم يكن كافرا أو ملحدا، ولكنه كان يتصور أن الدين أن نصلي الجمعة في الحسين وانتهى على ذلك. فربما بومان الذي ولد لأبوين يهوديين بالاسم، بمعنى أنهما علمانيين، وكان أبوه يتعامل مع قضية إسرائيل باعتبارها ملجأ مما يعانونه، لكنها ليست قضية دينية أساسا عندهم. فأنا أقصد أن هذا النوع من العلمانية يكون حاجزا للوصول للإيمان.

وقد ذكر المسيري “الله” على أنه تعالى مفهوم “التجاوز”، فنقل القضية إلى معنى وليس إلى ذات، وهذا بالطبع نتيجة ضغط البيئة.

السؤال هنا: هل باومان أفاد الدين في شيء؟  هل ذكر في كتاب الحداثة السائلة الدين كواحد من المتغيرات التي إهمالها أو إعمالها مؤثر؟ لا أظن ذلك.

د/ شريف:

ذكر باومان ذلك ولكن في كتابات أخرى، فأنا أرى من باب العدالة أن نذكر ذلك لتكتمل الصورة عندنا، فباومان كان واعي بفكرة أن تصبح سلطة المجتمع هي مركز الوجود الإنساني، فعنده لم يمت الإله في هذه المنظومة ولكن تم تهميشه واستبداله بسلطة جديدة. هذه عبارات شخص منشغل بالموضوع. مثل نجيب محفوظ، كل أبطاله ضائعين لكن السؤال الوجودي مطروح دائما، فهو منشغل دائما بذلك، ما هو هدف الوجود؟ وما موقع الله عز وجل في حياة الإنسان؟ وهذا في كل رواياته. فكون أنه منشغل بهذا الموضوع يطرح السؤال: هل هو علماني؟

أ/ منال:

ما يمكن أن نؤكد عليه أن باومان مفكر تفكيكي، هو لا يبني هو يفكك ويفكك، وهو لا يقدم الحلول ولا يأخذ موقف مع أو ضد الظواهر التي يقوم بدراستها، فهل باومان مؤيد للصلابة؟ لم أتوصل لإجابة على هذا السؤال.

فكرة التغير هو الثابت الوحيد عند باومان، والمراكز التي نعدها صلبة هي مجرد تكثف للصهارة الذائبة حتى إشعار أخر، فهي صلبة مؤقتا، فهي ليست أبدا حلول نهائية ولم تكن كذلك من نقطة البداية.

د/ هاني:

انا شعرت أن مقدمة باومان كانت تحتاج شيء ولو قليل من السرد التاريخي، لأنه تقريبا دخل في الموضوع على طول الصلابة كذا والسيولة كذا، فلعل كان من الأفضل أن يعطي نبذة  حول كيف تشكلت الحداثة؟ ما هي التحديات التي واجهت الحداثة؟ ما هو المشروع الذي طرحته الحداثة؟ لماذا أخفقت فيه؟ لقد قدم باومان إجابات على هذا، ولكن المشكلة عنده هو قيامه بتجزئة الفكرة، وهذا علم إرباك عندي اثناء القراءة. فقد بدأ يتكلم في الفصل الثالث أو الرابع عن النبذة التاريخية للحداثة، وأن الحداثة بدأت حين انفصل الزمان عن المكان، بمعنى أن الإنسان الأوربي صار أكثر قدرة على أن يسبق غيره إلى الأماكن الجديدة واكتشافها والتالي زادت قدرته على الغزو، فأصبحت الحداثة مرتبطة بقدرة الإنسان على شغل المكان وأن يسبق غيره إلى شغل المكان وإلى غزوه، وهو أرجع هذا إلى التطور في الأساطيل البحرية التي مكنت أوروبا على عمل طفرة في حركة الاكتشافات ومكنت الأوربيين من الوصول قبل غيرهم إلى الأراضي الجديدة وغزوها. وكأنه ربط فكرة الحداثة بالقدرة على شغل المكان أو القدرة على الغزو. هنا تسألت، لماذا لم يتكلم باومان عن الاكتشافات العلمية وعن جاليليو وكروية الأرض وتغير نظرة الناس إلى الكون؟ وهذا تساؤل يحتاج الى نقاش، لماذا ربط الحداثة بالقدرة على شغل المكان ولم يربطها بالاكتشافات العلمية، فنحن نعرف دائما الحداثة الأوروبية بالاكتشافات العلمية وتحررها من سيطرة الكنيسة على العلم. لماذا لم يذكر باومان هذا؟ ولماذا هذا الربط بين الحداثة والقدرة على شغل المكان.

أ/ مدحت:

كنت أريد أن أذكر أن النموذج الذي بدأه  باومان كان فيزيقيا، وهذا من عالم الحداثة، فالحداثيون مؤمنون بالعلوم الطبيعية والرياضية بشكل كبير جدا، وهو يأتي بنموذج بيولوجي أو نموذج من الكيمياء أو من الفيزياء أو من الرياضة ويبدأ بدراسة الظاهرة به، بمعنى أنه يعد نفسه بنموذج افتراضي، فهو لما تكلم في خصائص المادة كان موضوع مهم جدا عند أصحاب الثقافة الغربية، ومن أهم الأشياء عندما يقومون بدراسة الموائع أو السوائل هو الكلام عن اللزوجة، وهي درجة مقاومة هذا السائل المتحرك للحركة نفسها نتيجة وجود ظاهرة ثانية اسمها الوعاء، عندما تكلمنا عن الصلب فهو لا يحتاج إلى وعاء فهو وعائه ذاتي، وعندما وصف الحداثة الصلبة ذكر عنصر الإذابة كعنصر أساسي فيها فهي أذابت قديم، ولكن الإذابة هنا متحكم بها فهي تحت السيطرة ولها درجة من اللزوجة، لكن الحداثة الثانية تحتاج الى وعاء، هنا نتساءل ما هو وعاء هذه السيولة وعائها؟، أم هي سيولة فاقدة للوعاء أو انكسر وعائها، فهي في حالة جريان على الأرض؟ نحن قد دخلنا في حالة أسمها التشرذم. والسوائل هذه ممكن تجمع وتضم الى بعضها مثل اللدائن وتعمل شكل كروي، فلا تصبح متناثرة. فنحن نحتاج الى خيط ناظم للحالة الراهنة فكلمة السيولة لا تكفي، فالسيولة خاصية، لكن ما هي الصفة الأساسية؟ هل هي اللامبالاة؟ في بعض كتابته جاءت اللامبالاة الأخلاقية أو التغير المستمر.

الأمر الثاني في فكرة الإطار النظري المتعلق بالسيولة هناك درجة من درجات التعميم الكبيرة، ففي الوقت الذي يتكلم فيه باومان عن السيولة هناك كلام عن عودة الدولة كأشد ما تكون.

الأمر الثالث هو الحيز المكاني، ولابد أن نؤكد أن باومان يتكلم عن أوروبا ثم الغرب، وإنه عندما يأتي بإشارات عن الخارج فهي تكون شديدة الخفة. ونحن نقوم بتطبيق منظوره في مسألة السيولة دون تدقيق، فهل هذا هو الوصف الأهم لما يحدث في العالم؟ فمثلا قضية الإيمان يمكن أن يكون الموقف منها صلب لا سائل، فهل خطر” الإلحاد الأن” على طريقة دوكنز حالة من السيولة؟

وأخيرا العلاقة بين الصلابة والسيولة في التاريخ والواقع؟ هل هذا هو التطور الطبيعي لها؟ وهل هذا ما كان ينبغي أن تؤول إليه الأشياء أم حدث عارض هو الذي سيل هذه الصلابة؟ وأن كان فما هو؟

أ/ منال:

من الممكن أن يكون الموقف من الإيمان هو المفسر، ولكني أرى أن الموقف من الإيمان هنا هو صلب عند أهل الإيمان لكن لا يمكن أن يكون صلب عند الآخرين، لأنه لا يوجد مركز صلب أصلا عندهم، ذلك ما ذكرته د/ منى أبو الفضل، طالما قطعت العلاقة بين السماء أو الله  فقد أصبحنا على ارض سواء لا يوجد شيء أسمه موقف صلب حتى وإن كان الإلحاد.

أ/ مدحت:

إن كان هذا فنحن نضيع مفهوم الصلابة عنده، لم تكن هناك صلابة، أي ما عاشته أوروبا 200 سنه قبل الربع الأخير من القرن الماضي الذي يصف فيه السيولة لم يكن صلبا، بل كانت عملية تسييل وإذابة وإن كانت درجة اللزوجة عالية أو درجة الحركة أخف، فإن المشكلة بين السيولة والصلابة هي مشكلة معدل ليست مشكلة تغير نوعي، ولكنه يحاول أن يصفها أنها تغير نوعي.

د/ شريف:

 هو يذكر العلاقة بين السيولة والصلابة بأنها علاقة جدلية، أي يمكن أن تسبق السيولة الصلابة بمعنى أنها شرط لحدوثها، ويمكن أن نعتبرها ناتجة عن الصلابة بمعنى أنها أثر من أثرها، فهو يتكلم عن فكرة جدلية تتراوح بين التغير المستقل والتغير التابع طوال الوقت، لذلك هو يذكر جملة يحب الفلاسفة استخدامها، وعلى القارئ أن يتوقف عندها، فيقول “الحداثة السائلة ليست نفيا أو نقيضا للحداثة الصلبة حتى لو بدا ظاهريا أنها تعكس هرم القيم التي جاءت به الحداثة الصلبة”، فهو يقول أن هذا ما آلت إليه الحداثة الصلبة التي كانت تتخذ صلابة فإذا بها تنتهي إلى حالة من التسييل، وكما ذكرت أ/ منال أن استبدال المراكز لم يأتي بالنتيجة المتوخاة. إذن كيف نفهم عبارته بشكل أكثر دقة؟ ممكن أن نستعيد عن فكرة الصلابة والسيولة بفكرة وجود علاقات أم انفصام في العلاقات، بمعنى أنه عندما يقول باومان إن هناك علاقة ما بين العقل والجوارح، فيذكر أنه في إطار الصلابة كانت العلاقة فيها معنى الاتصال بين الطرفين، فالعقل يحاول ان يعقلن الواقع من خلال الجوارح، والجوارح تقوم بأفعال توصف أنها أفعال عقلانية أو الجوارح تتصرف بإيعاز من العقل. في حالة السيولة الجوارح تنفصل عن العقل، فتتصرف بمعزل عن الغرض الذي كان العقل يتوخاه منها، وهذا هو الأصل الآن فإن معظم الأفعال الآن لا تحقق للإنسان بما فيه خيره، والعقل هنا ليس العقل الفردي ولكن بمعنى (المنطق) القدرة السليمة للاختيار، عقل المجتمع معبرا عنه في السياسة والسُلطة تعبر عن الجوارح كمفترض، فإذا بالسُلطة تتحرك بمعزل عن العقل أو بمعزل عن السياسة. قرأت مقالة تقول عن أغرب ما صادفه الطلبة المبتعثون في انجلترا، فقالوا أن من ضمن الأشياء أن معظم دورات المياه هناك الإضاءة فيها بخيط فهم يرون أن ذلك تصرف من القرن السابق، فالرد كان أن في إنجلترا اعتبارات الأمان فوق اعتبارات المرونة، فالإنسان يكون جسمه مشبعا بالماء وهذا يمثل خطرا عليه لتعرضه للكهرباء، فيجب أن يكون هناك عازلا بينه وبين مصدر الكهرباء، أما الآن أصبح هناك انفصالا بين المنطق والأفعال.  أ/ منال كانت تسأل هل باومان ينقد أم يبني؟ هو يعتبر أن في النظرية النقدية تجسر العلاقات مرة أخرى، إعادة اللحمة ما بين المنطق والفعل. وكان السؤال الذي يطرح نفسه ما هو موقع السُلطة؟ فهل نستطيع أن نجعل الفرد هو الذي يصلح مشكلات المجتمع؟ هو يرى إن هذا ظلم للفرد، الفرد في صورته الحقيقية مواطن يخاطب دولة يطلب منها أن تفعل أو أن تساعده على الفعل أو أن تهيئ له الأجواء المناسبة التي يتم الفعل من خلالها، فهو يعتبر أن هذا هو دور النظرية النقدية أنها تجسر العلاقة بين العقل والفعل من خلال استحضار معنى السلطة ولا يبقى علاقة الفرد بالمجتمع مباشرة في معنى السُلطة لابد من إدخاله في المعادلة. فهو يمكن في الفاصل الأول وضع كل الشروط التي على أساسها سيناقش الأفكار.

د/ هاني:

يوجد بعض الأفكار التي لفتت نظري في المقدمة، فهو ضرب مثلا بمسافرين في طائرة وقد اكتشفوا فجأة أن غرفة القيادة فارغة ومع هذا أصرت الناس على استكمال الرحلة، ويمكن قد أشار د/ شريف إلى أن المجتمع الآن أصبح بلا وجهة، فهو ربط هذا بفكرة خلو العرش، أول ما سمعت خلو العرش ظننت أن الحداثة بالتعبير المجازي لهم قد أنزلت الإله من عرشه ثم بقي العرش شاغر، ولكني أعتقد أنه قصد بفكرة خلو العرش أن الحداثة أحدثت قطيعة مع الماضي بكل قواه وقامت بتذويب كل المراكز التي كانت موجودة في عصر ما قبل الحداثة: الكنيسة والإقطاع والملكية والتوريث وما إلى ذلك وبشرت الناس بمجموعة من الوعود لتضع العقل مكان الكنيسة والعلم مكان الدين والجمهورية مكان الملكية والديمقراطية مكان التوريث ونضع الرأسمالية أو الشيوعية مكان الإقطاع، وإذا فعلنا ذلك ستنحل كل المشكلات وسيغتني الفقراء وسيأمن الخائفون وستشبع البطون الجائعة وبالتالي تنحل أزمات الإنسان، فقامت الحداثة بعملية الاستبدال فازاحت المراكز القديمة وقامت بإحلال المراكز الحداثية محلها ثم بشرت بالفردوس الأرضي فإذا بالحداثة تخفق في تحقيق هذه الوعود، وكانت اللحظة النماذجية -بتعبير دكتور المسيري- هي لحظة الحرب العالمية الثانية، فبدأ الكثير من الناس يفيقون على حقيقة أن وعود الحداثة ربما تكون قد تبخرت، وتأكدوا أن الحداثة لم تستطع ان تفي بوعودها، وهذه الأزمة سماها باومان أزمة اللايقين، وكنت أظن أن اليقين هنا هو اليقين بمفهومنا نحن وهو الاعتقاد الجازم أو الاعتقاد اليقيني، ولكن اظن أن باومان استخدم كلمة اليقين بمعنى الشعور بالأمان.

وهذا ما أحدث فراغا عند الإنسان المعاصر، فبدأت الحداثة السائلة تسعى إلى شغل هذا الفراغ بعملية الاستهلاك، انك لكي تشعر بالطمأنينة عليك أن تستهلك المزيد من السلع من أجل الوصول إلى اللذة، حيث أن طلب اللذة صار هو الطقس المقدس.

وقد لفت نظري عبارة كررها في عدد من فصول كتابه وهي عبارة “معابد التسوق”، وكأنه اعتبر أن السوق قد حل محل الكنيسة، وأن الناس في حركتهم نحو السوق إنما يتوجهون إلى نوع جديد من أنواع المعابد ويمارسون طقس سماه بتعويذات طرد الأرواح الشريرة التي هي مخاوف الإنسان التي بدأ يشعر بها في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي كان على رأسها اللا يقين أو اللا أمان وهذه أسماها الأرواح الشريرة، فبدأ الإنسان باللجوء الى معابد التسوق لطرد هذه الارواح الشريرة.

وتكلم باومان عن فكرة تدنيس المقدس من جانب الحداثة من أجل الحصول على المشروعية، فلجأت إلى تدنيس قوى الماضي وعلى رأسها الكنيسة أو فكرة الدين وإنزال الإله من على العرش لقطع سلطة الماضي عن الحاضر والتمهيد لإنشاء مراكز سلطة جديدة، جاءت عبارة باومان كالتالي:”وعليه ظهرت الدعوة لتدنيس المقدس في صورة التنصل من الماضي وإنزاله من على العرش والتنصل من التراث قبل كل شيء ومن رواسب الماضي وبقاياه في الحاضر”

أ/ مهجة:

القول بأن الحرب العالمية الثانية هي اللحظة الفارقة بين الحداثة وما بعد الحداثة، هل هذا جاء في المقدمات؟

د/ هاني:

 المشكلة أني قد سمعت عروض متنوعة عن الكتاب فاختلطت الأمور عندي مع بعضها، لكن التساؤل المحوري هو:  هل يقصد باومان بالسيولة ما بعد الحداثة أو هو يقصد بالسيولة شيء آخر، ما فهمته أنه تجنب استخدام عبارة ما بعد الحداثة.

أ/ منال:

هو ذكر في المقدمة: إننا كنا في الماضي نسميه خطأ “ما بعد الحدثة” وقررت أن أسميه ب”الحداثة السائلة”.

أ/ مهجة:

ولكن في الفصل الذي قرأته استخدم لفظ ما بعد الحداثة.

 د/ هاني:

كان أحد الباحثين قد ربط بين باومان وبين هبرماس، هبرماس رفض مقولة ما بعد الحداثة واعتبرها مقولة لا تدل على أي شيء وكان يرى أن الحداثة لم تنتهي حتى نقول ما بعد الحداثة ولكنها مشروع مستمر وفي طوره إلى الاكتمال، وكأن باومان تقارب مع هبرماس في هذه القضية ويبدو أنه لشعوره بشيء من التقارب مع هبرماس قد بدأ يبحث عن مصطلح جديد بديل عن ما بعد الحدثة وكأنه وجد بغيته في مصطلح السيولة.

د/ شريف:

الفصل الأول:

أنا عندي مشكلة في ترجمة عنوان هذا الفصل، فقد أعطاه المترجم عنوان”التحرر” في حين أن العنوان بالإنجليزية هو “emancipation”، ومعناها الإعتاق او الانعتاق، فهناك اختيارات تمارس من قبل المترجم قد تؤثر على المعنى الذي ينشده المؤلف.

 الفكرة الأولى في هذا الفصل أن الفرد لا يستطيع أن ينعتق من الفردية ويعود إلى مواطنيته (بمعنى قدرته على الفعل) دون مساعدة المجتمع “السُطلة أو الدولة” أي من دون قرار سياسي، ومن ثم فالمجال العام المرتبط بالسلطة أو الدولة أو المجتمع ضروري من أجل إعتاق الفرد وتحريره، تغول المجال الخاص على المجال العام هو حيلة تمارسها الدولة أو السُلطة في إطار حالة الحداثة السائلة، فيتم إبقاء الفرد في العراء بدل من مساعدته لإعادة الاندماج في المجتمع الذي انفصل عنه من خلال تضخيم مجاله الخاص وإقناعه أن مجاله الخاص هذا يمثل له مساحة كافية لكي يستعيض بها عن الاشتراك بفاعلية في المجال العام. إذن يحتاج الفرد لكي يستعيد خصائصه كمواطن أن ينعتق من فرديته، ويرى باومان أن هذا هو الدور الذي يحدده لنفسه من خلال نظرية نقديةتعمل على أن يكتسب الفرد خصائص المواطنة وأن يدرك أزمته، فالمجتمع السائل يحاول إقناعه أنه تم تحريره بالفعل -كما ذكرنا- من خلال معادلة استبدال المجال الخاص بالمجال العام، ويتم ذلك من خلال التخلي عن المجال العام والتركيز على المجال الخاص وتسليط الأضواء عليه وشحنه بالمزيد من القضايا الجزئية بحيث تستوعب الفرد تماما وتصور له أنه يحيا حياة كاملة ليس فيها ما ينقصه، ومن ثم يعيش في حالة من الوعي الزائف.

يأتي هنا دور النظرية النقدية التي تسعى الى تحرير المواطن من هذا الخداع وتحرير نفسها من مهامها القديمة عندما كانت تستهدف مخاطبة المشرع أو العقل الذي يملك تشكيل الواقع وفق نسق عقلاني، فتبرز للفرد مظاهر الشمولية التي يعج بها المجتمع المعاصر، ومظاهر التنميط الذي يقع الفرد ضحية له، فقد طور المجتمع عدد من الأيقونات أو النماذج الإدراكية -بلغة المسيري- يمارس من خلالها نوع من الاستلاب والتنميط وتحويل حرية الأفراد من كونها حرية موضوعية إلى حرية ذاتية “مشوهة”.

 الفكرة الثانية أو المهمة الثانية للفرد هي التحديث، فقد تحولت مهمة التحديث من المجتمع إلى الفرد رغم عدم امتلاك الفرد الأدوات التي تمكنه من ممارسة هذا الفعل. أصبحت مهمة الفرد تحويل المجتمع الذي يعيش فيه إلى مجتمع عقلاني وحديث ومنضبط ومنظم، ويطلب من الفرد أن يصلح من خلال أفعاله الذاتية أخطاء نسقية في المجتمع، وقد خرج التحديث عن معناه المعروف ليصبح مجرد ممارسة أعمال اليوم بيوم دون الالتفات إلى المجال العام وما يتطلبه من مهام.

مهمة النظرية النقدية ومهمة باومان هي بناء ما مزقته النزعة الفردية وتجسير الفجوة بين السلطة والسياسة من ناحية وبين العقل والجوارح من ناحية أخرى، أي بين إرادة العقل وإرادة الاختيار، وإعادة الاعتبار إلى المجال العام مرة أخرى.  

هذه كانت الفكرة الأساسية لهذا الفصل. مشكلته التي بدأ الفصل هي أن هناك صعوبة لممارسة حالة الإعتاق للأفراد الذين ينتمون إلى مجتمع قوي وثري وفعال، مجتمع البضائع والسلع والرفاهية، فالمشكلة أن تقنع الناس أنهم يعيشون مشكلة، يوجد قلة فقط من الناس هم من يريدون التحرر وقلة أقل مستعدة لتحقيق هذه الرغبة، فمعظم الناس لا تدرك فيما سيختلف المجتمع الموعود عن ذلك الذي يعيشون فيه حاليا. ومن هنا تنبع المشكلة أن النظرية النقدية أو بومان أو سلسلة السوائل تستهدف أن تقنع الناس بوجود أزمة حيث لا يستشعر الناس في كثير من الأحيان وجود هذه الأزمة.

الإعتاق من وجهة نظر باومان هو إطلاق طاقات الإنسان إلى حدودها القصوى والتحرر من الأغلال الظاهرة والأغلال الضمنية، والحرية هي أن تشعر بحرية الحركة والفعل فلا تكون هناك عوائق أو مقاومة ممانعة للحركة أو للفعل.

أ/ مهجة:

هل هناك أمثلة على تلك العوائق؟

د/ شريف:

في الأساس العوائق التي يتحدث عنها باومان تتعلق بالإدراك، فهو يعتبر أن الإعتاق الحقيقي هو إعتاق للإدراك. على سبيل المثال وبعيدا عن النص يوجد نظرية تدعى نظرية “الفيل التايلاندي”، هو فيل يربط قدمه في كرسي معدني صغير، والزائر الذي يزور الحديقة يتعجب كون هذا الفيل بحجمه الكبير مربوط في هذا الكرسي الصغير، وعند سؤال الحارس يوضح أن الفيل عندما كان صغيرا كان يربط في هذا الكرسي الصغير، فكان هذا الكرسي يمثل عائقا له عن الحركة، وعندما كبر الفيل لم يدرك أنه يستطيع التخلي عما يعوقه فظل يعتقد في إطار تصوره القديم أنه غير قادر على الحركة. هذا ما يسمى حالة الطفولة السياسية، أن يظل المجتمع يغذي بأوهام أنه لا يرى ما يراه المتنفذون ولا يعرف ما يعرفوه.

أ/ مهجة:

الأمر غير واضح بالنسبة لي، فما علاقة الانعتاق بتصدر الفرد الآن للمشهد، وضرورة قيامه بدور المجتمع؟

د/ شريف:

ما ذكره باومان في الفصل الأول هو ملخص فقط، ولكنه سيشرح هذا بعد ذلك بالتدريج.

أ/مهجة:

 عندما أنظر إلى الواقع في الغرب أشعر على العكس أن المجتمع يبالغ في التدخل في الحياة الشخصية للفرد، فالطفل اليوم في الغرب إن ضربته والدته أو والده أو نهروه يقوم بالاتصال بالشرطة التي تأتي على الفور وتوجه لأهله تهمة إساءة معاملة الطفل. وعندما كنت يا د. شريف في ليفربول كنت تؤكد على دور الدولة الواضح في تنظيم شئون الحياة اليومية مما كان يشيع حالة من الآمان والطمأنينة.

د/ شريف:

يعمل الأن أ/ مدحت على مشاريع تتعلق بالتوعية الاجتماعية في مجال الأسرة والمجتمع والزواج. هذا من قضايا المجال الخاص. كذلك لو قام البعض بتوعية الناس من أين يشتروا الأجهزة  الكهربائية وبأسعار مناسبة، من هو التاجر الأمين ومن ليس كذلك، فأنا لو تكلمت في إطار هذه الاهتمامات -وفقا لتعبير باومان- فانا أعمل في قضايا المجال الخاص. ولكن هناك قضايا تنتمي الى مجال أعلى مثل لماذا نتزوج، وما معنى الأسرة، ما علاقة هذا التشكيل الاجتماعي بالدولة.

هل شاهدتم فيلم COCO لوالت ديزني؟ هو فيلم ملحمي يناقش أهمية العائلة ومدى الحاجة اليها. هل يمكن للفرد أن يتحقق وجوده خارج العائلة؟ وما أهمية موقع العائلة في حياة الإنسان؟ بناء الفيلم قائم على محورية وجود الجدة الطاعنة في السن على الرغم من عدم اشتراكها في الأحداث كثيرا ولكنها محورية جدا، فالفيلم مبني على وجود قضية اسمها العائلة؛ حتى وإن كان للإنسان طموحه الشخصي  وأحلامه وأهدافه إلا أن العائلة لا تنسى، فهي كيانه الممتد هي شخصيته العابرة للزمان، فوفقا للميثولوجيا المكسيكية إن العائلة إذا نستك ستختفي في العالم الآخر، بمعنى أن وجودك الحي في ذاكرة العائلة هو ما يضمن لك الخلود، فإذا عائلتك نستك ستختفي.

أ/ مهجة:

لو كان هناك فيلم حديث بهذه الأفكار فإن السيولة لم تصل بعد إلى درجة الخطورة.

د/ شريف:

الفيلم يحدث تأثيره من خلال تعبيره عن المساحات الفارغة وليست المساحات الممتلئة، وهو يقول للناس خلي بالكم فالأسرة مهمة. من ناحية أخرى هذه القصة تحدث في المكسيك أي تراث شعبي مكسيكي وليس غربي؛ وإن حكينا القصة بهذه التفاصيل في الغرب لن تكون مقنعة، فمهما كانت الأسرة باقية في الغرب فهي باقية وفقا للشروط التي تجعل منها شكل كرنفالي جميل؛ فالأب يخرج إبنه من المنزل عند بلوغه 17 عام.

 عندما يتكلم باومان عن تغول المجال الخاص على المجال العام فنحن يمكن أن نفهم الأمر من واقع المجتمع المصري ما يدور في التوك شو حول مثلا هل يحق للداعية معز مسعود أن يتزوج من الفنانة شيرين عادل؟ أو الكلام هن ملابس هذه الممثلة أو تلك، أو زواجها وطلاقها،……، هذا هو احتلال المجال الخاص للمجال العام، لم يخلق المجال العام وفقا للترمينولوجي الغربي الحداثي لكي يحتل ويستعمر من خلال هذه القضايا، فهذه صناعة لوعي زائف.

أ/ مهجة:

ولكن هناك طلب كبير على مثل هذه الموضوعات الخاصة.

د/ شريف:

الانعتاق يستهدف لفت نظر الإنسان الى أن ليست هذه مشاكلك؛ ليس هذا وجودك؛ وليس هذا هدفك. أنت موجود لتناقش قضايا أكبر تتعلق بوجودك الحقيقي وليس العابر. فهو يقول له سوف تحس أنه يوجد مشاكل تربطك بالآخرين. فمثلا في المترو لو وجدت الناس تتكلم عن “مرتضى منصور” ستشترك معهم في الحوار وستشعر أنه يوجد شيء يربطكم. فيقول باومان خلي بالك هذه هي الرابطة الهشة أو الرابطة العابرة، وبعد نزولك من المترو ستفقد صلتك تماما بالشخص الذي كنت تتكلم معه، هذه قضية لا تصنع أي نوع من اللُحمة بينكما، أو تصنع بينكم مصلحة مشتركة. فكرة المصلحة المشتركة هي أن يجتمع المواطنون حول ما يصلح وجودهم سويا وليس أن يأخذوا موقف من “مرتضى منصور”، هذا ما يسمى بالوعي الزائف ويدعو باومان إلى الانعتاق منه.

أ/ مهجة:

 أليس من طبيعة الإنسان من يوم خلقه حبه للنميمة والقيل والقال؟ وما نشاهده من تغول المجال الخاص هو جزء من هذه الطبيعة الإنسانية. ولكن بروز هذه الظاهرة بدرجة كبيرة حدث للتطور المذهل لوسائل الإعلام والاتصال.

د/ شريف:

القضية قضية ترتيب أولويات. كان د/ المسيري –رحمه الله- يقول لو الجريدة بها 20 صفحة، وجاء في الصفحة الأولى خبر عن اصطدام قطار بقطار آخر، ومات في هذا الحادث 20 فردا، وجاء في الصفحة الأخيرة أن ثلث أعداد مواليد بريطانيا نتيجة لعلاقات غير شرعية، فهو يقول أن ترتيب الأولويات يعكس نموذج إدراكي كامل للمجتمع، فهذا مجتمع يقدر الفشل التكنولوجي بدرجة أعلى من الفشل الأخلاقي. مجرد ترتيب الأولويات يعكس خريطة ذهنية، فالإعلام يحمل رسالة ويصنع ثقافة. الإنسان يحب النميمة مثل حب السمك للدود، ولكن ما حجم الدود في المجتمع؟ لكي أصطاد السمكة لازم الاستعانة بدودة، ولكن عندما تتغول الديدان وتصبح موجودة على موائد الطعام وفي السوبر ماركت، لا يمكن اعتبار ذلك طبيعي لمجرد أن السمك يحب الدود. كذلك إذا كان هناك ناس تحب النميمة لا يعني تحويل المجتمع كله الى مجتمع نميمة.

أ/ مهجة:

كنت أقصد أن انتقال النميمة من مستوى الدودة لصيد السمك إلى هذا المستوى المجتمعي يعود الى  تطور وسائل الاتصال، فالنميمة موجودة منذ خلق الإنسان وليست مرتبطة بصفة خاصة بالحداثة، فالبشر  يحبون النميمة وقد جاءت أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدين هذا السلوك.

د/ شريف:

 الموضوع يتوقف على كيفية اختيار المذيع للموضوعات التي سيملأ بها برنامجه الذي يمتد على مساحة زمنية قدرها 3 ساعات مثلا، فهذه اختيارات موضوعية وليست مجرد نميمة.

أ/ منال:

أي هو اختار هذه الموضوعات من بين بدائل أخرى كان يمكن أن يختارها.

د/ شريف:

نعم. فعندما كان يريد أن يملأ بنامجه بموضوعات عن الدخول والأسعار أو بالمشاركة السياسية أو بالأحزاب كان يحقق نسب مشاهدة كبيرة. ولكنه الآن قرر أن يمارس علمية إحلال الخاص وقضاياه محل المجال العام، وهذا ما يصنع الوعي الزائف وهو ما يستحق أن يعتق منه الأفراد.

د/ هاني:

ممكن أن نفسر هذا بالتوظيف السياسي للدولة، أي أن نشغل المجتمع بقضايا جانبية لنبعده عن القضايا الأساسية التي تختص بأحواله وشؤونه.

أ/ مهجة:

ولكن باومان كان يتكلم عن أوروبا وليس مصر، فهل أوروبا ايضا تمارس هذا الفعل؟

د/ شريف:

فعلا أوروبا تمارس هذا؛ تحب أن “تلخم” الناس. “فالمشاركة الوحيدة في الحياة العامة هي أن اذكر لك أخبار الشخصيات العامة” هذه عبارة باومان.

أ/ مهجة:

وهل هذا بهدف تحويل الانتباه؟

د/ شريف:

بدرجة كبيرة هذا ما كان متحقق، فالسياسة قد انحرفت في أوروبا بشكل كبير؛ فعندما حدثت أحداث مظاهرات لندن عندما قال الوزير أن الديمقراطية تحقق الاستقرار السياسي، ولكن اتضح أنها لا تحقق الاستقرار الاجتماعي، فالمجتمع به مشاكل كبيرة، فنحن مستقرون سياسيا على مستوى تداول السُلطة ولكن المجتمع ضائع، فهذه الثورة كانت غضبا مكتوما ليس له أسباب واضحة، المتظاهرون أشعلوا النيران وحطموا السيارات دون أي مطالب واضحة، فهذا مجتمع غير مستقر، فعلا الغرب حقق الاستقرار السياسي ولكن اجتماعيا هناك قنابل موقوتة.

د/ هاني:

هذا النقطة استوقفتني فعلا،  وكأنه أراد القول بأن الاهتمام بالمجال العام اتخذ شكل نقل الحياة الخاصة بالمشاهير إلى المجال العام. وهو يقول أن هذا واقع الغرب، ولكن مهما كانت المساوئ الا أن الغرب يتمتع بوعي أكبر من الشرق.

د/ شريف:

ذهبنا لدفن أخ مسلم في ليفربول، وكانت مقابر المسلمين بجوار مقابر الأقباط، فوجدنا أن أحد المقابر عليها فانلة للاعب من ليفربول، وهذا نموذج ادراكي مختلف، فهذا المتوفي يريد أن يدخل العالم الآخر من خلال لاعبه وناديه المفضل،عليها عاش وعليها مات، فإدراكهم مصنوع من خلال قضايا شديدة المحلية ومعرفتهم بمشاكل السياسة والعالم قليلة، فهم قليلي الحيلة فيما يتعلق بالقدرة على التغيير (النظام أكبر منهم بكثير). أنا في آخر زيارة لي لبريطانيا سألت سؤالا؛ هل بريطانيا دولة قانون؟ فكان رد الفعل احتقان شديد، لأنهم لا يجدوا إجابة دبلوماسية للرد عليً، فهو يعلم أنها ليست دولة قانون بالمعنى الكامل ولا يريد أن يعطي هذه الإجابة لشخص مهاجر أو غريب، مع أني أرى أن السؤال موضوعي وليس محرج ولم أجد الرد من أي أحد.

د/ هاني:

أعتقد أن الفكرة هنا أين نذهب بهذا الحياة السياسية والحزبية بما فيها من حراك ونشاط واهتمام الناس بالمشاركة في الانتخابات، فأنا عندما قرأت كتاب باومان شعرت أنه يريد أن يقول إن هذا هو المجال العام في الغرب.

د/ شريف:

الحياة في الغرب تصنعها هموم الغرب، وهموم الغرب هي التي تُستثمر فيها السياسة من أجل أن يثيروا مخاوف الناس، كما نعلم أن خلافات الحزب الجمهوري والديمقراطي في امريكا تنحصر في الموقف من ملكية السلاح أو دور الدولة من الضرائب أو قضية الاجهاض وكلها قضايا داخلية. وتعتبر هذه هي عقلية المواطن الغربي فهو يهتم بالأشياء اللصيقة به.

أ/ مهجة:

أنا أشعر بأن الكتاب فيه نوع من المبالغة، إن لم يكن هناك سياسة في الغرب إذن أين السياسة؟ أرى أن الكتاب يركز على فكرة كان يجب أن توضع في الإطار الكلي لها حتى يتم إدراك وزنها النسبي الحقيقي،  أما فكرة لا يوجد مجال عام تماما يعتبر أمرا غريبا.

د/ شريف:

نحن عندما نعرض نختلف عما نكتب. فهو عندما يكتب يتجاوز هذه التعميمات من خلال اختيار ألفاظ تناسب دقة التعبير.

أ/ مهجة:

ولكن هذا الانطباع هو الذي خرجنا به جميعا من الكتاب، فالفكرة تتكرر بأمثلتها في عدة فصول. فمثلا الفصل الذي عليَ عرضه قد تم تناوله بتفاصيله عن طريقكم من خلال الفصول الأخرى. المنهج المتبع في عرض الفكرة غريب، كذلك طريقة التأكيد على موضوع واحد وعزله عن الصورة الكلية. وهذا شيء يقلق، أنا لا أشعر بالراحة وأنا أقرأ الكتاب.

د/ شريف:

أعتقد أن المرحلة العمرية التي يكتب فيها الفرد تحكم أسلوب كتابته. كما قال ارسطو الشباب يتحدث عن المستقبل لأن ليس لهم ماضي، والشيوخ يتحدثون عن الماضي لأن ليس لهم مستقبل. فمن يكتب وهو شاب يخاف أن تكون فكرة من الأفكار الجديدة التي يريد تناولها تضيع أو تنسى فيقوم بعرض أفكار جديدة كثيرة ويمكن أن لا يؤصلها، وعندها عرضها على أستاذه يطلب منه إعطاء كل فكرة حقها، فهو مهتم أكثر بأن يضع أفكارا جديدة لأنه يرى المستقبل الفكري. في مراحل النضج الباحث يقوم باجترار  ما أنتجه، فلا يكتب بمنطق التراكم الخطي بل بمنطق “أنا أسحب الشبكة من الماء بعد أن ألقتها في الماضي” فأنا اعيد أفكاري وأعيد صياغتها بشكل أكثر تماسكا وإحكاما، وهذا ما أشعره مع المسيري ولكنه لا يقلقني.

أ/ مهجة:

ذكر المسيري أنه تفرغ لموسوعة اليهودية والصهيونية أكثر من 30 سنة، وبعد الانتهاء منها ظل خلال العشر سنوات الأخيرة يقوم بعملية إعادة إنتاج لما اكتشفه، فكانت عملية تسويق للأفكار، وقد قام بذلك   في كتب مختلفة، الا أنه لم يكرر نفس الأفكار في كتاب واحد.

 أ/ منال:

أعتقد أنه لم يكرر الفكرة نفسها، ولكنه يعيد طرحها بتجليات مختلفة. وأعتقد أن حضرتك عرضت الكثير من الفصل الخاص بي: طغيان المجال العام على المجال الخاص، وانعتاق الفرد من فرديته، وإلى أي مدى تضخمت فرديته نتيجة احتلال المجال الخاص للمجال العام ونتيجة حالة السيولة، وما يريده باومان أن ينعتق الفرد من فرديته ويعود إلى المصالح المشتركة.

د/ شريف: 

ويرى باومان أن الفرد لا يستطيع أن يمارس هذا بمفرده، وإنه يحتاج إلى سلطة أو دولة لمساعدته، ويحتاج أيضا لسلطة المجتمع أو سلطة العقل لتساعده، ومن ثم إعادة الدولة لدورها؛ وإن الدولة لا تتحلل من مسؤولياته بحجة السيولة والمرونة، الدولة أو السلطة أو العقل الجمعي عليهم مسئوليات، وهو أيضا يقول في إطار ما تقدمه المدرسة النقدية هذا فكر لا يملك أن يغير الواقع إلا من خلال ارتباطه بإرادة لتحويل هذه الإرادة إلى أفعال. فهو يقول إن استدعاء السلطة أو الدولة أو المجتمع أو العقل الجمعي لا مناص منه، ولكن ما هي شروط الاستدعاء؟ هذا ما يمكن للنظرية أن تناقشه. فمن الإجحاف أن يطالب الفرد أن يصلح ما أفسده المسار أو التاريخ الذي أخذته حالة العولمة أو حالة الحداثة. وهذا ملخص للفصل الأول.

 أ/ مهجة:

الفصل الثاني – الفردية.

بدأ الفصل بعرض بفكرة أن العالم ظل لفترة طولية في حالة أسماها “بالعالم الفوردي”، نسبة إلى هنري فورد، وهذا العالم يقدم بناء معرفي متكامل -كما قال-، تم على أساسه تشييد رؤية عالم بأسره، وهو أعظم إنجاز حققته الهندسة الاجتماعية المستهدفة للنظام، وذلك بالفصل الدقيق بين التصميم والتنفيذ، وبين المبادرة واتباع الأمر، وبين الحرية والطاعة، وبين الابتكار والقرار الحاسم، وقد وضع باومان هذا النظام تحت ما أسماه “خطاب سفر يشوع”، هذا الخطاب يجعل النظام هو القاعدة والخلل هو الاستثناء تماما مثل النظام الفوردي الذي قامت عليه كل نظام الرأسمالية، فكانت الفوردية بمثابة الوعي الذاتي للمجتمع الحديث في مرحلته الثقيلة والضخمة والضاربة بجذورها في الأرض، وأصبح رأس المال والإدارة والعمل في صحبة واحدة مقيدين إلى الأرض بمباني المصانع الضخمة والآلات والمعدات الثقيلة، فكان هناك نوع من الإحساس بالواجب والولاء، بمعنى أنه كانت هناك منظومة قيمية هي منظومة ماكس فيبر، أوجدت في المرحلة الفوردية إطلاقات وقيما معينة تحكم هذا النظام. أما في مرحلة السيولة فقد تم الانتقال من الرأسمالية الثقيلة الى الرأسمالية الخفيفة، وظهر ما أسماه “سفر التكوين” الذي يجعل الخلل هو القاعدة والنظام هو الاستثناء، وأصبح رأس المال ينتقل في حقيبة صغيرة لا تحتوي على أكثر من هاتف جوال وحاسوب متنقل. كان الإيمان بالقيم يحتاج إلى سلطة عليا تتعهد بانتظام العالم، وحراسة الحد بين الصواب والخطأ، الا أن الانتقال من الرأسمالية الثقيلة إلى الرأسمالية الخفيفة قد أدى إلى اختفاء هذه السلطة، وأصبح هناك سلطات عديدة تتطلع إلى السيادة وكل سلطة تدافع عن مصالحها الشخصية، فصار العالم مجموعة لامتناهية من الإمكانيات وفتحت مسألة الغايات على مصرعيها، وهذا أفضى بالضرورة إلى تردد كبير وجزع مستمر وضياع للثقة، وشعور مؤلم ومتواصل بحالة من اللايقين؛ وإذا كانت الإمكانيات قد أصبحت لامتناهية فليس لها أن تحظى بالصلابة وتصير واقعا أبديا، فاختفت الصلابة، فالأفضل أن يظل الوضع سائلا ومائعا ويكتب عليه تاريخ انتهاء الصلاحية خشية أن تجعل غيرها من الفرص متعذرة وبعيدة المنال. إذن فالوعي بأن اللعبة مستمرة وأن الفرص لامتناهية إنما هو وعي تتلذذ به النفس، ولكن يراودها دائما الشك والقلق بأنه لا يوجد شيء من الأشياء التي يجربها المرء ويملكها تحظى بحصانة من التلف أو بضمان البقاء والدوام.

أ/ مدحت:

هو هنا يشير ليس إلى الشيء ولكن فكرة التعامل مع الشيء والشعور به. ممكن يكون فيه الثقة مثل الفرص المفتوحة، ولكن هذا مصحوب دائما بالقلق والخوف، إذ لا يوجد أمان ولا يقين.

أ/ مهجة:

وهنا أورد باومان مقولة مارجريت تاتشر “ليس هناك مجتمع بعد الآن”، تلك المقولة التي تشير الى مسئولية كل فرد عن نفسه؛ فكل شخص يقوم بتحديد غايته وقيمه وحياته بالطريقة التي تناسبه.

ثم انتقل باومان مرة أخرى الى موضوع الرأسمالية الثقيلة، فوصفها بأنها عالم أهل التشريع ومصممي الروتين والمشرفين، وفيها يتبع المرء غيره، ويحقق غايات رسمها غيره بطرق حددها غيره، ولهذا السبب كان عالم الرأسمالية “عالم سلطات”، سلطة القادة الذين يعرفون أفضل، وسلطة المعلمين الذين يعلمون الفرد كيفية تحسين مستواه، أما الرأسمالية الخفيفة فقد أوجدت سلطات عديدة أخرى وسمحت لها أن تتعايش بحث لا يمكن لأي واحدة منها أن تظل في السلطة زمنا طويلا.

 كان يستهدف العالم في المرحلة الأولى – مرحلة الرأسمالية الثقيلة- المجتمع الصالح أو المجتمع المستقيم، وقد حدد بدائله السيئة وغير الصحيحة وحاول جاهدا أن يبعدها؛ كان هناك إطارا قيميا، أما عالم الحداثة السائلة فلم يحدد هذه البدائل ولم يحاول إبعادها، وقد أصبح من غير الممكن تحميل المجتمع تابعة اللعنة والخسارة، فالخلاص والخسران كلاهما من صنع المرء، فإنهما محصلة ما يفعله المرء الفعال الحر بحياته. وهنا ظهر ما يسمى “المستشارون أو الناصحون” مكان القادة؛ فهؤلاء المستشارين أو الناصحين لا يتجاوزون منطقة الهموم الخاصة والعلل الفردية ووسائل علاجها دون التطرق للقضايا العامة. وقد أكثر باومان الكلام عن المستشارين والناصحين، نظرا لأننا إذا سلمنا بأن طبيعة المشكلات تستلزم أن يعالجها الفرد بنفسه فإن ما يحتاج اليه طالب النصيحة هو مثال نموذجي يوضح كيف يتصرف أناس آخرون عندما يواجهون مشكلات مشابهة. ويعلم الناصحون أن ما يبتغيه طالبوا النصيحة إنما هو درس علمي أو مثال نموذجي يحتذى به لا سلطة تأمر فتطاع. وهنا تكلم عن”جين فوندا” كنموذج يقدم الحلم، ولكن هذا الحلم يحمل بطبيعته سلطة آمرة مستترة.  

 وبعد ما تكلم عن الناصحين والمستشارين انتقل باومان إلى البرامج الحوارية التي تقدم دروس عملية مستفادة تعين المشاهد على مواجهة واقعه المعقد، ويرى باومان أن من الخطأ السخرية من إدمان البعض للبرامج الحوارية باعتبارها أثرا من آثار إطلاق العنان للاشتهاء البشري الأبدي للقيل والقال، ذلك أن الدروس العملية المستفادة من هذه البرامج تلبي مطلبا حقيقيا في عالم يعج بالوسائل ولكن يعجز الفرد فيه من تحديد غاياته. ويمكننا هنا استحضار مثال صورة الفنان محمد رمضان مع سياراته، وقوله أنه لا يريد أن استفز الناس بهذه الصورة ولكن هدفه إعطاء أمل للجميع أن كل فرد في المجتمع قادر أن يكون مثل محمد رمضان.

د/ شريف:

كما ذكر باومان فعلا فإن الإنسان في المجتمع الفردي لا يستطيع أن يلتمس حلا لمشكلاته عند جماعة مرجعية أو عند الدولة أو عند المجتمع، ولكنه فقط يملك أن يستأنث بتجارب غيره.

أود أن انقل لكم شيئا على اليوتيوب يكشف الى أي حد أصبح الإنسان لا يملك نفسه بل أصبح “براني” أي يصنع من الخارج، إذ أننا نرى في التسجيل شخصا يشاهد فيديو ولا يتكلم، وكل دوري أن أشاهد مشاعره وانطباعاته على ما يشاهده، وهكذا يصبح المجال الخاص لبعض الأشخاص على المشاع بصورة مبالغ فيها، والغريب أن عدد المشاهدات كبير على هذه النوعية من الفيديوهات.

أ/ مهجة:

يتكلم باومان أيضا عن البرامج الحوارية باعتبارها جلسات counselling أي تقديم المشورة، ويضيف أنها تضفي شرعية على الخطاب العام حول الأمور الخاصة؛ فهي تجعل الأمور التي لا يمكن الحديث عنها قابلة للحديث عنها، والأمور المخزية تصبح مشرفة، وهي تحول السر القبيح إلى شيء يفتخر به المرء، وهنا يبدو أننا بصدد إعادة تعريف للمجال العام باعتباره موقع لإخراج القصص الدرامية الخاصة وإتاحتها للمشاهدة العامة. ويرى باومان أن المشكلات الخاصة لا تتحول إلى مشكلات عامة بمجرد وجودها في بؤرة الضوء العام، ولكن يبدو أن كل ما يتحقق من هذا الأمر هو إزاحة كافة المشكلات الأخرى غير الخاصة من الأجندة العامة.

ثم انتقل باومان إلى عملية الاستهلاك، حيث إمكانات عالم المستهلكين الآن غير متناهية وأصبحت تتحول إلى إدمان، وهي تحمل جميعا تاريخ انتهاء الصلاحية بل أغلبها ستنتهي صلاحيتها قبل هذا التاريخ. ففي سباق الاستهلاك يتحرك خط الوصول دوما بسرعة تفوق سرعة أسرع العدائين، وهكذا فإن مواصلة العدو والوعي المستبشر بالبقاء في السباق هو الإدمان الحقيقي، والبقاء في السباق هو أكثر الوسائل أهمية حتى إن لم نصل، ونحن نبقى في السباق ما دُمنا نقوم بعملية التسوق، والتسوق هنا لا يتعلق فقط بالأطعمة والسيارات وأثاث المنزل، فالبحث اللانهائي النهم عن نماذج ووصفات جديدة معدلة للحياة إنما هو نوع من التسوق. في أيامنا هذه لم تعد النزعة الاستهلاكية تتعلق بإشباع الحاجات بل في الرغبة، تلك الكينونة التي تفوق الحاجات في سرعة التقلب، وهي قوة دافعة تلد نفسها بنفسها. فالحاجة (أصل الصلابة) تم استبدالها بالرغبة (تتسم بالسيولة والانتشار) ثم جاءت الأمنية (التي تحرر اللذة من الواقع).

ثم يتكلم باومان عن مجتمع ما بعد الحدثة باعتباره يقوم بتفعيل طاقات أعضائه باعتبارهم مستهلكين لا منتجين، فالحياة المتمركزة حول دول المنتج تخضع عادة إلى قواعد ومعايير، أما الحياة المتمركزة حول الاستهلاك فلابد أن تستغني عن القواعد والضوابط، إنها تهتدي بهدي الرغبات المتزايدة. وفكرة الرفاهية لم تعد مقبولة؛ فرفاهيات اليوم هي ضروريات الغد. وهنا تحدث عن نموذج الفرق بين الصحة واللياقة، فإذا كان مجتمع المنتجين يجعل الصحة معيارا يجب تحققه، فإن مجتمع المستهلكين يشهر سيف اللياقة أمام أعضائه، فالصحة واللياقة تنتميان الى خطابين مختلفين تماما، فالصحة مفهوم معياري يمكن وصفه وقياسه بدقة والهدف منه مشروع، أما اللياقة فهو مفهوم لا يمكن الإمساك به أو تحديده بدقة، مفهوم يظل منفتحا دوما على الزيادة.

وأخيرا يرى باومان أن في المجتمع الاستهلاكي تمثل المشاركة في التبعية الاستهلاكية وفي التبعية العالمية للتسوق الشرط الضروري أن “يكون للمرء هوية”، فالمعنى القديم للهوية قد تم إذابته بما منح الأشياء أسبقية على الناس، فالأشياء هي بهارج الهوية وأدوات التعريف بها.

د/ شريف:

بالنسبة لموضوع الناصح أو المستشار، اعتقد أن هذا هو معنى السيولة حاليا، فالناصح هو داعية أي شخصية عابرة في الحياة، لك أن تتأثر به ولك أن تلقي بكلامه، واختفت نظرية الشيخ المربي الذي نملك تجاهه التزام أخلاقي ونفسي، طالما أنني سألت إذن يجب أن أسمع كلامه، اما الداعية اليوم فإني   أسمعه في وقت الترفيه، كلامه نوع من التلطيف النفسي وأنا لست ملزما بأي شيء. من هنا تظهر خطورة الإطار النظري.

أ/ مهجة:

كذلك في مجتمعاتنا المعاصرة أصبحت اللياقة  سوق ضخم، فالناس تنفق المليارات للوصول الى حلم اللياقة، فأصبح هناك اقتصاد قائم على هذه الصناعة، صناعة للياقة.

د/ شريف:

وهذا أيضا له علاقة بفكرة تدنيس المقدس، بمعنى أن الجسد كان مساحة مقدسة رغم الالتصاق الشديد بين الفرد وجسده، ولكن فكرة أن الشخص يغير في ملامحه أو الأخذ بالنقص أو الزيادة من الجسد فهو شيء لم يكن مطروحا، من هنا فالجسد تم تدنيس قداسته.

د/ هاني:

كان د/ المسيري قد تكلم كيف البنت الأسيوية أو اليابانية تحاول أن تغير في ملامحها للشكل الغربي أو تتشبه بالشكل النموذجي الغربي.

أ/ منال:

بالنسبة لموضوع الداعية الناصح، فكرة  أن أسمع شخص لطيف لا يعطي لي أي التزام، هذا ما كان يحدث دائما وليس الآن فقط، فأنا كنت أسمع الشيخ الشعراوي ولم يكن هذا يفرض علي أي التزامات. الداعية دائما يقدم نصيحة ولا يأمر.

أ/ مدحت:

هل كنتي تسمعين له للترفيه؟ هذا هو الفرق.

د/ هاني:

يمكن تكون الفكرة التي نتكلم عنها هي إسلام السوق. أي أن هذا الداعية يمثل حالة سائلة من عملية الدعوة، فمن قبل كانت هناك شروط والتزامات في قيام الفرد بالدعوة، فهو دارس لتخصص أكاديمي يتيح له أن يتصدر للدعوة، ولكن معرفة بعض الكلام المنمق عن الدين والقدرة على تقديمه بشكل جاذب، فأنا هنا رجل شو أو استعراض أكثر من أني رجل إفادة اقدم شيئا ذو جدوى، أي أن تقديم المادة بصورة جيدة ودعائية لا تعني أن المادة نفسها جيدة، ويمكن هذا هو تأثير السيولة ،كما آثرنا في كتاب إسلام السوق.

أ/ منال:

إذن انت تقصد أن الناس كانت تسمع الشعراوي للتعلم أما الآن يسمعوا للترفيه؟

د/ شريف:

الناس كانت تستمع للشعراوي للتعلم والتربية معا، فهم يتبعونه فيما يتعلق بالآداب والحركات والإيماءات، بجانب التزامه بفتواه أو برأيه إلى أن يتشبه به في مجال المباحات. أما الدعاة الجدد فإن فكرة أن الدعوة تتحول إلى دعاية لم يصبح مجازا، لقد شاهدنا الداعية يبيع منتجات ويروج لها، فتحولت الدعوة إلى دعاية على المعنى الحقيقي وليس المجازي.

أ/ مهجة:

حتى لا يكون هناك ظلم لأحد، يجب القول أن في مرحلة معينة استطاع عمرو خالد أن يكون له تأثير كبير على الشباب، وكان يتكلم لغة يحتاجونها، وكان عشرات الألوف يصلون معه التراويح في المسجد في رمضان رغم أن بعضهم كان لا يصلي أصلا الفروض من قبل. فأنا رأيت شباب انتقل نقلة كبيرة على يد عمرو خالد والآن هو انفصل عنه وانطلق في الطريق ولم يعد في حاجه اليه. فأنا أتسأل: هل يجب أن نظل بطريقة الشيخ التقليدية أم أن الزمن يتطلب طريقة مختلفة؟ كذلك العمل في إعلانات تجارية أمر مستحدث على الداعية، لم يفعلها من قبل، فماذا حدث له؟

يجب علينا دراسة هذه الظاهرة. ولكن نحتاج أن يكون لدينا أدوات منهجية خاصة بنا.

د/ شريف:

عادة يقوم الشخص بتغيير ملابسه القديمة بأخرى جديدة طالما هو في مرحلة نمو، ولا يلوم الملابس ولكن يقول إنها طبيعة الأشياء، ويظل على احترامه وتقديره للملابس القديمة التي استخدمها في وقت من الأوقات، ولكنه كبر ونمى، ولكن الملابس نفسها لم تخرج عن طبيعتها، كذلك مثال تغيير السيارة القديمة بعد استهلاكها أو حين الاحتياج الى سيارة أكثر اتساعا،وهنا سأظل على تقديري للسيارة القديمة وستظل هي سيارة في نظري ونظر غيري. لكن من المشكلة أن بعد أن أتوقف عن التعاطي مع الشيء أكتشف أن طبيعته قد تغيرت وتحولت، هنا سأعيد نظر في الوقت الذي كنت أتفاعل فيه معه، هل كان طبيعي وكان يؤدي إلى ثمرة طبيعية أم كان يحمل ثمار فيها نوع من الخلل الذي استحق أن نتوقف عنده ونتتبع مآلاته. بمعنى أن أي شاب تتلمذ على يد عمرو خالد من حقه أن يقف ويراجع نفسه فيما تعلمه على يده، هل ما تعلمته كان يخلو من الآفات أم هناك ما هو كامن ومستتر ومن الممكن أن يواجهني في أي لحظة، عندما ظهر عمرو خالد لم أكن مستريحا، ليس تعاليا أو لأنه لا يشبه المشايخ التقليدين، لكني كنت أرى فكرة الاستعراض واضحة عنده جدا. شعرت أنني أمام تجربة بروتستانتية أي تجربة إعادة تشكيل الدين في شكل استعراضي؛ كان القس البروتستانتي يعتمد على حضوره الشخصي وليس على ما يقدمه للناس من مضمون، فقد غير المضمون فأصبح علاقة شخصية بينك وبين الله، وافعل بعد ذلك ما تشاء، ولقد أتيت لأدعوك، لأعطيك inspiration إلهام وهذا من خلال حضوري الطاغي وشخصيتي المسيطرة. هذا ما شعرته في الدعاة الجدد، نوع من التنمية البشرية أو نوع من الحوار مع الكاميرا، وأعتقد أن هذا له علاقة بالاهتمام بالمظهر الخارجي لأنه جزء من صناعة الصورة.

أ/ مهجة:

يجب أن نكون على وعي أننا نحاول نفهم هذه الظاهرة وليس انتقادها، فقد يكون هذا الداعية أو ذاك عند الله شيء كبير، ولكن هذه ظاهرة قلقة نسعى الى فهمها.

أ/ مدحت:

 علشان يسهل فهمها نتكلم عن الدعوة في ظل الحداثة السائلة أو في ظل الحداثة بصفة عامة. ما هي الأحوال التي تمر بها الدعوة بغض النظر عن الدعاة؟ لأن الكلام عن الدعاة يشعر الناس كأننا نتكلم عن الشخص في ذاته، الا أننا يجب أن نتكلم في الظاهرة بصفة عامة وما جد بها، ما ظهر منها في مؤسسات أو جمعيات شرعية أو غيره، ما هي نماذجهم؟  وبناء على ذلك نستطيع الفهم.

 هل ما طرأ في هذه الظاهرة يبرره تجدد في الواقع؟ أم أن هناك قوانين الوسيلة؟ وأعتقد أنها النقطة الخطيرة في الوعي التاريخي المعاصر، وهي فكرة أثر الوسائل وقوانينها، هل أقبلها كلها أم جزء منها أم أرفضها تماما. الآن يذهب الداعية إلى الأستوديو ويترك نفسه تماما للمعدين، وأحيانا يطلب منه أن يأتي مبكرا ساعة للإعداد الشكلي، وهنا يكون قد غير معنوياته وأصبح فعلا مؤديا. ولكن الدعوة لا علاقة لها بعالم الوسائل.

أ/ منال:

سأناقش الفصل الثالث وهو بعنوان الزمان المكان.

 يتكلم باومان عن تغير مفاهيم الزمان والمكان بما يعبر عن الدخول في مرحلة السيولة، في المجمل كان الكلام جيد، ولكن في الزمان تحديدا كانت هناك مفاهيم غير واضحة ومناطق كانت تحتاج جهد ذهني كبير لفهمها. أما بخصوص المكان كانت أشعر أن الأمور منضبطة.

في البداية تكلم عن مدينة هيرتدتج بارك وهي مدينة بناها أحد المهندسين في جنوب إفريقيا وجعلها نموذجا للانعزال، كيف نرصد تحول الأماكن العامة أو الفضاءات العامة إلى تكتلات من الناس لا يوجد بين أفرادها تفاعل اجتماعي حقيقي، يقول باومان أن الذين بينهم تفاعل اجتماعي حقيقي سيتجمعون في مدن لها أسوار عالية لا يسمح لأي شخص مختلف أن يدخلها. كذلك تكلم باومان عن مدن أمريكية ينفق فيها الناس أموالا طائلة على الأمن والحراسة والأسوار بدلا من الإنفاق على المساحات المشتركة أو على برامج لاستيعاب الفقراء أو المختلفين عنهم، أو على سياسات تسعى لدمج جميع الأفراد في المجتمع في بوتقة واحدة. إذن فقد اختار الإنسان أن ينفق أمواله على بناء سجون وبناء أسوار وبناء مدن منعزلة وبناء شركات أمن خاصة.

ينقسم الفصل إلى سبع عناوين رئيسية، الثلاث عناوين الأولى تتكلم عن المكان، والأربعة الآخرين تتكلم عن جدلية الزمان والمكان.

العنوان الأول عندما يلتقي الغريب غريبا، تكلم فيه باومان حول أن مرحلة الحداثة الصلبة كانت مرتبطة بما يسمى السلوك الاجتماعي المتحضر في تعامل الإنسان مع غيره وتعامله مع المختلف، فكان هناك قناع يرتديه الناس يسمى السلوك المتحضر، وهو عبارة عن مهارات تجعل الناس تستمتع في وجودها مع بعضها البعض أو تعرف تتعامل مع بعضها البعض، فهو يحمي الناس من بعضها البعض وفي نفس الوقت يجعلهم يتعايشون، هذا السلوك أصبح فيه اضمحلال، يرفض الناس اليوم تعلم هذا السلوك، وأصبحت تفضل الذهاب إلى الأماكن المنعزلة الخاصة بها.

 وقد تحدث عن أربع أماكن، المكان الطارد والمكان الملتهم واللامكان والمكان الخالي، كل من هذه الأماكن يعبر عن نفس الفكرة، ولكنه مفهوم مهم. مثلا المكان الطارد يشبهه بمكان في فرنسا يسمى “لاديفونس” وهي ساحة كبيرة في فرنسا على ضفة نهر السين، لماذا هو مكان طارد؟ لأنه مكان فخم جدا مملوء بالواجهات الزجاجية لكنه موحش، من الممكن أن الناس العادية تدخله ولكنها ستشعر أنها لا تستطيع الاستمرار فيه، وهو لا يوجد به أماكن للجلوس، فهو مقصود منه أن يشعرك بالمهابة وإحساس الوحشة هذا. هذا أشبه بالمولات التي في مصر التي ليس لكل الناس أن تدخلها، مثل منقطة “تاون هيلز” في مصر فهو طارد لكل من لا يحمل هوية التميز.

المكان الملتهم وهو المول، أي مكان التسوق مثل المعبد تشد إليه الرحال، فأصبحنا نشد الرحال إلى المول وهو عادة يكون خارج التجمع الأساسي للمساكن أو على أطراف المدينة، وهو ملتهم لأنه يفرض عليك نفسه، وله في ذلك تفسيرات كثيرة، منها أن التسوق يثير لذة واستمتاع ورغبة متجددة ومتنوعة باستمرار، لدرجة أن من الممكن أنت يكون هناك عدد كبير من الناس في المول ولكن الجميع يسير ولا يتكلمون سويا ولا توجد أية علاقات فيما بينهم، وإن قابل أحد صديق صدفة يكون لقاء غير مرغوب فيه لأنك ستوقف عجلة التسوق، فأنا لا أهتم في هذا اللقاء الصدفة أن أعيد أو أوطد علاقة، فكأن هذه اللقاءات غير مرغوب فيها ويجب أن تكون سريعة ويجب أن تكون عابرة حتى لا توقف عجلة التسوق.

د/ شريف:

أنا شخصيا كنت أستخدم هذا المصطلح من قبل أن أعرف أن باومان ذكره في كتابه، وهي أن مناطق التسوق هي أشبه بمناطق العبادة، فالجميع يتسابق في الطقوس الإيمانية، فيجب أن يكون لك عربة للتسوق قبل غيرك، ويجب أن تملؤها، وكما أنه لا يجب أن يكون الذي بجوارك يذكر الله وأنت لا تفعل، ففي المول يجب ألا يكون السائر بجوارك لديه تسوق أكثر منك.

أ/ مهجة:

أعتقد أنها نظرية في الغرب الآن، فكرة أن السوق أصبح المرجعية للمجتمع الرأسمالي. فأصبح الآن هو مركز المدينة، وهو المكان البديل عن الذي كان يتعبد فيه الناس في السابق، لذلك نجد فيه المطعم والسينما وكل ما تتمناه.

أ/ منال:

 يقصد باومان بكلمة “يلتهم” هنا أنه يلتهم الإنسان من داخله، أي يجرده من خصوصيته وهويته من خلال تفاعله مع قواعد السوق. هو يرى أن المكانين الطارد والملتهم يعبروا عن استراتيجيتين في التعامل مع الغير أو التعامل مع المختلف، “استراتيجية الإقصاء” أي من هو خارج السور ولن يدخل السور غير من يشبهني فقط، والأخرى هي “استراتيجية الدمج” بما يعني إلغاء الخصوصية، أي الخضوع لنفس القواعد ونفس القوانين لكي يكون مثلي.

ويبقى اللامكان كالمطار، يقبل وجود المختلف لفترة طويلة نسبيا لكن هو حضور جسدي فقط، ليس له أي معنى حقيقي، كأن الحضور والغياب سواء، وهو يخضع لقواعد وقوانين بسيطة مثل تعليمات المطار، كالسير على الخط المرسوم لك، فأنت الآن مثلك مثلا الآلة تسير وفق تعليمات محددة، وهو يضمن أن أي فرد داخل هذا اللامكان سيطبق هذه التعليمات، فهو ضامن للسلوك داخله كيف سيكون، وقد أسماه اللامكان لأنه يختزل التحضر وقواعد السلوك العام إلى قواعد بسيطة يسهل استيعابها، وكلما اتسعت تلك المساحات تضاءلت فرص تعلم السلوك المتحضر، فأنت لست مضطرا لكي تذهب للمطار أن تتفاعل مع الغير أو تتعامل معه، فأنت ببساطة تسير على الخط المرسوم، فهو لن يسمح لك أن تنتج سلوكا هو لا يتوقعه، وأمثلة أخرى، كدليل على اتساع هذا المفهوم، وسائل النقل العامة وأي أماكن انتظار.

 أما المكان الخالي فله استراتيجية أخرى، فهو يعبر عن منطقة ذهنية، فالآخر غير موجود أصلا في الخريطة الإدراكية للشخص، ويعطي مثال هنا عن شخص سائح ومرشده وسائق أجرة، فالسائح قد دخل بلد من بلاد أمريكا الجنوبية وقامت المرشدة باصطحابه من المطار إلى الفندق، وقد استغرقت هذه الرحلة ساعتين، وهذه كانت مدة طويلة ولكنهم كانوا يسيرون في طرق نظيفة ومنظمة، وحين عودته من الفندق الى المطار غابت المرشدة، فأخذ سيارة أجرة عادية، فمر من خلال أحياء فقرة وأماكن عشوائية لدرجة أنه كان لا يعتقد أن هذه الأماكن موجودة، وقد استغرقت الرحلة في هذه الحالة 20 دقيقة، يقول باومان أن هذه الأماكن غير موجودة في الخريطة الإدراكية للمرشدة، فقد اعتبرت أن هذا الطريق غير موجود أصلا، فهو خالي لأنه يريد إلغاءه ويريد أن يغطي عليه. أعتقد أن د/ المسيري قد استخدم مثل هذا التعبير، فهذه المنطقة لا تعجبني فأغطيها وأتعامل معها على أنها غير موجودة. يمكن أن نضرب مثل على هذا المفهوم في مصر من خلال العلاقة بين منطقة نزلة السمان والهرم، فبمجرد دخولك لمنطقة الهرم يجب أن تنسى تماما هذه المنطقة العشوائية، أو منطقة مجرى العيون يقوم ارتفاع السور فيها الى حجبها، وكذلك الحواجز على طريق الدائري التي تخفي وراءها مناطق عشوائية عديدة، هذه هي المناطق الخالية أي تلك المناطق غير الموجودة في الخريطة الإدراكية للفرد، فهو لا يدرك وجودها أصلا ولا يحب أن تتواجد أو يفكر فيها.

وأيضا في استراتيجية المكان هناك مبدأ ألا تتحدث مع الغرباء، وهذا مصطلح ليس للصغار ولكنه نهج للحياة للكبار، وكما ذكرنا من قبل لكي نتعامل مع الغرباء يجب أن يكون لدينا فن التعامل مع الغرباء، وهذا فن ودراسة ويحتاج ممارسة ولا يولد من تلقاء نفسه، ويرى باومان أننا الآن ومن منطلق الاستسهال لا نتعلم فن التعامل مع الآخر ولا نرهق أنفسنا في البحث عن كيفية التحاور معه، وهكذا ندخل في دائرة مفرغة، أننا لا نتعلم الحوار فيتولد لدينا خوف من الغير، والخوف يضعف الرغبة أكثر في الحوار.

د/ شريف:

 وهذا هو أحد معاني غياب الحرية، ومن هنا كانت فكرة الانعتاق، هو تراجع القدرة والرغبة في الحوار مع الآخر، فمن أحد مظاهر الحرية نجد التحاور والحديث مع المختلف، وغياب هذه الظاهرة يعتبر مظهرا من مظاهر القيود الاجتماعية. فالشخص لا يملك القدرة في بعض الأحيان أن يتحاور مع غيره، رغم اشتراك هذا الآخر في نفس الحيز المكاني، فيصبح هذا الوضع مما يتعين إعتاق الفرد منه.

أ/ مهجة:

في مصر أصبح هناك ما يعرف بالفرز الاجتماعي، فهناك أماكن يمكن أن تمنع من الدخول فيها  لأنك لأنك لست في المستوى الاجتماعي الذي يسمح لك أن ترتاد مثل هذه الأماكن، وهذا نذير خطر، فمن غير الطبيعي أن يمنع شخص من دخول مكان من حقه دخوله.

د/ شريف:

هذا مقياس يشير الى المجتمع وكيف يرى نفسه، هل هو متصالح مع نفسه أو يعرف هويته؟ فإن دخل المجتمع مرحلة السيولة وأصبح هناك حاجزا بين رغبات الفرد وقدراته وبين ما يستطيع من فعله، فإن وجود هذا الحاجز ينذر بحاجة هذا المجتمع الى علاج بشكل ما.

أ/ منال:

 يذكر باومان أن عدم القدرة على عدم التعامل مع التعددية أو الآخر يعتبر مرض اجتماعي.

أ/ مهجة:

هل هذا له علاقة بالحداثة أم أنه مرض اجتماعي له علاقة بالتعالي وهو ما موجود منذ قديم الأزل، فالآيات القرآنية أشارت بوضوح الى المترفين وأحوالهم.

د/ شريف:

هو حدد لنفسه نطاق زمني وقال إننا بدأنا من مرحلة العقل، وافترضنا أننا سنصنع مجتمعا على أساس من هذا العقل، وأصبح لدينا شوارع وأبنية وطرق وسيارات وأساليب تعامل ونظم للإدارة، فهو يقول إننا بدأنا بهذا الطموح، وعندما يتحول العقل إلى واقع فإذا بنا نؤول إلى نتيجة غير ما تصورنا، فهو حدد لنفسه إطاره الزمني “العقلنة”. ومن الممكن أن يكون لنا مرجعية مختلفة.

أ/ مهجة:

ولكن أيام الرأسمالية الثقيلة التي تحدث عنها كان هناك تمييز بين أفراد المجتمع، وكان هناك من يعمل بالسخرة، ولم يكن هناك أي اتصال أو تواصل بين هذه الطبقات.

د/ شريف:

باومان لا يقارن هنا بين الحداثة الصلبة والحداثة السائلة، باعتبار أن الحداثة الصلبة شيء جيد وحدث عنها انحراف، إنما يقول أن الحداثة الصلبة وضعت لنفسها أهدافا لم تنجح في الوصول إليها، فآلت إلى أن تكون حداثة سائلة.

أ/ منال:

الغير هنا لم يكن اقتصاديا ولكن المقصود به الغير الثقافي، فهو يتكلم عن تنامي الخوف من الغريب في أمريكا في العقدين الآخرين، وكيف أن المدن تشكلت أكثر على أساس عرقي، فكانت هناك مناطق عرقية متماثلة، فتصاعد مفهوم الهوية المشتركة في مقابل المصالح المشتركة، فأُعتبرت العرقية الخيار الأول عندما تعلق الأمر بالانسحاب والانعزال المكاني. وقد سمى باومان المدن الجديدة بالكميونيتارية، وهو استجابة عقلانية لأزمة الفضاء العام بل وأزمة في السياسة، إن المساحات العامة التي فشلت الحداثة في تحقيقها أو خدمتها أدى إلى تشوه في الكميونتي. ويشير إلى أزمة السياسة كما حضرتك شرحتها (د/ شريف) أن السياسة لم تعد تتحدث عن مجتمع عادل او مصالح عامة بقدر ما تتكلم عن هوية مشتركة، فبدلا من أن تجمع الناس في بوتقة واحدة أصبحت ترسخ للانفصال، ويرى باومان أن السياسة نفسها اصبحت مثل السوق، والساسة أصبحوا رجال أعمال، والناخبون أصبحوا زبائن لهم، وكأن الناس ستشتري سلعة دون أن يتقابلوا، وكأن السياسي وهو يعطى تصريحات معينة هو مجرد ممثل نشاهده في مشهد وسينتهي، والناس لن تتقابل معه مرة أخرى، ولم يعد الخطاب السياسي يتكلم عن المجتمع العادل أو المصالح المشتركة، ولكن أصبح مشاهير السياسيين يقومون بعرض أهدافهم ومشاعرهم وليس أفعالهم، وأصبح يتصدر المشهد السياسي مفهوم الهوية على الصالح العام، فالمهم من نحن وليس ماذا نفعل.

أ/ مدحت:

على مستوى باومان أعتقد أن هناك مشكلة في إنسان العصر فأصبح لا يريد أن يقابل نفسه، فالانعتاق يقابله هروب من حقيقة الذات، الناس لا تريد أن تتناقش أو أن تلتحم مع المشاكل العملية، لأن هذا بمثابة مرايا تظهر أني مخلوق عندي أمراض أخلاقية وأمراض نفسية وأمراض في التفكير، ومجرد محاولة الكلام سيكون الأمر غير ملائم أو مريح، إذن الحل هو التشاجر والكلام غير المفهوم. فإنسان العصر شخص هربان وعريان ويستتر في الضوضاء ولا يريد من يكشفه، لأنه بذلك سيبدأ صوت الضمير يعلو والعقل يعود. فيسأل باومان هل السيولة لها علاقة بهذا أم هذه مسألة وتلك أخرى، هل الضجيج هو السيولة أم العكس؟ وبناء على ذلك تخفي الشيء الأساسي ولا تنظر في المرآة.

أ/ منال:

تساءلت عند قراءة مفهوم أولوية الهوية على المصالح عند باومان، هل هذا متحقق عندنا في مصر؟ أعتقد أننا هنا لا نسنطيع أن نقدم الهوية على المصالح.

أ/ مدحت:

هو يقصد هنا بالهوية والمصالح أي السياسة والسُلطة، فالسياسة تكلم الناس عن مصالحهم مثل التعليم والصحة وغيره، وما يحدث أنك تشعر بالإنجاز شعور هوياتي، فأنا منتمي للقول بالإنجاز.

أ/ منال:

بعدها تكلم باومان عن الزمن ومفهومه للزمن معقد قليلا، فهو يتكلم عن تاريخ الزمن ويعتبر أن الحداثة بدأت من بداية تاريخ الزمن، فأنا شعرت أن المفهوم ملتبس ولم أفهم ما هو تاريخ الزمن، فهناك مرحلتين ما قبل تاريخ الزمن أي قبل اختراع الآلات، وعصر تاريخ الزمن هو الذي بدأت فيه الحداثة، وهنا بدأ الوقت يمر سريعا، وأصبح الزمن يحدد كل شيء، وأصبح هناك سيطرة على المكان من خلال الزمن، فالأسرع هو الذي سيحكم ويسيطر. هناك خلاف بينه وبين نظرتنا فأرى أن نظرتنا للوقت مختلفة عن هذا.

ثم تكلم باومان عن الحداثة الثقيلة والحداثة الخفيفة، التي تكلمت عنها أ/ مهجة. ويرى أن معنى كل شيء تغير، معنى العمل نفسه تغير، فإذا كنت تعمل في “ميكروسوفت” أنت لا تعرف ماذا ستنتج، أما من كان يعمل في “فورد” فهو يعلم أن حياته المهنية كلها ستكون في “فورد”. وتكلم باومان عن “حياة اللحظة” وأن الإنسان كان يريد الخلود من خلال عمله والإنجاز الذي سيخلد إسمه، أما الآن فقد انعكست الرغبة، فأنا لا أريد الخلود من خلال عملي، بل أريد أن أخلد أنا فقط، ولكنك في النهاية ميت، فيقول أنا سأخلد من خلال اللحظة التي أعيشها، كيف أخلد من خلال هذا اللحظة؟ أن أعيشها بكل ما فيها، وأن اللحظة التالية هي شيء مختلف، ويضرب مثل أن في أحد المؤتمرات الاقتصادية العالمية أعلن “بيل جيتس” عن رغبته في تحطيم ما صنعه هو. فأصبح الإنسان غير مرتبط بالشيء الذي صنعه، بل بالعكس كل ما كان ما صنعته  قابل للتغير والتحطم أو الى تحويله الى شيء آخر فهذا هو المطلوب والمفروض.

أ/ مدحت:

الإنجاز في ذاته هو قيمة، ولكن بعد إتمام الإنجاز يصبح لا قيمة له، فمثلا بعد ما كنت أتشوف لإنشاء الشركة انتهى الإنجاز فأصبح لا قيمة لوجودها عندي ويجب هدمها، وهذه فلسفة انتقامية من الحداثة والتي أمدتنا بقيم واكتشفنا بعد ذلك أنها فارغة، فالغربيون عندهم فعلا مشكلة مع الحداثة، وأيضا عند العرب هناك ترويج كبير للتغريب والحداثة، وحتى انهزام الاتحاد السوفيتي بهذه الطريقة صدم الغرب، فلم تكن بطريقة درامية أو الدرامية فيها غير مقنعة، فهو سقط للأسباب الموجودة عندنا وليس لأنه شيوعي أو لأنه أقل ليبرالية أو ديمقراطية. الجميع دخل إلى أزمة بنيوية في التفكير وفي رؤيتنا للعالم وللذات. هناك بعض المحافظين الجدد والقدماء يحاولوا أن يتترسوا ولكن كتابتهم تدل على إنهم في مرحلة دفاعية. فكتاب “who are we?” يتكلم ضد العولمة وضد الشرذمة وأن أمريكا معرضة للأمرين، وأنها لو اتفقت مع العالم في أن تدخل في قرية واحدة هي نفسها ستذوب، فلدينا نخب سياسية واقتصادية لديهم الاستعداد أن يعلنوا انتماءهم إلى شركاتهم ومؤسساتهم أكثر من انتمائهم لأمريكا، وهذا سيؤدي الى ذوبان أمريكا، أو شرذمة أمريكا، رئيس المكسيك يذهب إلى الولايات الجنوبية في أمريكا لدعايته الانتخابية ويطالب الكونجرس أن يوفر ميزانيات مخصوصة للمكسيكيين المقيمين في أمريكا، هناك إشكالية هوية في الغرب، فأصبحت هويتك هي دفعك للضرائب، نموذج الدولة القومية تحتاج لمراجعات شديدة، وباومان وغيره لم ينظروا لمجتمعات ما قبل الحداثة نظرة احترام، فهو يتكلم عنها في كتابه في المقدمة وفي الفصول أن هناك أشياء كان لا ينبغي أن تذوبها الحداثة في المجتمعات التقليدية والبدوية والدول التي لم تكن قومية، ثم يقول أن الحداثة قامت بعملية تذويب لها ولكن هي كانت جاهزة لهذا التذويب فهي راكده وخامدة وغير منتجة، فعالم ما قبل الحداثة كان فيه الصين والهند ومصر، وهذه لم تكن دول قومية، ولكنها كانت تقوم بوظائفها الاجتماعية بشكل تام، فهي ضربت نابليون بينما أنتم خائفين منه، فمصر الذي كان ينظر إليه بازدراء على أساس أنها نمط إنتاج شرقي أو أسيوي استطاعت إخراج نابليون في 11 شهر، رغم أنها كانت تخلو من العسكر في ذلك الوقت، فالعثمانيون هربوا شمالا والمماليك جنوبا ومع هذا استمرت الثورة ضد نابليون ثلاث سنوات. فهذه نقطة ضعف عند باومان وهبرماس وهو عدم تقدير مجتمع ما قبل الحداثة، فالإنسان استمر آلاف السنين بدون الأزمات الضخمة التي نعيشها.

د/ شريف:

ولكن عندما جاء محمد علي استطاع عمل ما لم يستطع الجميع فعله ولم يستطيعوا فعل شيء معه أو الوقوف أمامه، فهي كانت مجتمعات فيها الإشكالات التي تؤهلها للوقوع إلى المستنقع الحالي.

د/ هاني:

الفصل الرابع بعنوان العمل.

هناك مقدمة للفصل تبين كيف أن الحداثة قد مجدت من قيمة العمل باعتبار أن العمل أصبح هو الوسيلة إلى التقدم وهو كذلك وسيلة لتكوين الثروة، ومفهوم التقدم هو مفهوم حداثي بامتياز يتعلق بالنقلة التي قامت بها الحداثة الغربية بعد أن فصلت بين عهدين؛ عهد سيطرة الغيب وعهد سيطرة العقل. الحداثة حين قامت بإزاحة المراكز القديمة مثل الكنيسة والإقطاع والملكية، بدأت تحل محلها مراكز جديدة، فجعلت العقل –كمفهوم– بديلا عن الكنيسة، ولكنها لم تتخلص من الكنيسة تماما ولكن فقط نقلت عنها مركز السيطرة، فالبعض حين يعرف الحداثة يعرفها على أنها عهد سيطرة العقل على الطبيعة من أجل تسخير هذه الطبيعة لصالح الإنسان. إزاحة المراكز القديمة يقصد بها نقل مجال السيطرة والهيمنة للثلاث مراكز التي كانت تتصدر المشهد (الكنيسة والإقطاع والملكية)، فالكنيسة كانت تهيمن على الجانب الديني والأخلاقي ووضع القواعد الأخلاقية لتنظيم المجتمع، وكان الإقطاع يتصدر المشهد في الشأن الاقتصادي ويهيمن عليه، وكانت الملكية تهيمن على الشأن السياسي.

قامت الحداثة بعمليات الإزاحة والإبدال، فجعلت العقل هو مركز السيطرة الجديد بدلا من الكنيسة، والعلم بدلا من الدين، والجمهورية بدلا من الملكية، والديمقراطية بدلا من نظام التوريث، والرأسمالية بدلا من الإقطاع، وذلك بعد تطوير الرأسمالية التي كان لها جذور منذ القرون الوسطى،فأحدثت بها العديد من التطويرات ومزجتها ببعض الفلسفات، لتهيمن بعد ذلك الرأسمالية على الشأن الاقتصادي، وأصبحت هذه المراكز الجديدة مرتكزات الحداثة في التبشير بفردوسها الأرضي الموعود للوصول الى السعادة للإنسان من خلال سيطرة العقل على الطبيعة. وهذه كانت مقدمة أو تمهيد يربطنا بالموضوع الأساسي.

احتل العمل مكانة كبيرة في الحداثة باعتباره الوسيلة لتحقيق التقدم، وهو مرتبط أساسا بسيطرة العقل والعلم واكتشاف نظام الطبيعة بما يمكن من السيطرة عليها، فكان العمل هو الوسيلة الأساسية لتحقيق التقدم بهذا المفهوم، ومن ثم اكتسب مكانته الكبيرة. وكأن الحداثة قد شعرت بأنها في حاجة ماسة إلى إضفاء القداسة على بعض مرتكزاتها من أجل التعامل مع أزمة الفراغ الروحي التي حدثت للإنسان نتيجة إزاحة أو إبعاد الدين والكنيسة عن مجال السيطرة، فقامت بإضفاء شيء من القداسة على العمل، فأصبح العمل من المفاهيم التي تتمتع بنوع من القداسة باعتبار أنه يؤدي إلى التقدم وهو الوسيلة لامتلاك الثروة.

بعد ذلك بدأ باومان يتكلم عن مكانة العمل في الحداثة الصلبة والتغيرات التي لحقت بمكانة العمل في عصر الحداثة السائلة. ثم تكلم عن مفاهيم حدث فيها شيء من التبدل والتقلب، وهو لم يصفها بهذا الوصف ولكني لكي أحاول فهم هذه الفكرة أسميتها “تحول الوسائل إلى غايات”، فكأن في عصر الحداثة السائلة أصبحت الغاية فكرة لابد من محاربتها، لأن الحداثة السائلة تعتبر أن وجود غاية يسعى الكل إلى الوصول إليها تعني نهاية التاريخ، كما أن الوصول إلى الإشباع الكامل سيؤثر على الاستهلاك، وهذا يمثل خطر على رأس المال، وهنا أصبحت فكرة الإشباع الكامل من الأفكار التي تحاربها الحداثة السائلة، وبالتالي فهي تسعى دائما الى خلق رغبات جديدة من خلال توليد أنماط مستحدثة من اللذة والمتعة، حتى لا يصل الإنسان إلى وضع الإشباع الكامل وبالتالي يتوقف الاستهلاك. الصورة المجازية الرئيسية التي اعتمد عليها باومان في وصف وضعية العمل أو مكانته في عهد الحداثة الصلبة هي ما أسماه بـ”المصنع الفوردي” نسبة إلى هنري فورد رجل الأعمال الكبير الذي قام في أمريكا ببناء مصنع فورد للسيارات، وكان لديه الكثير من الأنشطة الصناعية ويعد من رموز النهضة الصناعية في أمريكا والغرب بشكل عام، وهنا اتخذ باومان من المصنع الفوردي صورة مجازية لشرح الوضعية التي كان يشغلها العمل والعمال في عصر الحداثة الصلبة، فبين جدران المصنع الفوردي الصلبة كان يقبع رأس المال والعمل، وكانت هناك علاقة تعاقدية وثيقة وصلت إلى حد الزواج الأبدي أو الزواج الكاثوليكي بين العمال وبين رأس المال، وهي ما أسماه باومان “بالاعتماد المتبادل”، وهي أن كل طرف من الأطراف يعتمد في تحقيق مصالحه على الطرف الأخر، وبالتالي فكل طرف في حاجة ماسة ودائمة إلى الطرف الآخر، فأصبحت مصلحة كل من الطرفين أن تستمر هذه العلاقة الأبدية التي لا يفرقها الدهر كما يقولون، فأصبح رأس المال يحتاج إلى العمل والعمال حتى يتحول رأس المال إلى إنتاج أو منتجات، وأصبح العمل يحتاج إلى رأس المال كي يكفله ويرعاه ويوظفه، وكان هنري فورد مدركا لهذا الزواج الكاثوليكي بين العمل ورأس المال حتى أنه في يوم من الأيام قام بزيادة أجور الموظفين بشكل سخي غير معتاد، وعندما سُئل في ذلك قال: حتى يتمكن عمالي من شراء سيارتي؛ وكان يقولها بشيء من الفكاهة الساخرة، فهو لم يكن يقصد هذا حرفيا، ولكنه كان يقصد أنه لابد من أن يشعر العامل بالأمان. وكان الصبي الصغير يدخل إلى المصنع الفوردي وهو مطمئن على مستقبله وأنه سيختم حياته في هذا المصنع، فاكتسب العمل في مرحلة الحداثة الصلبة مكانة  لكونه وسيلة التقدم الحداثي ووسيلة تحقيق الثروة، كما اكتسب مكانة إضافية باعتباره مصدرا من مصادر الأمان واليقين. ولذلك عندما تحدث باومان عن الحداثة السائلة قال أن من أهم سماتها فقدان الأمان بسبب فقدان مراكز اليقين ومنها العمل.

وقد أشار باومان الى أن الصورة لم تكن وردية حالمة في مرحلة الحداثة الصلبة، فكان هناك في بعض الأحيان مشاحنات بين ممثلي رأس المال وبين العمال، ووصل الأمر إلى حد العداء في بعض الأحيان، لكن كانت هناك قاعدة أساسية أن هناك ارتباط مقدس ومحترم بين العمل ورأس المال دون أن يعني ذلك عدم وجود خلافات أو مشاحنات أو نزاعات، وظهرت فكرة التشكيل النقابي كأبرز تحول حدث بعد أن اكتسب العمل وضعية أكبر في عهد الحداثة الصلبة، وتطورت التشكيلات النقابية لتتخذ وضعية أكثر تنظيما وقوة ومتانة.

 ثم بدأت مكانة العمل تتراجع في عهد الحداثة السائلة وذلك نتيجة أمرين أساسيين، الأمر الأول وقوع تبدل في المفاهيم، والأمر الثاني تحول الوسائل إلى غايات، بالنسبة للأمر الأول نجد أن مفهومي رأس المال والعمل أصبحا لهما دلالات متغيرة في عهد الحداثة السائلة، فبعد أن كان رأس المال كثيفا وثقيلا أصبح النمط الشائع أو الطاغي لرأس المال هو رأس المال الخفيف، فبعد أن كان رأس المال يعتمد على الآلات الثقيلة وجدران المصانع الضخمة، أصبح يعتمد بالأساس على الأفكار، فكأن الأفكار ذات الجاذبية أصبحت هي نقطة الارتكاز في رأس المال الخفيف في عهد الحداثة السائلة، وأحدث التغير في طبيعة رأس المال تغيرا في النظرة الى العمل، فالاعتماد على الأفكار في رأس المال الخفيف يحتاج بالضرورة الى شخص قادر على تسويق هذه الأفكار وترويجها وإكسابها الجاذبية التي تقنع شرائح أكبر من المستهلكين، وهنا بدأت تظهر شخصيات وفاعلين جدد في المشهد، وأصبح أصحاب رأس المال يعتمدون عليهم بشكل أكبر من العامل، لأن العامل الذي يقف وراء الآلة أو على جهاز شخص قليل المواهب وقليل الإمكانيات، وأصبح متوفر بكثرة، ولكن لا يتوافر بأعداد كافية الأشخاص الذين لديهم قدرات ومهارات وملكات خاصة يستطيعون بها الترويج للأفكار التي هي جوهر رأس المال الجديد. وهنا من الممكن أن نستحضر نموذج صعود النجم والذي حل محل القائد، فزادت أهمية النجم، ذلك لأن النجم لديه القدرة على الترويج للأفكار مهما كانت تافهة وإقناع شرائح أكبر من الناس بهذه الأفكار، فهذه الفواعل الجديدة بدأت تسحب البساط من تحت أقدام العمل والعمال، وأصبحت قيمة العمل والعمال ليست هي القيمة الأساسية.

من ضمن تبدل المفاهيم أيضا – وهذا المقطع لم أفهمه جيداً – قال باومان “أنه صار ينظر إلى المستهلك على أنه ليس مجرد متلقيا للسلع والخدمات ولكن أصبح ينظر إليه باعتباره فرع أو ركن من أركان عملية الإنتاج نفسها”، فأنا أظن أنه يريد أن يقول أن “الزبون دائما على حق”، بمعنى أن الحرص على المستهلك أهم من الحرص على العامل نفسه.

 أما بالنسبة لفكرة تحول الوسائل إلى غايات -وهذا ما سأتكلم عنه بعد ذلك في مسألة العمل- تأتي مسألة الإرجاء. ففي عهد الحداثة الصلبة كان المبدأ ” أتعب الآن لكي أشبع بعد ذلك”، فعندما أنتقل الى المعاش وأستلم مكافأة نهاية الخدمة أقوم بالاستمتاع بكل متع الحياة التي كنت محروما منها في مرحلة الشباب. هذا مفهوم الإرجاء في عهد الحداثة الصلبة، التعب وتأجيل الإشباع حتى يصبح لديك المال الكافي لتستمع بعد ذلك. هذه فكرة لم تعد تقبلها الحداثة السائلة، لأن الوصول إلى الإشباع التام لم يعد فكرة مُرحباً بها، لأن هذا معناه أنك ستصل إلى حد معين من الاستهلاك واللذة وتكتفي بعدها وهذا مالا نريده، فاتخذت فكرة الإرجاء شكلا أخر وهو الإشباع المؤقت، أي الاستمتاع بالسلعة بناء على رغبة مؤقتة تم توليدها لدى الإنسان؛ لذلك تكلم باومان عن توليد الرغبات أو توليد الطلب، وهذا يبرز فكرة التسويق النجم والإعلان والتي اصبحت اهم من فكرة العمل والعامل نفسه، وهذا حمَل العامل والعمال أعباء إضافية؛ فالإرجاء في عهد الحداثة السائلة يعني الاستمتاع بما نريد لفترة مؤقتة حتى نستبدل لك الرغبة فيبدأ عندك طلب جديد ورغبة جديدة على منتج جديد، فأصبح الأمر سباقا لا ينتهي.

د/ شريف:

أنت ستستمتع بما نريد نحن، ولكن بعد إقناعك أن هذا ما تريده أنت.  

د/ هاني:

نعم بالضبط ولذلك هو تكلم عن فكرة أننا لم نبقى بحاجة إلى “البانوبتيكون “Panopticon لـ ميشيل فوكو، وهو سجن مراقب بشدة، يمكن للعسكري رؤية كل حجرات المسجونين دون أن يتمكن أحد من رؤيته، وهو كان رمز السيطرة في الحداثة الصلبة، ويرى باومان أن لا حاجة للرقابة في الحداثة السائلة. ولكن أنا أرى أن هذا محل نقاش، من الممكن أنه يتكلم عن الوضع في الغرب ولكن أعتقد انه لا تزال الرقابة الصلبة لها حضورها القوي على الأقل في العالم العربي. وقد يقصد باومان أن فكرة المراقبة بهذا الشكل الصلب لم تنتهي ولكن هناك أفكار أخرى تنافسها، فبدلا من الرقابة اللصيقة التي تجعلك تفعل ما أريده بدافع الخوف، سأجعلك تفعل ما أريده بدون خوف بأن أسلط عليك جحافل هائلة من الإعلانات والمغريات تحاصرك في كل مكان، وهنا ستفعل ما نريده وتكون مستمتعا ومقتنعا بأنه هذا ما تريده أنت وأن هذا هو اختيارك أنت.

قديما كنت أستهلك ما أنا في حاجة اليه، ولكن الآن استهلك الشيء الذي لا أحتاجه اقتناعا مني بأني في حاجه إليه، في مقاصد الشريعة نقسم المسائل الى ضروريات وحاجيات وتحسينيات، فالضروريات هو الشيء الذي لا تقوم الحياة بدونه، والحاجيات هو ما يمكن أن تستمر الحياة بدونه ولكن سيشعر الإنسان بمشقة بالغة في معيشته. ولكن الآن إن لم يكن لدي آخر موديل من الموبايل فأنا أكون في احتياج له، حتى إن كانت حياتي يمكن أن تسير بكل طبيعية وتلقائية وسهولة بدونه، ولكن بمجرد أن هذا الشيء ليس في يدي يعني احتياجي له، فمعيار الحاجة ومفهومها ومقياس تحديد الحاجة اختلف، وهذا كله لكي يظل هناك رغبة مستمرة إلى عملية الإشباع والاستهلاك والسعي الذي لا ينتهي خلف اللذة، ولذلك يتكلم باومان عن أن خط النهاية متحرك دائما، ونحن نطارد خط النهاية بشكل مستمر ولا يمكن أن نصل إليه لأن خط النهاية يعني الإشباع التام واللذة الكاملة، وهذا لا يمكن أن يُسمح به لأن الوصول إليه يعني توقف الاستهلاك، وتوقف الاستهلاك في نظر الشركات العابرة للقارات يعني نهاية التاريخ، لأن التاريخ هو الاستهلاك ودوران حركة رأس المال.

وبعدها تكلم باومان عما أسماه من الزواج إلى المعاشرة، وكان يعني بذلك تغير طبيعة الروابط، أي أن الزواج الكاثوليكي الذي قام بين جدران المصنع الفوردي بين العمل ورأس المال أصبح ما يشبه الطلاق، أو على الأقل أصبح علاقة قابلة للانتهاء في أي لحظه بالإرادة المنفردة، لأن أصبحت هذه هي طبيعة الأمور.

أيضا تكلم باومان عن “قوانين المتاهة”، وهي من المصطلحات التي لفتت نظري، فهي صورة مجازية يعبر بها عن فكرة فقدان الغاية والوجهة واليقين، وكأن هذه الحالة أدت الى مجموعة من القوانين الجديدة أسماها “قوانين المتاهة”، وهي تعني أن أهم شيء هو أن أكون متحركا، حتى وإن كنت متحركا بلا وجهة أو غاية، إلا أن هذا لا يعني أن هذه الحركة ليس لها قوانين، وقد عبر عنها بفكرة أننا عندما نكون في طائرة ونظن أن هذه الطائرة لها قائد، ثم فجأة نكتشف أن غرفة القيادة فارغة وليس بها قائد، ومع هذا صممنا كركاب أن نكمل الرحلة وأن يستمتع كل منا بتصفح الموبايل وإيهام نفسه أنه يعيش حياته بشكل طبيعي، ففي ظل هذه الحالة سنبدأ في التفاوض بيننا من أجل الوصول إلى عقد اجتماعي جديد يناسب هذه الحالة، وهي حالة التواجد معا بلا وجهة وبلا قائد، هذه الحالة يسميها باومان بقوانين المتاهة ويقول أن الناس الأكثر تميزا في عصر الحداثة السائلة هم الأكثر معرفة بقوانين المتاهة، ويضرب بعض الأمثلة: كان هو وزوجته جالسين في المطار وبالقرب منهم اثنين من الشباب واستمر الانتظار عدة ساعات، واستغرق الشباب في حوارات طويلة والتصفح في الموبايل دون أن يشعر الشباب بوجود باومان وزوجته بالقرب منهم، فهو يضرب هذا المثال للتأكيد على طغيان النزعة الاستهلاكية وفكرة المتاهة وقوانينها على فكرة الروابط الإنسانية، ولهذا هو يتكلم عن الروابط الإنسانية في الزمن الصعب، وهذا ما يلتقي باومان مع الدكتور المسيري فيه، هي فكرة تغلب العلاقة التعاقدية على العلاقة التراحمية.

أ/ مدحت:

هل التراحمية والمجتمع المتراحم لهم مفهوم واضح عنده في هذا الكتاب؟

أ/ منال:

أنا لم ألاحظ ذلك أو حتى أنه هدف في الكتاب.

أ/ مهجة:

لم ألاحظ هذا في قراءتي للكتاب، حتى أنني لم أتفهم هل باومان مع الحداثة الصلبة أم ضدها.

أ/ مدحت:

هو يريد حداثة معدلة لا صلبة ولا سائلة، فمثلا بالنسبة للروابط بين العمل ورأس المال، فإذا ذكرت أن لا روابط بينهما، فهذا سيجعلنا نرتد إلى حداثة أشد صلابة خوفا من الحداثة السائلة وتبعاتها.

أ/ منال:

أن أشعر أنه لا يعرف ماذا يريد.

أ/ مدحت:

هو يطرح السؤال ويقول ليس لدي إجابة، ثم يجيب على السؤال.

أ/ مهجة:

في المقدمة ذكر أنه عيوب الحداثة الصلبة أدت الى محاولة جيل جديد تسييل هذه الحداثة الصلبة لإعادة تشكيلها، ثم فشلت المحاولة.

أ/ مدحت:

هل هو يحكي عن فكر أم واقع؟ الذي يمارس الحداثة السائلة لا يشعر بأنه يمارسها.

أ/ منال:

لم يكن الهدف أن تكون الحداثة سائلة، فهي أصبحت كذلك من طبائع الأمور، فهي سالت لأنها لم تكن صلبة بما يكفي.

أ/ مهجة:

ما يهمني بعد عرض الكتاب هو النقد وتنزيل ما جاء به على مظاهر المجتمع الآن، ولكن أخشى أن كل ما نجده ظاهرة غريبة نطلق عليها “الحداثة السائلة”.

أ/ مدحت:

حديثنا الآن هو الخوف السائل، فكرة أن نتوقع أن ممكن أي شيء يحدث وهذه هي السيولة التي اكتشفها باومان.

د/ هاني:

موضوع الإرجاء كان في عصر الحداثة الصلبة يعتبر فضيلة، ولكن الآن ينظر إلى إرجاء الإشباع على أنه خطر وبالتالي فمفهوم الزهد لم يعد مقبولا في عصر الحداثة السائلة لأنه يريدك أن تستهلك ثم تستهلك، فباتت فكرة الزهد من الأفكار التي تشكل خطر في عصر الحداثة السائلة، ومفهوم الزهد هنا ليس ديني ولكنه زهد مصلحي.في عصر الحداثة الصلبة كان المبدأ اتعب الآن لكي تشبع بعد ذلك. كان يوصف عصر الحداثة الصلبة بأنه عصر الإنتاج ولكن عصر الحادثة السائلة صار يوصف بعصر الاستهلاك.

أ/ مهجة:

تكلم باومان عن عصر الحداثة الصلبة والسائلة وما قبلهما وهو عصر الإقطاع، ولكنه لم يتعرض الى مرحلة الثورة الصناعية عندما كان يحيا العامل حياة العبيد، وكان يتقاضى أقل مما يكفي للعيش الكريم، وهذه كانت تعتبر حداثة صلبة ولكن لصالح أصحاب رؤوس الأموال، لم يتعرض لها باومان في عرضه تماما.

د/ هاني:

لم يتعرض باومان لهذه المرحلة نهائيا، ولكنه تكلم عن العمال في الفترة التي كانوا فيها غير مقهورين؛ وقد ذكر أن في بعض الأحيان كانت تحدث نزاعات شديدة بين أصحاب رأس المال والعمال ولكنه لم يتكلم عن قهر أو عبودية للعمال.

د/ شريف:

هناك خيط رفيع جدا بين أن يعتبر  باومان الحداثة الصلبة معيارا يقاس عليه، وبين أن يعتبرها مشروع مطروح، فأنا أرى أنه كان يطرحها على أنها البديل الثاني، أي أنه المشروع الذي وضعت له أسس سليمة ولكنه انحرف عنها، فهو لم يطرحها على أنها النموذج. وهذا ما تكلم عنه في فصل د/ هاني، كيف أن العمل أصبح ذو مرآه مزدوجة. هناك شخص أسمه مانويل كاسل تكلم عن شخص غير المنتج Producer والمستهلك consumer فهناك من يدعى Prodsumer، وهو  الشخص المنتج والمستهلك في نفس الوقت، أي أنه شخص ذو هوية مزدوجة، فأنا لا أريده طوال الوقت يعمل وينتج لكي يكون يستطيع الاستهلاك، ذلك لأني محتاج أوسع السوق لأقصى درجة، ففي وقت من الأوقات تحل الحداثة هذه المشكلة بفتح أسواق في العالم الثالث أو تقوم باحتلال دول لكي توفر أسواقا تصرف فيها منتجاتها، وفي حالة الفشل في فتح أسواق جديدة فلابد أن أمد عمالي بالقوة الشرائية التي تسمح لهم بالاستهلاك الكبير، وهذه هي الحدثة السائلة.

أ/ مهجة:

ولكن في الحداثة السائلة العامل ليس له ضمانات، فطبقا لكلام د/ هاني العامل أصبح وضعه أضعف من عصر الحداثة الصلبة، فالآن العامل يقوم بالتوقيع على استمارة تركه للعمل قبل استمارة تعاقده على هذا العمل، وذلك كما رأينا نتيجة أن عدد العمال أصبح كبيرا وأنهم لا يتمتعون بمهارات كافية، من هنا نجد أن كل بداية مرحلة تكون على حساب العامل.

د/ شريف:

نعم. ولذلك فهو يقول إن الحداثة السائلة ليست مرحلة ولكنها استمرار للحداثة الصلبة، فباومان يرى إن بذور الفساد كانت كامنة في الحداثة الصلبة، وهي التي أدت بالمشروع الحداثي إلى حالة السيولة التي هو فيها، فهو لم يطرح الأمر على أنهما مرحلتان يقارن الأسوء منهما بالأفضل، هو يطرحهما على أنهما مشروع وضع أسس عقلانية لسيطرة العقل وسيادة الإنسان ومركزيته، ولهذا تكلم في البداية عن الانعتاق، فيقول أنه كان هناك ما يكبل هذه المبادئ، فالعقل لم يكن حرا كما يصور والإنسان لم يكن حرا كما يصور وعلاقات العمل لم تكن علاقات سليمة كما أشيع، ولكن البذور كانت موجودة وهذا ما جعل المشروع يصل إلى مرحلة السيولة.

د/ هاني:

وقد تنبأ باومان بزوال مفهوم الوظيفة كما نعرفه، فرأى أنه ربما نفاجأ أن هذا المفهوم قد اختفى نتيجة للتدهور المتزايد في علاقة العامل برأس المال، فقد تكلم عن طغيان رأس المال في الحداثة السائلة وما أسماه برأس المال الخفيف، لقدرته الفائقة على التبدل والتقلب والانتقال المستمر مما يمثل تهديدا على الحكومات الحريصة على جذب الاستثمارات، وذلك في كل الدول الحديثة، وهو لم يفرق بين دول العالم الثالث والعالم الأول، فقد تكلم عن الدولة الحديثة بشكل عام كأنها جميعا باتت تخضع مجبرة لإملاءات رأس المال حتى لا يفر منها ويؤدي ذلك الى كوارث اقتصادية، وبالتالي بدأت حركة تتضمن تعديل مستمر في القوانين تهدف إلى تحرير رأس المال ورفع أي قيود عليه وتخفيف الضرائب من أجل وضع الإغراءات التي تجذب رأس المال وتغريه بالاستثمار داخل البلد، وهذا من ناحية له فوائد اقتصادية تؤدي إلى تحسين الوضع الاقتصادي، ولكن من ناحية أخرى يمس سيادة الدول ويجعل طغيان رأس المال على حساب سيادتها، ويجعل شعب كل دولة خاضع لإملاءات ومعرضا لتقديم تنازلات ربما لا تتسق مع ثقافته، ولذلك فقد أشار باومان أن في عصر الحداثة السائلة أصبح هناك حالة من التآكل في الأعراف والعادات والتقاليد والخصوصيات في كل بلد، وذلك نتيجة للخضوع لإملاءات رأس المال من أجل توفير المغريات له حتى لو كان على حساب الأعراف والتقاليد وثقافات وهويات الدول، بمعنى أن طغيان رأس المال لم يعاني منه العامل البسيط فقط الذي أصبح بلا حماية في ظل تأكل مظلات الحماية الاجتماعية، بل إن طغيان رأس المال مس حتى القوى الكبرى في الدول والحكومات نفسها.

 هل انتهى عهد الحداثة الصلبة ودخلنا في مرحلة أخرى أم لا؟

يرى باومان أن الحداثة السائلة لا تنذر بالانفصال النهائي عن الحداثة الأولى، وكأنه يميل إلى أن الحداثة الصلبة لم تنتهي وإنما الحداثة السائلة ما هي الا تراجع في مسيرة الحداثة الصلبة أو شكل جديد لها ولكنها لم تنتهي، فهو يقول ” لربما لم ينذر هذا النموذج بالانفصال النهائي عن الحداثة الأولى ولكنه ينذر قطعا بمجيء الرأسمالية الخفيفة العائمة؛ رأسمالية فك الارتباط وفك الروابط بين رأس المال والعمل”، لكن ما هو أكيد أن باومان ناقد لهذا الوضع وناقم عليه لأنه يقول بعد ذلك: “وربما نقول أن هذا التحول المشؤوم صورة من الانتقال من عصر الزواج إلى عصر المعاشرة” وهو يعني فك الارتباط بين العامل ورأس المال، وابتزاز رأس المال للدول والحكومات على حساب العادات والأعراف والهويات، فقال إن المسألة ليست مجرد تغيير قوانين لتحرير رأس المال من القيود ولكنها تدخل في تغيير قواعد اللعبة السياسية نفسها، وكأنه يشير من طرف خفي الى النفوذ الكبير الذي أصبحت تتمتع به تكتلات رأس المال والشركات العابرة للقارات في توجيه سياسات الدول بوجهة معينة على نحو يؤدي إلى إذعان أهل البلد وعجزهم عن حشد مقاومة منظمة لأي قرار ربما يتخذه رأس المال.

وأنا أقرأ هذا الكلام جاء في ذهني فكرة “الماجريات” للشيخ إبراهيم السكران وهي كلمة منحوتة من كلمة “ما جرى”، وهي تعني أن ينساق الإنسان وراء ما يجري دون أن تكون له وجهة صلبة أو هدف واضح، وقد تساءلت نفس التساؤل الذي ذكرته أ/ مهجة؛ ما الذي يجب علينا فعله بما يتسق مع عقيدتنا وهويتنا وثقافتنا إزاء هذا التحدي، وما هي الإجابة الإسلامية على تحدي الحداثة السائلة؟

ويقول باومان: “الوصول إلى المعلومات الالكترونية في الغالب الأعم صار أبرز حقوق الإنسان التي يدافع عنها باستماتة وهذه الأجهزة لا تقول أي شيء أكثر من تعبيرها عن ميوعة العالم الذي يسكنه المتلقي وفضيلة المرونة التي يحظى بها سكانه، كأنها تروج لقبول الإنسان المعاصر بحالة الحركة بلا وجهة وبلا غاية وتبدأ تسمى الأشياء بغير اسمائها، كأنه يتكلم عن فكرة الألفاظ والعبارات المضللة التي تستخدم في ترويج هذه الحالة وإقناع الناس بقبولها، فبدل من تسميتها بالسيولة فهم يسمونها مرونة العصر، ولكنها هي ليست مرونة وإنما هي حالة من حالات التفكك والتشرذم والسيولة.

ثم نتكلم عن دور الإعلام وصناعة الخبر في الترويج إلى هذه الحالة فيقول باومان: “فالأخبار هي تلك المعلومات الالكترونية التي يُتصور خطأ في الغالب الأعم أنها التصوير الحقيقي للعالم البعيد هناك، تلك المعلومات التي يُدَعى أيما ادعاء أنها تؤدي دور المرآه التي تعكس الواقع، وهذه المعلومات في تقدير بيير بورديو من بين أسرع البضائع المعروضة قابلية للتلف”، وهنا هو يسخر من فكرة أن الأخبار تعكس الواقع وإنما الأخبار تبث لما يُراد للإنسان المعاصر في عهد الحداثة السائلة أن يقتنع به.

أ/ مدحت:

بسم الله والحمد لله. الفصل الخامس في كتاب الحداثة السائلة بعنوان “الجماعة”

قام باومان فيه بعمل مقدمة وستة عناوين: إشكالية القومية- الوحدة عبر التشابه أم الاختلاف؟- ثمن الأمن- ما بعد الأمة/الدولة- سد الفراغ- جماعات غرف المعاطف.

المراد بعنوان “مجتمعات غرف المعاطف” أنه في الغرب حينما نحضر فيلما في السينما ينزع الحاضرون المعاطف في غرف مخصصة لهذا الأمر، ثم بعد حضور العرض يقوموا باستعادة معاطفهم، لا أحد رأى الآخر أو تكلم معه ولكنهم اجتمعوا لفترة خلال استلام المعاطف؛ بينما كانوا في صالات العرض يقومون بأعمال جماعية مثل التصفيق أو الضحك معا، ولكن في غرف المعاطف ليس بالضرورة أن أحد يعرف الآخر أو تفاعل معه.

هذا النموذج هو ما أصبح عليه المجتمع، الطلاب في الجامعة مثلا يجتمعون سويا، أو يذهبوا لمراكز التدريب ليحضروا تدريباتهم ولكن لا تفاعل بينهم،هي مجرد تحية فقط. يرى باومان أن مستقبل المجتمعات -إذا استمر هذا السلوك- أن الناس سترى بعضها من بعيد ولا تفكر في بعضها البعض، لأن هناك أفكار اخرى تشغلها، فهو يذكر ما يمر بالمجتمع الآن من تحولات وهو عادة يتكلم ما بين الفكر والواقع، فهو مرة يصف واقع ومرة أخرى يتكلم عما يفكر فيه علماء الاجتماع.

في مقدمة هذا الفصل كان هناك خلاف فكري كبير في فهم واقع الاجتماع والقومية المعاصرة، كيف نفهمها وكيف نديرها؟ وهذا الخلاف قائم بين فريقين كبيرين هما أصحاب النزعة الجماعية وأصحاب النزعة الفردية، أصحاب النزعة الجماعية يدعون communitarians أو الكوميونيتاريين وأصحاب النزعة الفردية الليبراليين.

 يرى الليبراليون أن الحداثة نشأت على أساس من العقل، والعقل آل إلى تحرير الفرد، وتحرير الفرد آل إلى الليبرالية.

 وفي نفس الوقت كان هناك خط آخر بدأ من العقل وأدى الى تجميع الأفراد بما أنتج النزعة الجماعية، والذي أحدث أفضل انجاز من إنجازات الحداثة الصلبة وهو الدولة القومية، يعتبر باومان أن افضل إنجاز وأكبر نجاح للحداثة الصلبة أنها أنشأت تلك المؤسسة الكبيرة التي تحوي كل المؤسسات المجتمعية والذي يستطيع الإنسان أن يشعر فيها بأنه في مجتمعه النهائي الذي ربما يتعامل مع المجتمعات الأخرى ولكنه مجتمعي أنا، فهو الأنا الكبيرة. يقول باومان أن أنصار النزعة الكوميونيتارية أو الجمعيون يرون أن شيء جيد أن نحرر الفرد ولكن الأفضل أن نحرره من المخاوف أي أن نحقق له أمنه، وأمن الفرد في الجماعة، وبالتالي أمام التحولات التي تحدث في العصر الحاضر فهم يجددون هذا المقولات، أن تحرير الفرد يكون من خلال انتمائه إلى الروابط الجمعية وليس بانفكاكه عنها. فيشير في البداية أن الخلاف الفكري الموجود الآن ليس كالسابق له، في السابق كانوا يتكلمون عن الطبيعة الإنسانية وأن الإنسان اجتماعي بطبعه أو هو متحرر بطبعه، ولكن الخلاف الآن سياسي، أي ما سيحقق في النهاية المصلحة للفرد أو للجماعة، والمدرستان مستمرتان سويا. فيذكر باومان أن هذا الفكر يعاني من اضطراب ما بين الحاجة إلى الجماعة والحاجة إلى الشعور بالحرية، إن الحاجة للجماعة تطرح في التنظيرات الراهنة من خلال مقولة أنت محتاج إلى الجماعة، فيتم الرد عليهم: طالما أنكم قلتم أننا محتاجين إلى الجماعة إذن نحن لسنا الجماعة والجماعة شيء منفصل عنا ولنا الاختيار في أن نحدد درجة احتياجنا لها ومن ثم درجة انتمائنا لها أو انضمامنا لها أم لا. فالجهة المقابلة هي النزعة الفردية التي ترى أن مآلات العملية الواقعية ستجعلهم مضطرين، فبعد أن كنا نتكلم عن الحاجة أصبحنا نتكلم عن الضرورة.

 هذا فكر يتحدث عن الواقع، وعندما بدأ الواقع يدخل في السيولة فإن الروابط السياسية وغيرها أصبحت تعامل معاملة الموضات، اليوم أنا وطني، ثم أصبحت أعمل في شيء عالمي إذن انتمائي ليس اختلف أو تغير معناه، ففي زمن السيولة لا نعرف إلا الروابط المرنة، وقد سماها بالعباءات الخفيفة، وقال إن ماكس فيبر قال أن الإنسان بين العباءة الخفيفة والقفص الحديدي، ونحن نرشح له في الحداثة القفص الحديدي. والسيولة الأن تبنت فكرة العباءات الخفيفة لنستطيع تغييرها كل حين. وبناء على ذلك فنحن ننتقل من جماعات مفروضة فرضتها الضرورة أو الطبيعة البشرية أو الفكر والقناعة إلى مجتمعات مفترضة، ونفتح المجال إلى جماعات غرف المعاطف أو جماعات الشركات وهذا ما نحن بصدده، وهي جماعات مفترضة بعد ما كانت جماعات مفروضة، وهذا لأن الواقع يتحرك تجاه الهشاشة في الروابط والتفكك.

 فماذا سيقوله الفكر في هذا الموضوع؟ يقول باومان أن الفكر سيتصارع مع بعضه ويحاول استيعاب ذلك ويؤطره، وأن المقولة الأساسية لأصحاب الفكر أن الفردية والنزوع إلى المزيد من الفردية هو الذي أدى إلى هشاشة هذه الروابط، وهذا ما يتبناه اصحاب النزعة الجماعية. والآخرون يرون أن هذا الواقع، وهو رد من قلب الحداثة، فالحداثة وضعية والوضعي يقول هذا هو الواقع الذي اعيش فيه، فيقول باومان أن هذا التناقض بين الفردية الذي كرمتها الحداثة وبين أثرها وهو ضعف الارتباطات الذي يؤول بعد قليل إلى شعور الفردية بالضعف هو واحد من مكامن التضارب والتناقض الموجود في الحداثة نفسها، ليست الحداثة السائلة أو الصلبة، ولكن الحداثة منذ نشأتها، فأنا كفرد لو أكملت فرديتي للنهاية سوف يضعف شعوري بالأمان ويسود الخوف ممن حولي بعد ما أصبح لا توجد روابط بيني وبينهم، فهذه الروابط على مقدار ما كانت تصنع القيد كانت تصنع الأمن وعلى قدر ما تصنع الأمن تصنع القيد، وهذا موجود في مجتمعاتنا، هل تريد الحرية أم تريد الأمن والمجتمعات العربية تختار الآن الأمن.

د/ شريف:

أين يضع الدولة في إطار هذه الثنائية هل هي الجماعية أم الفرد؟

أ/ مدحت:

الدولة كانت مشروع لكي يصنع هذا الشيء ولكن الدولة اعتبرته أفكارا سلبية بما فيها فكرة القومية نفسها، وهي الآن تعتبره مشاكل ضخمة جدا وتحاول أن تمزقه خارجيا بالعولمة وداخليا نحو المزيد من المحلية، فيقول باومان إن الطبيعة المتناقدة التي تعرف بها سيرورة النزعة الفردية الحديثة السائلة هي سبب عودة الكوميونيتارية الجديدة التي ترى أن لا حل إلا بالعودة إلى الجماعة وإلى الأمة وإلى الدولة، فواقع السيولة والفكر المتماهي معها يقابله رد فعل الآن يحاول أن يحافظ على ما تبقى من صلابة الحداثة باسم النزعة الجماعية، وتظهر آراء من كل جهة تقول كلام مختلف. ولكن باومان يرى أنه يوجد حالة من تراجع المجتمعية وهنا يجب على الفكر أن يستحدث ويجدد أسئلة الهوية، فبمجرد حدوث  اهتزازات كبيرة في المجتمع يبدأ التساؤل حول من نحن وأين كنا وإلى أين نحن ذاهبون، وأعتقد أن هذا كلام منطقي فاللحظة التي نعيشها تتيح للأفراد بل للمجموعات الاختيار بين هويات متنافسة.

ثم يتساءل باومان ما المجتمع الذي يريده الكوميونيتاريين، فيبدأ في حوارات فكرية معهم، هذا يجعلني أقول إن باومان مع الحداثة، وثانيا مع حداثة أقرب إلى الحداثة الصلبة، ثالثا أنه يقوم بنقد الإثنين، بمعنى محاولة فهم المشاكل الموجودة في الحداثة السائلة والصلبة، الا أنه يرفض الحداثة السائلة.

أنا أحاول هنا أن استشف رأيه الأخير الكامن، فهو مثلا يقول لأصحاب النزعة الجمعية أنتم تريدون مجتمعا، لكن المجتمع الذي تستهدفونه مجتمعا غير تراحمي، أنتم لا تتكلمون عن المجتمع الأصيل أو المجتمع الآمن ذاتيا، بل المجتمع المصنع أو المؤمن بفكرتكم عن القومية -التي سوف يبدأ في شرحها-، وأنتم تتكلمون عن مجتمع أسماه مجتمع الهوية المفروضة، ذلك المجتمع الذي يلغي البيوت لصالح بيت البيوت، فالدولة هي البيت حتى لو على حساب البيت الخاص أحيانا، أي بيت العيلة. ويرى باومان أنهم يغالون في المسألة ويقولون كلاما أشبه بالديني، وأن القومية والأمة والوطن هم علة وجود الأفراد، كما أنهم يرون أن هذا المجتمع لا يختار ولا يختبر بالتجربة الشخصية لأن الأرض التي ولدت عليها لابد أن أنتمي إليها، وهذا لا يقبل منافس، أي لا يصح أن أكون مصريا وأمريكيا، وهذا يقين بلا جدال حتى غير المتشددين منا لا يقبلوا هذا المعنى المتداخل من الهويات، وإذا اقترب الآخر من هذه الحدود يتحول بالضرورة إلى عدو، وقد وصفوا لنا أن العالم هذا هو المنير وأن العالم في الخارج هم وحوش في غابة وفي ظلمة واسعة ومن يخرج فقد خرج من رحم أمه إلى عالم لا يعرفه، وهذه فكرة المغالاة في الوطنية والقومية، ويختم بالقول: لكي نبقى معاً في النهاية أنتم (الكوميونيتاريين) تقولون لابد أن يكون الآخر شيطانا، وأن أول جماعة تكونت كانت من آدم وأبنائه، وجزء أصيل من هذه الجماعة هي جريمة القتل التي حدثت، فإن لم يكن الإنسان لديه استعداد للقتل فلن تتكون الجماعة، وليس مجرد القتل ولكن قتل الأخ، لا جماعة بغير غريزة قتل الإنسان لأخيه، وهذا فكر الكوميونيتاريين.

أ/ مهجة:

اعتقد أنه مما يقال في العالم الحديث أنه يجب لكل دولة أن تكون لها عدو، وإسرائيل أول من يتبع هذا، وحتى أمريكا عندما سقط الاتحاد السوفيتي بحثوا لهم عن عدو آخر، وأعتقد أن هذا الأمر في الحداثة الصلبة وليست في الحداثة السائلة.

أ/ مدحت:

بالتأكيد فهو يقول أن هذه الأفكار جاءت لمواجهة الحالة السائلة الراهنة، فباومان يرى أن سبب عودة القوميين الجدد هي الحالة متجهة إلى الانفكاك، والوضع يبدو عنيفا في حدود فهمي أنا.

أ/ منال:

أعتقد أن هذه الفكرة في الحداثة السائلة وليست الصلبة، لأن الحداثة الصلبة كانت تدعي أننا سنحقق السلام رغم أننا مختلفين، ولكن الذي تذكره هو العكس.

أ/ مدحت:

أعتقد أن باومان يفتقد النظرة الكلية للعالم، فأنا اراه يتكلم داخل الدولة فقط.

أ/ منال:

فكرة المصلحة المشتركة وليس المصير المشترك، فالمصلحة المشتركة تعني إن رغم أننا مختلفين الا أن كل فرد يرى الجوانب المشتركة، ونحن مختلفين في الهوية ولكن بيننا مصالح مشتركة فنصنع الدولة ونحقق التقدم ونحقق الرخاء ونحقق الحداثة، ولكن المصير المشترك هذا هوية أي أننا عنصر واحد وجنس واحد.

أ/ مدحت:

ما تذكريه هو يناقشه داخل أمريكا فقط وليس العالم كله، أما فكرة أن دول تبحث عن مصير واحد من خلال مصالح مشتركة هذا لم أجده في قراءتي له، فهو يتكلم داخل الدولة ومجتمع الدولة، ماذا يحدث فيه وما النظريات التي تتصارع عليه وما النظريات التي تغيره.

أ/ منال:

بالنسبة لأمريكا فهي مكونة من عناصر مختلفة أو أجناس مختلفة أو ديانات مختلفة، ولكن اجتمع الجميع لصناعةدولة واحدة تحقق التقدم والحداثة وهذه كانت نظرية. أما النظرية الأخرى هي التي ترى أن البيض وحدهم أو المسيحيين وحدهم يرفضوا الفكرة السابقة ويختاروا العيش طبقا لكونهم بيض أومسيحيين، أما من عدا ذلك فهم على الهامش، فهل الأولى حداثة صلبة والثانية حداثة سائلة أم العكس؟ أم هذا ليس له علاقة أصلا؟

أ/ مدحت:

الفكرتان نظريتان في القومية، ولكن القصة تقول أن لا البيض ولا حتى المسيحيين سيكونون جماعة لأن الرابط هو رابط اختياري وينافسه روابط أخرى، وهذا ما اسماه البدائل، فما بعد الدولة القومية عنده نوعان من البدائل هما بدائل خارجية كالعولمة، أو بدائل سد الفراغ كالمجتمعات الصغيرة أو الشركات والناس تنتمي إليها، هذه كلها قوميات. وسيذكر هنا أنه يوجد نوع من الأفراد سَمح وهو ما يسمونه الوطنيين، وهم من كونوا أمريكا، والوطن هو الحضن فلابد من جمع الناس جميعا.

أ/ منال:

فعلا نفس الفكرة كانت عندي في الفصل الخاص بي، بأنه مطلوب من المكان أن يجمع المختلفين، أم الآن فالمكان ليس مطلوب منه أن يجمع المختلفين، فبالعرقية أصبح المكان مطلوب منه أن يجمع المتشابهين.

أ/ مدحت:

ولكنه لدى باومان أسلوب لطيف في تحليل الأفراد في الوطن، فبعد أن يعرض على أنهم متسامحون، يسألهم في النهاية: ماذا تريدون؟ فيقولوا نريد أن نتسامح مع المختلفين ولكن بشرط أنهم إما يندمجوا فينا أو أننا نوظفهم أي نختار منهم من يصلحون، فقال هذا اللفظ “نقصي” ولفظ “نتقيأ” من لا يصلحون.

د/ شريف:

في المانيا يقولون إن مفهوم المواطنة هو مفهوم يزداد ثقلا عبر التاريخ، فالفرد يحتاج خبرة تاريخية لكي نقول عليه “مواطن الماني”، فليس لأن  لديك الجنسية الألمانية أو تدفع الضرائب أنك ألماني، فبعلاقات الزمان والمكان يتكون العرق، أي أنه مفهوم نضج عبر جماعة في مكان محدد لفترة طويلة من الزمان، فتبدأ في اكتساب خصائص معينة، فهو بدأ يلفظ أي شخص يحمل الجنسية الألمانية حتى لو كان لونه أبيض، فهو لا يعتبر السوريين ألمان، فهو الآن يعيد تطوير مفاهيم زمانية ومكانية لاعتبارات المواطنة التي يرتضيها ويقبلها، فهو لن يقبل بالتعريفات الدستورية مثل النازيين، وذلك عندما يبدأ الواقع في خدمته والسيولة تزداد ومشاكل المهاجرين والبطالة تزداد يصبح خطابه مقنع، لأن هتلر كان يقول المانيا للألمان ونحن أولى بهذه البلد، فهي فعلا سيولة متوقعة لو مطوري المشروع الحداثي وضعوا البعد الزمني في إطار التفكير.

أ/ مهجة:

أعتقد أن العودة إلى الهوية وأن ألمانيا للألمان تعتبر عودة إلى الحداثة الصلبة وليست السائلة.

د/ شريف:

الحداثة الصلبة تقول أني انخلع من كل ولاءاتي وأحتفظ بولائي للدولة، أقوم بعملية الإذابة التي يصاحبها عملية تجميع، فأنا لو معتبر أن ولائي الأساسي للدولة فأنا مواطن سواء كانت أصولي هندية أو غير ذلك، الحداثة اعتبرت أن الفضيلة هي إطاعة القانون وليس الولاء للعرق، وطالما أن القانون هو مرآة العقل والعقل يقول أنني لكي أقيم مجتمع متماسك لابد أن أحيِد الولاءات للأسرة والقبيلة والعرق والدين وأحتفظ بولائي للمؤسسة الاعتبارية التي تسمى الدولة، فمن يقبل بهذه الشروط هم مواطنون في نظري وفي نظر غيري، فكونه الآن يعيد تطوير مقولات غير عقلانية تقول أنني يجب أن أحتفظ بالهوية على أساس اللون، ويجب أن أحتفظ بالولاء على أساس التاريخ، فهذا وفقا لحكم العقل غير مستساغ، ما معنى أن ترفض شخص يشاطرك الولاء في الدولة التي هو على أرضها هذا شيء غير عقلاني، والخطاب الليبرالي أو الفردي يكون دائما هذه حجته في مواجهة الجماعيين، أنه في إطار شخص يتكلم عن تغلب معايير تستشعر معنى الواجب والقيم فيقول له لا نحن اخترنا خطاب أساسه العقل وليس خطاب الفضيلة والقيم وما إلى ذلك.

أ/ مدحت:

تحت عنوان اشكالية القومية سيبدأ باومان في الكلام حول كيف أنتم تعرفون القومية، يقول الجماعيون أن القومية عرق أو مجتمع متخيل لكن مؤسس تاريخيا على عرق، حتى لو المجتمع حدث له تغيرات معينة ففي النهاية هو يؤول إلى عرق، والعرق طبيعة وبالتالي فإن ولاءك للعرق طبيعة، فنحن الآن نحاول تبرير عملية الانتماء، فنقول لا يصح أن يكون هناك انتماء من العدم وإن لم تفعل ذلك فأنت انفصلت عن عرقك، فاذهب إلى لا مأوى وأخرج خروج الأبن الضال، وهو يقول أن النجاح الأساسي لهذه النظرية المتعلقة بالمجتمع العرقي يتمثل في الدولة القومية، إن أفضل شيء أنتجتها الحداثة هي هذه النظرية، ولكنه يقول أن القومية هنا كانت قومية فردية، وهو يعني بهذا التعبير أن القومية لا تتسع، من الممكن أن نوسعها إلى أوسع من العرق قليلا ولكن نحتفظ بخصوصيتنا داخل هذا الأمر، فيقول أن الحداثة ضيقت من مسألة القومية، ولكن الى حد معين، لأن التضييق عندما يزيد يؤدي الى حركات انفصالية، فعندما تبدأ دول مثل يوغوسلافيا بها خمس أو أربع أعراق ويريد كل عرق بالانفصال فهذا يمثل مشكلة كبيرة، والمعيار هنا هو ما تحدده القوة، وفي النهاية يقول باومان أن النظرية لم تكن واضحة منطقيا وعقليا،حتى أنه يقول أن الانتماء ليس هو الذي يصنع الدولة، فأنا أتواجد في دولة حدودها واضحة من قبل أن آتي أنا كفرد، وعند ولادتي قالوا لي أن هذا هو بيتك وهذه أرضك وهذه حدودك لا تتخطاها، والا ستكون قد تعديت على الآخرين أو تسمح للآخرين أن يدخلوا فيها، فقال باومان أن الدولة هنا قد قامت على فردية قومية أسماها “قامعة”، فقد قمعت التنوعات المحلية الداخلية ووضعت لها حدودا، واستعملت في ذلك القوة للإقناع، وهنا قال أنه عند ظهور هذه الdilemma فقد أنبرى فريقان في داخل الجماعيين كل واحد يعبر عن القومية بأسلوبه، الوطنيون والقوميون، ولكن المترجم لم يكتب الترجمة الانجليزية للتوضيح هل هما Nationalist و patriots، فقال باومان أن الوطنية فكرة جميلة داخل غطاء شوكي قبيح أسمه القومية، هنا واضح أن هناك فارق في المعنى بين الوطنية والقومية، وهو يناقش كون هذا الفارق حقيقي أم لا، فيقول الوطنية عبارة عن تسامح كريم تجاه التنوع الثقافي، نحن وطنيون ولكن منا مسيحيين أو علمانيين أو إسلاميين أو كذا، والوطني دائما صادق معترف بالاختلافات ويرى أن لا داعي أن تذكر هذه الاختلافات (مسلمين ومسيحيين مثلا، فنحن جميعا مصريين)، فيذكر الشيء الذي نتماثل فيه ولا تذكر الاختلافات، ولكن ماذا أذكر عندما أريد أن أخاطبك؟ الرد هو أن تذكر العدو أو الكراهية أو المعاداة، وتعتبر ثنائية القومية والوطنية تحت عنوان إشكالية القومية، وقد اطال كثيرا في هذا الموضوع.

ثم يذكر هل هذا التميز بين الطرفين تميز حقيقي؟ فقال إنه تمييز فكري أخلاقي جميل، وذكر باومان أن كلام الوطنيين “فكر نبيل يقابله واقع مشين”، الفارق الواضح بين الوطنيين والقوميين أن الخطاب البلاغي كلمات عاطفة ولكن يقابلها عمل وواقع، فيقول بمجرد أن الوطنيين ينتهوا من كلامهم يكونوا بينهم ما يسمى بالعاطفة المشتركة والعاطفة المشتركة تتحرك في اتجاه كلام القوميين، وهي عاطفة بدت على مستوى التنظير وديعة، ولكن بمجرد أن تتحول إلى واقع وعمل تصبح  شرسة وخاصة مع الغرباء. عمليا عندما يتكلم الوطنيون فخطابتهم تدعو إلى الدمج بمعنى الاستتباع او ما أسماه “التهام الغرباء ومص أجسامهم في الجسد الواحد”، فيرى الوطنيون ضرورة التعايش مع الاختلافات، في النهاية يتحول الأمر لأنياب، ويقول هي جماعة واحدة، أي أن الوطني يذوب الاختلافات لصالحه، ولكن الآخر (القومي)صريح، بقدر ما هو سيء الوجه الا أنه يمتاز بالصراحة، فيقول أنتم غرباء، لا تسمعوا كلام الوطنيين وتأتوا على أرضي، وأنا سأقوم باستخدام الاقصاء بثلاث طرق: إما عزلكم في أماكن خاصة، او ترحيلكم عن أرضي، أو أرحلكم عن الدنيا وهو التطهير العرقي. وهكذا قال أننا قد حلينا مشكلة الغرباء إما بالاستيعاب أو بالتطهير العرقي. ولكن في داخلنا كيف ندير مجتمعنا؟ هل وحدتنا مبنية على أننا متشابهين أم مختلفين، فهو يقول إنه لا يوجد أي شيء إلا وفيه تشابه واختلاف، فداخليا نقول أن التشابهات بيننا أكثر من الاختلافات، والعكس في العلاقة مع الآخرين. ونقول على طريقة أرسطو لأفلاطون، لا يصلح أن نبني مجتمعا ليس به نغمات متعددة، فأفلاطون كان يرى أن الكل سيتشابه في ظل الشيوعية، ولكن أرسطو نقد هذا الكلام بأن المجتمع يتحدد من خلال الاختلاف ولا يجب البحث عن المساواة المطلقة. ويذكر أن الفكر المعاصر رفض فكر أفلاطون. ومع ذلك فالقوميون واضحون جدا في رفضهم لمقولة الوحدة في التنوع، فلا يفهمون قيام مجتمع على التفاوض في المصالح.

 لقد عانيت كثيرا من أسلوب باومان في كتابه، فهو يتكلم في موضوع ثم يطرح حلا، ثم يترك الحل ويعود للنقاش، ففي منتصف هذا الكلام قال “الحل هو المجتمع الجمهوري”، “إن النموذج الجمهوري للوحدة، نموذج لوحدة بازغة أفرزها إنجاز مشترك للفاعلين المنخرطين في طلب المطابقات الذاتية، وحدة تتألف عبر التفاوض والوفاق لا إنكار الاختلافات ولا قمعها ولا كبتها تلك هي الوحدة الوحيدة (الصيغة الوحيدة للوجود المشترك)، الوحدة التي تجعل الحداثة السائلة واقعية وممكنة وملائمة”. وهذه أول مرة ينحاز فيها باومان إلى حل بهذا الوضوح، ثم سرعان ما يعود مرة أخرى إلى الموضوع فيقول ” وبعدما صارت البدائل المتاحة لإعادة الدمج في الجماعة والمجتمع أقرب إلى الإقامة في الفنادق المنتشرة على الطرق السريعة منها إلى العيش في بيت دائم وثابت، صارت الهويات هشة ومؤقتة حتى إشعار آخر وصارت مجردة من كل الدفاعات عدا مهارات الفاعلين وإصرارهم على التمسك الشديد بها وحمياتها من التآكل.”

ثم عاد يحكي مرة أخرى عن السيولة ولم يكمل كيفية العمل بهذا الحل، ولن نسمع عن النظام الجمهوري مرة أخرى. الا أن النموذج الجمهوري للوحدة هو ما يفضله باومان.

وبعدما تكلم عن الحداثة السائلة يقدم حلا آخر، ليس هو حل الجماعيين أو الفرديين أو الوطنيين أو القوميين، ولكنه حل للتعامل مع السيولة، فيقدم فن العيش مع الاختلاف، بمعنى دعنا نعترف أن الإنسان لم يعد كائنا اجتماعيا، بمعنى أن التعريف القديم للإنسان أنه اجتماعي بطبعه ومدني بطبعه لم يعد له أهمية، ولكن الإنسان المعاصر “فرد كائن”، أعتقد أن هذه التعبيرات مهمة وأعتقد كذلك أن الترجمة لم توضحها بما فيه الكفاية، لكن أعتقد أنه يقصد بكلمة “الكائن” أنه فرد يعيش في مجتمع له خصوصيته فيه هذا هو الواقع ولم يكمل الحل، ثم أكمل قائلاً: “ولكن الأساس هي القوة”.

د/ شريف:

من الفصل الأول أوضح باومان أن تحرر الفرد يحتاج إلى سُلطة، وفي هذا كان واضح جدا من البداية، وإلا سيصبح الوضع سائلا، لأن في السيولة سيتحقق الملاذ الذي ذكره د/ هاني في مثال المجموعة التي ركبت الطائرة واكتشفت أنه لا يوجد أحد في قمرة القيادة، ومع ذلك أصرت أن تُكمل الرحلة، هذه هي السيولة. أما الصلابة فهي كانت ستصر على أن يكون هناك قائدا للرحلة لأحاسبه إن كان سيصل بي إلى المكان الذي اتفقنا عليه أم لا، من البداية باومان يعي ضرورة وجود سلطة مسؤولة وتحاسب على ما تؤدي من أفعال.

أ/ مدحت:

ينتقل باومان بعد ذلك إلى قضية القوة، فيقول إن عملية الاختيار بين الجماعية والفردية تكون على قدر قوة الإنسان في المجتمع، فالأقوياء يؤيدوا الفردية والضعفاء يحتموا في الجماعة، وضرب مثال بعامل في مصنع عادي وبين شخص يعمل مبرمج ويستطيع الانتقال وإمكانياته تعطيه المساحة لكي يعيش في كومباوند، وهنا بمجرد أن تكلم عن الكومباوند تكلم عن الحراسة والأمن، والعنوان القادم هو ثمن “الأمن”، وقد ختم باومان هذا الفصل بالقول أنه عندما اصبح قويا أنعزل وعندما أنعزل أشعر بالخوف وعندما أشعر بالخوف أقوم بإجراءات كثيرة لتأميني، وهذا ثمن الفردية ولكنه أسماه ثمن الأمن.

أ/ مهجة:

أشعر خلال عرض أ/ مدحت أن الكلام به قلق، بمعنى أن هذا الكلام ليس كما يبدو بالضبط، ففكرة الأمن والانعزال لا تعني الفردية، فهو مجتمع كامل يتمتع بإمكانيات مادية مرتفعة منعزل عن مجتمع آخر ليس له هذه الإمكانيات، كذلك فكرة أن الجميع يجلس في السينما ولا أحد يعرف من بجواره، أنا لا أستطيع الذهاب الى السينما لأشاهد الفيلم بمفردي، فإن لم يكن هؤلاء الناس حولي فلا يمكن أن استمر في هذا المجتمع.

أ/ مدحت:

يريد باومان التأكيد على اختفاء فكرة التعارف بين أفراد المجتمع الواحد، فمثلا نذهب إلى حفل عرس كل مدعو يجلس على طاولة لا يعرف من حوله، وفي حفل آخر الناس متداخلين كادوا أن يتحولوا إلى قطعة لحم واحدة، فهناك فرق بين الحالتين، هنا هل الداعي للفرح الأول يمكن أن يعرف الناس ببعضها، لا، فلم يصبح هذا مهما، فقيمة التعارف لم تعد لازمة. أشعر أن المسيري أفضل من باومان في توضيح هذا الأمر، فهو يقف امام الموضوع ويجيب، ولكن باومان عنده شعور يحكي به، ولكن لسنا نعرف ما يقلقه أو ما هو البديل.

د/ شريف:

المسيري وجد الإجابة، فقال إنه وجد أن الإنسان الرباني هو الحل، ولكن باومان لم يجد حلا فظل يطرح أسئلة بلا رد.

أ/ مهجة:

هل التعارف هو شرط في المجتمع؟ فعندنا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما معناه: ألقى السلام على من تعرف ومن لا تعرف، أي دون أن تتعرف عليه أو تعرف اسمه، وهنا يمكن أن يكون هناك تواصل بدون تعارف.

د/ شريف:

السُنة لم تثبت اسم الغلام اليهودي الذي كان يخدم النبي (ص) ولكن النبي افتقده عندما غاب، وزاره ودعاه للإسلام فأسلم، فالتعارف هنا ليس أن اعرف الاسم، والمرأة التي كانت تنظف المسجد وتُزيل القمامة، النبي عرفها من خلال الوظيفة فقط.

أ/ مدحت:

المهم أن باومان يرى أن الجماعيين يخاطبوا الضعفاء، أما الأقوياء فالجماعيين لا يستطيعوا الحديث معهم فهم أقوياء يصنعون دولهم الجديدة التي تتحول إلى كومباوندات وما شابه هذا، إذن فلو  استمر الوضع هكذا فإن مستقبل المجتمعات سيكون في صورة جزر منتشرة على محيط التواصل.

ثم ينتقل باومان إلى العنوان الجديد وهو “ثمن الأمن”، وتحت عنوان ثمن الأمن لم يتكلم عن الأمن إلا في آخر فقرة، ويرى باومان أننا نعيش في مجتمعات أشبه بالسجون أو مستشفيات المجانين أو دور المسنين، وهي مجتمعات هادئة والأفراد فيها متعايشين مع بعضهم البعض، ولكنهم يعتقدوا أن العالم خارج أسوارهم عبارة عن بحار هائجة وصاخبة، ومن الأفضل ألا نخرج ونكتفي بالعيش في المجتمع الهادئ.

ويوجد تيار أخر يرى أن أيام الحداثة الصلبة كان الناس تنتقل إلى مكان لكي تبقى فيه، ولكن الآن ينتقل الناس لتنتقل ثم انتقال دائم، وهنا يقوم بتقديم ملحوظة خطيرة فيقول أن الفرد أفضل من الشركة التي يملكها، فأنا خير وأبقى، فأنا عندي مواهب ولدي فرص أفضل في الخارج، وبناء عليه صار يطرح فكرة أيهما أطول عمراً المؤسسة أم الجماعة أم الفرد؟ فإن كانت الجماعة في حالة ذوبان وسيولة والفرد هو الذي ينتقل من جماعة إلى أخرى ففي هذه الحالة فالفرد أفضل من الجماعة وأبقى. ويختم في النهاية أننا نرجع إلى نفس الحالة النفسية، فبعد أن قام الفرد بكل هذه التنقلات يشعر في النهاية أنه الخاسر وأنه أضعف من أن يؤمن نفسه، فأصبحت الأزمة هي أن الفرد أضعف من أن يُؤمن نفسه، والمجتمع بدون الفرد لا وجود له، وهذه هي الdilemma التي نعيشها في اللحظة الراهنة، سيولة أدت إلى تراجع دور الدولة ومعها تحرر الفرد وتفكك للمجتمع ولا أمان، فكنت أريد أن يقول أن الثمن هو الأمن، ولكنه أسماه ثمن الأمن، ومن الممكن أن تكون مشكلة في الترجمة، لأنه يقول ” وحجة من حجج الجماعيين أن هناك للأمن ثمن أن تعود للجماعة” فقد يكون المعنى هكذا.

العنوانين التاليين يتضمنان ثلاث بدائل للدولة، هما ما بعد الدولة ويقصد ما بعد الدولة القومية أي العولمة، ومشروعات أخرى أسماها سد الفراغ تحاول أنت تسد الفراغ في غياب الدولة، الثالثة هي غرفة المعاطف. ويقول باومان أنه قد حدث شيء خطير في تاريخنا الحديث وهو طلاق الأمة والدولة، فيذكر أن العلاقة بينهما أصبحت تتلخص في أن كل منهما ينظر في اتجاه، الدولة تنظر داخل المجتمع تريد لم شمله، والمجتمع ينظر على عالم خارجي وهي العولمة، وهو تحدي كبير جدا أمام الدولة، إضعاف الدولة بالعولمة وتراجع قيمة الأرض لا تمثل حماية أو أمان، بل إن المجتمع بنظرته الخارجية يرى أن العالم يقهر الدولة وينظر لها كتلميذ بليد يعاقب بالعقاب السياسي والاقتصادي، ويسميها دولة مارقة ودولة فاشلة، ويعيد إنتاجها من جديد على طريقة العراق وأفغانستان وغيرهما، وبدل أن يشير باومان إلى العراق وأفغانستان فقد أشار إلى حرب كوسوفا في يوغوسلافيا. أنا أريد أن أراجع هذا المقطع أكثر، فهو يدافع عن التدخل الأمريكي لحسم الحرب في كوسوفا بالضربات الجوية، وهذا هو التيار الأساسي لمناقشة التدخل الأميركي في الغرب، فهم لم يناقشوا حقوق الكوسوفيين أو اضطهاد الصرب لهم -كما يتكلم العرب- ولكن ما يشغلهم هو: هل كان التدخل أخلاقي أم غير أخلاقي؟ وهل هو قانوني أم غير قانوني، أما حرب البوسنة فقد ذكرها في سطرين ببرود فأنا احتاج قرأتها بعناية اكثر.

ثم انتقل بعد ذلك الى قضية الحرب فقال أن الحرب أصبح الانتصار فيها للأسرع لا للأضخم وهذا كلام عام فيه درجة من الإجمال يحتاج للتبيين، فمثلا هل أمريكا انتصرت في أفغانستان لأنها الأسرع؟

د/ شريف:

يمكن الأسرع هنا يقصد به القطع الحربية المستخدمة، فالصاروخ المتحرر من المكان الذي يطلق من دولة إلى دولة أخرى في لا زمان غير الدبابة التي تحتاج إلى أرض وإقليم تتحرك من خلاله.

أ/ منال:

وهذا يعود ليرتبط بمفهوم الزمن وأنه أصبح المحرك.

 أ/ مدحت:

فعلا هي قضية الأزمنة السائلة، ولكنه ربطها في الحرب بمن ينهيها سريعا، لأنه يقول الهدف من الحرب أن أنهيها وأهرب لكي لا أتحمل أي التزامات وأعباء، وهذا بما يعرف بمفهوم الحرب قليلة التكلفة، ويليها مفهوم آخر هو الحرب المربحة، وهي أن أتفق بعدها على صفقات وإعادة إعمار، ولكني أرى أن هذا ليس سيولة، فهو داخل في امتداد العلاقات الدولية.

د/ شريف:

يمكن يقصد باومان أن الحرب وفقا لمفهوم الحداثة الصلبة كان يترتب عليها نوع من الالتزامات حتى على الجانب المنتصر، مثل إدارة المستعمرات والتعامل مع الأسرى. لكنه الآن يتكلم عن حرب خاطفة تشن من السماء بأدوات سريعة تنتمي لمجال اللازمان وليس لها وجود على الأرض، وفي النهاية لا أحد يلزمني بشيء، فالحرب بدأت وانتهت وأنا غير موجود على الأرض أو الزمان، وإن أصيب أحد على الأرض تكون من قبيل الآثار الجانبية على الحرب أو غير المقصوده، فهو الآن يعفي نفسه من التزامات كانت موجودة في إطار الحداثة الصلبة، وفي إطار أن الفضيلة هي إطاعة القانون، والقانون الدولي به جزء ينظم التزامات ما بعد الحروب، يقول باومان أن في الحداثة السائلة لم يعد هناك التزامات بهذا المعنى، ومن ثم فإن هذا أحد معانى السيولة.

أ/ مدحت:

أنا لا زلت أرى انتقالاته مزعجة، كلامه عن الدولة وتحدي العولمة، هل هو الآن يتكلم عن الدولة اليوغسلافية وتحدي العولمة، أم عاد ليتكلم عن الدولة التي تمثل العولمة نفسها، أين الفاعل والمفعول؟ كنت تتكلم عن المفعول به وهو الدولة والفاعل هو العولمة، وانتقلت إلى أن الدولة هي التي تمارس الحرب وأصبحت الفاعل الصانع للعولمة، لذلك كنا في قضية العولمة نحتار هي حالة أم عملية؟ هل هي حالة يمر بها الجميع أم عملية يمارسها البعض على البعض الآخر. وقد أشار باومان إلى ملحوظة مهمة هي أن تحولات الحرب أدت إلى ظهور جماعة المرتزقة الذين هم جيوش بلا دول لدول لا تحب ان تحتفظ بالجيوش.

بالنسبة لمفهوم سد الفراغ، من يريد سد فراغ الانتماءات هي الشركات، ولكن هذه الشركات منطقها غير منطق الدولة الحضن، فمنطقها هو سياسة تجريدك من حق الأمن وبالتالي الضمانات، والدولة هي التي تحررك ومن ضمن ما تحرره هو العنف وبالتالي ممكن أن يمارس العنف على مستويات أدني من الدولة، فسيولة العنف ستؤدي إلى ظهور القبيلة. ومن ضمن مجتمعات سد الفراغ هو مجتمع الريزومة وهو المجتمع العائش على النمو والارتباطات الأفقية وليس له رأس، حين نقوم بالتجديد نلقي البذور أفقيا، ثم نترك المسألة تدور معا، وبالتالي ليس هناك ضرورة لإقامة مؤسسة لكل المبادرات التي قمت بها، وذكر باومان أن هذا هو مجتمع الشبكة وليس مجتمع البنية.

أ/ مهجة:

اعتقد ان الكتاب هو قراءة للواقع، ولكن ليس كله دراسة لموضوع السيولة.

أ/ مدحت:

أرى أن باومان كتب في شيء من منظور معين فظهرت معه مشاهد كثيرة جدا، فعلا ممكن لا يكون المشهد كله سيولة نقية، وأشعر أنه يوجد اضطراب او لايقينية في مواقف معينة فيه فكان يضمه، ولكن يشهد له أنه جمع كل هذه المشهادات ونبه الى هذا المسار، رغم أنه من الممكن أن يغالي في مساحات ومن الممكن أن تفوته مساحات أكثر سيولة. أعتقد مثلا أن سيولة العقيدة الدينية شيء خطير جدا (الإلحاد)، كان دوكنز يقول أن المشكلة ليست في الله ولكن المشكلة في الإله عموما، فما البديل؟ فيذكر البديل ويعود وينكره، ويقول لا يصح أن يعامل معاملة المقدس.

أ/ مهجة:

ولكن الإلحاد موجود على مر التاريخ، التعبير عنه هو الذي يعبر عن السيولة وليس الإلحاد نفسه.

أ/ مدحت:

أعتقد ان هذه نقطة مهمة جدا في النقد، هل الظواهر السائلة هي سائلة في خصائصها أم في ماهيتها، أعتقد أن السيولة تأتي في الخصائص وفي تجلياتها ومظاهرها، باومان لم يقل الحداثة الصلبة وعالم السيولة ولكن قال هي نفس الحداثة، فلم نعد إلى ما قبل الحداثة ولا عدنا إلى القبيلة، أعتقد أن رؤية باومان أن ما يحدث الآن ليس هو التطور الطبيعي للحداثة، وأنه قد حدثت فيروسات معينة أدت الى أن التطور الذي كان يمكن أن يسير في اتجاهات اكثر عدالة ووطنية انحرف الى شيء آخر.

د/ شريف:

وكأن مشروع باومان كله مشروع وصفي، فهو يصف مظاهر الحداثة السائلة أو مظاهر الشر السائل أو الخوف السائل، ولكنه لا يجيب على السؤال: متى حدث وكيف حدث ذلك؟ غزارة المادة الوصفية تعفيه من  تقديم إجابات كيفية أو يلتفت لسؤال العلية، وأرى أن هذا أفضل وإلا كان سوف يأتي سلبيا على هذه الغزارة التي نحتاجها، وأيضا في حالةوصف شيء بالتغير عن زمان، فأنت بذلك تملك صورة عقلية عن صورته الماضية، ولكن أنت أقمت معيارك على أساس أنه يوجد نقطة حداثية محضة أو خالصة، إذن ما هي لحظة الحداثة البريئة التي حدث عندها كل هذا الانحراف؟ هي لحظة العقل المحض، العقل الذي ارتضيته كمعيار واعتبرت أن أي ابتعاد عنه يعتبر انحراف أو سيولة أو ذوبان.

هذا العقل أنت لم تكن راض عن تجليه في حالة الحداثة الصلبة وذكرت أنه نفسه سبب كثير من المشاكل مثل الليبرالية والفردية التي تعرض الأمن للخطر والأوهام وجعل الإنسان غير متحرر بشكل كاف. إذن متى تجلى هذا العقل؟ وما هي اللحظة المعيارية التي سوف تحاسب من خلالها الحداثة الصلبة أو السائلة؟ هل هو يعتبر الانحراف بين المجرد والمتعين؟ هل العقل أفصح عن نفسه من خلال قوانين وأفكار وعندما تعينت على الأرض حدث انحراف؟ إذن ما هي هذه الأفكار؟ عندما يعود إلى دوركيم أو غيره يقول أن المجتمع في كتاباتهم مجتمع منظم مبني على العنف، واعتبر العنف أساسي ليقيم جماعة منظمة، رغم أنه غير راض عن ذلك، فهو يريد مجتمعا منعتقا ومحررا بدون ممارسة عنف سلطوي عليه، اذن متى حدث هذا؟

أ/ مدحت:

الآن لا ننقد السيولة أو الصلابة، لكن ننقد فهمنا للحداثة نفسها باعتبارها ثابت تاريخي، أي عندما كنتم تناقشوا الحداثة الم تشعروا بحداثتها أصلا؟ أم أنتم تشكون لأن السيولة ازدادت جدا؟ هي فكرة القديم والجديد التي أرهقونا بها، فكل جديد أفضل من كل قديم، وبناء عليه دوركيم أفضل من كانت، وعلى هذا فأنا الآن أفضل منهم، فنحن نعاني وننتقل من شقاء إلى شقاء، هي فكرة أن الغرب بحث عن المطلق في ذاته.

د/ هاني:

أتمنى لو نعقد نقاش في مضادات السيولة المستمدة من الرؤية الإسلامية، بمعنى كيف نتمكن نحن من مقاومة هذه السيولة، فنحن لدينا مبادئ وقيم وأخلاق. رأى أحد السلف رجلا يحب كثرة الاستهلاك كلما اشتهى شيئا اشتراه، فقال له “أكلما اشتهيت اشتريت”، أعتقد أن هذه المقولة تصلح كشعار أو مبدأ، لأن هذا يقاوم عندي رغبة استهلاك أشياء ممكن أن لا تضر ولكن لن تنفعني، وأنا أصلا لا أحتاج إليها وأستطيع الاستغناء عنها، وحياتي لن تتأثر تماما إذا استغنيت عنها.

إذن يمكن أن نحاول استخراج مثل هذه المقولات.

أ/ مهجة:

المشكلة أن هذه الرغبات لم تعد رغبة تشبع ولكن أصبحت علامة اجتماعية، الذي يملك سلعة ما يصبح ينتمي الى فئة اجتماعية مميزة، فأصبح هذا جزء من الهوية، فلم يعد الشراء إشباع فهو طريق للدخول إلى الشرائح المجتمعية الأعلى.

د/ هاني:

النقطة الثانية هي معنى الهجرة، أنا أرى أن معنى الهجرة فيه إمكانيات مقاومة عالية جدا ونستطيع ربط الهجرة (الهجرة النبوية) بالسيولة، كيف نحول الهجرة النبوية من حدث إلى معنى وهذا المعنى نستمد منه إمكانيات مقاومة وامكانيات بناء، أنا أرى ان معنى الهجرة أنني أعطي استمرارية لمقاومة الباطل، فلو سار الوضع في مكة على خير لما حدثت الهجرة، حتى النبي (ص) وهو يعرض نفسه على القبائل كان يقول من يحملني في قومه ويحميني فإن قومي قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي فالهجرة هنا معللة بمنعه عليه الصلاة والسلام، وإن لم يحدث المنع لما كانت الهجرة، وربما يأتي التفكير فيها بعد ذلك بفترة، مما يجعلنا نفتش في معنى الهجرة، نُخرج المعنى أو المدلول القابل للاستمرار والاستفادة منه في كل عصر، فأنا اعتقد أن المعنى في الهجرة هو كيف أفتح لنفسي مجالات وإمكانيات للاستمرار في مقاومة الباطل، فالنبي (ص) وجد نفسه في وضع في مكة يمنعه من الاستمرار في المقاومة لأنهم تمكنوا من شل حركته وحركة المسلمين، وهكذا يجب فتح مجالات لمقاومة الباطل. فإن حولنا الهجرة من حدث إلى معنى بهذه الكيفية نستطع بسهولة نخرج إمكانيات للاستمرار في مقاومة الباطل بالمعنى الواسع في أمور كثيرة مما ذكرها باومان في مسألة السيولة، فهذه جزئية الإمكانيات الإسلامية لمواجهة حالة السيولة.

وفي حديث لرسول الله (ص) “بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا” رواه مسلم والترمذي وأحمد، فتشعر أنها حالة من حالات السيولة حيث أخبر النبي (ص) بأنها سوف تحدث في زمان من الأزمنة، ولا أعلم أهذه سيولة القيم أم سيولة العقيدة؟  

وهذه فكرة مضادات السيولة، فالنبي (ص) يقول: “لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً ، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا”. هناك شيخ يسمى إبراهيم السكران له كتاب يسمى “الماجريات” والذي أخذ فكرته من ابن تيمية، وهو يعني بالماجريات أن ينساق الإنسان مع ما يجري دون أن يفكر هل هذا التيار الذي أنسحق في إطاره وهو حق أم لا، فأخذ منها الماجريات وبدأ يطبقها على أشياء كثيرة تحدث، وأبسطها أننا نفتح الموبايل ونتصفحه بكل بلاهة دون أن نعرف ما هو الهدف من هذا التصفح الذي لا نهاية له، أو أن الإنسان يمكن أن يصنع ما يفيد ولكن دون أن يسأل نفسه هل هذا أفضل شيء ممكن أن أفعله أم أن هذا يعطلني عما هو أهم بحيث يغيب فقه الأولويات. فأعتقد فكرة الانسياق مع الماجريات وكيف نقاومها فكرة مهمة في هذا الصدد. فقد بدأ الشيخ السكران في وضع النماذج التي وضعت لنفسها أهداف أو مشروع وثبتت عليه حتى أنجزته، وكان منهم الدكتور المسيري ومالك بن نبي والشيخ فريد الانصاري والبشير الإبراهيمي، وهذه هي الشخصيات التي نجحت في الفرار والنجاة بنفسها من فخ الماجريات، وكأنه يعتبر أن هذه هي فتنة المتدين الملتزم أنه قد لا يقع في معصية كبيرة لكنه لا يكون صاحب مشروع فهذا نقص في التدين، لأن التدين يعلمك أن تكون اكثر إيجابية، وهذا يقودنا إلى فكرة السيولة في المفاهيم أو مضادات السيولة في المفاهيم والتي تم تناولها، كأن يوجد مستويين، الأول رفض للمفهوم نفسه، على سبيل المثال مفهوم “الإباحية” فالإجابة الإسلامية هي رفض المفهوم، ولكن مفهوم “أنسنة الدين” قد نتعاطى معه، بمعنى أننا قد نقبل المفهوم ولكن ليس بالمعنى المستخدم حاليا، وهو إقصاء فكرة الألوهية وإحلال الإنسان محل الإله، ولكن بمعنى أن يكون الدين متوائم مع فكرة خدمة الإنسان وتمكين الإنسان في عمارة الأرض.

فأنا أرى أن مفهوم الهجرة يرتبط بمفهوم مقاومة حالة السيولة في المفاهيم، فهناك مستويات للهجرة، المستوى الأول هو المباشر وهو الانتقال من مكان إلى آخر، ولكن هناك مستوى كما قال الرسول (ص) من هاجر هو من هجر ما نُهى عنه، أي هجرة المعصية إلى الطاعة، ويوجد مستوى آخر هو هجرة المفاهيم السائلة أو المفاهيم الغازية إلى المفاهيم المنبثقة من الرؤية والهوية والحضارة. ممكن أن نضع هذا تحت عنوان الإجابة الإسلامية على السيولة أو تحدي السيولة.

د/ شريف:

بخصوص موضوع المفاهيم فهو حق مشروع للإنسان أن يبدأ في البحث عن المفاهيم التي تعبر عن هويته وعن منطلقاته وعن شخصيته الحقيقية، يعتبر التحرر من الحداثة بمثابة البحث عن النفس، النفس الضائعة أو النفس التائهة أو النفس التي تم تذويبها لأن القرآن يقول: “نسوا الله فأنساهم أنفسهم”، فنحن في إطار مرحلة من نسيان النفس، فهي عقوبة أو رد فعل أو عرض على المرض، محاولة إحلال الإنسان إلى المركز أو تهميش الإله أو بعبارة القرآن نسيان الله عز وجل من أعراضها أن ينسى الإنسان نفسه، ومن ضمن أن ينسى الإنسان نفسه أن ينسى مفاهيمه، وأن ينسى الطريقة التي كان يصف بها الأشياء ويعبر بها عن المعاني ويتفاعل من خلالها مع الآخر، فيبدأ في استيراد كل شيء ويبدأ في إحلال الوافد والمستورد محل الذاتي والأصيل، وهذا مثل ما كان يحدث في فترة الاحتلال والاستعمار من تأثير الرهبة من فوهة المدفع المصوبة، ولكن الآن عندما تتاح الفرصة لأحد أن يعمل أو يبحث فإنه يحضر في الحال الترسانة الغربية من المفاهيم ويستلهمها ويستنبطها ويستخدمها بدون أي إرغام، اللهم إلا إرغام اللحظة الحضارية التي نعيشها، لحظة الهزيمة الحضارية أو لحظة تشوش النموذج المعرفي، أي أن الإنسان لا يدرك أنه يمتلك نموذج معرفي يؤهله لأن يحدد لنفسه نقاط بداية ونقاط نهاية ومنهج للانتقال من هذه النقاط إلى تلك، فالخلل في إدراك العالم أو الخلل في النموذج المعرفي هو الذي يجعل الإنسان يلجأ إلى الحلول السهلة ويبدأ في استعارة المفاهيم، وحتى لو لم يحدث الانقطاع مع جذورنا فإن الذات (الحضارية) أصبحت تشكل عبء على الشخص لأنها تشكل نوع من الخجل من التصريح بذاتيته، فإن كان الطبيعي الآن أن أكون كائن مُعولم وإذا كانت نظم التعليم والثقافة والعلم والعمل وكل شيء عبارة عن قوالب ويجب أن أجد لنفسي موطىء قدم فيها فكيف سأتكلم عن خصوصية ذاتية مفاهيمية ومنهجية. إن سياق العولمة جارف، بمعنى أنه يجعل الفرد عند تعريفه لشخصه (CV) فيقول أنه عنده خبرات معينة متعلقة بالتراث أو بالقراءات فهذا غير مطلوب في اطار السوق العالم، فالتعريف الشخصي للفرد يجب أن يكون متعلقا بمواجهة التحديات والقدرة على العمل الجماعي أو الروشتة التي تم تحديدها غربيا وترويجها شرقيا.

فإذا كان الدكتور/ هاني يبحث عن كبسولات للعلاج فقد يكون محاولة إدراك الذات (المستلبة) وقد يكون في محاولة التخلص من حالة الإحراج المصاحبة للشعور بهذه الذاتية وقد يكون في إعادة الاعتبار مرة أخرى لفكرة الخصوصية. إن الحداثة اعتبرت أن العقل مفهوم كلي وعام، فالعقل هو الممكن والموجود والواقعي والحقيقي، ومن ثم افترضت ان أي منتج تنظيري يعبر عن هذا العقل يجب ان يكون منتجا عاما ومطلقا، لا مكان فيه للاستثناء أو النسبية، بمعنى أن النظرية الغربية أو النظرية التي تطرح في إطار العقل الغربي هي نظريات كُلانية بامتياز، بمعنى عندما يتحدث الواقعيون أو الليبراليون أو الماركسيون فهو يتخيل أنه نقل العقل إلى الوجود فتطابقا معاً، فينهار في إطار هذه العلاقة التطابُقية الإنسان، الفرد الذاتي المحدود الذي لديه طموحاته وأحلامه وهمومه الشخصية، وربما لا تسري في حقه أي من النظريات العامة، ربما لا ينطبق هو مع نظرية العقل كما ينظر لها في أي من هذه المقولات الكبرى، ربما هو في النهاية يستحق ان تكون له مقولته الخاصة أو فلسفته الخاصة وأن تكون له رؤيته وأن تكون له طريقته أو حاله -كما يستخدم في أطار تراثنا- فهناك أحوال تخص أفراد ولا تخص جموع، فإن إعادة اعتبار الفردي مرة أخرى هذا قد من قبيل البحث عن الذات فلا ينسحق المسلم أمام النظرية العامة الشاملة الكلية المجردة المطلقة المطابقة للواقع.

أ/ منال:

ولكن هذا من شروط النظرية، أي من شروط النظرية أن تكون عامة كلية، وإلا لو راعت الحالات كما ذكر وخصوصيتهم لن تصبح نظرية.

د/ شريف:

على الأقل لا تصبح نظرية غير علمية، فالنظرية العلمية كما ذكر أينشتين أن يكون الخاص غير علمي، والعام عنده مشكلة مع الخاص، هو أقام علاقة ترابط بين العقلين العام والخاص، الخصوصي النسبوي أصبح غير عام غير عقلاني لأنه أصبح يختلف مع خط الإنتاج الذي يخرج الأنماط.

أ/ مهجة:

هل هذا لا يتعارض مع فكرة التحيز في النظريات، وأن كل نظرية مهما كانت موضوعية تحمل بالضرورة جذور عقيدة صاحب النظرية حتى لو كانت مادية أو علمانية، فهناك خصوصية لكل شيء.

 وأيضا هل شعورنا بالانسحاق والتبعية للعولمة لا يتعارض مع وجود مراكز بحثية في الخارج تبحث بدقة شديدة عن كل ما ينتج في العالم الإسلامي؟ هل نحن نقلل من شأن أنفسنا قليلا؟ أظن أننا نتمتع بمكانة ما ولكننا لا نعرف كيف نستفيد منها.

أ/ مدحت:

عندما تكلم د/ شريف عن الخصوصيات فهذا كلام د/ المسيري، فالتحيز موجود ولكنه ليس نهائيا، بمعنى يمكننا التخلص منه أو استيعابه.

أ/ مهجة:

ولكن د. المسيري يؤكد أن التحيز نظرية علمية.

أ/ مدحت:

نعم. وبالتالي لابد أن نعيد دراسة مفهوم العلمي الذي حاولوا تعميمه، لأنهم من وجهة نظري فعلوا جريمة كبيرة جدا عندما قالوا أننا ننطلق من “الواقع” مع وجود الألف واللام، إلا أنهم ينطلقوا من “واقع”، فلا يصح تعميم الغرب على الإنسانية، وهذا ما قاله كثيرون الآن، ما تم إنجازه جميل جدا ولكن لا تقولوا الإنسان أو العالم أو البشر ولكن قولوا الأوربيين أو الأمريكيين، فكلمة “أنا” الوجود مصيبة أخلاقية.

أ/ مهجة:

 كل حضارة في القمة هي التي تقدم نفسها على أنها نهاية العالم، ففي فترة ابن خلدون وغيره شعروا أنهم يقدمون طرح للإنسانية كلها.

أ/ مدحت:

ولكن هنا كنا نسمي نفسنا بالتسميات الجميلة مثل “مسلمين أو المغاربة أو المشارقة أو البغداديين” ولكننا لم نذكر “الإنسان”، وكما ذكر د/ عبد المجيد النجار وقال إن “تراث المسلمين عن الإنسان بكُليته قليل” وهذا في مقدمة كتاب “تأصيل النشأتين وتحصيل الهجرتين” فلم يصدر تجربة من أي فئة مسلمة عن الإنسانية عموماً.

أ/ مهجة:

الإنتاج الإسلامي إنتاج حضاري بصرف النظر عن إن كانت هذه التجربة تم التعبير عنها أم لا، فهم كانوا يرون أن هذا هو الطرح الأفضل في زمنهم، فكل حضارة في القمة تطرح نفسها على أنها الأفضل.

أ/ مدحت:

نعم. هي الأفضل ولكن ليست الأوحد، ففي الحضارات السابقة لم يذكر أحد أنه الإنسان والآخر حيوان، فمقولة التوحش والبربرية والهمجية لم يذكرها الشرق على الغرب، ولكنه أهملهم، ففي مراجعات العلاقات الدولية لدى المسلمين تم اكتشاف حالة من حالات الإهمال أو الاهتمام القليل للغرب خارج حدود دولة الإسلام، فيقول الماوردي “وهؤلاء الترك” أي القبائل التركية البعيدة، أو هؤلاء الذين يسكنون في أقاصي العالم، وأيضا ابن خلدون تكلم عن الهمج والرعاع وأوباش إفريقيا ولكنه لم يذكر أن النظرية تعمهم.

د/ شريف:

هي صفات أكثر ما هي عرقية، وهذا لأنني عندما أتكلم عن المنظور الحضاري فأنا اشعر أننا نفعل شيء نحن الذي نستخدمه، وهذا هو الطبيعي الذي يتسق مع تاريخنا ومرجعيتنا، إننا لسنا الإنسان وإنما نحن المسلمين أمة في العالم ترى العالم وترى نفسها بطريقة لكنها ترى أن تُرى هي لا تجد نفسها تجسيد لفعل الرؤية، فنحن ننظر ولكننا لسنا النظر ونحاول ان نُعقلن الأمور ولكننا لسنا العقل، فأنا أرى أن جزء من نسياننا لأنفسنا أننا انخرطنا في هذه الموجة، فنحاول أن نرى نفسنا في إطار الواقعية أو الليبرالية. لقد أصبح العقل من التبجح بحيث يقيم نفسه مرادفا للواقع، رغم أن هذا الواقع شديد الثراء والتنوع والتعقد بطبيعته، لذلك عندما كان يذكر أساتذتنا “وسوف يلجأ الباحث إلى حزمة من المفاهيم” وكنا نتضايق منهم، هل هناك منهج أم لا؟ فكانوا يقولون اختار أن يكون المنهج رقمي أو وصفي أو تاريخي، فكنا نرى أن الموضوع عن الإنسان هو وصفي وكمي وتاريخي، فكيف كنا سنتعامل مع هذا ونصل إلى حقيقته، فكنا نشعر بالتكتيف لكي نعبر عن الإنسان كرقم، فكنا لا نصل إلى معنى الإنسان بمفهوم أنا أرضاه أو أتبصره .

 عندما نقترح موضوع في إطار العلاقات الدولية من واقع منظورنا الحضاري نجد أنه لا يستطيع أن يدخل معهم في منافسة، فهم يدعون الواقعية أي أن العالم كله كرات بلياردو تحكمها قوانين عامة تعبر عن هيكل النظام الدولي، ولكننا منظورنا ليس بهذه الطريقة شديدة العمومية والتجريد، فهو يتكلم عن إنسان تحكمه قيم،لا يعتبر الإنسان كرة بلياردو مادية تحكمها قوانين مطلقة. ومن ثم فأنا أقول أن إعادة الاعتبار للفرد والإنسان والذات من حيث أنه إنسان وليس “الإنسان” بالأف واللام، هذا هو الخروج من حالة السيولة، فحالة السيولة هي حالة التنميط أو حالة أي جعل الإنسان جزء من نمط، فأنا في النهاية إنسان ولدي خصوصية لا يشركني فيها غيري، وأشترك مع غيري في الخواص.

أ/ مهجة:

أنا ما أفهمه أننا كرؤية اسلامية فنحن نملك الحقيقة، فأنا لست رؤية بين الرؤى الأخرى.

أ/ مدحت:

ولكنها ليست من مُنتجنا، فنحن كمسلمين يوجد نقطة خاصة بنا، ندعى أن هناك شيء يملكنا ولا نملكه، وأن أي أمة اخرى تأخذه ممكن أن تحكمنا ليس فقط أن تصادقنا أو تنضم إلينا، من حكمنا في معظم تاريخنا ليسوا من الأمة التي نزل فيها هذا الكتاب أو حتى تعرف اللغة العربية، وأساتذتنا وشيوخنا كلهم أسماء من جميع أنحاء العالم، فنحن أمة من خصوصيتها الأساسية أننا عبيد لله.

د/ شريف:

ونحن امتداد لآخرين كانوا يشتركوا معنا في قصص أخرى، عندما يذكر أحد أن ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولا مسلم أيضا، فنذكر أننا لا ندعى أن سيدنا إبراهيم كان مسلما ولكننا ندعى ان إبراهيم كان حنيفا لله ونحن أحناف على ملة إبراهيم، فنحن ننسب أنفسنا للحق ولا نحتكم فنقول إن هناك ديانة حنيفية ونحن جزء منها، وهي ديانة تميل عن الباطل ونحن جزء منها، ومن يريد أن يكون جزء منها اهلا وسهلا.

أ/ منال:

أنا اقول إن هناك رؤية توحيدية تحكم كل من يندرج تحتها، ويكون إنتاجها مختلف عن أي رؤية أخرى، رؤية تجعل المركز خارجها.

أ/ مدحت:

لذلك فانا لا أستطيع أن أتجادل معه على نفس أرضيته، لابد أن ننتقل إلى أرضية أخرى، فالقصة ليست أنا وأنت، القصة هل ترى أن هناك إله أم لا؟ مثلما حدث في القرآن عندما سلطوا الضوء على النبي (ص) ولكنه قال ليس أنا، يقول الله عز وجل” وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ” [فصلت: 5]

فيقلوا: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ” [الكهف: 110]

  وهذا السؤال هو الذي سيصنفكم ويصنفني، هذا هو الإيمان.

السيولة أو  الصلابة ليست هي القضية، فالإسلام فيه ظواهر كثيرة جدا تنطبق مع السيولة، وهي حلال، ولكن هناك شيء أخرى لا أدرى هل هو صلابة أم سيولة ام ماذا؟ وهو الثابت والمتغير، فالثابت الذي عندي ليس أنا من ثبته، وهو مجمل قليل العدد كبير القيمة، والمتغير الذي عندي هو كثير العدد ولكنه مرتبط بالثابت، لذلك كثير مما تسميه سيولة أنا لا أرفضه وكثير مما تسميه صلابة انا لا أقبله، مثلا تفكك العلاقات الاجتماعية، أي علاقات تقصد؟ بمعنى عند تفكك القومية العرقية بالشكل الذي قام بعرضه فهذا لا يهمني.

قد تعرضت د/ هبه رؤوف لنقطة مهمة جدا تلاقت مع باومان وأعتقد أنها تحتاج لدراسة مستقلة، فالقول بفك الموجود يستتبع السؤال: ثم ماذا؟ أجاب باومان في دراسته هو فك بلا تربيط، أما د/ هبه رؤوف فما طرحته يحتاج القراءة، لأنها بدأت تتكلم عن حزمة مفاهيم يجب أن نشاهد من خلالها السيولة والصلابة، وهي الدين والأخلاق والقيم وبعض الاشياء التي تحتاج إلى تجميع، فيجب أن يمنح لهذا الطرح فرصة للدراسة.

أ/ منال:

هي وضعت الثوابت وتحاول أن تصل إلى حل.

أ/ مدحت:

الدول القومية هي المشكلة من حيث البنية والوظائف، ولكن ما البديل؟  ذكرت د/ هبه بديل في كلمات عامة، وقد قامت بمقدمة لكل كتاب من مجموعة كتب السيولة لباومان، في هذه المقدمات تقول الدكتورة/ هبه يا من كنتم تقولون أن هذه الحداثة وهذه الليبرالية وتلك الرأسمالية المتوحشة خطر ولابد أن نخرج منها، ولكن نخرج إلى أين، باومان ذكر أننا خرجنا للعراء والتفكك واللايقين وإلى الخوف وإلى سيولة الحب. أعتقد أن كلمة الإيمان تخرجنا من هذه الثنائيات.

أ/ مهجة:

أعتقد أن المشكلة هي أن باومان يتكلم عن المجتمع الغربي الحداثي وما أصبحنا نحن جزء منه رغم أننا نؤدي الفرائض.

د/ شريف:

هذا الرجل كتب سلسلته وأسماها الحداثة السائلة، وأعتقد انه لو كان مصري لأسماها الحداثة المشوهة، وكان سينفذ سلسلة يتكلم فيه عن أخلاق ما قبل الحداثة وما بعد الحداثة، فنحن نعيش في إطار حداثة فيها فوضوية وما بعدية وكلنا فقدنا البوصلة، وهو سؤال الهوية أو النموذج الفكري ليس واضح في ذهننا، فماذا نحن فاعلون؟

عن منال يحيى شيمي

شاهد أيضاً