الفكر المقاصدي والمقاربة العلمانية*
عارف بن مسفر المالكي
يدور منشأ اصطلاح العلمانية حول «اللادينية» أو «الدنيوية»، «لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص: هو ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد»[1] .
ومن هنا كان النظر في العالم الإسلامي إلى أن العلمانية هي «فصل الدين عن الدولة» فقط نظرًا قاصرًا عن حقيقتها، ولعل مرجع ذلك أن بدايات الطرح العلماني في الفكر الإسلامي كان طرحًا سياسيًا، فارتبطت الحقيقة العلمانية في الذهنية الإسلامية بالسياسة الشرعية، وغفلت الدراسات الإسلامية عن النظر إلى مظاهر العلمانية في الفكر وملامح الحياة الاجتماعية للمجتمعات الإسلامية، قال المسيري: «وتعريف العلمانية على هذا النحو يتجاهل قضية المرجعية والنموذج الكامن وراء المصطلح»[2].
وقد أشار إلى ذلك المستشرق أربري فقال: «إن المادية العلمية، والإنسانية، والمذهب الطبيعي، والوضعية؛ كلها أشكال للادينية – واللادينية صفة مميزة لأوروبا وأميركا -، ومع أن مظاهرها موجودة في الشرق الأوسط فإنها لم تتخذ أي صبغة فلسفية أو أدبية محددة، والنموذج الرئيسي لها هو «فصل الدين عن الدولة في الجمهورية التركية»[3].
لقد كان لمظاهر العلمانية الاجتماعية وخاصة في مجال التعليم – فصل التعليم الديني عن التعليم الدنيوي – أثر في انتشار العلمانية الخفي في المجتمعات الإسلامية فكرًا وسياسة، وهكذا أصبحت المجتمعات الإسلامية علمانية وإن لم ترفع شعار العلمانية، بل لعل الحركات العلمانية كانت حريصة في البداية على استمالة الشعور الديني السياسي إليها.
وهكذا تبنى جيل مشروع النهضة المستقبلية «معايير الاحتكام الغربية»، وأخذ يترسم الأنساق الاجتماعية الغربية، ويقررها، ويجري على محاكاتها في التنفيذ، وذلك كله بعيدًا عن معايير الشرعية الإسلامية ومعايير الاحتكام المتصلة بها»[4].
وللملامح الفكرية للحركة العلمانية الاجتماعية في البلاد الإسلامية بعيدًا عن نموذج فصل الدين عن الدولة، ركيزتان أساسيتان هما: محورية الإنسان، ودنيوية المصالح.
وقد يجد الفكر العلماني في العالم الإسلامي في هاتين الركيزتين نقطة التقاء ظاهري مع بعض الرؤى المقاصدية عند بعض المفكرين الأصوليين، قال ابن عاشور: «فالشرائع كلها – وبخاصة شريعة الإسلام – جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل؛ أي في حاضر الأمور وعواقبها، وليس المراد بالآجل أمور الآخرة؛ لأن الشرائع لا تُحدد للناس سيرهم في الآخرة، ولكن الآخرة جعلها الله جزاءً على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا»[5]. ومن هنا كان احتفاؤهم الظاهري بالشاطبي رحمه الله، لكنه احتفاء بحسب رؤية ابن عاشور المقاصدية لا برؤية الشاطبي نفسها.
المطلب الأول: محورية الإنسان بين العلمانية والتوجه المقاصدي المعاصر:
في الرؤية العلمانية تشكل محورية الإنسان أهم عناصر العلمنة، ونقطة البدء الحقيقية في العلمانية الشاملة، وتعني تأكيد مركزية الإنسان المطلقة في الكون، «وأنه مقياس كل شيء ومرجعية ذاته»[6]، فتظهر «النزعة الإنسانية» التي تنظر إلى الطبيعة باعتبارها مادة استعمالية، ويبدأ الإنسان في إعادة صياغتها «في الإطار المادي ليسخرها لصالحه»[7].
فأما مرجعية الإنسان الذاتية في الفكر العلماني فتتحدد في رؤيته للمعرفة وكيفية تحصيلها، والتي تؤول إلى ثلاثة مناهج معرفية هي: المنهج الاستدلالي أو البرهان العقلي، والمنهج التجريبي، والمنهج التاريخي[8] ، قال المسيري: «إن النموذج المعرفي العلماني الشامل نموذج حقق قدرًا لا بأس به من السعادة للإنسان، فهو نموذج حركي، استبعد المرجعية المتجاوزة، والغيب والتركيب، وغير المحسوس، والمبهم، وتبنى مرجعية مادية كامنة، وتفاعل مع الملموس والمحسوس والواضح البسيط، ولذا أمكنه تطوير أدوات ومناهج – في معظمها مادية كمية – زادت بالفعل من معرفة الإنسان، ومن درجة تحكمه في الواقع المادي»[9].
أما اعتباره مقياس كل شيء فمن حيث اعتبار تحقق منفعته؛ وذلك باعتبار نسبة الأشياء إليه خيرًا وشرًا وألمًا ونفعًا، ففي ظل المعيارية العلمانية المادية للخير والشر باعتبار «تحقيق القانون الطبيعي – المتعة، البقاء المادي، القوة، الانتصار في معركة البقاء -»، وأن تحقيقها هو الخير وفواتها هو الشر؛ «يظهر الفرد صاحب القوة – السوبرمان الإمبريالي الذي يحسم المواقف النسبية ويخدم مصلحته بالقوة – فيفرض إرادته، ويوظف الواقع لصالحه، ويحقق بقاءه ومنفعته ولذته على حساب الآخرين»[10].
فالمعيارية في الفكر العلماني «تتميز بالنفعية، أي أنه يعلي من مقام المصلحة بصدد القيم الأولية في المجتمع»، وهو بهذه المعيارية بحسب التوجه العلماني في العالم الإسلامي مع إعلاء مبدأي المصلحة ومقاصد التشريع الإسلامي؛ لكن بتجريدهما عن الضوابط الشرعية؛ ويُوظفون في ذلك رؤية المدرسة التنويرية للدين وأنه «الذي يقدم في شئون المجتمع المصلحة على النص، وهو الذي يتحدث عن أن الشريعة مقاصد وغايات، والذي يجعل المرجع في حسن الأمور وقبحها رأي الأمة – التي ترى وتقرر ما يحقق مصلحتها – ، والله سبحانه – وهو شارع النصوص – يبارك رأي الأمة في أمور الدنيا والمجتمع؛ إذ القاعدة الإسلامية الشهيرة تقول: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» [11].
لقد حاول بعض المفكرين في العالم الإسلامي، التوفيق بين مركزية الإنسان ونفعيته في الحركة العلمانية واعتبار حفظ مصالح العباد في التشريع الإسلامي، ووجدوا في كتابات الفقهاء والأصوليين ما يمكن توظيفه في تحقيق ذلك التوفيق[12]، ومن الأمثلة على ذلك:
أولا: توظيف إعلاء مبدأ المصلحة عند الطوفي في تعطيل النصوص الشرعية والافتئات عليها، قال الطوفي في معرض تعداد أصول الأدلة: «وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها، فإن وافقاها فيها ونعمت، ولا نزاع، … وإن خالفاها وجب تقديم المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما»[13].
وفي هذا يقول فهمي هويدي: “إن أحكام المعاملات ليست “فرمانات إلهية” صادرة عن الذات العلية لا يملك الإنسان إزاءها إلا التلقي والامتثال، وإنما تطبيق النصوص له شروطه الموضوعية التي ينبغي أن تتوفر، وله مصالح منشودة ينبغي أن تتحقق، وعند أهل الأصول؛ فإنه إذا لم تتوفر تلك الشروط، أو إذا حدث التعارض بين النصوص وبين أي من مصالح الناس المتغيرة؛ فلا محلّ للتطبيق في الأولى، وتُغلَّب المصلحة على النص في الثانية”[14].
ثانيا: توظيف رؤية الشاطبي لشرط الاجتهاد في المصالح – الاجتهاد القياسي – في فتح باب الاجتهاد العقلي، قال الشاطبي عن شرط الاجتهاد: «وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص؛ فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة»[15]. وقال: «فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا فيما يتعلق بالمقيس عليه وهو الأصل، وقد يؤخذ مسلمًا أو بالعلة المنصوص عليها أو التي أومئ إليها، ويؤخذ ذلك مسلمًا، وما سواه فراجع إلى النظر العقلي»[16].
وفي هذا يقول محمد عمارة: “فالاجتهاد إذن يجب أن يخرج، وأن نخرج به من ذلك الإطار الضيق الذي عرفه تراثنا الفقهي – والذي لا يزال يفكر فيه دارسوا الفقه، وقلة من الفقهاء، وكثرة من أشباه الفقهاء -، فهؤلاء ليسوا وحدهم المطالبين بالاجتهاد، بل إن المُطالب به هم علماء الأمة وأهل الخبرة العالية والمكثفة فيها، ومن كل المجالات والتخصصات؛ لأن ميدانه الحقيقي هو أمور الدنيا، ونظم معيشتها، ونمط حضارة المسلمين”[17].
ثالثا: توظيف محورية الإنسان في التشريع عند ابن عاشور في إعلاء قيمة الإنسان وإعطائه الحق في تشريع ما يحقق مصالحه، قال ابن عاشور: «إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقرأة أن المقصد العام من التشريع فيها هو: حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان -، ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه»[18].
و “يرى دعاة الفهم التقدمي للإسلام أن المصلحة أداة تشريعية مُثلى لتحقيق مقاصد الشريعة، وأن القرآن الكريم بني فلسفته التشريعية على مفهوم المصلحة الاجتماعية، والمصلحة في نظرهم أصل مستقل، وليست فرعًا تابعًا، ويمكن اعتبارها وإن خالفت نصًا شرعيًا أو قاعدة شرعية»[19].
إن ما ينادي به العلمانيون في الفكر الإسلامي هو في حقيقته ليس توفيقًا بين المصلحة الإسلامية والمنفعة العلمانية، بل تطبيق للذرائعية البراجماتية التي تنادي بـ«تحويل النظر بعيدًا عن الأشياء الأولية – المبادئ، النواميس، الفئات، الحتميات المسلم بها»، وتوجيهه «نحو الأشياء الأخيرة – الثمرات، النتائج، الآثار، الوقائع، الحقائق -»[20].
والتوجه العلماني نحو المصلحة الإسلامية توجه اسمي، ينظر إلى أن حقيقة المصلحة ذات طابع انفتاحي، فهي متغيرة نسبية، أساسها «النظام الذي يُعنى بالإنسان فلا يتحجر في نص، ويهتم بالإنسانية ولا يتجمد في رأي»[21]، فهي في حقيقتها الإسمية النفعية: ما يحسن بنا أن نشرعه لأنه الأصلح لنا.
وفي ظل هذه الاسمية النفعية للمصلحة في الفكر العلماني الإسلامي تتم معالجة حقوق الإنسان بعيدًا عن نور الوحي وهدي الشريعة، بدعوى «حركية الشريعة وديناميتها في مجال صيرورة الزمن»[22]؛ وأن خاصيتها «الأولى هي الطواعية ومجافاة التزمت والحرج والرهق»[23]، أما النص الشرعي فهو يحتمل الخروج عن خط التشريع العام والشامل متقيّدًا بظروف نسبية وتاريخية[24].
وفي إطار تحقيق هذه المصلحة الاسمية لا بد من تضييق باب ســــد الذرائع، أضيق ما يكون، ويُترك المجال لفتح الذرائع في تحقيقها؛ إذ «الأمور بمقاصدها» أصوليًا، و«الغاية تبرر الوسيلة» نفعيًا[25] ، و«الأحكام بمصالحها» مقاصديًا.
المطلب الثاني: دنيوية المصالح بين العلمانية والفكر المقاصدي المعاصر:
«طالما أن أحدًا لم ولن يستطيع – في الواقع الإسلامي – إلغاء الشريعة والدين؛ كان مطلوبًا استدعاء التنوير الغربي العلماني لعزل دين الإسلام عن دنيا المسلمين، وجعله شأنًا عقديًا شعائريًا خاصًا بين الفرد وخالقه، وإنهاء مرجعيته لنظامات العمران البشري، بجعل المرجعية في النظامات العمرانية – سياسة واجتماعًا واقتصادًا وعلومًا ومناهج بحث… الخ – فقط للعقل والتجريب، دون إشراك للنقل والوحي ونبأ الغيب وأحكام السماء مع العقل والتجريب في مرجعية الحياة الدنيا، وباختصار: كان مطلوبًا استدعاء التنوير الغربي العلماني إلى الواقع الفكري الإسلامي؛ ليصنع مع الإسلام ما صنعه في أوربا مع النصرانية الأوربية عندما ردها إلى الكنيسة واحتبسها فيها، وحرر العمران والنهضة من المرجعية الدينية»[26].
وهذا ما صرح به الفكر العلماني في العالم الإسلامي؛ قال علي عبد الرازق: والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون[27]، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا، ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها، ولم ينكرها، ولا أمر بها، ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا؛ لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة»[28]، وكلامه هنا وإن كان في إطار الصورة الذهنية في الفكر الإسلامي للعلمانية – فصل الدين عن الدولة -؛ فهو مبني على أن سياسة الدولة «غرض من الأغراض الدنيوية التي خلى الله له بينها وبين عقولنا، وترك الناس أحرارًا في تدبيرها على ما تهديهم إليه عقولهم وعلومهم ومصالحهم وأهواؤهم ونزعاتهم»[29].
لقد أقر ابن عاشور – بغير قصد، أو بقصد – فكرة فصل الدنيا عن الآخرة في البحث المقاصدي، قال ابن عاشور: «فالشرائع كلها – وبخاصة شريعة الإسلام – جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل – أي في حاضر الأمور وعواقبها -، وليس المراد بالآجل أمور الآخرة؛ لأن الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة، ولكن الآخرة جعلها الله جزاءً على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا»[30]. قال إسماعيل الحسني – معلقا-: «يدعونا هذا العلامة التونسي الفذ إلى أن يتميز نظرنا المصلحي في الشريعة بطابع النظر التخصصي الذي يجب أن ينتقل من التعميم إلى التخصيص؛ فيقتصر نظر المفكر المقاصدي على الآثار المصلحيــة الدنيوية، ونتائجها، وعواقبها ومآلاتها المختلفة في الحياة المجتمعية، فليست الحياة الأخروية إلا موعدًا ينال فيه كل واحد من البشر جزاءه على ما قدمه من أعماله في حياته، وعلى ما كان عليه من أحوال في الدنيا»[31].
لقد أثار إسماعيل حسني في الفكر المقاصدي المعاصر تساؤلا حول الامتداد الزمني للمصلحة في النظر الشرعي؛ «بأي زمن تتعلق المصالح التي يتعين على عالم المقاصد بحثها وسبرها وتعلقها»[32]؟
ويميز الحسني بين رؤيتين حكمتا معالجة علماء الإسلام للجواب عن هذا السؤال:
الأولى: رؤية تعميمية ذات خلفية اعتقادية، ترى أن الامتداد الزمني للمصلحة المعتبرة يشمل الآخرة والدنيا. وتؤكد على اعتبار المصالح الدنيوية «بمدى تحقيقها قصد الشارع المتمثل في إقامة الحياة الأخرى».
وتشتمل هذه الرؤية بحسب نظر الحسني على إشكال التعميم المعرفي؛ فـ «إن التأكيد على البُعد الديني الأخروي للمصلحة جعل تناول الأصوليين في تحديدهم لمفهومها تناولا عامًا، إذا كان يكشف عن التصور الحقيقي للمصالح والمفاسد في الشرع؛ فإنه لم يتجه إلى وضع ضوابط سليمة لأوصاف المصلحة في باب المعاملات المدنية»[33].
الرؤية الثانية: رؤية تدقيقية، تقصر النظر في المصالح ونتائجها وعواقبها الدنيوية، دون الأخروية؛ إذ الآخرة ليست «إلا موعدًا ينال فيه كل واحد من البشر جزاءه على ما قدمه من أعمال في حياته».
ويذهب الحسني إلى أن هذا القصر في اعتبار المصالح أمرًا ضروريًا، «ومن العمل الصالح في مقاصد الشريعة»[34].
وتشكل هذه الرؤية أول خطوة تجاه العلمانية؛ فإن تأصيل الحفظ للمصالح «بعد أن كان تشريعيًا يعتمد على ما استقرئ من مقررات الشرع وموارده المنصوصة وغير المنصوصة، أصبح مع ابن عاشور – بحسب ما يراه الحسني – سياسيًا سلطانيًا، وهنا يظهر الانتقال من التأصيل التشريعي لحفظ الضروريات إلى التأصيل السياسي لحفظها»؛ وذلك «أن تحديد ضروريات المصالح في المجتمع يخضع لما هو متحرك فيه لا لما هو ثابت، لما هو متغير لا لما هو جامد»، وهو يقضي بـ «التسليم بتاريخية طبيعة الحصر لضروريات مصالح العباد كما تقرر عند الأصوليين القدامى»[35].
وفي ظل هذه الرؤية للاعتبار الدنيوي للمصلحة تتم أولى «حلقات المتتالية النماذجية للعلمانية» في رؤية المسيري، فـ «يحل مركز الكون في العالم ويصبح حالا كامنًا فيه، غير مفارق له، وتصبح مرجعية الكون مرجعية كامنة فيه، وتختفي المرجعية المتجاوزة التي تفترض أن هناك عالمًا وراء هذا العالم المادي، عالم الحواس الخمس»[36].
المطلب الثالث: تقييم المقاصد في الفكر العلماني:
في خضم هذا التتابع والاهتمام المتزايد بالمقاصد يقول عمر عبيد حسنة: «وهنا لا بد من التنبيه على بعض المخاطر التي قد تصاحب الاجتهاد المقاصدي؛ ذلك أن قضية المقاصد، أو التوسع بالرؤية والاجتهاد المقاصدي دون ضوابط منهجية وثوابت شرعية يمكن أن تشكل منزلقا خطيرًا ينتهي بصاحبه إلى التحلل من أحكام الشريعة، أو تعطيل أحكامها باسم المصالح، ومحاصرة النصوص باسم المصالح، واختلاط مفهوم المصالح بمفهوم الضرورات في محاولة لإباحة المحظورات، فتوقف أحكام الشريعة تارة باسم الضرورة، وتارة باسم تحقيق المصلحة، وتارة تحت عنوان النزوع إلى تطبيق روح الشريعة لتحقيق المصلحة»[37]، وهذا التنبيه يبين وجه الاهتمام العلماني بالخطاب المقاصدي، ويكشف حقيقة احتفائهم به.
إن مما لا شك فيه أن الشارع إنما قصد بالتشريع حفظ مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وهذا الاعتبار التشريعي لمصالح العباد يختلف اختلافًا كليًا عن الاعتبار النفعي العلماني لمصالح البشر، ومن أبرز جوانب ذلك الاختلاف ما يلي:
أولًا- مصدر المصالح المعتبرة: ففي التشريع الإسلامي اعتبار المصالح بحسب أمر الشارع وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى الأهواء والشهوات.[38]
ومن هنا فارقت المصالح الشرعية المصالح العلمانية في حقيقتها الاسمية؛ إذ حقيقة المصالح الشرعية ذات دلالة ثابتة، وذلك أن اعتباره المصالح مناط إما بورود نص شرعي، أو اندراج تحت أصل شرعي كلي، فكان مستند اعتبار المصلحة المعينة الشرع بنصه أو معناه.
أما المصالح العلمانية فإنها ذات حقيقة اسمية مفتوحة، نسبية، قابلة للتغير، مستند اعتبارها النظر العقلي.
وهذه القضية كانت حاضرة في ذهن الشاطبي عند حديثه عن أن الشارع قصد من التشريع حفظ مصالح الخلق، قال الشاطبي: «المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت»[39]، فأي تلك المصالح يكون له الاعتبار؟!
إن جعل العقل المجرد مستند إدراك المصالح واعتبارها لا يفي بعلاج إشكال النسبية؛ «فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل»، وشاهد ذلك في الواقع «ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام»[40] ، ولو كان العقل المجرد كافيًا في ذلك لما انحرفوا وخرجوا عن مقتضى العدل.
ثانيًا– حقيقة المصالح المعتبرة: فالمصالح في النظر الشرعي من حيث الوجود على نوعين:
النوع الأول: مصالح محضة، وهذه لا وجود لها في الحياة الدنيا.
والأخر: المصالح المشوبة، وهي المصالح الدنيوية؛ فإن مصالح الدنيا يشوبها من حيث الوجود، شائبة من المفاسد.
ومن هنا كان اعتبار المصالح ليس اعتبارًا مطلقا، بل هو من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، وهو قائم على الموازنة بين وجه الصلاح وما يشوبه من وجه الفساد، فيستوي الاعتبار لسد الذرائع وفتحها[41].
أما الرؤية العلمانية للمصالح فهي رؤية قاصرة دنيوية، ولا يُخالف العلمانيون في حقيقة شوائب الفساد المتعلقة بوجوه المصالح الدنيوية، فالمصالح والمفاسد مظنونة متوخاة، ولا يمكن الحكم بالغلبة قطعًا لأحدهما إلا بعد ظهورهما أثرًا للأفعال، والذي يُحدد الغلبة في النتيجة هو السلوك الصحيح، «فكل ما نحتاجه هو أي سلوك يصلح لتحقيقها»، والأصل المعتبر في ذلك فتح الذرائع لا سدها؛ إذ «الغاية تبرر الوسيلة»، قال وليام جيمس: «ذكر بيرس – بعد أن أشار إلى أن عقائدنا هي في الواقع قواعد للعمل والأداء – أننا لكي ننشئ معنى فكرة فكل ما نحتاج إليه فقط هو تحديد أي سلوك تصلح لإنتاجه، إن المسلك بالنسبة لنا هو مغزاها الوحيد الذي يُعوّل عليه، وإن الحقيقة الملموسة البينة – التي هي المنشأ الأصلي الجذري لكل تفرقاتنا بين الأفكار – مهما تكن خفية ومستوردة هي أنه لا توجد فكرة واحدة منها على سبيل الحصر تبلغ حدًا من الدقة والرقة بحيث لا تتألف من شيء سوى فرقٍ ممكن في المزاولة العملية، وإذن، فلكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا عن موضوع ما فإنا لا نحتاج إلا إلى اعتبار ما قد يترتب من آثار يمكن تصورها، ذات طابع عملي قد يتضمنها الشيء أو الموضوع»[42].
لقد كان الشاطبي مدركًا لخطورة فصل الدنيا عن الآخرة في اعتبار المصالح، فأكد على أهمية اعتبار المصالح الأخروية عند النظر في المصالح الدنيوية، وأن الأحكام الشرعية وإن كانت في أمور دنيوية فلا تخلو من اعتبار لتحقيق المصلحة الأخروية فقال: إن كل حكم شرعي ليس بخالٍ عن حق الله تعالى، وهو جهة التعبد؛ فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق، فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردًًا فليس كذلك بإطلاق، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية»[43]
وبناءً على هذا – وإن كان الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني – إلا إنه إذا وجد فيها التعبد فلابد من التسليم والوقوف مع النصوص؛ كطلب الصداق في النكاح، والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث، وعدد الأشهر في العِدد الطلاقية والوفوية، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية حتى يقاس عليها غيرها»[44] ، ومن هنا امتازت العوائد التي ورد النص الشرعي بحكمها بالثبات وعدم التغيير»[45].
ثالثًا– وما يذهب إليه الحسني في قراءته للامتداد الزمني للمصالح، وإشكالية التعميم للرؤية الاعتقادية، والدعوة إلى الاعتبار الدنيوي المحسوس، هو ما عالجــه أيضًا وليام جيمس في النفعية البراجماتية، فقال: «أننا لو اعتقدنا فعلا أن كل شيء يؤدي إلى الخير في حياتنا الشخصية فإننا سنجد أنفسنا غارقين ومنغمسين في كل ضروب الأوهام عن شؤون هذا العالم، وكل صنوف الخرافات المنساقة مع العاطفة عن عالم آخر»[46].
ويعالج جيمس إشكالية التعميم الزمني للمنفعة باعتبار النفعية الحسية في الواقع، بمعنى أن النفع المعتبر هو ما كان له وجود في الواقع؛ وذلك أن النفع مرتبط «عمليًا بمطلب عاجل من مطالبنا، أو بضرورة ملحة من ضرورياتنا»[47] فنحن نحتفظ في ذاكرتنا بأفكار نافعة لنا، وقيمتها العملية وصدقها العقلي حيث تؤدي عملا في العالم، وهذا يُلغي اعتبار المنافع غير المحسوسة أو الكامنة[48].
إن في الدعوة إلى «التوجه المصلحي الدنيوي معزولا عن البعد الديني التعبدي والأخروي فتح لباب اتباع الهوى، والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة، والشهوات الزائلة»، وقد ذم الله سبحانه وتعالى اتباع الهوى وجعله «مضادا للحق وقسيما له»؛ قال تعالى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْتَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَأَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ ص: ٢٦] ، وقال: (فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَوَةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: ٣٧-٤١]، وقال: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [ النجم : ٣-٤]، قال الشاطبي: «فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي، وهو الشريعة والهوى. فلا ثالث لهما»[49].
إن البعد الديني في الحياة الاجتماعية الإسلامية يمثل شكلا من أشكال الشمول في الشريعة الإسلامية، وضابطًًا لانتظام الحياة الاجتماعية، ومعيارًا لتحققه.
فأما كونه شكلا من أشكال شمول الشريعة فقال: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [البقرة:٢٠١-٢٠٢]، قال القرطبي: «والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نِعَم الدنيا والآخرة، وهذا هو الصحيح؛ لأن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن «حسنة» نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع»[50]، وقال تعالى في شمول ثواب المؤمنين: ﴿فَئاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٨]، وقال ﷺ في عقاب الكافرين: (أُولَئكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم من نَّاصِرِينَ﴾ [آل عمران: ٢٢].
وأما كونه ضابطًًا من الضوابط الأساسية لانتظام الحياة الاجتماعية، ومعيارًا لتحققه؛ فقال ﷺ: (مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النساء : ١٣٤]، قال ابن عاشور: «لما كان شأن التقوى عظيمًا على النفوس؛ لأنها يصرفها عنها استعجال الناس لمنافع الدنيا على خيرات الآخرة، نبههم الله إلى أن خير الدنيا بيد الله، وخير الآخرة أيضًا، فإن اتقوه نالوا الخيرين، … والتقدير: من كان يريد ثواب الدنيا فلا يعرض عن دين الله، أو فلا يصد عن سؤاله، أو فلا يقتصر على سؤاله، أو فلا يحصله من وجوه لا ترضي الله تعالى كما فعل بنو أبيرق وأضرابهم، وليتطلبه من وجوه البر لأن فضل الله يسع الخيرين، والكل من عنده»[51]، وقال ﷺ: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ، مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى: ۲۰]، قال ابن كثير: «أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا وليس له إلى الآخرة همة – ألبتة بالكلية – حَرَمَهُ الله الآخرة، والدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل له لا هذه ولا هذه، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة»[52]. وقال ﷺ: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: ١٦-١٧]، قال ابن عاشور: «واعلم أن للمؤمنين حظًا من هذه الموعظة على طول الدهر، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرط فيه أحدهم مما ينجيه في الآخرة إيثارًا لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تبعة في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة»[53].
«والآيات القرآنية متضافرة في الدلالة القطعية على أن مصالح العباد المقصودة هي مصالح في الدنيا والآخرة»[54] ، وهذا ما تنبه له الشاطبي في [الموافقات] فاعتبر قصد الامتثال من مقاصد الشريعة؛ إذ «المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد الله اضطرارًا»[55].
رابعًا– وتكمن خطورة الأمر – الفصل بين المصالح الدنيوية والأخروية في الاعتبار في الأحكام الشرعية – في توسيع الدائرة تجاه الأحكام الشرعية الاعتقادية، وهو ما يظهر في عمل عبد الوهاب المسيري في العلمانية الشاملة وعرضه لمفهوم الإله، والتدين، والأخلاق.
فأما مفهوم الإله فعرضه على شكلين:
الشكل الأول: الموقف الإلحادي الذي يرى الإله في قوانين الطبيعة وسنن الكون، «ويصبح الخالق ذاته هو الطبيعة وقوانينها، أو شعبًا بعينه، أو التاريخ وقوانينه»، ويضفي المسيري على هذه الدرجة صبغة صوفية فيقول: «وهذه هي نقطة وحدة الوجود المادية، والواحدية الكونية المادية الكاملة[56].
الشكل الثاني: الشكل العلماني الذي ينظر «إلى الخالق باعتباره خالق العالم – الذي خلق العالم وقوانينه وسننه، وجعلها تسير حسب نمط محدد – ثم انسحب منه»، قال المسيري: «أي أن الخالق – في مثل هذا التصور ينكمش بحيث يصبح مسئولًا عن البدايات، وربما عن النهايات أيضًا، أما ما بينهما – حياة الإنسان في الدنيا والزمان، الآن وهنا – فهو خاضع للقوانين الطبيعية الآلية الكامنة في المادة»[57].
«وسواء تجلى الإله في مخلوقاته حتى يكاد يتوحد معها، أو انسحب من الدنيا تمامًا وتركها وشأنها؛ فإن هذا يعني تهميش الإله والمرجعية النهائية المتجاوزة، وهو ما يعني زوال الثنائية، وسريان القوانين الواحدية المادية، واختفاء الغرض والغاية في العالم»[58].
وأما التدين فبحسب الموقف من مفهوم الإله يصبح الإيمان بالإله «حالة شعورية، أو تجربة جمالية يخوضها الإنسان، فيصبح الإله أمرًا خاصًا بالقلب والضمير الشخصي الإنساني»، وبهذا يتم الفصل التام بين العبادات والمعاملات، ويتمثل التدين في المعاملات كتجربة تاريخية بعيدة عن الاستناد إلى منظومة أخلاقية مستندة إلى الإيمان بالغيب، «ومع تزايد معدلات العلمنة يتصالح الدين والواقع، ويتماهيان إلى أن يصبح الدين واقعيًا يستمد معياريته من الواقع»[59].
وتكتمل العلمنة الشاملة بالنظرية الأخلاقية التي «تدور داخل إطار القانون الطبيعي المادي، الذي يوحد الإنسان والطبيعة، ولا يقبل أية مرجعية غير مادية متجاوزة؛ فإذا كانت الطبيعة تخلو من قيم مطلقة دينية أو إنسانية متجاوزة لقوانين الطبيعة، فإنه لا بد وأن يكون الوضع كذلك بالنسبة للإنسان، ومن ثم يظهر الإنسان الطبيعي الذي هو مجموعة من الدوافع البيولوجية التي تتحكم فيه، وإن بقيت قيم في عالمه؛ فمن المؤكد أنها ستكون قيمًا مادية عامة مثل: المنفعة والبقاء»[60].
خامسًًا– تقف هذه الرؤية العلمانية المقاصدية الدنيوية من التراث الفقهي الإسلامي موقف النقد، وذلك «أن نظرية المقاصد توفر عدة ميزات من بينها: تحرير الفقه من رواسبه الماضوية المعيقة له، واعتبار التراث الشرعي أحكامًا ظنية غير ملزمة للمسلمين في وقتهم الحاضر، ومن ثم فإن الأساس الأوحد ليقين أصول الفقه هو الكليات الضرورية، أي فقط الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، والعِرض»[61].
ويعيدنا هذا الموقف إلى دعوى انفتاح النص الشرعي «على تحولات الوعي الذاتي للإنسان، وتقلبات الاهتمام وتصاعده من جيل إلى جيل»[62].
ويظهر والله أعلم أن الشاطبي كان يُدرك خطورة توظيف المقاصد في إلغاء النص الشرعي ودعوى انفتاحيته على كل التأويلات الممكنة، ومن هنا كان تأكيده على اعتبار المصالح الدنيوية بما يحقق المصالح الأخروية، وأن المقاصد لا تعود على النص بالإبطال، واعتماد لغة العرب وفهم السلف الصالح رضي الله عنهم منهجًا في فهم مقاصد الشرع واستخراجها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المقالة مستله بتصرف من:
التوجه المقاصدي وأثره في الفكر الإسلامي المعاصر/ عارف بن مسفر المالكي. جدة: مركز التأصيل للدراسات والبحوث، 2016. ص ص. 587- 607.
[1] العلمانية، سفر الحوالي، (۲۱).
[2] العلمانية تحت المجهر، مقال مصطلح العلمانية، عبد الوهاب المسيري، (۱۷).
[3] الدين في الشرق الأوسط، أريري (607-2/606) Religion in the Middle East. نقلًا عن: العلمانية، سفر الحوالي، (۲۳).
[4] الحوار الإسلامي العلماني، طارق البشري، (٢٢-٢٤).
[5] مقاصد الشريعة الإسلامية ابن عاشور (۱۸۰)
[6] انظر: العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، المسيري، (١٢٠/٢).
[7] المصدر السابق، (۲۲۳/۱).
[8] انظر: مناهج البحث العلمي، عبد الرحمن بدوي، (۱۸-۱۹).
[9] العلمانية تحت المجهر، مقال: مصطلح العلمانية، عبد الوهاب المسيري، (۱۲۸).
[10] المصدر السابق (۱۳۲).
[11] الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية، محمد عمارة، (۱۷۰)، وقد ناقش محمد عمارة في كتابه الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية، (٥٥-٦٣) أنموذجين للعلمنة الإسلامية هما: أنموذج العشماوي، ويتمثل في اختزال البعد القانوني من الإسلام، وأنموذج نصر حامد أبو زيد،
ويتمثل في دعوى تاريخية الإسلام
[12] ومن ذلك اعتبار النزعة الإنسانية سمة من الشريعة الإسلامية، [انظر: الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، القرضاوي، (٩)].
[13] رسالة في رعاية المصلحة، الطوفي، (٢٣-٢٤).
[14] التدين المنقوص، فهمي هويدي، (١٧٦).
[15] الموافقات، الشاطبي، (١١٧/٤).
[16] المصدر السابق، (١١٨/٤).
[17] الإسلام والمستقبل محمد عمارة، (٤١)
[18] مقاصد الشريعة الإسلامية ابن عاشور (۲۷۳).
[19] ظاهرة اليسار الإسلامي، محسن الميلي، (٦٥-٦٦).
[20] البراجماتية، وليام جيمس، الترجمة العربية، (٧٦).
[21] جوهر الإسلام، محمد سعيد العشماوي (50).
[22] أين الخطأ، عبد الله العلايلي، (١٦).
[23] المصدر السابق، (۱۸).
[24] انظر: الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، محمد مهدي شمس الدين، (١٢٦-١٢٩). ومقاصد الشريعة، جاسر عودة، (٨١-٨٥).
[25] صرح مكيافيللي بهذه الفكرة في كتابه الأمير، فقال: «وفي كافة أعمال البشر – وخاصة الأمراء – فإن الغاية تبرر الوسيلة». [الأمير (۹۱)، الترجمة العربية].
[26] الإسلام بين التنوير والتزوير، محمد عمارة، (۳۹).
[27] قال علي عبد الرازق في بيان مفهوم الخلافة عند المسلمين والخلافة في لسان المسلمين وترادفها الإمامة – هي: رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي ﷺ. [الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق، (۱۱۳)].
[28] الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق، (۱۸۲).
[29] المصدر السابق، (١٦٥).
[30] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، (۱۸۰)
[31] مقاصد الشريعة وأسئلة الفكر المقاصدي الحسني، (٣٩-٤٠).
[32] المصدر السابق (٢٥).
[33] نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، إسماعيل الحسني، (۲۸۳).
[34] انظر: مقاصد الشريعة وأسئلة الفكر المقاصدي، الحسني، (٢٥-٥٨).
[35] نظرية المقاصد عند الإمام، محمد الطاهر بن عاشور، إسماعيل الحسني، (۲۹۸-۲۹۹).
[36] العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، المسيري، (٢٢٢/١).
[37] الاجتهاد المقاصدي حجيته ضوابطه مجالاته. الخادمي، مقدمة عمر عبيد حسنة للكتاب، (11 – 12).
[38] انظر: الموافقات الشاطبي، (١٣١/٢-١٣٤).
[39] المصدر السابق، (٢/ ٣٠).
[40] المصدر السابق، (۳۷/۲).
[41] انظر: المصدر السابق، (٢/ ٢٠-٢٥).
[42] البرجماتية، وليام جيمس، (٦٥).
[43] الموافقات، الشاطبي، (٢٤١/٢).
[44] المصدر السابق، (٢/ ٢٣٤).
[45] انظر: المصدر السابق، (٢١٥/٢-٢١٦).
[46] البراجماتية، وليام جيمس، (۱۰۲).
[47] المصدر السابق (٢٤١).
[48] انظر: المصدر السابق، (١٠٦).
[49] الموافقات الشاطبي، (۱۲۹/۲).
[50] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، (٣/ ٣٥٧).
[51] التحرير والتنوير، ابن عاشور، (٢٢٣/٥-٢٢٤).
[52] تفسير القرآن العظيم، ابن کثير (۱۹۸/۷).
[53] التحرير والتنوير ابن عاشور (۲۹۰۳۰)
[54] مقاصد الشريعة وأسئلة الفكر المقاصدي الحسني، (٥٤).
[55] الموافقات الشاطبي، (۱۲۸/۲).
[56] العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، المسيري، (۱۱۸/۲-۱۱۹).
[57] المصدر السابق، (۱۱۹/۲).
[58] المصدر السابق، (۱۱۹/۲).
[59] انظر: المصدر السابق، (۱۲۱/۲).
[60] المصدر السابق (۱۲۸/۲)
[61] نحو قراءة مقاصدية أصولية محمد كمال الدين إمام، ضمن مقاصد الشريعة الإسلامية والاجتهاد، مجموعة بحوث، (۲۱).
[62] المقاصد الكلية للشرع ومناهج التفسير، حسن جابر، (١٤).