الرضا

الرضا*

أ. د. طه جابر العلواني

“الرضا” مفهوم قرآني ذو أبعاد عديدة متنوعة؛ وهو “حالة نفسية وعقلية تنعكس على الجوارح والتصرفات والسلوك”. وهو – في الوقت نفسه – حالة تؤثر في القلب فتمنحه “الطمأنينة” وتزيل عنه القلق والاضطراب، وتؤثر في النفس فتمنحها السكينة في المواقف الصعبة. فكأن “الرضا والطمأنينة والسكينة والأمنة” وما يتصل بكل منها شجرة وارفة الظلال متماسكة الحلقات إذا وجدت جعلت من الإنسان طاقة هائلة قادرة على صياغة القرار الصعب، وصناعة الاختيار في مواقع الحيرة، واستحضار العزيمة والإرادة في وقت هو مظنة الضعف والوهن، وإطلاق الفاعلية في وقت الإحباط والوصول إلى حالة من الفهم العميق والفقه الدقيق للأمور، بحيث يتمكن الإنسان بذلك من اتخاذ أنسب القرارات، وأقوم السبل في تحقيق أهدافه. و”السكن” ثبوت الشئ بعد تحرك. و “السكينة” في نحو قوله تعالى: “أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ” (الفتح: 4) تفيد بأن الله – تبارك وتعالى – يزيل الرعب من قلوب عباده المؤمنين ويبدله بثبات القلب وسكونه بحيث قد يصيب ذلك المؤمن النعاس من شدة الثبات والسكون: “إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ” (الأنفال: 11) وذلك في موقف لا يمكن للإنسان العادي أن يقاوم القلق فضلا عن أن يصيبه النعاس حتى لو لم ينم قبل ذلك فترة طويلة، ولم يجهده التعب والنصب. وأما “الطمأنينة” فهى السكون بعد الانزعاج والثبات بعد الاضطراب. “وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ” (الأنفال: 10)، “وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي” (البقرة: 260)، و “وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ”  (النحل: 106)، “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ” (الفجر: 27)، ثم يبين الله – تبارك وتعالى – أهم وسيلة لتحقيق الطمأنينة وبلوغ حالة السكينة فيقول جل شأنه: “أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد: 28)، وهو المنهج نفسه الذي يوصل إلى “الرضا والسكينة والأمنة والطمأنينة”. وذكر الله – عز وجل – هنا له معان عديدة: أبرزها معرفته، ومعرفة صفاته العلا وأسمائه الحسنى واستحضار عظمته، ثم إدراك الإنسان لحقيقة وصلته به، أن للإنسان سبيلا إلى الوصول إلى حب الله – جل شأنه – له، وما أعظم وأجل وأجمل أن يكون العبد محل حب لخالقه وبارئه سبحانه، هذا الشعور الذي يجعل كأنه يصعد في معارج القدس، ويرتقي في عروج إلى سدرة المنتهى فيتحرر وجدانه من كل خوف، ويتجاوز كل قلق، ويشعر بأنه أقوى من أية قوة بهذه الصلة العظيمة، ويتجاوز مستوى الصلصال والحمأ المسنون والماء المهين إلى مستوى “فنفخنا فيه من روحنا”، وينضم إلى الأمة الواحدة أمة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وهنا يقول الله – جل جلاله – “يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ”(المائدة 54) ويقول سبحانه: “رضى الله عنهم ورضوا عنه” (المائدة   119). ومن الجدير بالملاحظة أنه سبحانه قدم حبه لهؤلاء على ذكر حبهم، ورضاه جلت قدرته على رضاهم عنه، لينبه بذلك إلى أن الحب والرضا لايكون أى منهما من طرف واحد بل إن كلا منهما يحب الطرف الآخر، فالعبد يرضى بالله ربا وإلها وخالقا مدبرا، والله يرضى به وعنه عبدا شكورا صبورا، والله – تعالى يحب ذلك العبد الشكور والصبور، والعبد يحب إلهه وربه ويرضى بتدبيره وسنته فيصبر على البلاء، ويشكر في الرخاء، ويثبت في مواقف القلق والاضطراب، وشعاره: “إن الله معنا” وأسوته رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  وإذا كان الرضا بإبراهيم قد بلغ به مرتبة “الخلة” فصار “خليل الله” وبلغ موسى “مرتبة الكليم”، فإن خاتم النبيين – صلوات الله وسلامه عليه – قد بلغ مرتبة استحقاق صلاة الله عليه بعد أن أقام صلاته لله – تعالى – ودعوته سبحانه لملائكته وللمؤمنين كافة إلى الحضوة بمعيته سبحانه في الصلاة عليه!!.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقال منشور في جريدة الأهرام بتاريخ الإثنين 21 يوليو 2008.

عن طه جابر العلواني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.