معالم في المنهج القرآني

معالم في المنهج القرآني*

﴿لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾

د. طه جابر العلواني

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعه وسار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد،

منذ فترة طويلة قد تقرب من ثلاثين عامًا، وهمي منصرف للكشف عن منهج القرآن المجيد ومنهجيته، وهذه الرسالة الوجيزة تمثل حصيلة تلك التجربة الممتدة، تجربة تسعى إلى تلمس (معالم المنهج) في أهم كتاب عرفته البشرية أو ستعرفه، ألا وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

لقد عرفت البشرية القرآن المجيد باعتباره كتابًا دينيًا يمكن أن يتعلم الناس منه العقيدة والشريعة وأخبار الماضين من الأنبياء وأممهم وأخبار الآخرة، أما أن يكون القرآن الكريم مصدرًا لمنهج علمي يقود حركة الفكر الإنساني في مجالات الفكر المختلفة وفى البحث العلمي الجاد، فهذا ما تجاوزه الكاتبون إلا قليلًا منهم لأسباب لا تخفى، في مقدمتها إنه لم يسبق لكتاب ديني من توراة أو إنجيل أن قدم للعالم منهجًا في الفكر والبحث العلمي؛ لكن كاتب هذه الدراسة يطرح فكرة وجود «منهج قرآنـي» انطلاقًا من قوله تعالى ﴿لكلٍ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنهاجا﴾ (المائدة- 48).

 فقد وجد الباحث الشرعة القرآنية مبسوطة مفصلة في سور كثيرة من القرآن المجيد ﴿وَقَدْ فَصَلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١١٩]. كما فصَل ما أحل وما فرض وأوجب وأوكل إلى رسول الله ﷺ مهام الاتباع والتطبيق، وبيان ذلك – كله – ليعلم الناس الكتاب والحكمة وليزكيهم. وما دام الأمر كذلك بالنسبة للشريعة، فلا بد أن يكون (المنهاج) قد فُصل أيضًا في آيات الكتاب الكريم كما فُصلت الشرعة، لكن العثور على تلك المعالم، وتحديد صفات الآيات الكريمة التي تحملها في ثنايا القرآن المجيد يتطلب جهدًا واجتهادًا كبيرين، وذلك الجهد والاجتهاد أشق وأعمق بكثير من الجهد والاجتهاد اللذين يقتضيهما البحث عن الشريعة. فعلماء أصول الفقه قد قدموا لنا أدوات ووسائل كثيرة لتقود حركتنا ونحن نتدبر القرآن لبلوغ آيات الشريعة؛ ولكن فيما يتعلق بالبحث عن المنهج لم نجد طريقًا ممهدًا كتلك الطريق التي مهدها علماء أصول الفقه للوصول إلى شريعة القرآن؛ فكان لا بد من العمل على رسم منهج للوصول إلى (معالم المنهج القرآني) ودلائله فيه.

وقد يسر الله تعالى القرآن للذكر. ولكن حين يكون الأمر أمر بحثٍ عن (معالم المنهج) فإنَّه لا بد من إدراك الفرق بين مقاربات القرآن تعبدًا وذكرًا أو بحثًا عن شريعة وأحكام أو سننًا كونية، والبحث عن معالم منهج علمي يتحدى المناهج البشرية ويستوعبها ويتجاوزها، فإن الباحث هنا على خطر عظيم. وليس مرد هذا الخطر إلى صعوبة الموضوع المبحوث عنه – وحده – وجدته وريادته، بل الخوف من الله أن يُنسب إلى كتاب الله أمر لا يكون مرادًا لقائله تعالى ومنزله. فالقول ثقيل والأمانة عظيمة. ولكن الأمر ينطلق من القرآن ذاته الذي أعلن اشتماله على (منهج وشريعة)، فإذن لا بد من الوصول إلى ذلك المنهج مهما طال الجهد وتنوع وتعدد.

ليس ذلك فحسب، ولكن لا بد -أيضًا- من دراسة المناهج في تراثنا وفي دوائر سقفنا المعرفي المعاصر؛ لتكوين نوع من المَلَكة والوعي بالفروق بين المناهج وما ينبني على المناهج في تراثنا وفي تراث البشرية المعاصر، وفي سائر المحاولات التي سبقت جهودنا هذه الضرورة ذلك كله للقيام بهذه المهمة الجليلة، وتمهيد السبيل أمام الباحثين الآخرين الذين نأمل أن يوفقوا الم كمال هاتيك المعالم وإتاحتها لطلاب العلم، وتقديم منهج قرآني يعين البشرية – كلها – لا المسلمين وحدهم على تجاوز أزماتهم، والخروج من مشكلاتهم.

فالقرآن المجيد هو الكتاب الكوني الوحيد الذي مَنَ الله به على البشرية وأودعه تلك الطاقات الهائلة على (الاستيعاب والتجاوز)، والقدرات التي لا تُحصى ولا تنقضي على تصحيح مسارات البشرية، وتحديد مناهج وسبل الاستقامة أمامها، وتمكين الإنسان من القدرة على الوفاء بعهد الله ﷺ والقيام بحق الاستخلاف، والمحافظة على أمانة الاختيار، والقدرة على اجتياز اختبار الابتلاء، وتحقيق غاية الحق من الخلق بإقامة العمران في الأرض، واستثمار المسخَّرات، ووضع الإنسان والكون والطبيعة بكل تفاصيلها على سبيل التسبيح والسجود لله ﷺ.

وأود أن أؤكد هنا أن الباحث لم يستهدف في هذه الدراسة أن يضيف إلى ما شاع مؤخرًا من وجود «إعجاز علمي في القرآن» دفع الكثيرين إلى سلوك سبيل (التفسير العلمي) للقرآن، فإن ذلك خلاف ما يرمي الباحث إليه؛ لأن قصارى ما يمكن أن يقدمه الإعجاز العلمي والتفسير العلمي هو إسقاط ثقافة العصر على القرآن المجيد، وتحكيمها فيه، وتحويلها شواهد على صحته وعلو قدره. لكننا في تأكيدنا على اشتمال القرآن المجيد على المنهج مثل اشتماله على الشرعة نريد أن نتحدى بمنهج القرآن المناهج المعاصرة، ونؤكد أن المنهج العلمي التجريبي ذاته في أزمة، وفي حالة بحث عن مخارج تتجاوز به هذه الأزمة، وتخرجه منها. وإننا نقدم القرآن المجيد ومعالم منهجه لنستوعب بها أزمة المنهج العلمي ونتجاوز بها تلك الأزمة، والتهديدات التي تنذر بها لو استمرت (أزمة المنهج) بدون علاج.

إن أزمة المنهج تهدد إنجازات البشرية بالمصادرة والتراجع والدمار؛ ولذلك فإن هذه الأزمة الكونية القائمة على (كونية المنهج) لا يمكن الخروج منها، وإنقاذ المنهج العلمي من إشكالاتها إلا بكتاب كوني يستوعب التفكيك، وينطلق في مجالات إعادة التركيب، ويستوعب العدمية والعبثية ويتجاوزها ليتجه باتجاه الغائية ويعيد بناء سائر التصورات والمفاهيم الكونية التي أهملتها أو فككتها نظريات العلم المنبت عن ينابيعه الإلهية وغاياته الربانية الكونية، وما نجم عن نظريات ما عرف (بالحداثة وما بعد الحداثة) من تفكيك خطير لم تصحبه قدرات تركيبية موازية له. وأي محاولة لإخراج المنهج العلمي من أزمته والعلم – كله – من فلسفة النهايات دون هداية كتاب كوني لن تكون نافعة أو مجدية، ومن هنا فإنَّنا نعتبر هذه المحاولة وإن كانت مجرد خطوة على الطريق لكنها ضرورة لا بد أن تتضافر جهود العلماء والباحثين على استكمالها، لتؤتي ثمارها بإذن الله.

إنها بداية مشروع لا بد له من جهود بحثية متنوعة ومتضافرة؛ ليؤتي ثماره وينقذ المنهج العلمي وتراث الإنسانية من الأزمات التي دخلت إليها نتيجة اقتصار البشرية على التحاور مع الطبيعة وحدها، وتجاهل خالق الطبيعة والإنسان وموجدهما، وتجاهل الغيب – كله – مما جعل ذلك التفاعل والجدل ناقصين وقاد إلى تلك المضايق والأزمات.

لا شك أن المحاولة لا تزال غضة طرية؛ لذلك فهي أحوج ما تكون إلى التتابع والإنضاج لتؤتي ثمارها وتستوي على سوقها، ولو بعد حين، وكل ما نأمله هو النظر إلى هذه الدراسة على أنها مقدمة لهذا المشروع المهم، وخطوة أولية فيه قد يجد الباحث المتخصص فيها بعض الثغرات وهو أمر نقرّ به سلفًا، لكن ذلك لا يقلل من أهمية المشروع وخطورته وضرورة تكامله والوصول به بتعاون المتخصصين المخلصين إلى الغاية إن شاء الله.

أسأل الله العلي القدير منزل القرآن، وجاعل المنهج والشرعة أن يتقبل هذا العمل، ويوفق لاستكماله، ويجعل أفئدة المتخصصين تهوي إلى ذلك حتى يكتمل، وأن ينفعني بما قدمت يوم لا ينفع مال ولا بنون، وألا يحرمني أجر الاجتهاد وبذل الوسع أخطأت أم أصبت والحمد لله الذي بنعمته تم الصالحات.

المعالم المنهجية في القرآن

المنهج في القرآن:

إن كلًا من المنهج والمنهجية لدينا -نحن المسلمين- قد وُلد بعد نزول القرآن المجيد، الذي بدأ بتهيئة العقل البشري وتحضيره لاستقبال (القراءة ثم القراءتين والجمع بينهما)[1]، ليبدأ تتابع نزول نجوم القرآن في عمليات منهجية لتغيير واقع كانت تحكمه وتهيمن عليه قيم الشرك، وتحويله إلى واقع تحكمه قيم (التوحيد والتزكية والعمران) بدلًا من قيم الشرك والجاهلية.

وردت كلمة (منهاج) في قوله تعالى ﴿لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، ومع أنها لم تَرِد بلفظها هذا في القرآن سوى هذه المرة الفريدة، بيد أنها كانت بمثابة إعلان وتنبيه للمتدبرين عن وجود هذا المفهوم في هذا الكتاب الكوني العظيم الذي نزل ﴿تبيانًا لكل شيء﴾ [النحل: ٨٩]، ولتستغني البشرية به عن كل ما عداه.

إنَّ مفهوم «المنهاج» القرآني أهم المفاهيم القرآنية بعد التوحيد، ولذلك لا ينبغي أن تكون آية سورة المائدة هي المنبع الوحيد لصياغة المفهوم قرآنيًا، بل ينبغي قراءة جميع الآيات التي أوردت شبكة من المفاهيم الفرعية والمصطلحات القرآنية الإلهية التي أحاطت بمفهوم «المنهاج»، ومن هذه المفاهيم والاصطلاحات القرآنية: الصراط المستقيم والسبيل الأهدى والسبيل السوي وسبيل الله والهدى والنور والاتباع والاقتداء والشفاء والأسوة الحسنة والطريق الواضح البين الذي لا يخشى سالكه تيهًا أو ضلالًا، فهو محاط بالنور المبين ومزود بكل معالم الهداية التي لا تسمح بالانحراف عنه لمن يسلكه؛ إذ ﴿لَّا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتا﴾ [طه: ۱۰۷].  فاستقامته ووضوحه، وبروز معالمه، ووضوح طرفي البداية والنهاية يجعل سالكه مستيقنًا بأنه على الهدى، آمنًا من الوقوع في الضلال، وتتضافر آيات الكتاب كلها بعد ذلك في العقيدة والشريعة والسلوك والقصص والعبر والأمثال والوعظ والتوجيه والوعد والوعيد على إبراز هاتيك المعالم المنهجية والسنن والقوانين الكونية والاجتماعية وسنن الخلق وقواعد العناية ونظم الإبداع؛ لتجعل هذا (المنهج الكوني القرآني) بحيث تبصره البصائر وتشاهده الأبصار، وتعيه الآذان، وتدركه الأفئدة والقلوب التي في الصدور، ولا تخطئه العقول.

وذلك يُعني أن سالك هذا الطريق أو ناهجه يستطيع الاطمئنان إلى أنه بالغ الغاية وواصل إلى المراد؛ ولذلك قرن الله ﷺ (المنهاج بالشرعة)، فهناك شرعة يريدها الناس ويحتاجون إليها بحثًا عن الاستقامة في تنظيم حياة الخلق، وتحقيقًا لمهام الاستخلاف وفقًا لشرعة الحق وتحقيق العدل فيهم، وذلك ما لا يتحقق إلا بمنهاج واضح بين؛ أي أن اقتران (الشرعة) بالمنهاج يوحي بأنَّ الله قد جعل في القرآن شريعة مقترنة بمنهاج يوضح ويبين منهاج تطبيقها واتباعها، وتشكيل الحياة بمقتضاها بجوانبها كلها، كما يستلزم أن يكون (المنهاج) ضابطًا صارمًا للفهم والوعي، وإدراك المقاصد والغايات، وضبط السلوك والاتباع وسلوك سبيل الهداية، كما يضبط المنهج سلوكنا في فقه التدين وممارسته واتباع القرآن فيه، والتأسي بسيدنا رسول الله ﷺ في ممارسته لنصل إلى النور والشفاء والهداية بضوابط، فكان القرآن بيانًا ومبينًا ونورًا وهداية وصراطًا مستقيمًا يهدي به الله مَن اتبع رضوانه سبل السلام ومناهج الاطمئنان والأمن والأمان والعمران والاستقرار.

فإذا وجهنا أنظارنا نحو بعض أحاديث رسول الله ﷺ فَإِنَّنا نجد ما نبهنا إليه ظاهرًا بينًا في تلك الأحاديث وفي مقدمتها قوله ﷺ: (قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى المحجة الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِى إِلا هَالِكُ مَنْ يَعِش مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختلافًا كثيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ)[2]

وعلى هذا فإن الحديث يضيف إلى شبكة المعاني التي تتصل بالمنهاج لفظًا آخر هو المحجة، وما قال رسول الله ﷺ ذلك إلا لينبه إلى أن المنهج الذي اشتمل القرآن عليه وبينه رسول الله ﷺ بتلاوته واتباعه لكتاب الله، وتحويل ما جاء الكتاب به من عقيدة وشريعة ونظم حياة وممارسات وعلاقات صارت كلها واضحة بينة، وإذا التبس على الناس شيء بعد غيابه – صلوات الله عليه وسلامه – فإنهم سيجدون في المنهاج القرآني ومحجته البيضاء ما يستطيعون الرجوع إليه والاهتداء به والعودة إلى وضوح الطريق بذلك المنهج، فهو منهاج للتأسيس وللتجديد كذلك، وفيه كل الضمانات المطلوبة للأمن من التيه والضلال الذي قد يقع الإنسان فيه بطول الأمد وقسوة القلوب، وعوامل الضعف البشري!!

ومن هنا يتبين أن قراءة مفهوم (المنهاج) القرآني يعني قراءة جميع آيات الكتاب الكريم ذات العلاقة بالمنهج إضافة إلى المواقف والأفعال والأقوال النبوية ذات العلاقة بالنهج.

الوجود القرآني:

 إذن اهتمامنا الأساسي في هذا البحث هو محاولة الكشف عن المنهج المستنبط والمستخلص من القرآن الكريم، وكخطوة سابقة ولازمة لهذه المهمة يجب تأسيس منهج للتعامل مع الخطاب القرآني وتدبر الكتاب الكريم[3].

فالخطاب القرآني ذو وجودين: وجود واقعي خارجي يتمثل فيما بين الدفتين من سور وآيات تندرج في أجزاء وأحزاب، ووجود معنوي تدل عليه الألفاظ المضمنة في آيات وسور، وهي مدلولات الآيات والسور ومعانيها، فكأن الآيات والسور دال والمعنى مدلول عليه، وكأن اللفظ – آنذاك – يأخذ دور علامة تدعو الباحث للنظر والتأمل والتدبر والتفكر والتذكر والتعقل ليكتشف الارتباط والعلاقة بين الدال والمدلول، فالمعنى والمدلول هما المعرفة التي نبحث عنهما، ونريد الوصول إليهما، والوعاء المعرفي الذي نسعى للوصول إلى المعرفة الكامنة فيه، والكشف عنها. أما الألفاظ فهي العلامات والأشكال الصوتية أو الإيقاعية للمعنى؛ وذلك يجعل الإيقاع عين معناه على المستوى التمثيلي.

واللفظ علامات دالة على ذلك المعنى بمستويات مختلفة: فهي تدل أحيانا بالمطابقة، وثانية بالتضمُن، وثالثة بالالتزام، وأحيانًا تدل بعبارة النص وفحواه ولحنه وإشاراته[4]، وعلوم العربية من نحو وصرف وبديع ومعان وبلاغة وفصاحة –على وجه الإجمال – وعلم التفسير والكثير من علوم القرآن مخصصة للتعامل مع الألفاظ وعوارض الألفاظ، ومهمة المنهج توظيف كل ما يحتاج إليه منها باعتباره أدوات ووسائل وأساليب للوصول إلى المعنى أو المغزى وإلى الحقيقة الكامنة فيه، التي جعل اللفظ علامة دالة عليها. وإن استخدام المنطق أمر لا بد منه على أن يكون منطقًا قرآنيًا، ذلك لأنه كما كان للقرآن منهجه، فإن له منطقه.

ويمكن التعامل مع الخطاب القرآني كظاهرة، والظاهرة القرآنية[5] ظاهرة فريدة، فلأول مرة في تاريخ البشرية ولآخر مرة ينزل للبشرية وحي الله وكلمته بشكل متحد معجز للخلق كافة، وفي مقدمتهم النبيون والمرسلون، وهو خطاب مطلق كذلك، يتعالى على الزمان والمكان أو «الزمكان»، ويستوعبهما ويتجاوزهما، وهو مستوعب في الوقت – نفسه – لتجارب الأنبياء والمرسلين، وتعاليمهم، ويستهدف هذا الكتاب أن ينشئ ويبني أمة قطبًا ووسطًا، ويخرجها نموذجًا ومثالًا للناس باعتبارها خير أمة، إلى غير ذلك من خصائصه ومزاياه، وكلها ظواهر وجودية ذات وجود واقعي.

آفات القراءة

إن النص القرآني خطاب فريد معجز، فإذا كنا نحتاج إلى المنهج للتعامل مع النصوص الأخرى فما بالك بالتعامل مع نص فريد كوني معجز مطلق؟! فالمنهج الذي نقاربه به لا بد أن يكون على أعلى مستوى ممكن من الدقة، وأن يكون ذا مواصفات خاصة، لعل أهمها وأبرزها أن يكون مستنبطًا منه ذاته؛ فإنَّ للقرآن المجيد منطقه، كما أن له منهجه وأساليبه وسننه وعاداته. هنا لا بد أن ننبه أن منهج قراءة القرآن وتدبره الذي يُعد الخطوة الأولى في طريق الكشف عن المنهج القرآني، لا بد أن يبتعد عن الآفات التي عادة ما تلازم قراءة النصوص عامة والنصوص السماوية خاصة.

أولها: الانتقائية والتحيز.

وثانيها: القراءة الجزئية. وقد تكون القراءة الجزئية غير بعيدة عن منطق الوحدة البنائية حتى لو بدت على نقيض ذلك، وتوضيح هذا الأمر يرجع إلى مَا يُسَمَّى بخواص البنية، وتكييف هذه القراءة لإحدى هذه الخواص كالآتي: خواص البنية: ١- الشمول ٢- التوازن ٣- التحول، ويبدو أن خاصية التحول هِيَ مَا تعطي أفقًا حُرًا داخل لزومية البنية بوصفها كيانًا كليًا مترابط الأجزاء على نحو وجوبي، ومن ثَمَّ فَإِنَّ هذه الوحدة البنائية، رغم إقرارنا بها والتزامنا بها، وتأكيدنا عليها تسمح فيما تسمح به، بنوع من المرونة التي تُكْسِبُ نسيجها أو نظامها التعاقبي مكتسبات خاصة تتعلق بالإيماءات لبعض الآيات المفردة بعينها وكأنها (آيات مفاتيح) لحقائق كبرى، وهذا ما كشف عنه الصوفية في عدد من تفسيراتهم بعيدًا عن (الوحدة البنائية) و(الجمع بين القراءتين).

وثالثها: القراءة المؤدلجة، بحيث نصوغ أفكارنا وتصوراتنا ومعالجاتنا خارج دائرة القرآن وفقًا لأيديولوجيا تبنيناها، ثم نأتي القرآن نلتمس من آيات متفرقات فيه أحيانًا أو من أجزاء منها أحيانًا أخرى دعمًا وتأييدًا وشواهد تؤيدنا في ذلك الفهم المؤدلج وتعضده وتؤصل له، ومن ذلك ما يفعله (فكر المقاربات) الَّذِي لا يزال الفكر الإسلامي يمارسه حتى الآن، فإذا أثارت الليبرالية – مثلًا – (مسألة المرأة وحقوقها في الإسلام) سارع أصحاب هذا الفكر إلى إنزال الواقع على النص بالشكل اللامنهجي المتقدم ليتقبل القرآن الواقع الليبرالي، فيصبح التعدد ممنوعًا أو شبه ممنوع. ولكن حين نتجه إلى القرآن بشكل منهجي نستحضر خلاله الرؤية القرآنية الشاملة التي تبدأ مع بدء الخلق وتمر بالأسرة والشعوب والقبائل والمجتمع، ونستحضر القيم العليا لتقدم التصور البديل المتفوق في تقدير إنسانية المرأة، واحترام تكوين الأسرة الصغرى مع الوحدات الكبرى فتحل وتعالج قضية التعدد أو الميراث أو الشهادة في ذلك الإطار الكوني؛ فلا يُفسر القرآن بـ (الفكر الليبرالي) ولا يخضع له، بل يُقدم بديلًا متفوقًا عليه يستوعبه ويرقيه ويتجاوزه. وكذلك الحال مع الديمقراطية، والبيئة ومشكلاتها، والفقر والمرض وغير ذلك من مشكلات.

المنهجية الكونية القرآنية:

إنَّ (المنهجية العلمية) المعاصرة التي تقدمها الدوائر العلمية الغربية منبتة عن مصدرها الإلهي ليست (نهاية التاريخ)، وما كان لها أن تكون كذلك، والعقل العلمي المعاصر ليس هو العقل الكلي الفعّال وما ينبغي له أن يكون، بل هما مرحلة متقدمة – ولا شك – باتجاه (المنهجية الكونية) وتلك المنهجية الكونية لا مصدر لها إلا القرآن وحده؛ لأنه -وحده- الكتاب الكوني الذي يستطيع أن يستوعب المنهجية العلمية، ويقوم بتنقيتها وترقيتها، ووضعها باتجاه (المنهجية الكونية)، وهو -وحده- الَّذي يستوعب (المنهج العلمي)، ويستطيع أن يقوم بتنقيته وإخراجه من أزمته، ويحميه من مخاطر النسبية والاحتمالية والنهايات التي اعتبروها حكمية، والقرآن هُوَ الَّذِي يقيِم المنطق ويعدله، ويعطي مقدماته الفاعلة التي يحتاج إليها ليقوم بمهمته بوصفه ضابطًا يعصم الذهن عن الخطأ في النظر والتفكير، ليعزز المنهج العلمي ويبرهن على صحة الخطوات العلمية الموصلة إلى النتائج.

لقد أدى تجاهل البعد الغائب -ألا وهو عالم الغيب- في الحضارة المعاصرة إلى بروز الأزمات الخطيرة التي يشكو المنهج والعلم منها. والقرآن – وحده – هو الذي يستطيع تخليص الاتجاهات العلمية والضوابط المنهجية وإعادتها إلى جادة الهدى والحق من جديد لتحقيق عالمية القيم: الهدى، والحق، والتوحيد والتزكية، والعمران، والعدل، والحرية، والإحسان، وتحمل وأداء الأمانة، ونبذ الخبائث، ووضع الإصر والأغلال عن البشرية، وإباحة الطيبات والمشاركة فيها، واعتبار الأرض منزلًا واسعًا للبشرية يتسع لها كلها، فلا تحتاج إلى الحروب، بل تدخل في السلم كافة. وبذلك يحقق القرآن المجيد عالمية الانتماء الإنساني والتفاعل وعالمية القواعد المنهجية المشتركة الضابطة للتفكير الإنساني.

فالتعامل المنهجي مع الكتاب الكريم يقتضي أن تكون لدينا محددات وضوابط نظرية مستقيمة متماسكة كونية، مستوعبة للوجود وحركته المتمثلة حاليًا (بالصيرورة) [6]، لا بالتعاقب والتتابع اللذين يوصلان إلى (السكونية)، وهذه المنهجية ينبغي أن تقوم على المتغيرات النوعية والجدلية الكونية. وهذه المنهجية لا تستطيع البشرية أن تبلغها أو تصل إليها بتراثها البشري وعقلها العلمي أو الوضعي أو الفلسفي، بل لا بد من عقل قادر على أن يكون عقلًا كونيًا ومتمكنًا من إنتاج (جدلية كونية) بمحددات نظرية متعالية.

وهذه الإشكالية ذاتها -إشكالية وجود منهجية علمية كونية في القرآن المجيد- ينبغي أن يُتجه بها إلى القرآن ذاته، وتُلقى عليه بأن نوجه إلى القرآن العديد من الأسئلة. فالقرآن مصدر المنهج -كما أشرنا- لأن المنهج من الكليات، كما أن المنهج من المقاصد والقيم من وجه آخر. والقرآن المجيد بكونيته يمكن أن يبني ويؤسس الإطار الكوني الشامل للفكر الإنساني، ويُصدق على العلم ومنهجه ومنطقه، ويهيمن ويوجه الجهود الإنسانية بشكل جماعي لتطوير الأرض وإعمارها وإنماء ما فيها. كما أن القرآن الكريم هُوَ الَّذِي يستطيع أن يبدل الصراع بين الأنساق الثقافية والحضارية البشرية بالحوار البناء الذي استن منهجه وأسس له وحققه بنجاح. والقرآن هُوَ الَّذي يجعل للحياة غاية وهدفًا فينأى بالإنسان عن العبثية والعدمية، والقرآن وحده الكتاب المعادل الموضوعي للوجود الكوني وحركته؛ وبذلك يستطيع القرآن تمكين البشرية من تعديل مسارها العلمي باستعادة المعطيات العلمية المنهجية، وإعادة بنائها كونيًا، بعد أن يستوعب المنهجية العلمية التي تولت ضبط العقل الموضوعي بقواعدها، ثم يتجاوزها باتجاه (المنهجية الكونية) التي تستطيع أن تتعالى على (النسبية الاحتمالية) و(فلسفة العلوم الطبيعية) وتشدهما إلى آفاقها الرحبة الواسعة المستمدة من الكتاب الكوني الذي يعيد حضور الأبعاد الغائبة عن الدوائر العلمية والمعرفية المعاصرة إليها، وبذلك يمكنها من تجاوز أزمة المنهج والمنطق، والانشطارات المتنوعة، ويربطها بغائيتها بداية وسيرورة ونهاية، ويجعل العلم والتقنية وسائر منتجاتها في خدمة الأسرة الإنسانية كلها.

المحددات المنهجية القرآنية:

المحدد الأول- التوحيد محور الرؤية الكلية القرآنية:

لقد جعل القرآن المجيد التوحيد[7] منذ البداية محور الرؤية الكلية، وبها أصبح الإنسان قادرًا على بلوغ مستوى الاستقامة والحيدة العلمية[8] في فهمه لما حوله وتفسيره له، وفهم خواصه، وتحديد وسائله وأساليبه؛ لأن التوحيد من شأنه تحرير الإنسان من الخرافة والأوهام والمشاعر السلبية وسائر الضغوط والتحيزات التي من شأنها أن تقلل الطاقات المعرفية الواعية لدى الإنسان.

والتوحيد مدخل تفسيري ذو قابليات هائلة وقدرات متنوعة لتفسير آلاف الظواهر النفسية والسلوكية والمعرفية في مختلف المستويات، والتفسير الذي يقدمه القرآن المجيد يؤدي إلى الفهم العميق لتلك الظواهر، ويمكن من صياغة الأسئلة المعرفية وتعليم الإنسان طرق الإجابة عنها، كما يمكنه من وضع المقدمات بأدق ما يستطيعه العقل البشري، وتجنيبه الخطأ؛ فتصبح عملية الوصول إلى النتيجة منضبطة تستوعب (التنبؤ المنهجي) وتتجاوزه. وقد أطلق القرآن العقل البشري من عقاله بمنهج النظر الذي جاء به، وحرره تحريرًا تامًا من سلطان الكهانة والسحر والشعوذة، وقاده لمعرفة الطبيعة وغيرها مما يهم الإنسان معرفته ومنحه الشجاعة التامة والجرأة، والثقة بنفسه من خلال دعوته للعقل بأن يتفكر ويتدبر، ودربه على ألا يتهيب اقتحام السموات والأرض، وألا يتردد في بناء وعي عقلي وإدراك منطقي تسدده وتهديه وترشده أنوار الوحي وهدايته، ليؤمن عن برهان ويسلم عن يقين؛ ويؤهل لممارسة «التزكية» في ذاته وأسرته ومجتمعه، و«العمران» في الكون الذي استخلف فيه؛ وبذلك أسس القرآن للعقلانية التوحيدية.

المحدد الثاني– الجمع بين القراءتين:

المنهج القرآني يساعد في الكشف عن القراءة التجزيئية وتجاوزها إلى القراءة الجامعة والجمع بين القراءتين، قراءة الوحي وقراءة الكون، فالوحي ينبه إلى ما في الكون من عناصر ومؤثرات، وإلى ترابط الأسباب بالمسببات، وبين فعل الغيب في الواقع، وأين يبدأ الدور الإنساني وأين ينتهي أو يتوقف. والكون يساعد على فهم الوحي والوعي عليه وعلى قضاياه، وحسن قراءته، وكيفية استدعائه للحضور الدائم والشهرة المستمر لترشيد المسيرة الكونية، وتحقيق أهداف وغايات الحق من الخلق.

ومحدد الجمع بين القراءتين يربط بين الغيب والواقع ويمكِن من استخلاص محددات يُقرأ الواقع بها، ويمكن من الصياغة الدقيقة لإشكاليات الواقع والعروج بها إلى القرآن المجيد في (وحدته البنائية) للوصول إلى هديه في معالجتها. وهكذا ينبغي أن نفكر في الآفاق وفي الأنفس حتى ترسخ في الأذهان والعقول والقلوب أن التغيرات التي تجري في عالم الخلق إنَّما هي تغيرات نوعية تنبثق عن (صيرورة جدلية)، وهكذا سيكتشف العقل العلمي أن «الجمع بين القراءتين» كفيل بتقديم الحل لأزمات الواقع؛ فهذا الحل يستوعب (الصيرورة وجدليتها)، ويستوعب التغيرات النوعية، ويستوعب (ضوابط المنهج العلمي) بعد أن يقوم بنقدها وبيان ما يعتريها من قصور ناجم في جملته على الاعتماد على قراءة واحدة منفردة في الكون، وإهمال لقراءة الوحي الإلهي والقراءة به. وفي الوقت نفسه تقوم المنهجية المعرفية القرآنية باستيعاب وتجاوز «العقلية السكونية» التي انبثق عنها فكر التكرار والتراكم والسببية بدلا من الصيرورة والتغير النوعي وضوابط المنهج العلمية.

ان الفكر الماضوي السكوني قد انحرف بكثير من المفاهيم الإسلامية وقطعها عن غاياتها وفهمها بطريقة تعد غاية في القصور، منها قضية التجديد، حيث ربطت التجديد بواحد –فرد من الناس- يأتي في كل قرن ليقوم بعملية التجديد، وفي ذلك إلغاء للصيرورة وللمتغيرات النوعية وتجاهل لمجموعة كبيرة من السنن المرتبطة بها، فما يجري في قرن ما أو في سنة تالية يمكن تكراره وإعادة إنتاجه في قرن أو عقد أو سنة تالية، وفي إطار فردي.

 المحدد الثالث: الوحدة البنائية للقرآن الكريم والاستيعاب الكوني:

ومن هذا المنطلق ينبغي أن يجري التعامل معه باعتباره مصدر المنهجية الكونية، فلا تجوز تجزئته بحال، ولا يجري تجاوز شيء منه بحجة أنه (حمال أوجه)[9] أو أية حجة أخرى – تعالى الله عما يقولون علوا كبيرًا – ولا ينبغي تصنيفه إلى محكم ومتشابه، فكله محكم «كتاب أُحْكَمتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُن حكيم خبير» [فصلت-1]:[10]، وكلُّه يشبه بعضه بعضًا في إحكامه وإعجازه وتحديه والتعبد به ولغته وأساليبه وهدايته وتأثيره. كما لا يجوز تصنيفه إلى محكم وشاذ، وإلى ناسخ ومنسوخ وغير ذلك مما يتداول الناس ولا يزالون يتداولونه حتى يومنا هذا. فذلك كله مخل بإطلاقيته، مناف لوحدته البنائية، عائد على إعجازه بالنقض؛ فالله سبحانه قد قال ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كثيرا﴾ [النساء- ۸۲]، فمفرداته منضبطة في دلالتها انضباط النجوم في مواقعها من السماء؛ لأنها مصطلحات ومفاهيم إلهية، والفرق كبير بين اللغة التي يستخدمها وينطق بها الخالق البارئ المصور وبين اللغة التي يستخدمها البشر، فالمفردة القرآنية أحكم وضعها في الآيات، كما أن الآيات أحكم وضعها في السور لتكون – كلها – كتابًا محكمًا مفصلًا على علم الله ﷺ. ومن هنا نستطيع أن نتبين أن الرزية الأولى كانت حين تم إسقاط أحكام اللسان العربي البشري المتداول على القرآن، فأدى ذلك إلى نسبة الترادف والاشتراك والتواطؤ والكناية والاستعارة والتورية والمجاز إليه، وأن هذه الأحكام حين طبقت عليه فتحت أبوابًا واسعة للتأويلات التي تجاهلت منهجيته وغطت عليها، وجعلت عمليات إدراك العائد المعرفي المحدد لكل كلمة من كلماته أمرًا في غاية الصعوبة بعد أن ألقيت على لغته كل تلك القضايا وظلالها، وكان من الواجب أن تسمو الهمم إلى إعداد أحكام خاصة بلغة القرآن تتناسب وإعجازه وتميزه، وتُستمد من داخل البنائية القرآنية نفسها، فحين يقول الله ﷺ: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [ طه- ٣٩]، فيجب أن ترتبط بواحد من الأدلة التي بناها القرآن للاستدلال على الألوهية. فإذا أخذت المفردة القرآنية معناها والعائد المعرفي لها في إطار المنهج القرآني ذاته، ومن ملاحظة نظمه وسياقه فإنها تنضبط في دلالتها المعرفية في إطار دليل كلي -هو (دليل العناية)- عناية الله الأزلي بعباده المؤمنين، والتأكيد على مزيد من العناية بذلك الذي تم اصطفاؤه للرسالة.

 إنَّ هذه الفكرة أو المسألة لم تكن بعيدة عن أذهان كبار فقهاء الصحابة الذين عايشوا رسول الله ﷺ وشاهدوا حرصه التام على ضبط النص القرآني بمنتهى الدقة، ومنعه القطعي من قراءته أو روايته بالمعنى، فذلك يؤكد أهمية الكلمة القرآنية في لغة القرآن، وكونها في مستوى المصطلح أو المفهوم لا يجوز تغييرها أو استبدالها بأي لفظ آخر.

إن المحددات الثلاثة التي ذكرناها، وفي مقدمتها (الجمع بين القراءتين) ستكشف لنا عن استيعاب القرآن المجيد لمبدأ (الصيرورة)، ويعطي للصيرورة مدلولًا كونيًا يستوعب المعنى الوضعي ويتجاوزه.

الإنسان والطبيعة في القرآن:

نص القرآن على بنوة الإنسان للأرض وللطبيعة دون تجاهل للفوارق بينهما ودون نفي للخصائص الذاتية التي تقرر الاتصال بينهما، أي أنَّ الإنسان ابن الطبيعة وابن الأرض والسيد المستخلف فيها في الوقت نفسه ﴿مِنْهَا خَلَقْتَكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا تُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه- ٥٥].

ولم يفرق القرآن بين الإنسان والطبيعة إلا في قضايا محدودة لا تنفي تلك البنوة، تتلخص فيما يلي:

  1. الإنسان مستخلف، والطبيعة مستخلف فيه.
  2. الإنسان أُعطي أمانة الاختيار، والكون قد سخر وفقًا لسنن وقوانين يشاركه الإنسان في بعضها أي في جانبه الطبيعي من سنن الحياة والموت وضرورات الحياة فقط.
  3. الإنسان يخاطب بخطاب إلهي موحى بالطرق التي حددها الله سبحانه لوصول الوحي إلى الأنبياء والمرسلين، والطبيعة توجَه بقوانين وسنن ثابتة.
  4. الإنسان مطلق في إنسانيته وكونيته ينتهي إلى الخلود، والكون المطلق سينتهي إلى الاستبدال.
  5. الإنسان يثاب ويعاقب على ما قدم باعتباره مطلقًا، والطبيعة خلافه في هذا إلا إذا عددنا عمرانها مقابل ثواب، إذ فيه تحقيق الغاية من وجودها، وخرابها أو فسادها بمثابة العقوبة لها؛ لأن فيه تفويتا لذلك.
  6. الإنسان نفس وجسم وعقل، وليست الطبيعة كذلك.
  7. الإنسان – بناءً على ما تقدم – يوصف بالصلاح والفساد والإيمان والكفر والنفاق والحرية والعبودية والظلم والاقتصاد والسبق بالخيرات، وتعتريه عوارض كثيرة كاليقظة والغفلة والذكر والنسيان، والاختيار والإكراه، وليست الطبيعة كذلك.

  إنَّ الإنسان –في المنظور القرآني نفسًا وجسدًا- ينتمي إلى العالم الطبيعي، فهو ابن الطبيعة والمستخلف فيها، وتكريمه بالعهد وأمانة الاختيار والتكليف والابتلاء لا يفصله عن الطبيعة، ولا يخرجه عنها، وهذا ما لم يستطع إدراكه -لحد الآن- سائر المشتغلين بالتفسيرات والتأويلات الدينية من علماء اللاهوت في سائر الأديان، ومنهم علماء الكلام المسلمون؛ فالنفس الإنسانية  ليست كيانًا مستقلًا يتعامل مع الله بإرادة مستقلة منبتة عن التفاعل مع العالم الطبيعي، بل هي جزء من ذلك العالم، وما يترتب على ذلك خطير جدا؛ إذ أن النفس تمثل (اللامرئي) المتعالي كونيًا، والمرتبط بالجسد المرئي.

واقرأ بدايات سورة النحل من أولها حتى الآية التاسعة والعشرين، ثم اقرأ معها سورة الشمس لتجد في آيات سورة النحل ذكر الوحي ومضمونه وهدفه الأساسي، ثم يبدأ ببسط دليل الخلق، وربطه بالحق ليقود الخلق إلى الحق، وفي الآية الرابعة من السورة ينبه إلى خلق الإنسان من نطفة، وكيف يتطور إلى خصيم مبين يجادله سبحانه في ألوهيته له وربوبيته، وكونه خصيمًا مبينًا فعله النفسي، وتتوالى الآيات في ذكر الدفء والجمال والإعانة والزينة ولذة الشراب والظل والحلية، والامتنان باختلاف الألوان وما يعطيه من متعة للنفس، هذا الربط الشديد بين الجسد الإنساني والنفس الإنسانية والعالم الطبيعي لا يسمح بفصل النفس الإنسانية عن العالم الطبيعي للادعاء -بعد ذلك– أن النفس يمكن أن تتعامل مع الله سبحانه بخطاب وإرادة مستقلة منفصلة عن الجسد والعالم الطبيعي نفسه. وسورة الشمس حين تُربط بمقدمات سورة النحل وأشباهها من السور التي تناولت قضية الخلق توضح ذلك بجلاء شديد، واتل بتدبر مقدمات سورة الحج، ثم مقدمات سورة المؤمنون وكثير غيرها.

وتظهر أهمية سورة الشمس في بيان هذا المحدد المنهاجي المهم في أن السورة قد بدأت بذكر الشمس وبصيغة القسم، لتستدعي إلى الأذهان المجموعة الشمسية وعلاقتها بالحياة والأحياء في إطار تلك التقابلات الرائعة بينها وبين أبرز ما يترتب عليها، أو فصل بها؛ ليأتي في الآية السابعة ذكر النفس الإنسانية وكيف سويت في إطار ذلك التقابل لتنطوي على متقابلين كذلك «فجورها وتقواها» ليأتي دور الإنسان وفعله وقيمة ذلك الفعل وخطورته في تدسيتها أو تزكيتها. إن تعقلنا وتفكرنا وتذكرنا وتدبرنا لهذا سوف يقودنا إلى الوصول إلى «جدل الطبيعة» القائم على تفاعل نقيضين لتوليد ثالث.

وجدل الإنسان قائم على تفاعل النفس والجسد؛ فالنفس الإنسانية قد تم تكوينها وتخليقها في إطار (جدل كوني) يستوعب ويتجاوز (نظريات النشوء والارتقاء والتطور)، ويتجاوزها؛ لأن تلك النظريات كلها لم تلتفت إلى «البعد اللامرئي» وكيف تم غرس «اللامرئي» أو تخليقه في المرئي، ألا وهو الجسد؛ ليتفاعل معه فيعطي ذلك الناتج السلوكي المعبر عنه «بالتزكية والتدسية» بعد أن تمت تسوية النفس ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس- 7] فوضعت في إطار واع مختار.

 إنَّ «نظريات النشوء والارتقاء» قد تعاملت مع الجسد الإنساني وأعراض النمو التي تعتريه، وحين جاءت للنفس لم تجد بُدًا من إخضاعها للشروط الحيوانية الغرائزية وتلبيتها وحرمانها، والدوافع وكيفية تكونها، ونظريات تفسير قضايا اللذة والألم، فاستلبت «النفس» لصالح الجسد، وبذلك أخضعت النفس لشروط اللذة والألم والاستمتاع، فلا غرابة بعد ذلك أن نجد من يطلق على الخمور اسم (المشروبات الروحية)، وعلى الزنا اسم (الحب)، وتصبح الانحرافات الجنسية واللواط والسحاق والشذوذ الجنسي وليدة جينات مفروضة، فغابت النظرة إلى «كونية النفس» وتولدها عن ذلك الجدل؛ ولذلك فإنها قد ألهمت نقيضين هما: «فجورها وتقواها»[11].  

وقد اعتبر القرآن الكريم خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الإنسان، فقال: ﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ (غافر-٥٧]، وهذه الآية حين نفهمها في إطار المنهج نستطيع أن ندرك أهميتها البالغة؛ لأن (المنهج العلمي) قد نبه إلى نوع من المقابلة بين الإنسان والطبيعة يمكن أن تفيد -بفحوى الخطاب- إمكان إخضاع الأصغر لمنهج دراسة الأكبر، وضبط ما يتعلق به بذلك المنهج الذي يمكن أن يجمع بين الإنسان والطبيعة.

ومن هنا فإن فلسفة العلوم الطبيعية قد تناولت الإنسان ووضعته تحت جناحها بشكل لا يرفضه المنهج القرآني، وعن ذلك انبثقت نظريات الوحدة أو الاتحاد بين العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية؛ فحدثت – ولا شك – نقلات هائلة، وتقدمت تلك العلوم الإنسانية والاجتماعية ولا شك، وبذلك صار تأثير (الذاتية) فيها محدودًا؛ ولكن لما كانت التسوية تامة، ولم تُلحظ الفوارق التي ذكرناها فقد برزت إلى جانب ذلك سلبيات كثيرة نجمت عن تعميم أحكام الظواهر الطبيعية على الظواهر الإنسانية بإطلاق –ليس هذا مجال تفصيلها- وتلك السلبيات يمكن استيعابها وتجاوزها بملاحظة الفوارق التي ذكرنا، وتحديد آثارها منهجيًا، وتجاوز ما يَختزل أو يَختصر كونية الإنسان منها قرآنيًا.

وبالتالي فإن انعكاس فلسفة ومنهج ومنطق العلوم الطبيعية على قضايا الإنسان الاجتماعية والإنسانية والسلوكية لا يستغرب من القرآن فضلًا عن أن يرفض، فمن مسلمات القرآن أن الإنسان يتأثر بالطبيعة ويؤثر فيها، والجدل بين الإنسان والطبيعة دائم مستمر، وما من أحد نظم ذلك الجدل ومنحه صفة الإيجابية مثل القرآن، بل وجعله طبيعيًا وسهلًا وسلسًا. فانعكاس (المبادئ النظرية العلمية الطبيعية) على ما هُوَ إنساني واجتماعي وسلوكي لا يعني إلغاء لإنسانية الإنسان أو مهمته الاستخلافية في الكون، أو إلحاقًا له بالجماد والحيوان، بل فيه تعزيز لذلك الدور.

  تعامل القرآن مع المكان والزمان والتاريخ والطبيعة بعامة بالمنهج ذاته، مع استثناءات بسيطة في الإنسان والزمان والمكان، من شأنها أن تنبه إلى وجود الخالق العظيم، وتكشف كذلك عن أثر فعل الغيب في الطبيعة والإنسان مثل أثره في اختيار الأنبياء والرسل وتوقيت بعثاتهم، وتحريم وتقديس بعض الأماكن، وتحريم وتعظيم بعض الأزمنة. وهذه الاستثناءات -ذاتها- قد أُدخلت في المجال الإبستمولوجي التوحيدي، والمجال المعرفي الذي أوجده القرآن، بحيث لم تُكرس باعتبارها معرفة لاهوتية منفصلة تعتمد على الغيبي وحده دون فهم أو إدراك لعلاماته، فتنفصل عن الإطار المنهجي أو تتجاوزه بحيث تفقد علميتها أو موضوعيتها.

ولقد أوضح القرآن الكريم أن هناك تلازمًا بين الظواهر السلوكية والعقدية للبشر وبين تلك السنن الطبيعية التي بمقتضاها تكون الحياة حياة طيبة أو معيشة ضنكًا انعكاسًا واطرادًا، فإذا كانت ظواهر الطبيعة قابلة للإخضاع إلى الملاحظة والتجربة والحس ومتغيرات الواقع، فإنَّ الظواهر الإنسانية يمكن أن تعامل بالمثل؛ وبالتالي فإن هناك إمكانًا كبيرًا للكشف عن (المنهج الموحد) للظواهر المختلفة في الكون وفي الإنسان؛ ليتيسر بعد ذلك إخضاعها للأحكام التقويمية والقيمية بدقة علمية وموضوعية.

فالقرآن يؤكد أن الأحكام القيمية التي تتغياها الشريعة تالية ولاحقة لنتائج الكشف والتوصيف والتصنيف المعرفي وفق المنهج بعامة، والمنهج القرآني خاصة يدعو الإنسان إلى الملاحظة، والنظر الدقيق في الوقائع والظواهر في حالاتها المختلفة، والنظر الدقيق كذلك في العادات والأعراف والتقاليد والوقوف على الآثار، ودراسة كل ما من شأنه أن يكشف علميًا عن طبيعة الفعل الإنساني، ويساعد في بيان الوصف القيمي المناسب له، وكذلك يكشف عن الواقع الذي أدى أو يؤدي بالأمم إلى الفلاح والنجاح، أو يقود الأمم والشعوب إلى البوار والخسران، أو يدمر حضارات البلدان المختلفة في مختلف فترات التاريخ التي جرى ذكرها. والقرآن وهو يقدم ذلك كله ينبه العقل الإنساني إلى بعض القوانين والسنن الاجتماعية والمحددات المنهاجية ليوضح بعض صفات المنهج القرآني.

الأوصاف المعرفية للإنسان في القرآن:

إنَّ القرآن المجيد قد بيضن للناس أنهم مع اختلافهم يمكن أن يُصنفوا إلى أصناف ثلاثة: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، وذلك بحسب معتقداتهم ورؤاهم الكلية وما يترتب عليها من سلوكيات ونظم، وكل هذه الصفات مشتقات معرفية، اشتُقت من صفات مجردة لتقوم في أشخاص اتصفوا بها، مشتملة على نوع من التقييم المعرفي للموقف الإنساني من الخالق ورسله، ومن الحياة الدنيا والآخرة. ومع اختلاف المعتقدات والألسن والألوان والصفات، فإن التعايش السلمي بينهم ممكن، وكذلك الانسجام العقلي والنفسي بينهم ممكن دون طغيان حملة صفة على المتصفين بالصفات الأخرى، وذلك حين تحترم الثوابت المشتركة، ونجعل منها قواعد للتلاقي بين البشر، ودخولهم في السلم كافة، وتُحترم الخصوصيات ما بقيت في دوائرها وأطرها. كما أن توحد الفكر الإنساني بين هذه الأطراف وغيرها انطلاقًا من قواعد تفكير مشترك، ومنطق ومنهجية معرفية ليس مستحيلًا إذا بلغ الإنسان مستوى الاستعداد للاتفاق على الكلمة السواء، واكتشف تلك السنن والقوانين الكونية التسخيرية الثابتة؛ واكتشف الرابط بينها وبين قواعد التفكير الإنساني المشتركة، وأخذ بمبدأ الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون، ومنه الطبيعة والإنسان.

ولعل من أهم ما امتاز به المنهج القرآني أنه تعامل مع الإنسان باعتباره إنسانًا دون تقييد بأية أوصاف إضافية لا تشكل جزءًا من مكونات إنسانيته، أو الأعراض الذاتية له.

ومن هنا يتناول القرآن أصناف الناس مرة باعتبارهم ثلاثة أصناف: مؤمنين وكافرين ومنافقين، ومرة باعتبارهم أصنافًا ثلاثة يفارق كل منها الآخر بالنظر إلى السلوك: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله، وثالثة باعتبارهم مهتدين ومغضوب عليهم وضالين، ولكنه حين يأتي إلى النتائج الأخروية فإنَّه يجعل الأصناف كلها آيلة إلى اثنين فقط (سعدوا وشقوا) و(خاب وأفلح)

فقه الواقع:

إنَّ فقه الواقع[12] -عندنا- يمثل (فقه الفقه) ونفضل أن يبقي جزءا من (المنهج) متصلًا به يأخذ منه ويعطيه لكي يتكاملا. وحينما نقول (الواقع) فإننا نُعني به ذلك المزيج المركب من كل شيء أو شأن ذي علاقة بنا من وقائع طبيعية، وظواهر إنسانية واجتماعية ودينية ومؤثرات حضارية وبيئية وتاريخية وفلسفية تحيط بنا، فتشكل أفكارنا أو تؤثر فيها وتتأثر بعد ذلك بها، وتشكل دواعي ودوافع الحركة والسكون في أفعالنا. والواقع ذو وجود خارجي منفصل عنا مهما كان لنا من تأثير فيه، ومهما يكن له من تأثير فينا، وتصورنا له وإدراكنا له وتحليلنا لعناصره يجعل له وجودًا ذهنيًا في عقولنا، لكن وجوده الخارجي هُوَ الَّذي يوصف بأنه واقع، لا وجوده الذهني ولا المعرفي الذي قد يوصف بأنه تصور للواقع أو معرفة به أو إدراك له، ولكن لا يطلق عليه بذاته أنه واقع في حدود ما تعارفت عليه الجماعات العلمية في هذا العصر.

 ان القرآن المجيد قد بنى (الواقع) في منظومة كاملة تتلازم حلقاتها كلها لتوجِد ذلك الذي نطلق عليه (الواقع). فالواقع في المنظور القرآني يبدأ فكرة في الذهن قد تكون فكرة بسيطة يمكن إدراجها في إطار التأمل الأولي فإذا تفاعل الذهن معها، واتضحت بذلك التفاعل أبعادها انتقلت لمرحلة التصور، وصارت لتلك الأفكار صورة أو صور في الذهن، وتتضح لها في هذه المرحلة خصائص ومقومات تميزها عن صور أو تصورات أخرى، فإذا تفاعل الذهن معها وحصلت له بها القناعة انتقلت إلى العقل ليطبق عليها منطقه، ويختبر بذلك سلامتها، ويطمئن إلى جدواها وفائدتها، فإذا بلغت منه هذا المبلغ انتقلت إلى القلب ليربط عليها، ويحيطها بما يثبتها فيه، وهنا تصبح عقيدة وإيمانًا يقينيًا. وحين تبلغ هذا المستوى فإنها تبدأ بصناعة الدواعي والدوافع والإرادات لدى الإنسان ليتحرك في الكون بتلك الدواعي والدوافع والإرادات التي تمليها وتحركها العقيدة والإيمان الراسخ.

ثم يحيل القلب وقوى الوعي الإنساني والطبيعة الإنسانية هذه الدواعي والدوافع والإرادات إلى العقل مرة أخرى ليقوم بإحداث (حالة الوعي بها والعزم على التحرك لتحقيقها) – التي نسميها (النية) أي: تحويل الدواعي والدوافع والإرادات إلى عزائم ومقاصد يجري السعي لتحقيق وجودها في الخارج، فيتحول الوجود الذهني والعقلي ثم اللفظي إلى وجود حسي ملموس بفعل إنساني شاركت الطبيعة بعناصرها ومنها الزمان والمكان في تهيئة الموقع المطلوب لوقوعه بتسخير إلهي لها، وتتجلى فيه مظاهر القدرة الإلهية المحيطة بذلك كله ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات- ٩٦].

وحين يبرز الفعل الإنساني في إطار الوجود الحسي يأتي دور الشرع لتقييمه وفقًا لمعايير دقيقة منضبطة لتبين لنا مستوى فاعليته وصفته، وما قد يترتب عليه وآثاره.

من هنا يتضح أن مفهوم الواقع لا يمكن حصره في الوجود الحسي بل هو منظومة دقيقة كاملة تبدأ بالفكر، ولا تنتهي عند الوجود الحسي الأولي للفعل الإنساني، وما يترتب عليه من أحداث وأشياء، بل يتجاوز ذلك إلى مرحلة التقييم ثم الجزاء.

فكل تلك المستويات هي جزء لا يتجزأ من مفهوم الواقع والواقع هو الشيء الثابت، وثباته مستمد من تحقق وقوعه وثباته في الوجود الحسي؛ ولذلك فإن القرآن المجيد قد استعمل مادة (الوقوع) في سائر الأمور التي قد يتشكك في صيرورتها إلى واقع للإفادة من ذلك المعنى المرتبط بمادة (و. ق.ع) ليدرك السامع أن هذا الأمر ثابت لا بد من تحققه وحدوثه، ولا مجال للشك في ذلك، فكأنه بالآيات الكريمة يوجد (الواقع الذهني) ويؤكد في الوقت ذاته أنه سوف يتحول إلى (واقع حسي).

إننا حين نتناول مفهوم الواقع في إطار محاولتنا للكشف عن منهج القرآن المجيد في إعادة بناء الأمة إننا نعلم أننا نقوم بتأسيس علم جديد له مبادئه ومكوناته ومقاصده، ويمكن أن نطلق على هذا العلم «فقه الواقع»، وموضوع هذا الفقه يتناول الأفكار والتصورات والعقيدة وأركانها وأثرها في بناء الرؤية الكلية، وتأسيس الدواعي والدوافع والإرادات، وإيجاد الوعي التام بها بالنوايا والعزائم الصادقة، ووسائل تقييم الفعل الإنساني ومعرفة مآلاته وآليات التغيير وعوامل الاستمرار في الواقع والتجديد والتجدد الذاتي، وعلاقة عناصر وأركان واقعنا بعناصر وأركان واقع الآخر، كل ذلك إدراك لشروط ودعائم العمل الفكري، وكيفيات نشر الأفكار.

والقرآن المجيد يقدم لنا دليلًا هاديًا في بناء هذا العلم «علم فقه الواقع»، فهو قد تناول كل ما اعتبرناه من عناصر الواقع ومكوناته، وتناول كل ما أدرجناه في موضوع هذا العلم، وما يمكن أن نعالج به سائر مبادئه.

 في كل هذه المراحل يبرز الجهد الشيطاني للتدخل وإفساد كل شيء مرحلة بعد مرحلة، وهو يستهدف إيجاد الواقع الباطل الفاسد، بدلًا من الواقع الحق، وقد يكون بروزه في مرحلة تشكيل الدواعي والدوافع والإرادات أشد ما تكون؛ ففي هذه المرحلة بما فيها من مجالات للتلبيس الشيطاني ينشط لتحقيق الانحراف. فالشيطان يتربص بالإنسان في سائر الخطوات التي ذكرنا، ففي مرحلة التفكير يحاول أن يلقي بوساوسه وأمانيه ليفسد الأفكار، وفي مرحلة التصور يحاول أن ينحرف بالإنسان في هذه المرحلة ليجتاله عن التصور السليم أو يفرغه من خصائصه، ولا يتوقف عن وساوسه لإفساد فاعلية أركان الاعتقاد بإساءة فهمها وتصورها، أو مزجها بما ليس منها، أو تقليل فاعليتها وانعكاساتها على حركة الإنسان وأفعاله؛ فإذا بلغ الإنسان مستوى تكوين الدواعي والدوافع والإرادات أحس الشيطان بالخطر، فيستجيش كل قواه لإفساد الدواعي والدوافع والإرادات وصرفها عن وجهها قبل أن تتحول إلى نية وفعل، ولا ييأس الشيطان، لو أفلت الإنسان بدواعيه ودوافعه وإراداته منه، فسيتابعه للمرحلة التي تليها مرحلة النية والعزم الصادق على التنفيذ القائم على وعي بالإرادة، ثم إلى مرحلة الفعل، فإن أفسد النية  فقد أفسد العمل؛ لأن موقع النية مثل موقع القلب من الجسم، وإلا فسوف يستمر في محاولاته خلال مرحلة العمل ليفسده؛ وفي قوله تعالى: ﴿ َيأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِ وَالْأَذَى﴾ [البقرة – ٢٦٤] تنبيه إلى مبطلات ومفسدات الأعمال، وكذلك قوله: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف- ۱۱۸]. وقد يكون إبطال العمل بإلباس الحق منه بالباطل ﴿يآهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ۷۱]. والعمل الذي لا يؤدي إلى نفع دنيوي أو ثواب أخروي (بطالة) أو كالبطالة؛ ولذلك كان الباطل نقيض الحق، فإذا كان الحق هو الثابت فإن الباطل هو ما لا ثبات له عند الفحص؛ ولذلك أكد القرآن المجيد على الإنسان ضرورة اليقظة الدائمة، والتنبه المستمر لئلا يقع في حبائل الشيطان في أية مرحلة من تلك المراحل.

 إن الواقع الإسلامي قد دُرس بشكل مستفيض من الجوانب كلها، لكنّ الدراسات التي تناولت واقعنا كانت عامتها دراسات قامت بها ذات متفوقة علينا اتخذت منا موضوعًا، وقد انطلقت تلك الدراسات والبحوث من فرضيات ومسلمات أصحابها، كما أن الأهداف والغايات التي اتجهت تلك البحوث لتحقيقها كانت غير أهدافنا وغاياتنا، وحين حاول بعض الباحثين المنتمين إلى كياننا الحضاري الاستفادة بتلك الدراسات وتوظيفها لفقه واقعنا من منظورنا وملاحظة رؤيتنا الكلية، لم يستطيعوا بلوغ نتائج غير النتائج التي أوصلت إليها دراسات أولئك الذين جعلوا منا موضوعًا للدراسة؛ وذلك للترابط الوثيق بين المسلمات القبلية والفرضيات والمنطلقات والمقدمات والنتائج، ومن هنا فإن من الضروري استخدام منهجنا وأدواتنا ومنطلقاتنا ومقدماتنا لفقه واقعنا.

إن البحث في الواقع ومحاولة تحليله وفهمه يشكل موضوعًا هامًا من موضوعات البحث الغربي، وإذا كان الفكر الغربي قد أدرك ما للواقع من أهمية فجعله بتلك المثابة فذلك لا يعني أن الإسلام قد تجاهله أو قلل من شأنه أو لم يحتم علينا دراسته بكل الدقة الممكنة؛ بل إن القرآن المجيدة قد وجه إلى فقه الواقع، وضرورة تحليله ودراسته وفهمه، وهناك مئات الآيات الكريمة ولا نقول العشرات قد نبهت إلى الواقع وأهميته وضرورة دراسته وتحليله، وما أسباب النزول وعلم المناسبات والسور والآيات التي قامت بتحليل الواقع المكي والمدني والعالمي إلا نماذج تدل بمختلف أوجه الدلالة على أهمية فقه الواقع ودراسته.

  كما نجد في القرآن الكريم عددًا من المداخل المنهاجية لدراسة الواقع وفقهه قد وردت منتشرة متناثرة في آياته، فقد يقارب القرآن المكنون الواقع باستقرائية تاريخية، تجعل القارئ يرى القضية المثارة في الواقع فقرة أو حلقة من تلك السلسلة التاريخية المتصلة، ونجد ذلك كثيرًا في تفسير الوقائع التي كانت موضوع جدل مع أهل الكتاب خاصة اليهود في عهده عليه السلام، وقد يقاربه بالتنبيه إلى الأخذ (بالنظر العقلي) وبعقلية استنباطية تجمع بين الدعوة إلى البحث الميداني، واستقراء الوقائع والأحداث، والتأكيد على استعمال المداخل التحليلية النظرية والفكرية في التعامل مع الظواهر التي نتناولها للوصول إلى النتائج، ثم اختبار صحة النتائج ودقتها، وكل هذه الأمور تحتاج إلى إمكانات عقلية كبيرة، وقدرات ذهنية واستعدادات عالية، وتكوين منهجي، ومهارات بحثية ومعرفية لم تزل في بيئاتنا نادرة الوجود، فهناك شروط ليس من اليسير توافرها في باحثين عاديين، ولعل في مقدمة هذه الشروط :

ا- تحديد علاقتنا بالآخر، وبما أنتجه في دراساته لواقعنا كلًا وأجزاءً، والوعي بإمكانات الاستفادة بتلك الدراسات وحدودها، والقدرة على رصد التحيزات التي فيها مع القدرة على الوعي بضوابط الانفتاح، والتمييز بينه وبين الانفلات أو التداخل الذي لا تحكمه ضوابط المثاقفة وشروطها، كما أنه لا بد من التمييز بين الرفض الكلي للآخر والانغلاق دونه، وبين الحذر والتحوط في كلٍ منهما.

ب – القدرة على الوعي بمكونات ومقومات فكرنا الإسلامي المعاصر، والتمييز بين ما كان منه منحدرًا من فكرنا الإسلامي التراثي وخبرتنا الحضارية وما كان حصيلة التداخل مع الوافد من فكر وثقافات قوم آخرين. ت – القدرة على التغلب على الفراغ الفكري والثقافي في هذا المجال؛ ومعرفة الموقف السليم إزاء مقولة حياد الأدوات والشروط، بل حياد العلم بعامة وموضوعيته، وغير ذلك من مقولات استعملت لتعزيز الثقة بالنتائج التي توصل الآخر إليها وهو يقوم بدراستنا، كل ذلك من أمور تؤكد ان الفقه في الواقع يحتاج إلى فرق بحثية لا إلى جهود فردية، وإن كنا لا ننكر أهمية المبادرات الفردية الإبداعية في هذا المجال.

أسئلة الواقع وأجوبة القرآن:

إن آلية عمل المجتهد كما يصفها «علم أصول الفقه» تتلخص في التالي: حين تعرض للمجتهد نازلة من النوازل ينظر فيها، وبعد أن يلم بها وبجوانبها المختلفة يقرأ القرآن كله ويدون ملاحظاته، ثم يجمع كل ما يتعلق بها من آيات الكتاب الكريم بعد أن يكون قد أدرك سياقها وسباقها، ثم بيانها من سنة رسول الله ﷺ، وكيف علمها لجيل التلقي ودربهم على اتباعها، ومعرفة آثارها في جيل التلقي، ثم يبدأ النظر للكشف عن الحكم الذي يمكن أن يحكم به على الواقعة الحادثة بعد تقييمها، وتحديد ما فيها من مصالح أو مفاسد. وملاحظتنا على هذا أنه في هذه الحالة يصبح قارئًا أقرب إلى الانتقائية، وهذا فيه تجاوز للقراءة الشاملة للقرآن في وحدته البنائية.

أما منهجنا المقترح للإجابة على تساؤلات الواقع الجدية أنه على الباحث أن يصوغ سؤاله أو إشكاله، إذ إنَّ ذلك السؤال أو الإشكال بمثابة النازلة، وهو تصور لها في كل الأحوال، ثم يعرج بها إلى القرآن، فالسؤال أو الإشكال على الباحث أن يوجهه إلى القرآن المجيد، وفي عصر رسول الله ﷺ كان الواقع يفرز مشكلاته وينزل القرآن الكريم لمعالجة تلك الإشكالات والإجابة على تلك الأسئلة.

إن سؤال (الإشكالية أو الأزمة) حالة ضرورية لفهم رسالة الأنبياء ومضامين رسالاتهم، وإدراك أهميتها، والقارئ الذي يأتي للقرآن الكريم بدون أزمة أو بدون شعور كامل بها ووعي عليها، فإنَّه من الصعب أن يتجاوز في فهمه للقرآن الجوانب التعبدية والفهم الظاهري –الذي يرتبط باللغـة غالبًا، وقد يضيف إليها شيئًا من المأثور في التفسير-. ولذلك تركزت أنظار جمهرة علمائنا في التاريخ على الاستنباطات الفقهية والفهم اللغوي الذي يعززه المأثور أحيانًا، وعلى الجانب المتعلق بالتزكية والتطهر؛ لأن الغالبية العظمى أو الجمهرة كانوا يدخلون إلى رحاب القرآن أفرادًا يحملون هموم التزكية والخلاص الفردي، فيعطيهم القرآن من كريم عطائه ما تُخبت له قلوبهم، وتقشعر به جلودهم، وتتزكى به أنفسهم.

أما الذين يفضي القرآن إليهم بمكنون منهجيته فهم أولئك الذين يجثون بين يديه وملء عقولهم وقلوبهم ونفوسهم وجلودهم هَم عام وأزمة لم يجد أولئك لها حلًا من داخل أي نسق معرفي بشري سواء أكان موضوعيًا أو وضعيًا، فجاءوا القرآن ضارعين خاضعين يلتمسون الحل فيه وهم على يقين أن الحل لا يخرج عن محكم آياته، فليس للأزمة إذا استفحلت واستحكمت من دون الله كاشفة، فالسقف المعرفي له أثره على القارئ، ولكن لا ليقايس القرآن عليه؛ بل ليصوغ أسئلته منه، ويذهب بها إلى القرآن المجيد بحثًا عن الحل الشافي، وهنا يبرز أهم فرق بين عصر النبوة والعصور التي تليه؛ ففي عصر النبوة كان القرآن هُوَ الَّذِي ينزل على الواقع فيعالج مشكلاته، ولذلك ولدت فكرة (أسباب النزول) واهتم بها من علماء التراث مَن اهتم، وتطورت لتصبح – بعد ذلك – علم أسباب النزول[13]،  واحتل هذا العلم موقعه بين علوم القرآن.

أما في عصرنا هذا، فإنَّ الأمر قد اختلف، فنحن المطالبون الآن بأن نتقن دراسة وتحليل وفهم مشكلاتنا وصياغتها بصيغة السؤال، ثم نأتي بها إلى القرآن لنطرح بين يديه ونلتمس منه الجواب أو الهداية إليه، فنتلوه ونحاوره حتى نبلغ سبيل الرشد في أزمتنا. وهنا نستطيع أن ندرك أسباب فشلنا في العثور على حلول قرآنية لأزماتنا وإجابات شافية عن عويص إشكالياتنا ومسائلنا؛ لأنَّنا نقارب القرآن من زوايا مختلفة ليس المنهج من بينها. فبعض الأحيان نقاربه تعبدًا، ونقاربه بواسطة التفاسير بكل ما فيها، ونقاربه أحكامًا وفقهًا، ولكننا لا نقاربه مقاربة منهجية بحثًا عن كوامن (المنهجية الكونية التركيبية ومحدداتها) فيه، بل إن الأكثر لا يقرون بوجود منهج علمي في القرآن؛ فبعضهم ينكر ذلك جهلًا، وبعضهم ينكره لأسباب أخرى عديدة.

ولنطرح عدة أمثلة في هذا المقام لإشكاليات واقعية ومنهج قراءة القرآن لتوليد الإجابة من رحابه:

 – إشكالية التسيير والتخيير: هل الإنسان مسير في هذه الحياة أم مخير؟ علينا أن نتلو الكتاب كله ونجمع آياته ونرتبها بحسب دلالاتها المباشرة، ونبدأ بدراستها دون أحكام مسبقة، إذ الحكم هو للقرآن الذي جئته مفتقرا إليه وطرحت نفسك بين يديه تسأله الجواب الشافي، فتجد من مدخل (الجمع بين القراءتين) آيات عالم الأمر، وهي آيات العهد في ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتَهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: ۱۷۲ ، ۱۷۳] ثم آية إيجاد آدم وجعله خليفة في الأرض كما في سورة البقرة الآيات [٣٠ – ٣٩]، ثم عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال وحمل الإنسان لها كما في سورة الأحزاب [٧٢]، ثم آيات الابتلاء والتكليف، ثم نبدأ بتلاوة آيات عالم الإرادة، وفي مقدمتها الآيات التي تبين لنا طبيعة الإنسان وفطرته والدواعي والدوافع والغرائز والأشواق والمشاعر، وكيفية صياغته لإرادته ثم إيقاعه لفعله، وعلاقات ذلك كله بعالم (الأمر) وبالغيب، وتحديد مستويات العلاقة.

ثم ننتقل إلى الآيات المندرجة تحت عالم المشيئة لنرى كيف يكون الشيء بالأمر الإلهي (كن) شيئًا بعد أن لم يكن، وحين نفرغ من ذلك كله سنجد أولًا مؤشرات تؤدي إلى تصنيف مناسب لتوجيه كل آية كريمة وجهة لا تسمح بتلك الفوضى التي هيمنت على الدراسات الكلامية وسنجد الجواب الشافي في القرآن في نحو قوله تعالى ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا اباؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عندكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ، قُلْ فَلِلَّهِ الحجةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٨، ١٤٩]. إذًا فقد حكم القرآن بأن الإنسان مخير، وأنه مالك لحريته في الاعتقاد والقول والفعل والموقف، وسائر أنواع التصرفات الفردية، وأن عدم القول بذلك يعد هدمًا لسائر أسس التكليف بالإيمان وبالعمل معًا، إضافة إلى هدم أسس القواعد الأخلاقية. ولكن ينبغي ألا يغيب عن البال أن هناك قيودًا على هذه الحرية من الأسرة والمجتمع والنظام والدولة وما إليها، كما أن الإنسان في جانبه الطبيعي خاضع لسنن وقوانين الطبيعة من ضرورة أكله وشربه ونومه وتكاثره؛ فهذه كلها أمور ذات طبيعية جبلية، لكنها لا تنفي الأصل الذي أثبته القرآن من حرية الإنسان واختياره.

إشكالية السببية والاحتمالية: إنَّ علماء المناهج أعلنوا أن هناك أزمة كبيرة في المناهج المعاصرة، مع أن العلماء كانوا قد أضفوا قبل ذلك على المنهج صفة العصمة، إلا أنهم صاروا الآن يتحدثون عن أزمة المنهج العلمي المعاصرة، نحن نعرف أن أوربا حينما اكتشفت (المنهج العلمي) أدى ذلك بها إلى القيام بثوراتها المتلاحقة التي أوصلت الغرب اليوم إلى الثورة المعلوماتية والثورة التقنية العليا وبدأت العمل به لإيجاد المنجزات التي يعيشها العالم اليوم في الرفاهية التي صنعتها، والتي أوجدت أوضاعًا جديدة للبشرية.

وحين اكتشفت البشرية (العلم) آمنت به إلى درجة الكفر، وأعلن (نيتشه) أن العلم هو الإله الذي نحتاج إليه، وأنه ما دام قد ظهر العلم فقد مات الإله بظهور العلم، وبروز دور المنهج العلمي، وقد تمكن الإنسان بذلك المنهج وبالعلم الذي انبثق عنه من ناصية الطبيعة وصار يتحكم بناصية الحياة، وكان المنهج آنذاك يتصف عندهم باليقينية، حيث أيقنوا بدقة المنهج وقدرته الفائقة على أن لا يتخلف أبدًا عن الإنتاج، فإذا استخدم العلماء المنهج العلمي لإنتاج شيء ما فإن هذا المنهج لا بد أن يوصلهم إلى ذلك الشيء، وقال العلماء بناءً على المنهج أيضًا (بالسببية الجامدة أو الصلدة)، وأن المسببات إذا وجدت أسبابها فإنها توجد لا محالة. تلك الأمور صارت كلها مسلّمات علمية.

وفجأة اكتشف العلماء أنفسهم خروقات في المنهج العلمي ما كانوا إلى سنوات قليلة يتوقعون حدوثها، فأحيانًا تركب المقدمات وتوجد كلُها، ثم لا تحدث النتيجة التي كان يفترض أن تحدث حتمًا. فأدى تكرار ذلك إلى تساؤل العلماء ثم العمل على محاولة الكشف عن الأسباب والشروط الغائبة التي أوجدت تلك الاستثناءات التي تأكدت في بعض الحوادث في السنوات القليلة الماضية، منها سقوط مركبة الفضاء (تشالنجر)، حيث أكد العلماء في ناسا أنه ليس هناك أي خلل فني يفسرون به أسباب السقوط، وبقي ذلك بمثابة لغز محير لهم ولسواهم حتى اليوم، وكل ما قيل لم يكن يتجاوز فروضًا ضعيفة. وكذلك كولومبيا التي انفجرت قبل وصولها إلى الأرض بثوان، وكل الظروف الفنية والحسابات العلمية تؤكد أنها سليمة وستهبط بسلام، ولكنها انفجرت قبل هبوطها دون سبب علمي معروف وأمضوا شهورًا طويلة بل سنوات بالبحث المضني لمعرفة أي سبب علمي لهذا الأمر فلم يكتشفوا شيئًا لحد الآن. وما زال البحث جاريا ولم يعط إلى اليوم تفسير) علمي. وهناك حوادث كثيرة -تبعت ولحقت- قد مرت بالعلماء في العقود الماضية جعلت موقفهم من العلم والمنهج العلمي يحدث عليه بعض التعديل، ووجدوا بعد القول باليقينية أن عليهم التحول إلى القول (بالاحتمالية). ثم تحولوا عن القول بالسببية الجامدة، إلى القول (بسيولة الأسباب) في بعض الأحيان، وأنه قد توجد المقدمات أو توجد الأسباب ويتخلف السبب، ولكن ما التفسير العلمي لذلك؟ لا تفسير!!

أما القرآن المجيد، فإنه يقدم لنا جوابًا في غاية البساطة يحافظ به على المنهج العلمي؛ بل ويعزز الثقة فيه، وينبه إلى البعد الغائب عن ذهن المتعامل مع المنهج، وهو البُعد الذي حَرَمَه من الوصول إلى تفسير لهذه الظاهرة دون المساس بيقينية المنهج، أو صلابة السببية ألا وهو بعد الغيب. لقد استقر في العقل الأوربي أن العلم لا علاقة له بالغيب وهناك خشية لدى العلماء بأن يُربط العلم بالغيب؛ فذلك قد يجر إلى هيمنة الكنيسة -عدو العلم- من جديد؛ ولذلك فهم لا يريدون أن يقروا بأن هناك غيبًا، بل يريدون تفسيرًا علميًا يقدمه العلم نفسه ليفسر به عجز منهجه عن تفسير تلك الظواهر. أما القرآن الكريم فإنه يفسرها بوضوح، فيبين أن كل ما يحدث في الكون هو لا ينتج عن علاقة أو جدل بين الإنسان والطبيعة منفردين كما يؤكد العلم، ويدعي المنهج؛ لأن للإنسان والطبيعة خالقًا هو الله، وهناك الغيب. فحين يحتار العالِم الطبيعي في تفسير هذه الظواهر فلأنه لم يضع في حسابه بُعد الغيب ولم يدرك تفاعله مع الإنسان والطبيعة، وتوهم أن ما يحدث هو حاصل تفاعل بين الإنسان والطبيعة فقط. فلو أدرك الإنسان هذه المعادلة البسيطة: إنَّ هذه الطبيعة مسخرة، وأن من سخرها هو خالقها، وخالق الكون والإنسان، وأنَّه هو الذي يأذن لها أن تنتج أو لا تنتج، وأنها حين تنتج فإنَّما تنتج بأمره وفقًا لسنن خلقها، وقوانين قدرها، والإنسان قد يدرك السنن ويغفل عن معرفة خالقها.

هنا يتقدم القرآن لحل هذا الإشكال المنهجي ويستوعب أزمة المنهج، ويقول له: ما زلت أيها المنهج العلمي على شيء من حق، وما زال المنهج العلمي فاعلًا. وليكون على الحق، ولا يتخلّف، فذلك أمر لن تدركه حتى تستحضر البُعد الثالث: الإيمان بالله والغيب. تلك سنن الله لا تتغير. وخرق السنن وعدم إنتاج المنهج في بعض الأحيان تنبه إلى ضرورة الإيمان بالله، واستحضار بُعد الغيب، ولو حدث هذا لما احتاج علماء المنهج إلى اللجوء إلى القول بالاحتمالية والنسبية، مما قد يهدد البشرية كلها بفقدان إنجازاتها ويهمش العقل العلمي وإنجازاته، وقد يعيده إلى ظلمات العقل الخرافي غير المنضبط، وتدخل البشرية دورة تيه جديدة. إنَّ القرآن الكريم -في هذه الحالة– يعزز الموقف العلمي ويقوم بعملية تصديق عليه وتنقية له من جوانب النقص واستحضار للأبعاد الغائبة عنه، ويقوم بعد ذلك بالهيمنة عليه ووضعه في إطاره، واعتباره قائمًا على تلك السنن الثابتة التي لن تجد لها تحويلًا، ولن تجد لها تبديلا.

إشكالية الصدفة والقدر: أهناك مصادفة في الوجود الكوني والإنساني وحركتهما، أم لا مصادفة؟ وكل شيء بتقدير وحساب؟ على المجتهد الباحث أن يوجه هذا السؤال إلى القرآن، ثم يبدأ باستقراء آيات الكتاب الكريم آيةً آية لا بحسب الموضوع ولكن بحسب وحدة القرآن البنائية، ليجد في النهاية استحالة القول بوجود المصادفة أو قبولها، لا على مستوى “عالم الأمر” في بداية الخلق كله ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الدخان: ٣٩] و﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بطِلًا سُبْحَنَكَ﴾ [آل عمران: ۱۹۱] و﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥]. ولا على مستوى “عالم الإرادة” ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَمُوسَى﴾ [طه: ٤٠] ولم تأتِ مصادفة. ولا على مستوى “عالم المشيئة”: فكل مخلوق أو حركة أو سكنة في حساب وتقدير وتدبير ﴿إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفُ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ١٦] وحين تنتفي المصادفة[14]  تنتفي العبثية كذلك، وتستدعى الغائية قال ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ۱۱۵] ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدى﴾ [القيامة:36].

وهكذا نستمر بالعروج إلى القرآن بمشكلاتنا وأسئلتنا طلبًا للحلول والمعالجات والإجابات، وكلما اكتشفنا محددًا منهاجيًا إضافيًا أضفناه إلى المحددات المنهاجية القرآنية، وكلما زادت كشوفنا عن تلك المحددات زادت وتضاعفت قدراتنا المعرفية والمنهجية ومداخلنا التفسيرية للظواهر المختلفة وفقًا لسقفنا المعرفي العالمي الراهن. لقد كان الإنسان في عصوره المختلفة يصوغ إشكالياته وفقًا لسقفه المعرفي وإمكاناته العقلية، ففي طور العقل الفطري تصاغ الإشكاليات انطلاقًا منه، فإذا ذهب الإنسان بأسئلة عقله الفطري إلى القرآن فإن القرآن يجيبه عنها وفقًا لذلك المستوى، فإذا انتقلنا إلى العقل الموضوعي تغيرت القضايا المثارة وتغيرت صياغة الإشكاليات انطلاقًا منه، وقدمت إلى القرآن ليجيب عنها بحسب أطوارها وصياغتها فلا يعجز عن استيعابها، ولا يتوقف عن تجاوزها.

السنن الكونية في القرآن:

نبه القرآن العقل الإنساني إلى أن يلاحظ ويجرب ويكتشف قوانين الكون وسننه التي لا تتبدل ولا تتغير، تلك القوانين التي أخضع الله ﷺ لها الطبيعة والكون والحياة ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣]. إنَّ القرآن المجيد يقدم لنا مجموعة من قوانين وسنن كونية ثابتة لا تحتاج البشرية للكشف عنها سوى استخدام الوسائل التي أتاحها الخالق العظيم لنا من سمع وبصر وفؤاد بالفاعلية المطلوبة، فهي قوى وعي قائمة فينا.

ومن القوانين والسنن القرآنية قانون التلاشي[15]  حيث يرد ما قاله حكاية التوصية لقمان لابنه ﴿يَبْنَى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفُ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ١٦]. لكن المفهوم الذي تقاربه به فلسفة العلوم الطبيعية يعرفه بأنه العدم المحض، لكن القرآن له مفهومه الخاص؛ فلا شيء يتلاشى إلى الفناء المحض بعد أن خُلق وأدرج في سجل المخلوقات إلا بعد انتهاء دورة هذه الحياة، وحتى ما يستهلكه الإنسان والحيوان والنبات لا يتلاشى بحيث ينعدم وينتهي، بل إن كل شيء يدخل دورة الخلق والحياة إلى أجل هو بالغه بقدر الله وحكمته ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: ٤٨].

 ومن القوانين والسنن الكونية القرآنية كذلك قانون التحديد والتقدير وهو قانون من القوانين الكونية البالغة الدقة، وهذا القانون ذاته هُوَ الَّذِي أطلق العلم الحديث عليه اسم المادية الجامدة أو القوانين المثقالية الأساسية أو قوانين الميكانيكا، وأحيانًا يطلقون عليها القوانين التقليدية، وهي تقابل القوانين الفيزيائية الأحدث اكتشافا.

وقانون التحديد والتقدير هذا ينعكس قرآنيًا على ما لا يتناهى في كبره، وهو «الكون» في كبره واتساعه ولا نهائيته، يدل عليه قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءَايَتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرُ مَا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: ٥٦، ٥٧]. كما ينعكس على مجمل عالم الشهادة سواء أكان عالم الإنسان أو عالم الطبيعة فينعكس على قوانين العلوم الطبيعية وعالم الأشياء كلها ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْتَهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر : ٤٩] ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ [الزخرف: ١١] ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: ١٨] ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: ٢٧] ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٣٨ – ٤٠].

ولو تتبعنا الآيات الكريمة التي تناولت قانون التحديد والتقدير بشكل مباشر وبشكل غير مباشر لبلغت مئات، وقانون والتحديد بمعناه القرآني يستطيع أن يأخذ بزمام القوانين الجامدة، ويقوم بترقيتها وتجاوزها في إطار تشغيل قوانين الفيزياء والقوانين السائلة دون الحاجة إلى تهديد المنهج العلمي بالنسبية والاحتمالية.

والقرآن لا يعادي أو يرفض من منطلق لاهوتي أي منهج علمي تجريبي، بل يستوعبه ويصلحه وينقيه، ثم يتجاوزه، وكذلك يفعل مع الأنساق الحضارية، ﴿إن أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ [هود: ۸۸]، فمنهج النبوات هو الإصلاح وليس النسف والتبديل الجذري، وهو ذات المنطق الذي يتمكن القرآن به من تجاوز الثنائيات المتصارعة، وتوحيدها في الغايات والمقاصد لترقيتها وتنقيتها من أسباب الصراع، ومن خلال الغاية الموحدة يبني الأرضية المشتركة.

 

القرآن والسنة: رؤية منهجية

حين نتحدث عن المنهج المعرفي القرآني يتبادر إلى ذهن البعض سؤال: وماذا عن السنة النبوية من قول وفعل وتقرير، ألا تعد مصدرًا موازيًا للقرآن في مجال بناء المنهج واستيعابه وتجاوزه أم تُعد مصدرًا مكملًا؟ وهل يمكن للسنة أن تستقل في بناء المنهج؟

أمام هذا الإشكال الذي لا يمكن تجاهله لا بد من تحديد العلاقة بين الكتاب والسنة تحديدًا منهجيًا، فما طبيعة العلاقة بين الكتاب والسنة في الدائرة المنهجية؟ والعلاقة في الإطار المنهجي تختلف عن العلاقة في الإطار الفقهي أو الكلامي أو أي إطار آخر.

إن قضية العلاقة بين الكتاب والسنة من أخطر قضايانا المعرفية بالرغم من وضوحها قرآنيًا، وقد اضطربت فيها أقوال ومذاهب الناس اضطرابًا لا مزيد عليه، مما زاد الموضوع غموضًا وتعقيدًا شأنها في ذلك شأن كثير من القضايا السهلة الميسرة التي دخلها التعقيد نتيجة الجدل والسجال الذي دار بعيدًا عن الأسباب الموضوعية، وبادئ ذي بدء لا بد من ملاحظة الأصول التالية:

أولًا– ما من عالم من علماء الأمة -بقطع النظر عن انتمائه المذهبي أو الطائفي- ينكر حجية السنة أو ينفي كونها بيانًا عمليًا تطبيقيًا لمنهج الاتباع المعصوم للكتاب الكريم، وملزِمًا لا يُستغنى عنه في هذا المجال عندما نفتقد بيان القرآن للقرآن كما نص على ذلك الإمام الشافعي في الرسالة.

ثانيًا– لم يخالف أحد من أهل العلم أن الله سبحانه قد أمر رسوله بتلاوة الكتاب على الناس، وتعليمهم إياه وتزكيتهم وتطهيرهم به، وذلك يقتضي ولا شك أن تكون أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته دائرة حول محور الكتاب، فأقواله بيان وتوضيح لمنهج التلاوة والترتيل والتدبر، وأفعاله تطبيق لذلك المنهج، وتصرفاته وسلوكياته بيان وتطبيق وتقديم للنموذج والمثال لتتاح للبشرية فرص التأسي به ﷺ، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة: (كان خُلُقه القرآن) جوابًا على سؤال وجه إليها حول خُلقه ﷺ، وفي الحُكم أمره الله أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وفي التعليم أمره الله أن يعلمهم الكتاب والحكمة التي يشتمل عليها ويزكيهم ويطهرهم به.

ثالثًا– لم يقع خلاف بأن ما يثبت صدوره عن سيدنا رسول الله ﷺ من قول نطق به أو فعل قام به، أو أمرٍ أقره وثبت بشكل لا مراء فيه، فإنه لا يمكن لأحد من أهل دين الله أن يتجاهله أو يتجاوزه، أو ينفي حجيته في منهج الاتباع والتأسي، فإن السنة قد جاءت بالتفصيل، والأمر والنهي، وبيان المستحب والمكروه، وتحديد المعروف والمنكر، لقوله ﷺ: (ألا إنني أوتيت القرآن ومثله معه) -أي من البيان وطاقات البيان- (ألا إن من رغب عن سنتي فليس مني). فليس من مشروعنا أو من أهدافه في شيء نبذ قول النبي ﷺ وفعله أو استبعاده وتهميشه، لأننا نعرف أكثر من غيرنا أن النبي ﷺ قد تنبأ بقوم يسمون أنفسهم بالقرآنيين، يقولون ما وجدناه في كتاب الله أتيناه وما لم نجده لم نأته، وأنه سماهم (كلاب النار)، وكل ما في الأمر أننا نحاول ترسيم منهج علمي ذي مصدر ثابت لا يختلف عليه أحد، وتوضيح معالمه وإجراءاته ومقارباته، والسنة تساعدنا في هذا.

رابعًا– لم يقع خلاف في أن أصول السنة التشريعية كلها في القرآن، يقول الإمام الشافعي: (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها)[16]. وما جاءت به السنة ولم يدل عليه دليل جزئي مباشر، فإنه يمكن بقليل من التدبر أن يندرج تحت كليات القرآن ومقاصده، ولكن الجدال والسجال بين أهل الرأي وأهل الحديث أفرز مقولة «استقلال السنة بالتشريع»، استقلالًا تامًا، وبالتالي فقد عدوا السنة دليلًا مستقلًا يكون قاضيًا أحيانًا على الكتاب، أو ناسخًا له، أو مخصصًا أو مستقلًا بإنشاء الأحكام، لا كاشفًا عن أحكام القرآن ومبينًا لكيفية تطبيقها وتنزيلها في الواقع لما ورد القرآن الكريم بذلك، وكل ذلك من الأمور الخلافية بين العلماء. وقد ازداد تأكد هذه المقولة حين وردت في السنة عدة روايات لم يتعرض لها القرآن المجيد مثل قضايا الرجم والردة.

خامسًا– كما أبرز العقل الفقهي مقولة التراتب بين الأدلة أو مصادر الفقه لأغراض تعليمية، فاعتبر الكتاب دليلًا ومصدرًا أول، والسنة دليلًا ومصدرًا ثانيًا، وقد رتب العقل الفقهي هذا التراتب تأثرًا بمبدأ القطع والظن، ولتستقيم المنظومة التي أسسها العقل الفقهي لمفهوم الخطاب ومستوياته وتقسيماته، وذلك قد يكون أول تمييز برز للساحة الفكرية بين الكتاب والسنة أدى إلى بروز إشكالية العلاقة بينهما.

سادسًا–  لكن أخطر ما اشتد الخلاف فيه واحتدم الجدال حوله -خاصة فيما لم يكن من السنة التشريعية التي لها في الكتاب أصول تدل عليها، وتستدعي بيانها وتطبيقها- تلك الطرق والوسائل التي تُروى السنن بها عن رسول الله ﷺ إلى الناس، وهي طرق الإسناد، وعنها برزت إشكالية الرواية بالمعنى التي تقوم على فهم الراوي وليس على نص رسول الله ﷺ، وإشكالية صحة الإسناد مع تعرض المتن إلى شذوذ أو علة قادحة أو عدم الصمود أمام مقاييس نقد المتون، وإشكالية خبر الواحد، حيث أثير جدل كبير حول حجيته وميادين ومجالات تلك الحجية، وقد واجه العقل الفقهي هذه الإشكالية بأن لجأ إلى التسوية بين الكتاب والسنة في كونهما وحيًا، بحيث تم تجاهل الفروق الجوهرية بين الكتاب الكريم والسنة النبوية، وعُدّت كل الفروق بمثابة فروق شكلية مثل الإعجاز والتحدي والتعبد بالتلاوة وتجاوز لوازم الحكم من إنشاء وكشف عن الحكم؛ وذلك لحمل السنة على الكتاب والتسوية بينهما في الحجية بقطع النظر عن طريق الثبوت.

سابعًا– إن آيات الأحكام في القرآن المجيد لا تجاوز نسبتها عشرة في المئة، وأحاديث الأحكام بالنسبة لسنن وسير رسول الله ﷺ لا تبلغ هذه النسبة، وما بقي ففيه قصص وأمثال ومواعظ وتعليم وإفتاء وتاريخ إضافة إلى الممارسات الحياتية العادية، وهذه أمور تربوية وتكوينية، لا تندرج تحت الأحكام التكليفية إلا إذا ورد الدليل المستقل بإدراجها، فيفترض أن تستخلص منها العبر والدروس والمناهج بكثير من المرونة التي نفتقدها في آيات وأحاديث الأحكام.

   فإذا لوحظت هذه الأمور، تبيَّن أنَّ الجدل التاريخي بين الأصوليين والفقهاء من أهل الرأي وأهل الحديث إنَّما هو جدل وسجال خاص بأحاديث الأحكام أو في السنن التشريعية، وأن كلًا من الفريقين وضع في مذهبه من الشروط والمواصفات ما يجعله يصل إلى القناعة التامة بصحة الحديث لكي يتخذ منه بيانًا لما جاء في أصل الكتاب قبل أن يلجأ إلى الذهاب إلى البيان بالاجتهاد، وحين نفهم ذلك فإن الخلاف يبدو آنذاك يسير الخطب قليل الخطر، لا يحتاج إلى اللجوء إلى التكفير والتفسيق والعياذ بالله والتي برزت فيما بعد اشتداد الجدال بين الفريقين.

إنَّ القرآن المجيد -فيما أومن به وأدين لله به- هو المصدر المنشئ الوحيد للمنهج وتتكامل السنة الثابتة به، الدائرة معه في جانبها الموحى معه بوصفها المصدر المبين على سبيل الإلزام. كما أنها المصدر التطبيقي الذي يقدم للبشرية نموذج التأسي بما يشتمل عليه من ترجمة عملية للهدي القرآني ونقله إلى سلوكيات إنسانية تندرج فيها المواقف التاريخية بأبعادها الزمانية والمكانية.[17] أما ما بقي من السنة الصحيحة فهي كما نص الشاطبي مثلها مثل السنة جملة: (.. راجعة في معناها إلى الكتاب؛ فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، أما القرآن فهو كلية الشريعة وينبوعها … ولأن الله جعل القرآن تبيانًا لكل شيء: فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة في جملته…) أي مبينة به حجية ودلالة، كما هو يبين بها، تبليغًا وتطبيقًا ومنه أقول: واتباعًا وتأسِيًا.

وهذا نظر دقيق من أبي إسحاق يستوعب سائر أنواع الجدل الذي دار ولا يزال يدور في بعض الأوساط المتعجلة حول طبيعة العلاقة بين الكتاب والسنة، ويجعل منها علاقة لا انفصام لها منهجيًا في سائر مجالات الاجتهاد والإبداع المعرفي، وما قد يبدو من انفصال أو اختلاف فإنه منحصر في طبيعة كل منهما، وفي دوره في ذلك المجال، فالقرآن المجيد يتصف بالإطلاق، وتتصف السنة بالتقييد والتحديد، والأول كلام الله -تبارك وتعالى– والثاني كلام رسول الله ﷺ وفعله وتقريره.

وفي الكتاب الكريم  تنظير  -كما نعبر في أيامنا هذه- وفي السنة تطبيق، وفي القرآن خطاب وفي السنة بيانه وتأويله العملي والقولي؛ ولذلك كان لكلٍ منهما منهجه في التعامل وأدواته، والاختلاف في مناهج التعامل وأدواته لا يغير من طبيعة العلاقة بينهما في الاستنباط المنهاجي، والتراتب بينهما الذي أكد الفقهاء عليه -وعززوه بحديث معاذ- ما كان ينبغي أن يكون مؤثرًا في حقيقة العلاقة أو عليها، وما كان ينبغي أن يخرجها من دائرة التكامل إلى دائرة التغاير والترتيب الهرمي، ومن الدائرة الكلية إلى الإطار الجزئي، ومن الإطار الموضوعي إلى الإطار الشكلي، ومن الإطار المفاهيمي المنهجي إلى الإطار التجزيئي الاصطلاحي، خاصةً وحديث معاذ لا يصح مرفوعًا ولا موقوفًا.

القرآن والسنة ومفهوم الإطار المرجعي:

والذي ندين الله به هو حصر دائرة إنتاج مفاهيم (الإطار المرجعي) في جانبها المصدري والتنظيري في الكتاب الكريم بوصفه المصدر المنشئ والسنة الثابتة بوصفها المتكاملة معًا والمصدر المبيِن. وأما تطبيقات الصحابة -رضوان الله عليهم- وفهمهم، فإنه خاضع كله لمقاييس الكتاب وموازينه وتصديقه وهيمنته، ولمقاييس السنة وموازينها. ولا ينبغي أن يشغلنا الهاجس الفقهي الذي شغل المتقدمين بناءً على تصورٍ يحتاج إلى مراجعة وموازنة ونقد، وهو تصور (تناهي النصوص وعدم تناهي الوقائع)[18]، الذي ضغط بشدة على العقل الفقهي المسلم لإضافة كثير من المصادر التي لا ترقى إلى مرتبة المصدرين المنشئ والمبين، ومن ذلك القول (بحجية قول الصحابي)، وامتداد عصر النص، وعمل أهل المدينة وغير ذلك من أمور اختلطت فيها معاني المصادر بالوسائل وبالغايات اختلاطا شديدًا؛ فتأثرت بذلك ضوابط وملامح مصادر ومفاهيم الإطار المرجعي في عملية البحث في القرآن المجيد، وبيانه النبوي الملزم للخروج بأحكام فقهية تقييمية لتقييم  الفعل الإنساني بقيمتي الثواب والعقاب أو المدح والذم، وذلك الفعل يظهر ويصنع غالبًا في الواقع خارج الأدلة، ثم تسقط الأدلة عليه، أو تُجهز وتهيأ لكي تسقط عليه عندما يحدث، في حين أننا في حاجة إلى مصدرنا المنشئ وبيانه الملزم لوضع قواعد صياغة الدواعي وتقييم الفعل الإنساني بحيث ينبثق الفعل الإنساني بدوافعه ودواعيه، وكمية الإرادات اللازمة له منهما فيكون القول سديدًا، والفعل رشيدًا، ثم تأتي مرحلة التقييم النهائي في نور وهداية القيم القرآنية العليا الحاكمة: التوحيد والتزكية والعمران.

إن الأحكام الفقهية الجزئية وسائل صياغة وحفظ وتسديد ودعم في إيقاع وحفظ وصيانة وتسديد ودعم (الفعل العمراني)، وهنا تصبح مفردات الخطاب القرآني مفاهيم في جملتها تقوم بينها علاقة ترابط لا تنفصم تضعها في إطار (الوحدة البنائية) في الآية ثم في السورة فالجزء فالقرآن، وتدرك علاقات (التناسب البلاغي) في دائرة  (الترابط الإعجازي المفاهيمي)، وتتقاسم هذه المفاهيم الأدوار في صنع بيئة الخطاب ودائرة الخطاب وإطار التلقي، والاشتباك مع ذلك كله لإحداث الدافعية لدى الإنسان لإيقاع الفعل العمراني، ثم منحه الشرعية والفاعلية، وهنا فقط تبرز المنهاجية وتتضح معالم المنهج، ويبرز دور مصادر ومفاهيم الإطار المرجعي وتظهر العلاقة الوثيقة بين الأطر المرجعية والمفاهيم المنبثقة عنها، والمتصلة بها -وهي علاقة جدلية– فحيث يقدم الإطار المرجعي الناظم للمفاهيم فإن دعائم الإطار تقدمها المفاهيم[19].

فكأن العلاقة بين المفاهيم والإطار المرجعي الكلي علاقة جدلية، والإطار المرجعي هنا يكاد يأخذ شكل (النموذج الأكبر) في الاصطلاح الذي يلاحظ (النماذج المعرفية) أو (نموذج النماذج)، ومن هنا قد يظهر شيء من التنوع أو التعدد في الإطار المرجعي، لكنه تنوع وتعدد في إطار الوحدة التي تتمثل في الإطار المرجعي الكلي، وكل من الإطار المرجعي والمفاهيم مما لا غنى عنه في المنهجية، فالمفاهيم هي اللبنات التي بها تبنى المنهجية وعليها تؤسس.

السنة النبوية: منهجية اتباع وتأس وتأويل:

إن هناك فروقًا دقيقة بين قول الله ﷺ الذي وصفه المتكلم به -جل جلاله- بأنه قول ثقيل: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثقيلا﴾ [المزمل: 5] والسنة النبوية؛ قولية كانت أو فعلية أو تقريرية، من حيث الإطلاق والنسبية، والقطع والظن، والإعجاز والغائية والمقاصدية والتعبد من عدمها، بينها وبين القرآن فروق جوهرية لها انعكاساتها المهمة على مفهوم المنهج.

 كذلك ينبغي لنا أن ندرك الفروق الكبرى بين واقع عصر الرسالة على عهد خاتم النبيين ﷺ وعصرنا هذا، ففي عصر النبي وبيئته كان رسول الله ﷺ بسيرته وسنته يمثل البديل عن المنهج، حيث كانت اللغة العربية لا تزال فصحى لم تخضع بعد لتأثيرات العجمة، فكانت قريبة جدًا من لسان القرآن، واللغة تشتمل على منطق، لكنها لا تولد من منهاج أو تلد بنفسها منهاجًا، لذلك كان النبي ﷺ بديلًا عن المنهج، فهو الذي يتلقى الوحي، وهو الذي يواجَه بالأسئلة ويستدعي الجواب القرآني عليه ويتشوف إليه وينتظره، فإذا نزل قام بتنزيله على الواقعة -السؤال- وترجم ذلك إلى فعل أو حركة في الواقع. ويغلب أن يتعلق الجواب القرآني على أسئلة تلك المرحلة بتقييم الفعل الإنساني وتعريف الإنسان بقيمة فعله من خلال مراتب خطاب التكليف دون تجاهل أو جهل لخطاب الوضع، وفي الوقت نفسه يظهر هذا الفعل من خلال الكون باعتباره ميدانًا للتسخير وبيئة لعالم التشيؤ، فيظهر فيه أثر ذلك الفعل الإنساني في الزمان والمكان والأرض؛ ليضفي على الكون من خلال تأثير ذلك الفعل القيمة المناسبة له بقطع النظر عما إذا كان ذلك الفعل من قبيل أفعال العمران المسددة بالله ﷺ أو من قبيل (العيث في الأرض فسادًا)، ويُظهر صاحبه ما إذا كان أحسن الخلافة وأدى الأمانة، أو لم يقع منه شيء من ذلك، وذلك لإزالة عبثية الجاهلية والأديان المحرفة ورد الاعتبار إلى الإنسان وفعله.

إذًا في عصر النبوة تكون الخطوة المنهجية الأساس هي اتباع النبي ﷺ والتأسي به والاقتداء به وطاعته في المنشط والمكره، وهو يمارس تأويل القرآن إلى عمل وسلوك في واقع يضع ﷺ معالمه؛ وبذلك يعظم دور الحفظ للسنة وروايتها لتمكن الناس من التأسي به بعده، إذ التأسي هو التعويض الحقيقي عن المنهج، ولذلك لم يبعد المتقدمون الذين فسروا (المنهاج) في قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، فقد أدركوا أنَّ المصدر المنشئ للأحكام والمختص بالحاكمية هو الكتاب الكريم، وأما السنة فتشتمل على منهجية التأويل والتفعيل والاتباع والتطبيق التي تشكل البديل عن المنهج العلمي، وآنذاك يصبح القول بعصمة النبي ﷺ ليس ضروريًا فقط، بل ومنطقيًا كذلك؛ لأنه المنهج الصارم فلا ينبغي أن يتطرق الاحتمال إلى استقامته وصرامته في الضبط، وحتى القول بعدالة الرواة واشتراطها فيهم بكل طبقاتهم وضرورة التأكد منها تصبح قضية منهجية مفهومة.

ثم إن للسنة المطهرة مراتب، أعلاها تلك السنن المبينة لما ورد في الكتاب الكريم في العقائد والعبادات والأخلاق والتشريعات والمعاملات، وهي سنن ارتبطت بآيات الكتاب الكريم عضويًا، وهي محفوظة بحفظه تستدعيها آيات الكتاب وتنبه إليها، وتقود إليها، وهي تبين كيفية تنزيل آيات الكتاب في واقع الحياة، فهي سنة مستمدة من تفاعل دائم مستمر مع الكتاب لا تبتعد عن محوره و مداره، بل تدور معه حيث دار، ولو علت الهمم لدى بعض الباحثين -خاصة في مجالات السنن- لأمكن الكشف عن هذه السنن من القرآن ذاته، ولا نبالغ لو قلنا: إن القرآن هو مصدر هذا النوع من السنن، فمنه خرجت وإليه تعود ومن تصديقه عليها وهيمنته تستمد حجيتها. ومن السنن مواعظ تربوية ونصائح حكمية فعلها رسول الله ﷺ وأمر الناس بها انطلاقا من أمره تعالى له: ﴿وَعِظُهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغَا﴾ [النساء: ٦٣]. وهناك أقضية وفتاوى ومعالجات لمشكلات قد تتكرر وقد لا تتكرر، وهذه قد بحث المتقدمون -رحمهم الله- فيها ووضعوا لها كثيرًا من القواعد التي تحتاج إلى أن تتبلور وفقًا للتطور المنهجي والمعرفي، ويُبنى عليها ويضاف إليها ويحذف منها، فهناك فتاوى نص على خصوصيتها: (حلت لك ولا تحل لأحد بعدك)[20]. وهناك أقضية بنيت على ظواهر الأدلة وكانت قائمة على قناعته ﷺ بتلك الظواهر، ولذلك قال: (إنَّكم تختصمون إلي، وإنَّ بعضكم ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما سمعت)[21]، وهناك مواقف بُنيت على الرأي ولم يكن الصحابة يترددون في مناقشته فيها، وقد ينزل رسول الله ﷺ عن موقفه ويتبنى ما ذهبوا إليه كما في غزوة بدر وما جرى في مسألة الأسرى. وهناك أقوال وأفعال فطرية طبيعية، دلالاتها لا تتجاوز بيان المشروعية لمن أراد معرفة ذلك، وتأكيد بشرية الرسول ﷺ.

فالسنة في أعلى مراتبها تتصف بالبيان والتأويل والتفعيل في الواقع، ولا يتصف شيء بالبيان، إلا إذا كان هناك ما يحتاج إلى البيان، وليس بكافٍ أن نقول: إن في القرآن مجملًا ومطلقًا ومشتركًا ومتواطئًا ومجازًا وغير ذلك من مصطلحات بنيناها وأسقطناها على القرآن المجيد، وأدرجناها تحت ما ظننا بناء على قواعدنا أنه يحتاج إلى البيان من القرآن، ومع أن الباري نفى عن كتابه كل عيوب الكلام التي عرفها كلام البشر -ومنهم الأنبياء- لكننا أصررنا على القول بافتقار كثير من آياته إلى البيان، في هذا القول أثر من أنظارنا البشرية القاصرة إضافة إلى آثار ما ذكروا من وصف الآيات بالإجمال والإطلاق والاشتراك وما إليها انطلاقا من المعنى اللغوي المجرد وقواعد اللغة التي بنيت على كلام العرب المألوف لديهم، وقد نبه القرآن المجيد إلى إعجاز لسانه ولغته واستيعابها للعربية وتجاوزها لها، وليتهم صاغوا مفهوم البيان صياغة قرآنية، إذن لوجدوه ينعكس أول ما ينعكس على تطبيق معاني الكتاب وترجمتها إلى واقع بحياة الناس، ويمارسونه، وذلك يجعلها منهجًا لتأويل القرآن المجيد.

وإننا لنجد أن التعبير عن المجردات بالأفعال من منهج القرآن، حيث نجد أن القرآن يعبر عن معاني تجريدية مثل: العقل والنفس والشكر والإيمان والكفر وغيرها بصيغ الأفعال؛ لتحدث في عقول النخبة والقادرين على فهم وممارسة الفكر المعاني التجريدية، وتقود بقية فصائل الأمة -في الوقت نفسه- إلى التطبيقات العملية بحيث يجعل الإنسان دائمًا يبحث في كيفية التطبيق والتنفيذ والتحويل إلى واقع؛ لئلا تستغرق التأملات فكر الإنسان، ولئلا يبدد طاقات الأمة في الفرضيات المجردة، ومثال ذلك: كلمة (عقل) في القرآن وردت بصيغة الفعل(يَعْقِلُونَ) و(تَعْقِلُون)، وفي بعض الأحيان تنبه الآيات إلى آلة ذلك الفعل: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذانُ يَسْمَعُونَ مَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَرُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:٤٦] ولعل في ذلك تنبيهًا إلى كيفية التطبيق، وفي الوقت نفسه لا يحرم أولئك من ممارسة الفكر التجريدي مع العمل، فالقرآن مأدبة الله للجميع.

ونرى كذلك أنَّ اللغة مهما اتسعت ومهما اتضحت، ومهما انفتحت، ولو بلغت حد الإعجاز –مثل لغة القرآن- لا تستطيع أن تحمل بطبيعتها -وما ينبغي لها أن تحمل- من صيغ الأفعال وصورها العملية وأشكالها التطبيقية ودقائق تفاصيلها ما يحمله الفعل، فكان لا بد من توسط القدوة النبوية المعصومة المسددة، للقيام بالبيان الفعلي الحركي التجسيدي في الواقع الذي يسمح للآخرين أن يقرأوا آيات الكتاب ويروا بيانها وتأويلها النبوي، ويروا كيف يكون اتباع النبي ﷺ للقرآن فيتمكنوا بذلك من الاتباع الدقيق له، وتأويل ما جاء فيه بتطبيقه وإيجاده في الواقع ثم روايته ونقله إلى الأجيال القادمة ليتأسوا به.

إن الباحث في اختلافات العلماء يستطيع أن يرى كيف اختلفت روايات السنن، ومنها روايات الأمور التي تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات كألفاظ الأذان والإقامة واختلاف رواياتها بين الإفراد والتثنية، واختلاف الروايات في بعض ألفاظها، وكذلك قراءة الفاتحة بخصوصها، أو أيَة آيات أخرى، وقراءة ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ في بدايتها، وقول (آمين) في نهايتها، والإسرار والجهر، وكذلك اختلفت الروايات في بعض أعمال الحج والزكاة والقصر والإتمام وبعض أحكام الصيام، واختلف الفقهاء بناءً على اختلافها. من هنا يتضح أن السنة المطهرة منهجية تأس واتباع واقتداء وتأويل لآيات الكتاب -أي تنزيل على الواقع- في جملتها، أما جزئياتها فينبغي أن ترد إلى كلياتها، ثم ترد كلها إلى الكتاب الكريم، فهو المصدق لها والمهيمن عليها؛ لأن المفردات والجزئيات لا يمكن أن تكون منهجًا، وإلا لتعددت المناهج -إن صح نسبتها مناهج- وصارت بحاجة إلى منهج لضبطها وهكذا، بحيث يلزم عن ذلك ما يسميه المناطقة بالدور، فلو فرض أن مجموع ما جاء في كتب الحديث المطبوعة والمخطوطة والمكتشفة وغير المكتشفة مليون حديث فهل يكون علينا أن نضع مليون منهج؟

إذن، فما يمكن أن يندرج تحت مفهوم (منهج) هي تلك السنن المطبقة لتعليمات وأوامر الكتاب الكريم، فهي بيان تطبيقي يقترن فيها في كثير من الأحيان القول بالعمل، مثل: (صلوا كما رأيتموني أصلي)[22]، ثم تأتي صفة صلواته ﷺ ليقترن القول مع الفعل في تنزيل معاني القرآن على الواقع. وهذه شاملة للعقائد والعبادات والأخلاق والتشريعات الثابتة ونزر يسير من قضايا المعاملات، وهذه هي التي يصدق القرآن عليها ويهيمن، ويخرجها من ارتباطها النسبي في الواقع التاريخي.  

وحين نؤكد على مفهوم الوحدة البنائية للكتاب، فإنَّ السنة المرتبطة به تتصف بالوحدة كذلك؛ فرسول الله ﷺ واحد، ومقاصده وغاياته موحدة، وما جاء من سنته تطبيقًا بيانيًا للقرآن المجيد الذي أنزل عليه فإنه يجمع بينه وبين القرآن في إطار تلك الوحدة، فلا تتناقض السنة والقرآن في شيء، ولا تنسخ القرآن ولا ينسخها، بل تنضم إليه وترتبط به، وهو يصدق عليها ويهيمن، كما يصدق على تراث النبوات السابقة لرسول الله ﷺ ويهيمن عليها.

لقد أثار علم أصول الفقه عددًا من القضايا الشائكة في السنة التي يمكن إدراك نتائجها إذا أدركنا مفهوم البيان وعلاقة السنة بالقرآن:

أولًا: اختلاف الأصوليين في أفعال النبي ﷺ اختلافًا شديدًا بلغت أقوالهم الأساسية فيها أربعة أقوال انقسمت مدارسهم عليها؛ ذلك لأن الفعل ليس كالقول يمكن إخضاعه لقواعد اللغة، فالأمر صيغته (افعل) والنهي (لا تفعل)، فإذا جاء ما يصرف الأمر والنهي عن المراد الحقيقي منهما فهناك تصنيفات أخرى. أما الفعل فإنه يحتاج إلى دراسة الواقع ومعرفة كيفية إيقاع ذلك الفعل على وجه الدقة، وما هو الإشكال بالضبط؟ وما الذي اقتضى إيقاع هذا الفعل من آيات الكتاب؟ وتلك جهود ليست سهلة أو ميسرة، فإدراك ذلك يقتضي معايشة عصر النبوة معايشة تامة حتى لكأن الإنسان يعيش فيه، وذلك أمر تَحُول دونه أسباب كثيرة، ولذلك فإنَّ النموذج اللغوي هُوَ الَّذي ساد لسهولته ويسره وقدرته على إصدار تقييم للفعل الإنساني بشكل أسرع وأيسر، في حين أن الفعل -في عصر الرواية- قد تُرجم إلى قول، فصار قولًا ورواية يتعامل المجتهد معها من ذلك المنطلق!

ثانيًا: تشريكهم في مباحث اللغات الأصولية بين الكتاب والسنة، وتجاهل سائر الفروق التي ذكرناها، وذلك قد هيأ الأذهان لإعطاء السنة مرتبة موازية للكتاب بحيث صار الاختلاف الوحيد الذي يشار إليه بينهما هو التراتب، فالكتاب يحتل المرتبة الأولى في مصادر التشريع، والسنة تحتل المرتبة الثانية، وهذه ليست بالنظر إلى الواقع ونفس الأمر، بل بالنسبة إلى نظر المجتهد. ثم يأتي الإجماع، ثم القياس أو دليل العقل وهكذا. والحق أن كل ما عدا الكتاب الكريم مصادر بيان وأدوات ووسائل منهاجية ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَصِلِينَ﴾ [الأنعام: ٥٧] ﴿أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبينَ﴾ [الأنعام: ٦٢] ﴿وإن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٤٠] أما القرآن المجيد فهو -وحده- ولا شيء غيره المصدر المنشئ للأحكام.

وقد كان لهذين الأمرين أثرهما الخطير في تجاهل إطلاقية القرآن الكريم ونسبية السنة، وهي قضية في غاية الخطورة في الإطار المنهجي، وهي بالإضافة إلى ما أدت إليه من التسوية المطلقة بين الكتاب والسنة، جعلت العقل المسلم المعاصر يستمر في التمسك بفكرة (تنزيل النص على الواقع)، وليس (رفع إشكاليات الواقع -أي واقع- إلى القرآن)، ليجيب عنها في كلياته وقيمه الحاكمة وغاياته ومقاصده، وأدلته الجزئية أحيانًا، موظفًا منهجية التطبيق النبوي، والبيان النبوي، والتأويل النبوي بمفهومه القرآني لتحقيق التأسي والاتباع، وهذان الموقفان هما اللذان أفرزا كثيرًا من الأفكار الغثيثة في الماضي، منها فكرة (تناهي النصوص وعدم تناهي الوقائع)، الذي سحب صفة الإطلاق من الكتاب الكريم ليلبسها للوقائع الحادثة الزائلة التي عدها بعضهم مجرد أعراض تظهر ثم تتلاشى. ومن ذلك أيضًا فكرة النسخ والتناسخ بمعانيه الأربعة (الإزالة، الرفع، البيان، الإبطال) بين الكتاب والسنة عند توهم المجتهد التعارض بينهما.

وكذلك قول بعضهم: إن السنة قاضية على الكتاب، وأن الكتاب يحتاج إلى السنة بأكثر من حاجة السنة إليه، ونحو ذلك من أقوال غثيئة إن غطينا عليها بالتأويل فمن لنا بالتخلص من آثارها الفكرية والمعرفية الخطيرة التي لا تزال قائمة، ولا يزال البعض يعطيها صفات الاستمرار والدوام؟!

إن تفريق الأصوليين بين القرآن والسنة في الدائرة المنهجية، رغم كل دلائل ومسوغات (الوحدة المنهجية) بينهما، يجعل الاستدراك والمراجعة لتراثهم في هذا المجال أمرين ضروريين خاصة ذلك الذي تأثر بقواعد المنطق الأرسطي، أو بنى عليه. فإن تلك القواعد المنطقية لم تسمح بملاحظة أمور منهجية على أقصى درجة من الأهمية في لغة القرآن يمكن تلخيص أهمها بما يلي:

  1. الوحدة البنائية للقرآن الكريم.
  2. الفرق بين الاستعمال الإلهي للغة في القرآن وبين الاستعمال البشري، فالاستعمال الإلهي لا يسمح بخلو أية كلمة في القرآن من دلالة معرفية منهجية وذلك ينفي وجود الاشتراك والترادف، وبعض الكنايات والتورية وما إليها في كلام الله تعالى.
  3. الوحدة المنهجية التي ينفرد القرآن المجيد بها عن كل ما عداه، ولهذه الوحدة المنهجية آثار مهمة جدًا في مجالات الدلالات غير المباشرة، مثل دلالات السياق والتناسب ثم الفحوى والإشارة ودلالة الالتزام، وما إلى ذلك من دلالات.

المعجزات الحسية: هل وقع التحدي بها؟

إن رسول الله ﷺ لم يؤت معجزة متحدي بها سوى القرآن، وهذا ما تدلنا عليه سور الإسراء ويونس والبقرة وغيرها، وقد أوتي النبي معجزات أخرى غير القرآن، مثل المعجزات الحسية، كما وردت بذلك العديد من السنن والأخبار؛ ولكنها مما لم يقع به التحدي.

وفي إطار المنهج لا يستقيم القول بوجود (منهج) في القرآن، والقول: إن رسول الله ﷺ قد أُعطي خوارق حسية متحدي بها، كالخوارق التي أعطاها الله موسى وعيسى ومن سبقهما من رسل وأنبياء، فالقرآن قد خاطب العقل الإنساني بخطاب يستطيع العقل الإنساني التحاور معه، وإن كان يعجز عن تحديه والإتيان بمثله.

وإذا فهمنا أن الفرق بين المعجزات الحسية ومعجزة القرآن، هو التحدي، فلن نتوقف طويلًا عند محاولات نفي أو تأويل أو تفسير المعجزات الحسية. ولكن التفسير الأكثر علمية للمعجزات الحسية هو تفسيرها بطريقة منهجية باعتبارها مؤشر وعي على طبيعة العلاقة بين عوالم الأمر الإلهي والإرادة الإلهية والمشيئة الربانية، وإدراك للعلاقة بين عالمي الغيب والشهادة.

الخطاب القرآني والتراث

إن تراثنا الإسلامي تراث خصب ومتنوع وغني جدًا، وقد أثبت فاعليته وقدراته في الماضي؛ ولكنّ مناهج العلوم الدينية مثل مناهج المفسرين، ومناهج المحدثين، ومناهج الأصوليين.. إلخ، قد أطلق عليها (مناهج) بالمعنى اللغوي أو المنطق التراثي لمصطلح منهج، القائم على مستوى الإدراك الذاتي -غالبًا- لا بمفهومها المعاصر المؤسس على منهج في التفكير يقوم على القواعد المشتركة لحركة العقل الإنساني، والضوابط الصارمة التي تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ في التفكير وبناء المقدمات الصحيحة للوصول بها إلى النتائج السليمة المنضبطة، التي من شأنها أن تخرج هذه العلوم من سمة الليونة التي سوغت القول بكثير من القضايا التي يعرفها المتخصصون، وجعلت للذاتية مجالًا واسعًا في مناهج هذه العلوم.

وإذا وصفنا تلك المناهج التي أنتجت ذلك التراث بمقتضى ضوابطها، فإنّ الضوابط في تلك المناهج أُنتجت في ظل سقوف معرفية ارتبطت بأزمنتها وأمكنتها، وكانت متفوقة على سواها قبلًا، أما اليوم وبعد بلوغ المنهجية ما بلغته فليس من السهل اختراقها أو تحديها بتلك المناهج البشرية التراثية التي أُنتجت بمقتضاها علوم القرآن والتفسير والحديث ونحوها، إننا لو اكتفينا بها فإننا سنكون كمن يحاول أن يتحدى الطب بمستواه المعاصر الذي بلغه اليوم بعلم الطب كما هو عند جالينوس والرازي وابن سينا وأضرابهم. فنحن حين نبدي إعجابنا بأي من هؤلاء، فذلك بالنظر إلى مستوى هذا العلم في الواقع الذي عاشوا فيه، ولا يكون ذلك بالنظر إلى السقف العلمي المعاصر. ولاستيعاب هذا التراث الخصب الغني يجب بناء مناهج ونماذج علمية مبنية على (منهج القرآن) في استيعاب تراث الأمم السابقة، ثم استخدام هذه المناهج العلمية القرآنية في استيعاب التراث وتجاوزه.

وإذا رجعنا إلى علم أصول الفقه سنجد المجتهد يعمل بالمنهجية التالية للوصول للحكم الشرعي، حيث يدرس المجتهد الواقعة دراسة مستفيضة تتناول وصفها وفهمها وتحليلها وتفسيرها، ثم يبدأ في استعراض آيات الكتاب الكريم كله مركزًا على الآيات ذات العلاقة المباشرة وغيرها، وملاحظة الأوصاف فيها وسبرها وتدوين ملاحظاته عليها، ثم يبدأ بعد ذلك عملية السبر والتقسيم أو الحذف والإضافة، فيقسم تلك الأوصاف إلى أوصاف مؤثرة في الحكم وتقييم الفعل وأخرى غير مؤثرة، ويقوم بعمليات الحذف وفقًا لذلك، كما يفعل الباحث مع فروضه العديدة حتى يُبقي على الأوصاف المؤثرة وحدها، ليس ذلك فقط، بل إنه يواصل البحث فيها حتى يصل إلى تحديد مستويات التأثير ليقوم بموازنة له تسمح بالوصول إلى الوصف المؤثر الأساس ليقوم بتحديده  علة أو مناطًا للحكم. فالأوصاف في حقيقتها فروض في الخطاب القرآني. وسبرها: تحديد لتلك الفروض، وتقسيمها بعد ذلك هو إسقاط للفروض الضعيفة أو غير المعبرة أو غير المؤثرة، فإذا تحدد الوصف الظاهر المنضبط حُدّد باعتباره علة الحكم في الأصل ومناطه؛ ثم تأتي مرحلة التقييم من خلال ربط الفروع الحاملة لمثل العلة المكتشفة في الأصل. لنصل بعد ذلك إلى مرحلة الاختبار، ويمكن أن نجد لهذه المرحلة نماذج وأمثلة كثيرة في اختلاف العلماء في العلل، فتحريم الربا في الذهب والفضة مثلًا واختلافهم في تحديد علة التحريم أهي الثمنية -أي كونها اتخذت أثمانًا للأشياء التي يجري تبادلها-، أو النقدية –أي كونها نقودًا تُضرب النقود منها- أو أية علة أخرى، إنما يرجع هذا الاختلاف إلى التجربة والاختبار وملاحظة الآثار. وكذلك اختلافهم في علة المطعومات وغيرها، وإذا كان الفقهاء المتقدمون والأئمة المجتهدون لم يحاولوا الامتداد في المنهج إلى آفاق أبعد أو نزولًا عند أحكام السقف المعرفي في عصورهم لأية أسباب تتعلق بأزمانهم، فذلك لا ينفي وجود الأصول والقواعد التي كانت ولا يزال بعضها مما يمكن الكشف عن جذورها القرآنية والبناء عليها. وإذ لم يشعر المتقدمون بالحاجة إلى الكشف عن المنهج القرآني وتسميته منهجًا للتعامل مع قضايا القرآن خاصة بالمنهج، بقطع النظر عما ساد في الأذهان من ضرورة التقيد بالمأثور والمروي في فهم القرآن عن السلف، وعدم تجاوز فهمهم بأي حال، أو لأية أسباب أو تصورات أخرى، فذلك لا ينفي وجود منهج علمي كامن في القرآن، ومنطق مصاحب له.

أما في عصورنا هذه وقد بعدت الشقة بين عصرنا وعصور الرواية والإسناد، وضعف سلطان منهجية الإسناد القديمة أمام المناهج المعاصرة، فإن المنهج يُعد ضرورة لا غنى عنها في عصورنا هذه ولأجيالنا المعاصرة والطالعة، فالسقف المعرفي الراهن بلغ ما بلغه بعد أن مر بالعديد من الثورات العقلية والعلمية التي أدت إلى إلحاق كل ما لا يخضع للمنهج بالخرافة، ومنع وصفه بأية صفة علمية، فإما المنهج بخصائصه المعرفية، وإما الخروج من الساحة العلمية، وبما أن القرآن المجيد ذو منهج بذاته، ومنهجه مصدق ومهیمن ومستوعب ومتجاوز ومطلق لا نسبي؛ فهو يستوعب جميع المناهج النسبية ويتجاوزها، فالهيمنة للقرآن ومنهجه على كل ما عداه. فالقرآن يستوعب المنهج العلمي ويطهره، ويعالج أزمته الراهنة ويخرجه منها، ويرقى به، ثم يهيمن عليه، ويبني على معطياته كما فعل مع تراث من قد سبق.

إن المنهج أمر لابد منه لمراجعة تراثنا وتنقيته، والتصديق عليه؛ لأن الحياة لا تقف والمستجدات لا تنقطع، بقول ابن خلدون: (.. وإذا تبدلت الأحوال -جملة- فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث[23])

فالقرآن الكريم ليس خطابًا قوميًا، ولا جغرافيًا، ولا تاريخيًا؛ وبالتالي فلا ينبغي للمسلمين أن يقدموه محملًا بتجاربهم التاريخية، وأفهامهم وتفسيراتهم التراثية على أنها تمثل النهاية في فقهه وفهمه، وإدراك مقاصده ومغازيه فيحولوا بذلك بينه وبين البشرية؛ لأنهم بذلك يكونون مثل أهل الكهف وورقهم الذين ذهبوا به إلى المدينة فلم يجدوا من يعرفه أو يتعامل به بعد تلك القرون التي قضوها نيامًا، والذي يأتي العصر مسلحًا بالتراث -وحده- فليس له أن ينتظر غير ذلك الموقف من البشرية؛ لأن المنهج والعلم القائم عليه قد نجحا في تأسيس منطق عالمي ناظم صارم يقترب إلى حد كبير من تحقيق العصمة عن الوقوع في الخطأ في التفكير العلمي وفق مقاييس معرفية محددة، ومنهج علمي مقيد للعقل والفلسفة معًا وقواعد فهم مشتركة وخطاب عالمي مهيأ لمعالجة الأزمات الحضارية والبشرية العالمية التي تحتاج إلى حلول لا إلى مجرد فتاوى.

إن القرآن الكريم قد أسس لمبدأ المراجعة من خلال مراجعته لتراث النبيين، فالقرآن الكريم قد راجع الفكر الديني اللاهوتي السابق ونقده، وهدم سائر عناصر التحريف التي دست عليه، وتغلغلت فيه، وأعاده إلى حالة الصدق التي نزل بها، وصدق على الصادق منه المطابق للواقع، وهيمن عليه، وأضافه إلى حقائقه المتصلة بعالم المشيئة، وأدرجه بين آيات الكتاب المنزل في حرم الله ابتداءً، المحفوظ بحفظ الله المعصوم من تدخلات البشر وتحريفاتهم؛ لكيلا يكون لأولئك الذين احترفوا التحريف سبيل إليه مرة أخرى.

خاتمة

وبعد هذا التطواف رأينا أن القرآن المجيد قد قرن المنهج بالشرعة في قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، والحكيم الخبير قد أحكم آيات الكتاب، وفصلها على علم، وما دام قد قرن المنهاج بالشرعة فذلك يعني أنهما متساويان في الأهمية، أو متقاربان جدًا في أقل تقدير، والقرآن المجيد قد اشتمل على الشريعة وقام ببيانها، فلا بد أن يكون قد اشتمل على المنهاج وبينه كذلك.

وإذا كانت صيغ آيات التشريع والأحكام ظاهرة بينة بنصوصها ودلالاتها والقرائن والأمارات التي تنبه اليها، مما يسر على الأصوليين عمليات رصدها وإحصائها ولو بشكل تقريبي، فإن النصوص المتعلقة بالمنهج يمكن الوصول إليها بجهود أخرى ووسائل قد تختلف قليلًا أو كثيرًا عن جهود ووسائل المجتهدين في قضايا الأحكام؛ فإذا كان المجتهد في قضايا الأحكام يهتم بصيغ الأمر والنهي والعموم والخصوص والإجمال والبيان والحقيقة والمجاز وما إلى ذلك، فإن الباحث في قضايا المنهج والمنهجية لا بد أن يستوعب ذلك كله ويضيف إليه مداخل أخرى نحو الجمع بين القراءتين، والنظر إلى القرآن الكريم في وحدته البنائية وكلياته وسننه بأنواعها، إضافة إلى ضرورة المران على معرفة وتمييز المطلق من المقيد، والنسبي، والثابت من المتغير، وما يتعلق بعالم الغيب المطلق -عالم الأمر- وما يتعلق بالغيب النسبي الذي يتكشف على الزمن، وما سيق لاستيعابه وتجاوزه أو للتصديق عليه والهيمنة عليه بعد ذلك، وما يندرج من ذلك في عالم الإرادة، أو عالم المشيئة وما سيق من أخبار الماضين لوعظ الآخرين، وبيان النعمة الإلهية عليهم بالتخفيف والرحمة، وما سيق للتوكيد على ضرورة الالتزام به والتأسي بالنبيين الذين جاؤوا به، أو للإشارة إلى نسخه وتجاوزه لمعرفة مواطن الاتفاق والاختلاف مع الأمم السابقة.

وهذا كله ينبه إلى أن المنهج القرآني أمر يحتاج إلى بحث وجهد وكد وكدح، وأن المراد بالمنهاج المقترن مع الشرعة ليس المعنى البسيط السهل المتبادر إلى الذهن، وهو المعنى اللغوي أي: الطريق الواضح البين، بل المعنى الواسع اتساع الشرعة التي اقترن بها، وهو المعنى الفلسفي، فالشرعة بعد استعمال القرآن لها لم يعد المراد بها معناها اللغوي الأصلي: شرعة الماء، بل استُعملت في الأحكام التي شرعها الله تعالى لتحقق مقاصد الشارع ومصالح المكلفين بمستوياتها المتعددة، وكذلك الحال بالنسبة للمنهاج والمنهج والمنهجية.

لقد كنت في بادئ الأمر أرى المنهج هو السنة كما ذهب إلى ذلك ابن عباس وغيره من المفسرين[24]، وتبنى ذلك الإمام الشافعي، ولا شك أن السنة منهج تطبيق وبيان، وإذا كانت السنة قد بينت للناس كيفية تطبيق القرآن، واستيعاب واقع عصر النبوة وجيل التلقي به فهي قد بينت الشريعة كذلك، ففي قصر المراد بها على المنهج نظر، ثم بدأت أميل إلى أن المراد بالمنهاج جملة علم أصول الفقه، فهو فلسفة الإسلام -كما سماه الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه (تمهيد تاريخ الفلسفة) وعضده في ذلك كثيرون-، وقد كتبت في ذلك وتبنيته لفترة، وبينت أسباب ذلك والأدلة المعضدة له.

لكنني لم أنقطع عن التدبر في الآية الكريمة ﴿لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨] وصرت أسميها بآية (الشرعة والمنهاج) حتى توصلت إلى الحقيقة الناصعة، وهي أن القرآن الكريم كما اشتمل على الشريعة بتفاصيلها فقد اشتمل على المنهج بمحدداته كلها، وأن الله -تبارك وتعالى- كما أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وفصل لنا الشريعة، فقد أودع كتابه (المنهاج) القادر على التصديق على سائر ما وصلت البشرية إليه من مناهج والهيمنة عليها؛ ولذلك فإننا نحتاج للجوء إلى رحاب القرآن الكريم بأزمتنا هذه، مسلحين بقوى الوعي الثلاثة التي منحها الله -تبارك وتعالى- لنا مع إدراك ووعي بأن الفهم البشري يحتاج ليرتقي إلى آفاق القرآن إلى مقدمة تنبثق من السقف المعرفي الذي يعيش الباحث فيه، ومن مستوى تطور مناهج الفكر الإنساني والمستوى العقلي البشري، والمرحلة العقلية التي تعيشها البشرية؛ لأن صياغة سؤال الأزمة وتكييف الإشكالية يتوقف على ذلك، أما الجواب فيقدمه القرآن الكريم بذات المستوى، ويتكشف مكنونه عنه وفقا للسقف المعرفي القائم.

ثم أما بعد: فإنَّني لم أرد بهذه الورقات أن أوضح جوانب المنهج المعرفي القرآني؛ لأن توضيح ذلك واستقراءه أكبر بكثير من جهود وطاقات فرد أو أفراد؛ لكنني أردت أن أفتح الطريق أمام سائر أصناف علماء الأمة من فيزيائيين وطبيعيين وعلماء اجتماعيات وإنسانيات، وعلوم ومعارف نقلية ليبحثوا في القرآن المجيد في ضوء هذه الرؤية لعلنا نصل –ولو بعد حين- إلى الكشف عن منهجية القرآن المعرفية، وننعم ببلورة قواعده، ومعالجة مشكلات الأسرة الإنسانية به، فالقرآن كريم لا يتوقف عطاؤه، ولا تنقضي عجائبه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* هذه الدراسة هي عرض للأفكار الأساسية الواردة في كتاب د. طه جابر العلواني “معالم في المنهج القرآني” الصادر من دار السلام عام 2010. وجاء هذا العرض للفت الأنظار إلى ما يتضمنه هذا الكتاب من دعوة للاجتهاد في مجال جديد هو مجال “المنهج القرآني”.

[1]  راجع مرادنا بكل من القراءتين وبالجمع بينهما في دراستنا الوجيزة (الجمع بين القراءتين)، وهي الحلقة الثانية من سلسلة (دراسات قرآنية)، التي صدرت عن مكتبة الشروق الدولية في القاهرة.

[2]  الحديث معناه صحيح؛ ولذلك صححه بالسير من صححه أما إسناده فلا يصح.

[3]  راجع دراستنا: نحو منهج لتدبر القرآن الكريم.

[4]  من العلوم التي اهتمت بالألفاظ والمعاني المفردة: علم المنطق، ويتناول المنطق مبحث الألفاظ كمقدمة لبناء القضايا.

انظر: أبو حامد الغزالي، معيار العلم في فن المنطق (بيروت: دار الأندلس، ۱۹۸۳ م) (٤١ – ٣)، أحمد الدمنهوري، إيضاح المبهم من معاني السلم في المنطق (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، ١٩٤٨م)

 انظر: قطب سانو، معجم مصطلحات أصول الفقه (دمشق: دار الفكر، ٢٠٠٠م) (٤٥٩ – ٦٨).

[5] لمالك بن نبي – يرحمه الله – الكتاب مهم يحمل هذا العنوان: الظاهرة القرآنية، جدير بالقراءة الاطلاع مع مراعاة الفروق الدقيقة بين المنطلقات المنهجية لنا والمطلقات الحضارة المالك انظر مالك ابن نبي، الظاهرة القرآنية (بيروت: دار الفكر المعاصر، ۱۹۹۲م).

[6] التصير والصيرورة هي الجعل التكويني، فهناك جعل تكويني وجعل تشريعي.

[7]  راجع در استنا: طه العلواني، التوحيد والتزكية والعمران: محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة. بيروت: دار الهادي، ۲۰۰۳م

[8]  لم تختر استخدام المصطلح المترجم، الموضوعية، وإنما كان اختيارنا للاصطلاح الإسلامي: الاستقامة العلمية

[9]  نقل هذا القول عن الإمام علي الله وأنه أوصى عبد الله بن عباس لما بعثه لمحاججة الخوارج بقوله: (الا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه، ذو وجوه تقول ويقولون، لكن حاججهم بالسنة فإنهم لم يجدوا عنها محيصا). وقد عزا السيوطي ذلك القول إلى طبقات ابن سعد في طبقاته والإتقان، النوع التاسع والثلاثون في معرفة الوجوه والنظائر.

[10]  راجع دراستنا: نحو موقف قرآني من إشكالية المحكم والمتشابه.

[11]  وقارن بالدراسة العميقة المتميزة لأخينا محمد أبو القاسم – رحمه الله – في: العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة (بيروت: دار ابن حزم، ١٩٩٦م) جزءان. أنظر أيضا نصر عارف، نظريات السياسة المقارنة ومنهجية دراسة النظم السياسية العربية: مقاربة إبستمولوجية (فيرجينيا: جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية، ١٩٩٨م).

[12]  راجع مبحث “فقه الواقع” في منى أبو الفضل وطه العلواني، مفاهيم محورية في المنهج والمنهجية، (القاهرة دار السلام، ۲۰۰۹م).

[13]  راجع كتابنا: (المدخل في علوم القرآن) حيث خصصنا (أسباب النزول) ببحث فيه هذا العلم.

[14] جميل صليبا، المعجم الفلسفي (بيروت: دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة، ١٩٨٢م) (٣٨٣/٢ – ٤).

[15]   قانون التلاشي هو عدم تناهي الجسيمات أو الهباءات الأولية في صغرها من واحد إلى ما قبل… وهكذا في متوالية لا حدود لها، مما دفع بعض العلماء إلى القول إن الجسيم في أصله ما هو إلا ترسيمة إعلامية تفصح عن أثرها فحسب.

[16]  انظر: الإمام الشافعي، الرسالة (القاهرة: دار النفائس، ۱۹۷۹م) (۲۰).

[17]  منى أبو الفضل، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي بين المقدمات والمقومات (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ١٩٩٦م) (۱۳)، وراجع كذلك منى أبو الفضل وطه العلواني، نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية مراجعات منهاجية وتاريخية. (القاهرة: دار السلام، ٢٠٠٩ م).

[18]  وردت مقولة: «النصوص متناهية والوقائع غير متناهية لدى عدد من الأصوليين، انظر على سبيل المثال: الغزالي، المستصفى (بيروت: دار الفكر، د.ت.) (٢٩٦/١). ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، عن رب العالمين (د. م.، درن، د. ت.) (۱/ ۳۳۳) ابن السمعاني، قواطع الأدلة في الأصول (٢/ ١٦٩)

[19]  منى أبو الفضل (۹).

[20]  صحيح البخاري، الحديث رقم (۳۲۳)، كتاب التيمم، باب في قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءَ فَتَيَمَّمُوا) (النساء: ٤٣).

[21]  صحيح كما في جامع ابن حبان والبخاري وجامع مسلم.

[22]  صحيح كما في الأدب المفرد للبخاري.

[23]  انظر: ابن خلدون، المقدمة. تحقيق: علي عبد الواحد وافي (القاهرة، نهضة مصر ٢٠٠٤م)، (٢٦/١).

 انظر: الفيروز آبادي، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (بيروت: المكتبة العلمية، د.ت.) (٣٠٩/٣)[24]

عن طه جابر العلواني

شاهد أيضاً

كيف سحر القرآن العالم

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

العنوان: كيف سحر القرآن العالم".

المؤلف: أنجيليكا نويفيرت.

المترجم: صبحي شعيب؛ المراجع: مازن عكاشة.

الخطاب الإلهي القرآني بين اللغة واللسان

د. سوسن الشريف

من أهم خواص القرآن أنه نص مطلق يستطيع الناس أن يفهموه في كل عصر، وفي كل مكان، بطريقة تجعلهم قادرين على معالجة مشكلاتهم انطلاقًا من هديه وتوجيهه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.