محمد يونس
مصرفي الفقراء
أ. أحمد محمد علي*
محمد يونس.. حياة زاخرة بالهدف والإبداع
وُلد الاقتصادي البنغلاديشي الشهير محمد يونس في 28 يونيو 1940 بمدينة شيتاغونغ، التي كانت آنذاك جزءًا من الهند البريطانية، قبل أن تصبح ضمن أراضي بنغلاديش بعد الاستقلال. نشأ يونس في بيئةٍ عائلية بسيطة، بوصفه الطفل الثالث ضمن أسرة مكونة من أربعة عشر طفلًا وطفلة، والده صائغ مجوهرات معروف في مجتمعه، أما والدته فقد كرّست حياتها لأبنائها وأعمالها الخيرية. لكن الحياة لم تُمهل العائلة فرحتها بجميع أطفالها؛ فقد فقدت تسعة من أبنائها في أعمار مبكرة، ولم ينجُ سوى خمسة، وهو ما عكس قسوة الظروف الصحية والاجتماعية في تلك الحقبة[1].
كانت العائلة متدينة بطبعها، ملتزمة بالقيم الإسلامية، لكنّها في الوقت ذاته منفتحة على التعليم والنهضة الاجتماعية. والد يونس كان رجلاً وقورًا، يؤمن بالمسؤولية الأخلاقية والعدل، ويُشجّع أبناءه على التحصيل العلمي، بينما عُرفت والدته بعطائها وسخائها اللا محدود، إذ كانت تُطعم المحتاجين وتفتح أبواب المنزل لكل سائل، وهو ما غرس في نفس محمد يونس بذور التعاطف الإنساني والوعي الاجتماعي منذ نعومة أظافره.
في كنف هذه الأسرة، نشأ يونس محاطًاً بأخواته وإخوته في بيئة تشجّع الحوار والانضباط، وتُقدّر قيمة التعلم والعمل الدؤوب. وقد منح وجوده في وسط عائلي متعدد الأبناء وعيًا مبكرًا بالمسؤولية تجاه الآخر، وشعورًا بالترابط الجماعي، وهو ما تجلى لاحقًا في فلسفته الاقتصادية القائمة على التكافل و”التمكين المجتمعي”.
أظهر محمد يونس نبوغًا مبكرًا في التعليم، وبرزت عليه ملامح الفضول الفكري منذ المرحلة الابتدائية. ولقد تميز منذ سنواته الأولى بشغف لا محدود بالمعرفة، وحرصٍ دائم على الاستزادة من كل ما يُمكنه أن يفهم به العالم من حوله، وهو ما جعله محطّ اهتمام مُعلّميه وافتخار أسرته. وفي المدرسة الثانوية لم يكن يونس مجرد طالب متفوق في المواد النظرية، بل أظهر كفاءة عالية في النقاش والتحليل والقيادة. وقد ساهمت هذه الصفات في تعزيز حضوره اللافت داخل البيئة المدرسية وخارجها، حيث أصبح معروفًا بصفاته القيادية المبكرة وقدرته على التعبير عن آرائه بشكل منطقي وواضح.
وكانت تجربة الكشافة من أبرز المحطات التي شكلت شخصيته؛ إذ انضم مبكرًا إلى الحركة الكشفية التي كانت مزدهرة في ذلك الحين، مما أتاح له فرصة زيارة عدد من المناطق المختلفة في باكستان. هذه الزيارات كشفت له عن التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية بين المناطق، وعززت في داخله الشعور بالعدالة والاهتمام بالقضايا الإنسانية[2]. كذلك أتاحت له الكشافة فرصة التفاعل مع ثقافات متعددة من خلال السفر إلى كندا في عام 1955 والولايات المتحدة في عام 1959، الأمر الذي ساهم في تشكيل رؤيته العالمية لاحقًا[3]، ومنحته منظورًا دوليًا لقضايا الفقر، والتعليم، والعدالة الاجتماعية، وعرّفته على إمكانيات التغيير التي يمكن أن يصنعها الأفراد.
بعد إتمامه التعليم الثانوي، التحق يونس بجامعة دكا، وتخصص في الاقتصاد. وقد واصل هناك تألقه الأكاديمي، حيث تخرّج بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، وأكمل دراسته العليا في الاقتصاد، وكانت رسالته تركز على قضايا التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وهي المواضيع التي ستصبح لاحقًا الركيزة الأساسية لفلسفته المهنية والإنسانية.
شكلت هذه الفترة التأسيسية من حياته، التي اتسمت بالاستقرار الأسري والانتماء الأخلاقي والتفوق الأكاديمي والانفتاح العالمي، قاعدةً صلبة لرحلته المستقبلية. فقد أظهرت منذ البداية أن يونس لم يكن مجرد شاب نابغ، بل مشروع مفكرٍ عالمي يسعى لتغيير واقع الفقر والتهميش متسلحًاً برؤية أخلاقية راسخة وأدوات اقتصادية مبتكرة، تقوم على التمكين وليس الإحسان.
منحنى التغيير.. محمد يونس بين فصول أمريكا وجذور الثورة الاجتماعية
في عام 1965، حصل محمد يونس على منحة من جامعة فولبرايت في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تلك اللحظة مفصلية في حياته، إذ قرر مغادرة بنغلاديش متوجهًا إلى الولايات المتحدة، بحثًا عن أدوات نظرية وعملية تساعده في فهم التحديات الاقتصادية العميقة التي ترزح تحتها المجتمعات النامية، وعلى رأسها وطنه.
ثم التحق يونس بـجامعة فاندربيلت بولاية تينيسي، حيث واصل دراساته العليا في الاقتصاد. وقد اختار موضوع أطروحته للدكتوراه في مجال إشكاليات التنمية الاقتصادية في العالم الثالث، خصوصًا في البيئات التي تعاني من اختلالات بنيوية في توزيع الموارد والفرص. نال يونس درجة الدكتوراه عام 1969، وقد شكلت دراسته الأكاديمية آنذاك حجر الأساس لنظرية اقتصادية أكثر إنسانية ستولد لاحقًا على يديه[4].
لكن التجربة الأمريكية ليونس لم تكن مقتصرة على قاعات المحاضرات والكتب الأكاديمية؛ بل تزامنت دراسته مع واحدة من أكثر الفترات حراكًا وتحولًا في تاريخ الولايات المتحدة، وهي حقبة الستينيات، التي اتسمت بانتفاضات اجتماعية وحركات حقوق مدنية بقيادة رموز مثل “مارتن لوثر كينغ”. في هذه البيئة المشحونة بالنقاشات حول التمييز العنصري، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، وجد يونس نفسه منخرطًا فكريًا وأخلاقيًا في جدليات المساواة والحرية. وهذه التفاعلات مع الفكر الراديكالي والتحرري في الغرب لم تغيّر فقط نظرته إلى العالم، بل عمّقت إيمانه بقدرة الأفراد على إحداث التغيير إنطلاقاً من المنظومة الأخلاقية والظروف الاقتصادية الخاصة بكل بلد، كما أثّرت تأثيرًا بالغًا في رؤيته لمشكلات الفقر والبطالة والإقصاء في بنغلاديش.
وخلال إقامته في أمريكا عمل يونس أستاذًا مساعدًا للاقتصاد في جامعة فاندربيلت[5]، كان التدريس بالنسبة له ليس مجرد مهنة، بل مساحة لتأمل الواقع ومحاولة دمج النظريات الاقتصادية المعقدة مع الواقع الملموس للناس، خصوصًا أولئك الذين يُقصَون من الحسابات الرسمية للأنظمة الاقتصادية التقليدية. وقد مكّنه هذا الدور من التفاعل مع جيل جديد من الطلاب الأمريكيين، بينما كان لا يزال مرتبطًا وجدانيًا وسياسيًا بموطنه الأصلي.
فرغم كل ما وفرته له الولايات المتحدة من بيئة علمية خصبة ووسائل راحة متقدمة، لم يفتر ارتباط يونس بالقضايا الملحّة في وطنه. فقد ظل على تواصل دائم مع أخبار بنغلاديش (التي كانت حينها تعرف بباكستان الشرقية)، التي كانت تشهد تصاعدًا في التوترات السياسية والانقسامات المجتمعية. وبدا واضحًا ليونس أن الوطن بحاجة إلى أكثر من مجرد نظريات أو مقاربات تقليدية؛ إنه بحاجة إلى إعادة تفكير جذري في كيفية تمكين الناس، وبخاصة الفقراء، من أخذ زمام المبادرة في بناء حياتهم الاقتصادية.
وبدأ يونس يدرك أن الاقتصاد لا يمكن أن يكون محايدًا أو معزولًا عن السياق الاجتماعي، وأن التغيير الحقيقي يتطلب نماذج بديلة تُعيد تعريف العلاقة بين المال والإنسان. وقد لعبت هذه المرحلة دورًا حاسمًا في إعداده للخطوة الكبرى التالية في حياته، وهي العودة إلى بنغلاديش بعد الاستقلال، وتأسيس ما سيعرف لاحقًا بـثورة “بنك الفقراء.”
هكذا تحوّلت سنوات محمد يونس في أمريكا من مجرد رحلة أكاديمية إلى مختبر فكري وإنساني، نضجت فيه مفاهيمه حول العدالة، والمبادرة الفردية، وتمكين المجتمعات المهمشة. وبينما كانت الولايات المتحدة في خضمّ نقاشات حول الحريات المدنية والحقوق الاجتماعية، كان يونس يستعد، دون أن يدري تمامًا، لصياغة واحدة من أكثر التجارب الاقتصادية تأثيرًا في القرن العشرين.
العودة إلى بنغلاديش وبداية تجربة محمد يونس الملهمة
عاد محمد يونس إلى وطنه في عام 1972، بعد فترة وجيزة من استقلال البلاد عن باكستان عقب حرب تحرير دامية في عام 1971. كانت تلك الفترة تمثل مرحلةً غاية في الصعوبة، ليس فقط على المستوى السياسي والاجتماعي، ولكن أيضًا على المستوى الاقتصادي. كانت بنغلاديش قد خرجت للتو من الحرب، التي ألحقت دمارًا هائلًا بالبنية التحتية وأسفرت عن عدد ضخم من الضحايا. وبينما كانت البلاد تكافح للتعافي، كان الاقتصاد في حالةٍ من الخراب، والمجاعة تلوح في الأفق. في تلك الظروف القاسية، عُيّن يونس رئيسًا لقسم الاقتصاد في جامعة شيتاغونغ، ليبدأ فصلاً جديدًا من حياته المهنية[6].
لكن رغم كونه في مركز أكاديمي مرموق، لم يكن يونس قادرًا على أن يظل بمعزل عن معاناة الشعب البنغلاديشي. وأثناء تدريسه نظريات الاقتصاد الكلي في الفصول الدراسية، بدأ يشعر بصراعٍ داخلي حاد. كان يلاحظ كيف كانت معرفته الأكاديمية تبدو بعيدة كل البعد عن الواقع الذي كان يعيشه الناس في تلك البلاد المنكوبة. وقال يونس لاحقًا عن تلك الفترة: “شعرتُ بالخجل من نفسي لغرور معرفتي.. شعرتُ أنه يجب عليّ الخروج والتعلم من واقع الحياة”. كانت تلك الكلمات بمثابة مفتاحٍ لتحول جذري في تفكير يونس وفي نهجه تجاه العمل الأكاديمي والاقتصادي على حد سواء، فلم يكتف بالنظريات المجردة، وسعى لإيجاد حلول عملية وواقعية للتحديات التي كانت تواجهها بنغلاديش.
فبدأ يونس في زيارة القرى المحيطة بالمدينة، لملاحظة عن كثب حياة الفقراء، خاصةً العمال والنساء اللاتي لا يملكن أي أراضٍ أو موارد مالية. وأثناء جولة ميدانية في قرية صغيرة تُدعى “جوبرا”، اكتشف البروفيسور محمد يونس مشهدًا صادمًا ومُلهمًا في آنٍ واحد. فقد التقى بمجموعة من النساء الفقيرات، ووجد أنهن، رغم امتلاكهن مهارات حرفية تمكّنهن من العمل، كنّ محاصرات في دائرة من الفقر المدقع بسبب اعتمادهن على مقرضين محليين يستغلون حاجتهن، ويمنحونهن قروضًا صغيرة بفوائد باهظة.
أدرك يونس أن أحد أكبر العوائق أمام الناس في تلك القرى كان افتقارهم إلى رأس المال، حتى في أدنى مستوياته. كانت البنوك والمؤسسات المالية عادةً لا تقدم أي دعم مالي للأفراد الذين لا يمتلكون أصولًا مادية تثبت أهليتهم للحصول على قروض، مما جعلهم عالقين في دائرة الفقر المفرغة. فبدأ يونس مشروعه التجريبي بإقراض 42 امرأة قروية مبلغ 27 دولارا أميركيا لكل واحدة منهن من ماله الخاص، لشراء مواد خام لمشاريعهن الصغيرة. صُدم يونس حين أدرك أن هذا المبلغ الزهيد كان كافيًا لتحرير هؤلاء النساء من قبضة الاستغلال. كانت هذه اللفتة البسيطة كفيلة بإحداث تغيير حقيقي في حياتهن؛ فقد تمكّنّ من شراء ما يحتجن إليه من خامات، والعمل بشكل مستقل، وبيع منتجاتهن، والاحتفاظ بالأرباح دون الحاجة لوسيط جشع. كما قامت هؤلاء النساء بتسديد المبلغ ليونس بالكامل، ما أثبت له أن الفقراء ليسوا غير موثوقين كما كانت تدّعي المؤسسات المالية، بل تنقصهم فقط الفرصة والثقة.
هنا بدأ يونس في التفكير في كيفية معالجة الفقر متجاوزاً مفهوم الاستثمارات الضخمة أو التغييرات الهيكلية الواسعة، فبدأ يفكر في حلول أصغر وأكثر إيجابية بما يُحدث فرقًا حقيقيًا في حياة الأفراد. كان يونس يعتقد أن الفقراء بحاجة إلى “تمويل صغير”، لتمويل احتياجاتهم الأساسية، مثل المواد الخام الصغيرة أو أدوات العمل التي يمكن أن تساعدهم في تحسين إنتاجهم.
نشأة الإقراض متناهي الصغر وتأسيس بنك جرامين
أصبحت فكرة “القروض الصغيرة”جزءًا أساسيًا من فلسفة يونس الاقتصادية. كانت هذه القروض تُمنح للأفراد الفقراء، خاصةً النساء، بدون ضمانات مادية، مما فتح لهم أبوابًا جديدة من الفرص. أدرك يونس أنه إذا تم تمويل الفقراء بطرق مبتكرة، فإن هذا سُيمكنهم من تحسين حياتهم بشكل ملحوظ، وبالتالي تحسين الاقتصاد بشكل عام. في البداية، كانت هذه الفكرة تُعتبر غير تقليدية، بل إنها كانت فكرة جريئة في مجتمع مثل بنغلاديش، حيث كان الفقر المستمر والتقاليد الاجتماعية التي تمنع النساء من الوصول إلى الموارد الاقتصادية يشكلان تحديات ضخمة. ومع ذلك، استمر يونس في السعي لتحقيق رؤيته، وهو مؤمن تمامًا بقدرة الأفراد على النجاح عندما يُمنحون الفرصة[7].
في عام 1976، بدأ يونس تجربته في تقديم القروض الصغيرة، واستطاع العديد من الأفراد تحسين أوضاعهم المالية بفضل هذه القروض الصغيرة، وتمكنت هذه المقاربة غير التقليدية في تقديم القروض من مكافحة الفقر، ليس عبر الإعانات أو المساعدات، بل عبر تمكين الأفراد من الاعتماد على أنفسهم، وتوفير وسائل إنتاج بسيطة تضمن لهم مصدر دخل مستدام. ومع تكرار التجربة على نطاق محدود، بدأ يونس بجمع المزيد من البيانات، وتحليل أثر القروض الصغيرة على المستفيدين. وكانت النتائج مشجعة للغاية؛ فقد ساعدت القروض العديد من العائلات على تحسين معيشتهم، وتمكّن بعضهم من إرسال أبنائهم إلى المدارس، أو ترميم منازلهم، أو توسيع مشاريعهم الصغيرة. ودفعت هذه النجاحات يونس للتفكير في توسيع التجربة، عبر التعاون مع البنوك المحلية.
لكنه فوجئ برفض قاطع من جانب البنوك التقليدية، حيث كانت تلك البنوك ترى أن الفقراء لا يستحقون الائتمان، لافتقارهم إلى الضمانات، وعدم امتلاكهم سجلًا ماليًا، أو عقارات تُرهن. ولم تتقبل المؤسسات المالية التقليدية فكرة منح قروض دون ضمانات قانونية. ورغم كل محاولاته لإقناعهم، واجه يونس جدارًا من الشكوك والبيروقراطية.
إلا أن رفض البنوك لم يُثنه، بل دفعه للمضي قدمًا في تأسيس مؤسسة مستقلة تُجسّد رؤيته. وفي عام 1983، تأسس بنك “غرامين” رسميًا (غرامين باللغة المحلية في بنغلاديش تعني القرية أو الريف) ولُقبَ بـ “بنك الفقراء”[8]، ليكون أول مؤسسة متخصصة في التمويل الصغير في العالم. اعتمد البنك على نموذج غير مألوف وقتها، حيث لا توجد ضمانات، ولا عقود قانونية، بل تستند العملية برمتها إلى الثقة المتبادلة، ودعم المجتمع المحلي، وخاصة النساء. فقد كان يونس يرى أن تمكين المرأة هو المفتاح لإحداث تغيير حقيقي ومستدام في المجتمعات الريفية، وهو ما أكدته التجربة لاحقًا. وبحلول عام 2005، تمكن بنك جرامين من إقراض أكثر من 4.7 مليارات دولار أميركي للفقراء. وفي أواخر عام 2008، أقرض البنك أكثر من 4.6 مليارات دولار للفقراء ببنغلاديش.
واعتمد البنك على آلية تُعرف باسم “المجموعات الصغيرة”، حيث تتكوّن مجموعة من النساء (عادةً من 5 إلى 10) يتعهدن بدعم بعضهن البعض في السداد، ما يخلق نوعًا من الرقابة الذاتية والمساءلة الاجتماعية. وهذا النموذج لم يُحسّن معدلات السداد فحسب، بل خلق شعورًا جماعيًا بالمسؤولية والانتماء، وشجّع النساء على العمل الجماعي وتبادل الخبرات[9].
لكن القروض الصغيرة لم تكن الحل الوحيد. إذ أن يونس كان يدرك أن الفقر لا يمكن محاربته فقط من خلال توفير رأس المال، بل كان يحتاج إلى دعم اجتماعي وثقافي أيضًا. لذا، إلى جانب توفير القروض، كان يعمل على تمكين النساء، من خلال تقديم برامج تدريبية وتعليمية تركز على زيادة الوعي حول حقوقهن وقدرتهن على المساهمة في الاقتصاد. بفضل هذه المبادرات، أصبح العديد من النساء قادرات على بدء مشاريع صغيرة، مما أتاح لهن دورًا أكثر تأثيرًا في الأسرة والمجتمع.
ومع مرور الوقت، بدأ نموذج غرامين يُلفت أنظار المنظمات الدولية، وصنّاع السياسات، ومؤسسات التنمية حول العالم. وبحلول التسعينيات، انتشرت فكرة التمويل الأصغر إلى عشرات الدول، من آسيا إلى أفريقيا، وصولًا إلى أمريكا اللاتينية. وأصبح الإقراض الأصغر أداة فعالة للتنمية المجتمعية، حيث وفّر لملايين الأشخاص – معظمهم من النساء – فرصة لبدء مشاريع صغيرة، وتحقيق دخل منتظم، واستعادة كرامتهم واستقلالهم الاقتصادي.
لم يكن نجاح جرامين مجرد نجاح مالي، بل كان ثورة في المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية. لقد أعاد تعريف مفهوم “الجدارة الائتمانية”، وأثبت أن الفقر ليس ناتجًا عن الكسل أو ضعف الإرادة، بل نتيجة غياب فرص حقيقية. كما فتح المجال أمام مؤسسات مالية واجتماعية جديدة لتتبنى النموذج وتطوره وفق احتياجات المجتمعات المختلفة.
واليوم، وبعد عقود من تأسيس بنك جرامين، لا تزال فكرة التمويل الأصغر حيّة ومؤثرة. وامتدت آثارها إلى قطاعات متعددة مثل التعليم، والرعاية الصحية، وتمكين المرأة، والتنمية الريفية. وكل ذلك بدأ من عقلية رجل آمن بأن تغيير العالم ممكن، إذا ما استطعنا رؤية الفقراء كمنتجين محتملين، لا كعبء على المجتمع[10].
بفضل تلك الجهود، أثبت محمد يونس أن الإبداع في الحلول الاقتصادية يمكن أن يكون له تأثيرات هائلة في تحسين حياة الأفراد والمجتمعات. ورغم التحديات والصعوبات التي مر بها، كانت تجربة يونس في بنغلاديش بداية لثورة في فهم كيفية مكافحة الفقر من خلال وسائل تمويل مبتكرة وتوجهات اجتماعية جديدة.
التقدير والإرث.. محمد يونس ومشروع التغيير العالمي
في عام 2006، بلغ الاعتراف الدولي بمحمد يونس ذروته حين حصل على جائزة نوبل للسلام. لم تكن الجائزة تقديرًا لمبادرة مالية مبتكرة فحسب، بل كانت اعترافًا عالميًا بأن التمويل يمكن أن يكون أداة للسلام والتنمية. فقد أشادت لجنة نوبل بجهود يونس وبنكه في مكافحة الفقر وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية من القاعدة، ووصفت عمله بأنه “جهد يُسهم في خلق سلام دائم من خلال إتاحة الفرصة للفقراء لتحسين حياتهم بأنفسهم”[11].
كانت تلك لحظة فارقة في تاريخ الجائزة، إذ كانت المرة الأولى التي تُمنح فيها جائزة نوبل للسلام عن ابتكار اقتصادي، مما سلط الضوء على الترابط العميق بين العدالة الاجتماعية، والاستقرار السياسي، والتنمية الاقتصادية. لقد قدّم يونس نموذجًا مختلفًا للسلام، لا يعتمد على الوساطة السياسية أو الحلول العسكرية، بل على التمكين الاقتصادي والاجتماعي للفئات الأكثر تهميشًا. فهذه الجائزة كانت اعترافًا صريحًا بأن السلام لا يتحقق فقط بوقف الحروب، بل أيضًا بتمكين الناس من عيش حياة كريمة ومزدهرة.
لكن إسهامات يونس لم تتوقف عند حدود التمويل الأصغر. فقد تطورت رؤيته لاحقًا إلى مفهوم أوسع يُعرف باسم “الأعمال الاجتماعية”، وهو نوع جديد من المشاريع الاقتصادية يهدف إلى حل مشاكل المجتمع بطريقة مستدامة ماليًا، دون أن يكون الهدف الأساسي هو تعظيم الأرباح. في هذا النموذج، يُعاد استثمار الأرباح داخل المشروع أو تُستخدم لتوسيع أثره الاجتماعي، وليس لتوزيعها على المساهمين. بالنسبة ليونس، كان هذا تطورًا طبيعيًا لمنهجه في التمكين، حيث قال”يمكننا إعادة اختراع الرأسمالية لتكون أكثر إنسانية، أكثر عدلاً، وأكثر وعيًا باحتياجات الكوكب”.
لقد فتح يونس بهذا المفهوم آفاقًا جديدة أمام الريادة الاجتماعية، وشجع جيلًا جديدًا من رواد الأعمال على تبني نماذج توازن بين الجدوى الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. وهو يرى أن العالم بحاجة إلى “نوعين من الأعمال” الأول يسعى للربح، والثاني يُكرّس لخدمة المجتمع. ويرى أن وجود هذا التوازن يمكن أن يُعيد توجيه الاقتصاد العالمي نحو أهداف أكثر استدامة وإنصافًا.
وبفضل إبداعه، وتأثيره العالمي، وإنسانيته العميقة، نال يونس تقديرًا واسعًا في مختلف أنحاء العالم. فقد مُنح أكثر من 50 درجة دكتوراه فخرية من جامعات مرموقة مثل هارفارد، وأكسفورد، وجامعة طوكيو، تقديرًا لمساهماته في الفكر الاقتصادي والاجتماعي[12]. كما حصل على وسام الحرية الرئاسي الأمريكي، وهو أعلى وسام مدني في الولايات المتحدة، تقديرًا لجهوده في مكافحة الفقر والظلم[13]. ونال أيضًا الميدالية الذهبية للكونجرس الأمريكي، وهي من أرفع الجوائز التي يمنحها الكونجرس لشخصيات تركت أثرًا بارزًا في العالم.
لم يكن تقدير يونس محصورًا بالمؤسسات الأكاديمية أو السياسية، بل أصبح أيضًا رمزًا عالميًا للعدالة الاقتصادية. ولعل ما يُميز إرث يونس هو أنه ليس مجرد قصة نجاح شخصي، بل هو مشروع تغيير جماعي، يُظهر كيف يمكن لفرد أن يُطلق فكرة بسيطة – مثل قرض صغير لامرأة فقيرة – تتحول إلى حركة عالمية تُحدث تحولًا حقيقيًا في حياة ملايين البشر. كما يتجلى إرثه اليوم في مؤسسات تمويل أصغر تخدم أكثر من 200 مليون شخص حول العالم، وفي رواد أعمال اجتماعيين يسيرون على خُطاه، وفي منظومات اقتصادية بدأت تُراجع دورها ومسؤوليتها تجاه الفقراء والمهمشين.
وبينما تتجه أنظار العالم إلى التحديات الكبرى كالتغير المناخي، واللامساواة، وتفكك المجتمعات، يُذكّرنا إرث يونس بأن التغيير لا يحتاج دائمًا إلى قرارات كبرى، بل يبدأ من إيمان بسيط بقدرة الإنسان على النهوض، إذا أُتيحت له الفرصة. لقد أعاد يونس تعريف العلاقة بين المال والعدالة، وبين الاقتصاد والأخلاق، ووضع أمام العالم نموذجًا بديلًا، واقعيًا، وإنسانيًا.
في النهاية، لا يتمثل إرث محمد يونس في الجوائز التي حصل عليها، بل في الأرواح التي ألهمها، وفي المجتمعات التي ساعدها على النهوض، وفي الأمل الذي زرعه في قلب الاقتصاد العالمي بأن بإمكانه أن يكون قوةً من أجل الخير.
خاتمة
هل لعب انتماء محمد يونس الإسلامي دورًا في تجربته الرائدة؟ يمكننا القول إن هذا الانتماء لم يكن حاضرًاً بصورة مباشرة وصريحة في هذه التجربة. ولكن لا يمكن إغفال تأثير الخلفية الدينية لمحمد يونس على هذا المشروع الضخم الذي يجد كل مكوناته في مبادئ الرؤية الإسلامية. ففكرة مساعدة الفقراء والمساكين، وفكرة العدالة الاجتماعية والتكافل والتضامن، ومفهوم رفض الربا كصورة استغلال للمحتاجين، هذه المبادئ تقف على نقيض مبادئ الرؤية الرأسمالية الغربية وتؤكد أن محمد يونس كان مدفوعًا برؤية أخلاقية تتناغم تمامًاً مع مبادئ الشريعة الإسلامية.
فمثلاً في مقابلة مع شبكة CNN أشار يونس الى أن 97% من المقترضين من بنك جرامين من النساء. ولم يكن هذا التوجه مقبولاً في البداية من قبل الرجال والمجتمع ككل. وعندما وُجهت انتقادات دينية حول مشروعية تقديم قروض للنساء، استشهد يونس بأمثلة من التاريخ الإسلامي مثل السيدة خديجة رضي الله عنها، التي كانت سيدة أعمال ناجحة. ومع مرور الوقت بدأ المجتمع يدرك أن النساء يساهمن بشكل كبير في تحسين أوضاع أسرهن، وأن هذا الأمر لا يتعارض مع تعاليم الدين الإسلامي.
من ناحية أخرى وعلى الرغم من أن بنك جرامين لا يتبع نموذج التمويل الإسلامي إلا أن يونس أكد أن البنك يلتزم بمبادئ أخلاقية تتماشى مع القيم الإسلامية، وأن الفوائد البسيطة التي يجنيها البنك من المقترضين هي لتغطية مصاريف المؤسسة، بالإضافة الى إعادة ضخ هذه الزيادة في المجتمع مرةً أخرى.
في الختام، تُمثّل مسيرة محمد يونس أكثر من مجرد قصة نجاح فردية مُلهمة؛ بل إنها شهادة حيّة على ما يمكن أن يُحققه شخص واحد حين يمتلك رؤية واضحة، وتعاطفًا صادقًا، وإصرارًا لا يلين. فمن أروقة جامعة شيتاغونغ إلى منابر العالم، ومن قرى بنغلاديش النائية إلى قاعات جوائز نوبل، رسم يونس طريقًا غير تقليدي، مفعمًا بالإيمان بقدرة الإنسان على التغيير، مهما كانت الظروف قاسية، ومهما كان الواقع مستحيلًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ماجستير في العلوم السياسية. جامعة القاهرة.
[1] – HRDI India, “LIFE AND ACHIEVEMENT OF MUHAMMAD YUNUS”, (hrdi, December 10, 2024), URL:
https://www.hrdi.in/life-and-achievement-of-muhammad-yunus/
[2] – Ashoka, “From Boy Scout to Microcredit Pioneer: Lessons On Changemaking from the life of Muhammad Yunus”, (Forbes, Apr 18, 2013), URL:
[3] – “Muhammad Yunus: Bio”, (nelson mandela), URL:
https://www.nelsonmandela.org/muhammad-yunus-bio?utm_source=chatgpt.com
[4] – “What’s behind Yunus’ love for Pakistan and US?”, (the voice, December 12, 2024), URL:
https://thevoice.news/whats-behind-yunus-love-for-pakistan-and-us/
[5] – “محمد يونس مؤسس “بنك الفقراء” ورئيس حكومة بنغلاديش المؤقتة”، (الجزيرة، 8/8/2024)، على الرابط التالي:
[6] – Gavin Butler, “The Nobel winner tasked with leading a nation out of chaos”, (BBC, 7 August 2024), URL:
https://www.bbc.com/news/articles/cz73jwy8nnwo
[7] – Yunus, M, “Creating a World Without Poverty: Social Business and the Future of Capitalism”, (GLOBAL URBAN DEVELOPMENT Volume 4 Issue 2 November 2008), URL:
https://www.globalurban.org/GUDMag08Vol4Iss2/Yunus.pdf
[8] – “”بنك غرامين.. مصرف نشأ لمساعدة فقراء بنغلاديش”، (الجزيرة، 15/8/2024)، على الرابط التالي: https://2u.pw/DVy3i
[9] – “The Grameen Bank and Microfinance”, (faster capital), URL:
https://fastercapital.com/topics/the-grameen-bank-and-microfinance.html
[10] – Ibid
[11] – “جائزة نوبل للسلام 2006 مناصفة للبنغالي محمد يونس وبنك جرامين”، (دويتشه فيله، 2006/10/13)، على الرابط التالي:
[12] – “محمد يونس… حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش”، (الشرق الأوسط، 23 أغسطس 2024)، على الرابط التالي:
[13] – “Dr. Muhammad Yunus Receives Presidential Medal of Freedom Award”, (voabangla, Aug 13, 2009), URL:
https://www.voabangla.com/a/a-16-2009-08-13-voa2-94446554/1397833.html