الوسطية

الوســـطية*

أ. رانيا رجب شعبان**

يُعد مفهوم الوسطية من المفاهيم القرآنية الكلية والمركبة، بل ونستطيع القول بأنه من المفاهيم المهيمنة على سائر المفاهيم القرآنية فهو ينتظمها جميعاً، ولذلك نستطيع القول بأنّ آية البقرة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: 143) تؤسس لشخصية هذا الدين – إذا صح التعبير – والتي يجب أن يتمثلها من ينتسب إليه ليؤدي الدور الذي أسست له تلك الآية. ومع ذلك فإنه يُعد من أكثر المفاهيم القرآنية هلامية – لا في ذاته – وإنما في المقاربات والمعالجات التي تعاطته؛ حيث جعلته وصفاً لائقاً بكل موصوف، واسماً حمالاً لكل المعاني، وكأنه لا تعارض بينها، مما ألصق به تهمة الميوعة وحرمنا من إلهاماته. وربما كان ذلك عائداً لكونه مفهوماً معقداً وكلياً – كما سبق – بما يغري بإسقاط مضامين صيغت خارجه؛ هي أكثر التصاقاً بالسياقات التاريخية التي صيغت فيها وبما تتضمنه تلك السياقات من خصوصيات ثقافية واجتماعية وسياسية أكثر من التصاقها به.

ومن هنا كانت مهمة بناء هذا المفهوم تقتضي مقاربة تاريخية مقارنة ونقدية، وهذا ما ستجتهد تلك الدراسة للقيام به؛ دون ادعاءٍ ببلوغ الغاية.

الموارد القرآنية

وردت الآية (143) من سورة البقرة في سياق الحديث عن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، والرد على الشبهات التي أثارها يهود المدينة حول هذا الحدث، وسياق السورة كلها يدور حول بني إسرائيل لتبيين منهجهم في التعاطي مع أنبياء الله وفي التعاطي مع الواقع، وبيان خصائص شريعتهم. وعلى ذلك فإنّ فهم الآية 143 في سياق المقارنة أمر منطقي، فالآية تتكلم عن دين له شريعة ومنهج مختلف عما سبقه {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ويؤسسان لأمة لابد وأن تكون مختلفة إذا ما تمثلت هذه الشريعة وهذا المنهاج.

  وردت مادة (وسط) خمس مرات في القرآن: في الآية موضوع الدراسة، وفي قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] وقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، وقوله: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} [العاديات: 5]. فماذا تعني وسط؟

“وسط الشيء ما له طرفان متساويا القدر… والوسط تارة يقال فيما له طرفان مذمومان، يُقال هذا أوسطهم حسباً: إذا كان في واسطة قومه وأرفعهم محلاً، وكالجود الذي هو بين البخل والسرف؛ فيُستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط والتفريط فيُمدح به نحو السواء والعدل والنصَفَة؛ نحو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، وعلى ذلك: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}. وتارة يُقال فيما له طرف محمود وطرف مذموم كالخير والشر؛ فيكنى به عن الرذل نحو قولهم فلان وسط من الرجال؛ تنبيهاً أنه خرج من حد الخير. وقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} فمن قال الظهر: فباعتبار النهار، ومن قال المغرب: فلكونها بين الركعتين والأربع..، ومن قال الصبح فلكونها بين صلاة الليل والنهار… ومن قال صلاة العصر: فقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكون وقتها في أثناء الأشغال العامة للناس بخلاف سائر الصلوات التي لها فراغ إما بعدها أو قبلها…”[1].

وتعددت الأقوال في تفسير معنى (وسطا) في الآية؛ فهناك من ذهب إلى أنّ وسطا: تعني عدولا، وهناك من ذهب إلى أنها تعني خياراً بمطابقتها لقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. ومدار القولين على “أنّ أحمد الأشياء أوسطها”[2].

ويذهب علي الصلابي (معاصر) إلى: “أن الوسطية لا بد لها من توفر أمرين: الخيرية والبينية.. فهناك أسس لا بد من بيانها ليُحدد معنى الوسطية: الغلو أوالإفراط، الجفاء أو التفريط، والصراط المستقيم. فالصراط المستقيم هو وسط بين الغلو والجفاء أو الإفراط والتفريط، كما أنه يمثل الخيرية… والصراط المستقيم هو دين الله الذي لا اعوجاج فيه..” ويحترز في موضع آخر مما يمكن أن يتبادر إلى الذهن من الدلالة الظرفية للبينية فهي “تعطي الدلالة على التوازن والاستقامة والعدل”[3].

 ومن البديهي أنّ الصفة والموصوف يدوران معاً – أي الأمة الوسط – وكلاهما مرتبط بالشهادة، فشهادة الأمة مترتبة على صيرورتها وسطاً – بما يعني ارتباط المفاهيم الثلاثة ببعضها البعض كوحدة بنائية؛ وبما أنّ ذلك كذلك كان لزاماً علينا التوقف عند معنى الأمة والشهادة – وهما مفهومان كليان ومركبان أيضاً – قبل الولوج في مقاربة مفهوم الوسطية.

وردت مادة “أم” مائة وثلاثة عشر مرة في القرآن الكريم، منها واحداً وستين مرة وردت بلفظة “أمة”، يقول ابن فارس: “الهمزة والميم أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب؛ وهي: الأصل والمرجع والجماعة والدين؛ وهذه الأربعة متقاربة. قال الخليل: (كل شيء يُضم إليه ما سواه فإنّ العرب تسمي ذلك أمة) … وكل قوم نُسبوا إلى شيء وأضيفوا إليه فهم أمة، وكل جيل من الناس أمة على حدة. فأما قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 123] فقيل: كانوا كفاراً فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وقيل: بل كان جميع من مع نوح u في السفينة مؤمناً ثم تفرقوا. وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي: إماماً يُهتدى به؛ وهو سبب الاجتماع..”[4].

 فالأمة إذن – بحسب لسان القرآن – لا تعبر عن وجود مادي وموضوعي لمجموعة من البشر، بل تعبر عن هذه الجماعة البشرية من حيث أنها تأسست وتشكلت طبقاً لرابط وجامعٍ معنويٍ ما فتُنسب إليه وتستمد وجودها واستمرارها وخصائصها التي تميزها عن سائر البشر منه.

وقد أسس تطابق مدلول الأمة في آية آل عمران: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} والأمة في آية البقرة – باعتبار أن المخاطب في الآيتين – (جعلناكم) و(كنتم)- هو أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو أمة الإسلام – للقول بأنّ الوسطية تدل على الخيرية. وهنا أيضاً يستوقفنا سياق سورة آل عمران الذي يدور حول النصارى ويرصد الخط الذي انتهجوه في تعاطيهم مع دينهم، وللسياق دلالة لا تُغفل، فورود الآية في هذا السياق يشي ببعد مقارن كما في آية البقرة.

وأما الشهادة؛ فقد وردت مادة (شهد) في القرآن مائة وست وخمسين مرة، وهي “أصل يدل على حضور وعلم وإعلام، والشهادة تجمع هذه الأصول”[5]. قال أبو عبيدة:” معنى {شَهِدَ اللّهُ}: قضى الله؛ وحقيقته: علم الله وبين الله، لأنّ الشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه.

فالشهادة – إذن – تقتضي حضوراً لذات – وليس مجرد وجود – وبمقتضى هذا الحضور يكون لديها ما تؤديه، فتؤديه حتى تكون عَلَمَاً عليه، مع تباينٍ بين شهادة الخالق والمخلوق.

واختُلف في الشهادة المذكورة في الآية هل هي شهادة في الآخرة فقط على الأمم الأخرى بأنّ أنبياءهم قد بلّغوا الرسالة وأدوا الأمانة؛ كما وردت بذلك الروايات[6]، أم أنها تشمل شهادة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة؟!

الحركة الدلالية لـ “وسطا” أو الوسطية

لم يُلتفت مبكراً إلى استقلالية مفهوم الوسطية كما ورد في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، وإنما تم التعاطي معها _ كما سائر القرآن الكريم – كقضية جزئية يُستشهد بها على قضايا كلية، أو يدعم بها قضايا جزئية أخرى. فعدالة الأمة وخيريتها هي ما استخلصه الجميع من هذه الآية، ولكن ما المقصود بالأمة؟ هل المقصود بها كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهل يتعلق وصف العدالة بمجموعها؛ أم ينسحب على آحادها، وهل الأمة الوسط مخصوصة بجيل، أو بطائفة…؟ فالدائرة التي يشملها مفهوم الأمة تضيق وتتسع ومعها تتفاوت دلالة الوسطية حسب حقول الاستدلال المختلفة. 

دلالة الوسطية عند الأصوليين

استشهد الأصوليون على حجية الإجماع بآية البقرة، وجعلوا وسطية الأمة موازية لعصمتها، باعتبار أنها – إلى جانب قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} – تدل على عصمة الأمة. ففي ذلك يقول البرذوي الحنفي في أصوله: “والخيرية توجب الحقية فيما أجمعوا عليه،.. والوسط: العدل وذلك يضاد الجور، والشهادة على الناس تقتضي الإصابة والحقية إذا كانت شهادة جامعة للدنيا والآخرة، قال النبي ص (لا تجتمع أمتي على ضلالة)..”[7].

وهل هذه العدالة متحققة في مجموع الأمة، أم أنها متحققة في جيل منها؟

يجيب عن ذلك الفخر الرازي: “إنها – أي الآية – خطاب إلى جميع الأمة أولها وآخرها؛ من كان منهم موجوداً وقت نـزول الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة..” ثم برهن الرازي على أنّ وصف العدالة متحقق في أهل كل عصر وكذلك الشهادة: “.. فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة؛ إذ لم يبق بعد انقضائها من أن تكون الأمة حجة عليه، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر..” وبذلك تكون شهادة الأمة في الدنيا المترتبة على كونها وسطاً تعني: “أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجة، ولا معنى لقولنا أنّ الإجماع حجة إلا هذا..”[8].

وهل تنسحب هذه العدالة على آحاد الأمة، يجيب فخر الدين الرازي أيضاً : “وقوله تعالى: {جَعَلْنَاكُمْ} خطاب لمجموعهم لا لكل واحد منهم وحده… وهذا معنى ما قاله العلماء:ليس المراد من هذه الآية أنّ كلهم كذلك؛ بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة… ولهذا قال كثير من العلماء: إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر البتة بقول المخطئ… فإذن إخبار الله تعالى عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره عن خيريتهم في كل الأمور ، فثبت أنّ هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر”[9].

وهنا تضيق دائرة الأمة الوسط ودائرة الشهادة: “فلا بد من اعتبار الأهلية لأداء الشهادة.. وإنما يُفترض اتباع العدل المرضي..”[10]، وبالتالي يخرج من هذه الدائرة أهل الأهواء ولا يُعتد بإجماعهم.

وبذلك حصر الأصوليون والفقهاء معنى وسطية الأمة في العدالة المؤهلة للشهادة، والشهادة في الإجماع.

في سياق التجاذبات الكلامية والمذهبية

استحضرت هذه الآية في سياق التجاذبات الكلامية والمذهبية للاستدلال بها في مسائل كلامية مختلفة. ففي مسألة الإمامة استشهد بها على صحة خلافة الخلفاء الأربعة[11] باعتبار أنّ جيل الصحابة – وهم أول من خوطب بالخيرية والعدالة – قد أجمعوا على صحة خلافتهم فلا اعتداد بالمخالفين من “أهل البدع والأهواء”. وفي هذا استدلال – أيضاً – على عدالة الصحابة[12].

في مقابل ذلك هناك من ذهب إلى أنّ الخيرية المذكورة في آيتي البقرة وآل عمران تنطبق على الأئمة المعصومين من أهل البيت.

وفي مسألة أفعال العباد احتج بها من يرى أنّ أفعال العباد مخلوقة. ووجه احتجاجهم: “أنّ هذه الآية دالة على أنّ عدالة هذه الأمة وخيريتها بجعل الله وخلقه” وفي مقابل ذلك: “قالت المعتزلة: المراد من هذا الجعل فعل الألطاف التي علم الله تعالى أنه متى فعلها لهذه الأمة اختاروا عندها الصواب في القول والعمل..”[13].

وكنتيجة لتلك التجاذبات المذهبية، حيث يرى أتباع كل فرقة وكل مذهب أنهم الفرقة الناجية والطائفة المحقة التي لا يضرها من خذلها – أقول كنتيجة لهذه الأجواء – كان من البديهي أن يعتزي أتباع كل مذهب إلى الوسطية؛ فهم الأمة الوسط وهم الشهداء على من سواهم.

“وأهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل؛ فهم وسط في باب صفات الله عز وجل بين أهل الجحد والتعطيل، وبين أهل التشبيه والتمثيل… وهم وسط في باب أفعال الله عز وجل بين المعتزلة المكذبين للقدر والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله، والمعارضين بالقدر أمر لله ونهيه وثوابه وعقابه. وفي باب الوعد والوعيد بين الوعيدية وبين المرجئة… وهم وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغالي فيهم… والجافي فيهم…”[14].

وهم أهل الشهادة: “.. ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة الذين محضوا الإسلام ولم يشوبوه بغيره كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة بخلاف أهل البدع والأهواء … قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين..)..”[15].

وليس هذا حكراً على أهل السنة، فالزيدية – على سبيل المثال لا الحصر – يرون أنهم النُّمرقة الوسطى فهم: “الذين استقر فيهم الحق، واستقام عمود دين أهل الولاية، لم يغلوا ولم يقصروا..”[16].

في مجادلة أهل الأديان الأخرى

وتجلى هذا الاتجاه – أيضاً – بصورة قوية في أجواء الصراع مع الصليبيين – وإن كان هذا لايعني أنّ ذلك الاتجاه لم يكن موجوداً قبل ذلك – حيث كان الانتصار للذات الجريحة في مقابل المخالف في الدين المحتل للأرض. ففي رده على كتاب منسوب إلى أسقف صيدا الأنطاكي يحتج فيها لدين النصارى يقول ابن تيمية: “…كما جعل أمته – أي محمد صلى الله عليه وسلم – خير أمة أخرجت للناس فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الناس؛ هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم وجعلهم وسطاً عدلاً خياراً. فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه…. ولذلك المسلمون وسط في الشريعة فلم يجحدوا شرعة الناسخ لأجل شرعة المنسوخ كما فعلت اليهود، ولا غيروا شيئاً من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعاً لم يأذن به الله كما فعلت النصارى، ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود، ولا جعلوا الخالق سبحانه وتعالى متصفاً بخصائص المخلوق ونقائضه ومعايبه من الفقر والبخل والعجز كما فعل اليهود، ولا المخلوق متصفاً بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله شيء فيها كفعل النصارى، ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحداً كفعل النصارى..”[17].

وفي موضع آخر قارن ابن تيمية بين شريعة التوراة التي يغلب عليها الشدة وشريعة الإنجيل التي يغلب عليها اللين[18].

وعرض للخصائص التي أهلت أمة محمد للشهادة على سائر الأمم: “… وأيد أمته تأييداً أطاقت به حمل ما ألقاه إليهم.. ولا ريب أنّ أمة محمد أكمل عقولاً وأعظم إيماناً وأتم تصديقاً وجهاداً..”. ثم تكلم عن شهادة محمد لعيسى عليهما السلام وتنـزيهه عما افترته عليه اليهود، وعما غلت فيه النصارى. ليصل لشهادة أمة محمد على الناس: “وجعل الله أمة محمد شهداء على الناس يشهدون عليهم بما علموه من الحق…، فإنّ الشاهد لا يكون إلا عدلاً بخلاف من جار في شهادته فزاد على الحق ونقص منه كشهادة اليهود والنصارى في المسيح..”[19] ولا يستثنى من ذلك الفضل والكرامة إلا أهل البدع فهم كاليهود والنصارى[20].

ومما سبق نستطيع القول أنّ للوسطية في هذا الاتجاه دلالة ذات بعدين؛ الأول: وسطية شريعة الإسلام بين الشدة واللين مقارنة بالشرائع السماوية الأخرى، والثاني: وسطية الأمة التي تتحلى بخصائص – أودعها الله فيها – لتكون أهلاً لتحمل الأمانة وأداء الشهادة. وكما سبق فإنّ هذا التصور قد تم بناؤه في سياق تاريخي معين، وكنتيجة لمنهج يتعاطى مع القرآن الكريم كخطاب توصيفي لا خطاب توجيهي وتكليفي. لكن هذا السياق التاريخي قد تغير في عصر النهضة – بدءاً من القرن التاسع عشر الميلادي – حيث فرض التفاوت الحضاري بين الغرب والشرق نفسه، خاصة مع وصول أمواج الثقافة الغربية إلى سواحل المشرق، فانتهج خطاب التجديد والإصلاح نقد الذات التي تفوق عليها الآخر حضارياً، وأصبح التأكيد على خصائص ذاتية تتحلى بها أمة محمد، وخيرية لصيقة بها؛ نوع من الغرور الذي أورث انحدارا وتراجعاً أمام الآخر. وهذا لا يعني أن الاتجاه الأول قد اختفى تماماً بل ظل قائماً بشكل أو بآخر لكن دون أن يكون منفرداً بالساحة.

الوسطية عند أنصار الإصلاح والتجديد

وهنا أخذت الوسطية بعداً جديداً يتعلق بالتوازن بين نقد الذات ونقد الآخر؛ بين الموروث والوافد، لتجديد الدين واستنهاض الأمة بتعريفها بمقومات وجودها ودورها. ويعتبر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من أبرز أعلام هذه الوسطية. فالنهضة عند الأفغاني لا تتحقق إلا بالخروج من “التخلف الموروث” بـ “الثورة الثقافية”، ومن “الغزوة الأوروبية” بمشروعنا الحضاري المؤسس على الهوية الإسلامية وهو “الجامعة الإسلامية”[21]. وأما الإمام محمد عبده فيصف منهجه الإصلاحي الذي يسعى إلى تحرير الفكر من قيد التقليد بأنه: “يخالف رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم”[22]. ويبين أنّ هذه الوسطية مستقاة من روح الإسلام ومنهجه بالرجوع إلى ينابيعه الأولى قبل الاختلاف.

وعند تفسيره لآية البقرة يقول: “.. وأما الأمة الإسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين حق الروح وحق الجسد… وإن شئت قلت إنه أعطاها كل الحقوق الإنسانية…. فكأنه قال لهم: جعلناكم أمة وسطاً تعرفون الحقين وتبلغون الكمالين لتكونوا شهداء على الناس؛ الجسمانيين المفرطين والروحانيين الغالين… فتشهدون عليهم بأنهم خرجوا من جادة الاعتدال”[23]، ثم يستطرد: “{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} أي أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط، وإنما تكون هذه الأمة وسطاً باتباعها له في سيرته وشريعته…. فكأنه قال لهم: إنما يتحقق لكم وصف الوسط إذا حافظتم على العمل بهدي الرسول واستقمتم على سنته، وأما إذا انحرفتم عن الجادة فالرسول بنفسه ودينه وسيرته حجة عليكم بأنكم لستم من أمته التي وصفها الله في كتابه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}، بل تخرجون بالابتداع عن الوسط وتكونوا في أحد الطرفين..”[24].

وهنا نلحظ التحول نحو الخيرية المشروطة للأمة بقدر تمثلها لوسطية الإسلام، دون تعالٍ على الآخر المختلف ديناً أو مذهباً، لأنّ هذا الفضل هو للإسلام.

وبذلك تكون الوسطية التي هي من خصائص المنهج الإسلامي حائلة دون السقوط في أسر الثنائيات وتجاذباتها، وفي ذلك يقول الدكتور محمد عمارة إنها الوسطية الجامعة: “.. فهي عدسته اللامة لأشعة ضوئه…. فهي تنفي الغلو الظالم والتطرف الباطل فتمثل الفطرة الإنسانية في بساطتها وبداهتها وعمقها… وهذه الوسطية الجامعة ليست ما يحسبه العامة من المتعلمين والمثقفين من انعدام الموقف الواضح والمحدد أمام القضايا والمشكلات، لأنها الموقف الأصعب الذي لا ينحاز الانحياز الأسهل إلى أحد القطبين، وهي كذلك ليست الوسطية الأرسطية؛ والتي ترى الفضيلة هي وسط بين رذيلتين؛ فهي أشبه بالنقطة الرياضية التي تفصلها عن القطبين مسافة متساوية تضمن لها التوسط، إنها نقطة رياضية وموقف ساكن وشيء آخر لا علاقة له بالقطبين اللذين يتوسطهما، وليست هكذا الوسطية في اصطلاح الإسلام. إنها في التصور الإسلامي موقف ثالث حقاً وموقف جديد حقاً ولكن توسطه بين النقيضين المتقابلين لا يعني أنه منبت الصلة بسماتها وقسماتها ومكوناتها؛ إنه مخالف لهما ولكن ليس في كل شيء، ولكنه يرفض الانحصار والانغلاق على سمات كل قطب من الأقطاب وحدها دون غيرها.. ولذلك فإنّ الوسطية كموقف ثالث وجديد إنما يتمثل تميزها في أنها تجمع وتؤلف كل مايمكن جمعه وتأليفه كنسق غير متنافر ولاملفق من السمات والقسمات والمكونات الموجودة في القطبين النقيضين كليهما، وهي لذلك وسطية جامعة. “وحتى لا يتسارع إلى الذهن أنّ هذه الوسطية قاصرة على مستوى التنظير لا أثر لها في الواقع ولا فاعلية لها في التطبيق والممارسة وصفها الدكتور عمارة بـ “طوق النجاة بالنسبة للإصلاح الإسلامي من تمزق وانشطارية وثنائية المتقابلات المتناقضة” وأثبت ذلك بمنظور مقارن مع هذا الانشطار والانقسام الحاد الذي حدث في فلسفة الحضارة الغربية بين: “ماديين ومثاليين، وعقلانيين ولاهوتيين”، في حين أنّ الوسطية الجامعة حفظت المنهاج الإسلامي من التناقض الذي لم يجد له حلاً بين الروح والجسد، الدنيا والآخرة، الدين والدولة، الذات والموضوع، الفرد والمجموع، الفكر والواقع، المادية والمثالية، المقاصد والوسائل، الثابت والمتغير، القديم والجديد، العقل والنقل، الاجتهاد والتقليد..”. وبعد رفض الوقوع في أسر الثنائيات يرى الدكتور عمارة أنّ هذه الوسطية الجامعة الممثلة للفطرة الإنسانية في بساطتها توازي اليسر الذي هو من أهم صفات المنهاج الإسلامي واستشهد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ دين الله يسر).. و(ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين في الإسلام إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه”[25]

وفي إطار التحفير وراء مقومات النهوض للقيام بالدور المنوط بهذه الأمة ترى الدكتورة منى أبو الفضل: “أنّ الأمة الوسط هي الأمة المستخلفة في الأرض أي أنها الأمة وليست أمة بين الأمم، فهي الأمة القطب. فمفهوم الأمة القطب يتضمن معنى الوسطية والشهادة. وفي ذلك تقول: “وأبرز ما يترتب على مفهوم الأمة الوسط – من حيث ما يترتب عليه من تعزيز للأمة القطب – أنه يؤكد الوظيفة القيادية التي أخرجت لها لتصير الأمة إماماً للأمم”. وبذلك تكون لوسطية الأمة دلالات مرتبطة بشهادتها وإمامتها: “أولها: أنّ الجماعة التي تعبر عنها محور جذب واستقطاب، ومن ثم فهي مصدر للتوازن والانسجام بين الجماعات البشرية. ثانياً: الاعتدال في المزاج واجتناب الإفراط والتفريط. وثالثاً: أنّ الأمة وسط من حيث موازين القيم والأنظمة التي تقوم عليها”، ثم أشارت إلى دلالات للوسطية متعلقة بجغرافيا الموقع “فالحزام القاري الإسلامي يمثل امتداداً استراتيجياً إقليمياً وبشرياً متصلاً يتوسط المعمورة”[26].

إذن أصبح للشهود دلالة أرحب حينما ربط بالخلافة في الأرض، بدلاً من قصره على الجانب العقائدي والطقوسي للإسلام، وأطلق عليه البعض (الشهود الحضاري).

فالشهود الحضاري يعني أن يكون المسلم: “مشتغلاً بمحاربة الظلم السياسي والاجتماعي منتصراً للفقراء والمستضعفين مدافعا عن حقوق الإنسان والحريات بجميع مستوياتها رافضاٍ للترف والرذيلة مبشراً بالحياة الطيبة مساهماً في إرساء قواعدها وتنمية عناصرها تربوياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفنياً..”[27].

ونستطيع هنا أن نرصد خطاً آخر للربط بين الشهادة والخلافة يُعدّ امتداداً للخط الذاهب إلى القول بأنّ الأمة الوسط هم الأئمة المعصومون؛ فالشهادة تمثل عند محمد باقر الصدر: “التدخل الرباني من أجل صيانة الإنسان (الخليفة) من الانحراف وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة” ويذهب الصدر إلى أنّ القرآن الكريم قد صنف الشهداء إلى ثلاثة أصناف في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} والأصناف الثلاثة على ضوء هذه الآية هم النبيون والربانيون والأحبار. والأحبار هم علماء الشريعة، والربانيون درجة وسطى بين النبي والعالم وهي درجة الإمام”. وطالما أنّ الشهادة تتمثل في الأنبياء والأئمة والمرجعية (علماء الشريعة) كان من المنطقي أن ينتقل الشهيد الصدر إلى إبراز المساحة المشتركة بين أدوار الثلاثة في قيامهم بالشهادة، وكذلك الفروق بينهم، وصولاً إلى شروط الشهادة؛ وهي العدالة (أي الوسطية) والعلم واستيعاب الرسالة والوعي بالواقع القائم؛ حتى يتمكن الشهيد من دوره الرقابي على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة على الأرض[28].

ويميز الشهيد الصدر بين الخلافة على الأرض وبين الخلافة الربانية؛ والأخيرة تتحقق باندماج الخلافة والشهادة معاً ولا يكون ذلك إلا في نبي أو إمام معصوم، وأما في حال غيبة الإمام “وما دامت الأمة محكومة بالطاغوت ومقصية عن حقها في الخلافة العامة، يقوم المرجع بممارستها في نطاق ضيق، وأما إذا حررت الأمة نفسها فالخلافة تنتقل إليها، فهي التي تمارس القيادة السياسية والاجتماعية على أسس الاستخلاف الرباني… وهكذا وزع الإسلام في عصر الغيبة مسئوليات الشهادة والخلافة بين المرجع والأمة؛ بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية..”[29] اهـ بتصرف.

الوسطية في حقل التجديد الفقهي

اتخذت الوسطية في هذا الحقل دلالة هي أقرب إلى اليسر والسماحة ورفع الحرج تأسيساً على أنّ كليهما من خصائص شريعة الإسلام. والسماحة كما عرفها ابن عاشور: “هي السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه”. وهي بذلك منسجمة مع الفطرة البشرية التي تنفر من الإعنات والشدة. والتي – أي الفطرة – اعتبرها ابن عاشور”مدار الأحكام الشرعية”[30]. فالوسطية هنا توازن بين الثوابت والمتغيرات في الشرع، وبين الماضوية والمستقبلية، وبين الأخروية والدنيوية، وبين الوحي والعقل، وتمثل الاعتدال بين التضييق والتساهل. ويتحصل من كل ذلك أنّ الحق ليس منحصراً في الأحوط؛ فلا يجب أن تؤسس الفتوى عليه، وإنما على الأيسر بمراعاة مقاصد الشرع وعلل الأحكام، فأما من أراد أن يأخذ نفسه بالأحوط فهو وما أراد دون أن يلزم الناس بذلك. “الله يريد بعباده السعة واليسر”[31].

وهنا يموضع أنصار هذا التيار أنفسهم – كما يذهب الدكتور القرضاوي[32]– وسطاً بين من يريد أن يذهب بعيداً في هذا المنحى إلى حد تعطيل الشرع باعتباره جوهراً لا شكلاً، وبين من يقفون على ظواهر النصوص بمعزل عن علل الأحكام ومقاصد الشرع ومدى تحققها في الواقع. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أنّ هذا التيار يشكل طيفاً واحداً. 

الوسطية عند القاموس الحركي لـ “الإسلام السياسي”

اختزلت الوسطية في القاموس الحركي لتيار الإسلام السياسي في كونها مقابلة للتطرف والغلو، فهي توازي في خطابهم (الاعتدال)، ولأنّ هذا القاموس قد نشأ في ظل اتهام للإسلام بالتطرف والإرهاب، وظف مفهوم الوسطية في هذا القاموس توظيفاً سياسياً لدفع التهمة وإثبات براءة الإسلام من تهمة التطرف والإرهاب أولاً، وتبرئـة من سموا بـ (الإسلاميين المعتدلين) ثانياً باعتبارهم ممثلين لحقيقة الإسلام السمحة.

ففي كتابه (الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف) الذي جاء من أوله لآخره رداً على الغلو والتطرف وأهله؛ طرحت فيه الوسطية كنقيض لهما. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “والوسطية إحدى الخصائص العامة للإسلام وهي إحدى المعالم الأساسية التي ميز الله بها أمته عن غيرها؛ فهي أمة العدل والاعتدال التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يميناً أوشمالاً عن خط الوسط المستقيم.. والنصوص الإسلامية تدعو إلى الاعتدال وتحذر من التطرف الذي يُعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ منها: الغلو، والتنطع، والتشدد؛ قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة: 77] …. ومن أجل ذلك قاوم النبي صلى الله عليه وسلم كل اتجاه ينـزع إلى الغلو في التدين، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال الذي جاء به الإسلام، ووازن بين الروحية والمادية ووفق بين الدين والدنيا….”[33].

ولذلك نجد المنتمين لتيار (الإسلام السياسي) يشكون الظلم الواقع عليهم بالخلط بين الاعتدال والتطرف وتصنيف جميع الإسلاميين في خانة واحدة[34].

ماهية الوسطية

ويمكن في هذا الصدد أن نمسك بأطراف خيوط منهجية في معالجة ماهية الوسطية – بغض النظر عن مضامينها الفكرية. فهناك من يراها موقفاً ثالثاً بين نقيضين؛ موقف جديد ولكنه غير منبت الصلة بهما؛ يؤلف بين بعض عناصرهما في نسق غير ملفق ولا متنافر؛ وهذا ما يصفه محمد عمارة بالتصور الإسلامي للوسطية. وهناك – في إطار التصور الإسلامي أيضاً – من لا يراها نتاجاً ثالثاً من نقيضين؛ وإنما هي – بحسب نصر محمد عارف -: “وسطية تجمع بين المتصور أنه نقائض ومتضادات في توازن وسياق متناغم بحيث لا يمكن القول بأنها هذا أو ذاك، فالله سبحانه وتعالى من أسمائه الحسنى الرافع الخافض والظاهر والباطن والأول والآخر… إلخ، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} كل ذلك دون الحديث عن شيء نقيض لشيء”[35].

وفي مقابل ذلك التصور هناك من يرى أنّ الوسطية التوفيقية قد تستحيل تلفيقية – كما يسميها نصر حامد أبو زيد في سياق نقده لوسطية الشافعي – إذا لم يخرج مركب جديد لا ينتمي لأيٍ من الطرفين. ويعتبر التردد صفة لصيقة بهذه الوسطية التلفيقية؛ “فالفكر التلفيقي هو الذي يحاول التوفيق بين منهجين على أساس أيديولوجي لا على أساس عقلي يتلمس جوانب الأصالة والإبداع في كل من الاتجاهين المتعارضين ويصل بينهما في مركب جديد لا ينتمي لأيٍ منهما”[36].

ومما سبق: يمكن تقديم تصور منهجي لما اتسم به التطور الدلالي للوسطية وللمسار المأمول – كما ترى الباحثة – أن يمضي عليه هذا التطور:

1- إنّ مفهوم الوسطية مفهوم كلي كان لا بد وأن يُبنى بشكل مركب يتجاوب مع شموليته وتعقيده وتعدد جوانبه. فلا زال المفهوم يعاني من خلطٍ على غير صعيد؛ فمن ناحية يُشار إلى وسطية الإسلام على أنها توفق بين المتعارضات دون تلفيق، ولكن الوسطية كما أبدعها الله تعالى بحكمته العلية وعلمه وقدرته المحيطة بكل شيء ليست في مقدور البشر. فلابد من التمييز بين الوسطية التي صبغ الله بها دينه ومنهاجه، وبين الوسطية التي في وسع المسلم – ببشريته – أن يطبقها من خلال فهمه وتمثله لمنهج الإسلام وإلا فإننا سنكون بصدد ميوعة لا وسطية. وهنا تتجلى أهمية المعالجة المنهجية التي تبني المفهوم – والمفاهيم القرآنية تحديداً – في مستويات، وتضبط التحرك بين تلك المستويات؛ فالخلط بين مستويات المفاهيم يؤدي إلى الخلط بين الاعتزاء للقرآن وبين الاحتكام إليه؛ كلٌ حسب فهمه وسقفه المعرفي وسياقه التاريخي والاجتماعي. وينتج عن هذا الخلط خلطٌ آخر وهو أنّ كل اختيار لأمر أو طريق بين أمرين يُعزى للوسطية كما جاءت في آية البقرة، والحق أنه لا توجد نقطة في حيز الفعل البشري إلا وهناك نقاط عن يمينها وعن يسارها، وعلى ذلك فلن يعدم أحد المسوغ لتوصيف موقفه بالوسط، وبالنتيجة أصبحت الوسطية وصفاً يليق بكل موصوف. فالوسطية التي هي بين الغلو والتطرف وبين التفريط والتساهل في حقوق الله تتسع للكثير من المتناقضات، وكذلك فإنّ الوسطية التي تعني التسامح مع الآخر أو التيسير على المسلمين أنفسهم تتسع هي الأخرى لتأويلات قد تصل إلى حد التعارض، ولذلك نجد أنّ كثيراً من الكتابات التي تناولت الوسطية؛ إنما كانت – في حقيقة الأمر – تتكلم عن خياراتها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفكرية أو الفقهية، ومع ذلك فالكل يعتزي إلى الوسطية والكل يستشهد بآية البقرة، وهكذا يقع الخلط، وهو الخلط الذي لم يكن – للإنصاف – من نصيب الوسطية وحدها.

2- ولأنّ مفهوم الوسطية مركب وشمولي كان لابد وأن يُبنى كمفهوم حركي لا سكوني. ولذلك كان تطوراً نوعياً أن تحولت الوسطية بمعنى الخيرية والعدالة عند أنصار التجديد من صفة لصيقة بالمسلمين كأمة في مقابل النصارى واليهود إلى صفة لمنهج الإسلام، والذي ينعكس بخصائصه على الأمة التي بناها هذا المنهج، وبقدر تمثلها لهذا المنهج تستحق وصف الأمة الوسط. وبطريقة أخرى لم تعد الوسطية هي ماجُعلنا عليه – كمسلمين – بل ما يجب أن نكون عليه، ولعل هذا كان من ثمار الطرح الذي قدمته مدرسة التجديد في معالجة إشكالية الجبر والاختيار، بالإضافة إلى منحاها النقدي للذات. وفي المحصلة أدى ذلك إلى تموضع جديد للوسطية كمفهوم مستقل بل ومهيمن لأنه يختزن الإسلام كله بداخله، ويختصر شخصيته في كلمة واحدة، وبذلك انفتحت آفاقه الدلالية، وانفتح معه مفهوم الشهادة حتى لامس مفهوم الخلافة في الأرض. ولكن هذا لا يعني أنّ ضوابط منهجية قد تم التأسيس لها عند معالجة أو مقاربة هذا المفهوم للتمييز بين وسطية الإسلام بكل تجلياتها، وبين ما تعنيه وسطية الأمة المنتسبة إليه؛ فلازال الخلط قائماً، ويتجلى ذلك في المعالجات المقارنة؛ فعندما يكون الحديث عن مقارنة بين اليهود والنصارى والمسلمين، نجد استحضارا لمواقف اليهود والنصارى من منظور ما كان، بينما على الجانب الآخر يستشهد بما أورده القرآن الكريم في القضية محل المقارنة باعتبار ذلك ممثلاً لموقف المسلمين؛ وفي هذا خلط بيّن. فإما أن تكون المقارنة بين نسق ونسق، أو أن تكون بين جماعة بشرية وأخرى من منظور ما كان وما هو قائم[37]. وهكذا مقارنات بطبيعة الحال تخلص دائماً وأبداً إلى أفضلية مطلقة للمسلمين على سائر الأمم، ويتفرع عنها حتماً أفضلية مطلقة لبعضٍ منهم على سائر الأمة، فضلاً عن أنها تتنافى مع حكمة القصص القرآني بضرب الأمثال لأخذ العظة والعبرة. فقد رصد القرآن الكريم من خلال القصص القرآني معالم الصيرورة التي انحرفت بالأمم السابقة عن المنهج الإلهي، وبيَّن السنن الحاكمة لتلك الصيرورة، وهي سنن عامة لا تخص أمة دون أمة، رغم اختلاف الشرائع والكتب، وقد أنبأنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأي مقارنة يجب أن تتحرك نحو فهم هذه الصيرورة؛ لا كحتمية لا مفر منها؛ وإنما كفاعلية بشرية (تقوم على فهم للدين وفهم للواقع) تدخل في علاقة تأثير وتأثر بسياقاتها التاريخية (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية) في تعاقب مستمر لأدوار ذلك التأثير والتأثر؛ حيث تسلم المقدمات إلى نتائج وهذه الأخيرة تصبح بدورها مقدمات لما يليها، وبذلك فلا سبيل لقطع هذه التعاقبية إلا بتغيير مقومات الفاعلية البشرية؛ وهذا موطن اختبار الأمم وتفاضلها؛ الذي لا يجب أن تغفله أي معالجة لمفهوم الوسطية. فصحيح أنّ مساحة الحركة المتاحة لنا هي مساحة التأويل؛ لا التنـزيل، فقد تعهد الله بحفظ كتابه الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} لكننا قد نفهمه ونفسره متأثرين بأنساق كتابية أخرى، فنسلك مسالك مقاربة لهم، بما يحول بيننا وبين تمثل شخصية هذا الدين ووسطيته، ومن ثم قيام الأمة الوسط. هذه المسافة بين وسطية الإسلام وبين تمثل الأمة لها هو ما يجب أن تستكشفه الدراسات المقارنة. 

3- رغم ما حدث من تطور في إدراك الوسطية؛ إلا أننا مستغرقون في استقراء تجلياتها وتبدياتها، كقولنا بأنّ الإسلام يوازن بين الفرد والمجتمع، والجسد والروح، والعقل والنقل… وكالحديث عن وسطيته في العقيدة والتشريع والأخلاق.. وما إلى ذلك، وما نحتاج إليه هو فهمٍ منهجي للوسطية بالتحفير وراء هذه التجليات التي تنبع من معينها لاستجلاء الكليات التي تنتظمها.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 الهوامش:

*  البحث منشور في مجلة المسلم المعاصر. ع. 152 (2014). ص ص. 67- 89.

**  باحثة مصرية.

[1]  أبو القاسم الحسين بن محمد (ت502 هـ)، المفردات في غريب القرآن، دار المعرفة، بيروت. تحقيق: محمد سيد كيلاني، ج. 1، ص. 522- 523.

[2]  القرطبي.

[3] علي محمد الصلابي، الوسطية في القرآن الكريم، دار المعرفة، بيروت، 2008، ص. 43- 65، ص.165- 168.

[4] أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395هـ)، معجم مقاييس اللغة، دار الجيل، بيروت 1999، تحقيق: عبد السلام هارون، ج. 1، ص. 22- 25.

[5]  مرجع سابق، ج. 3، ص. 221- 222.

[6] محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت، 1405هـ، ج. 2، ص. 8.

[7]  علي بن محمد البرذوي الحنفي (ت 382هـ)، كنـز الوصول إلى معرفة الأصول، مطبعة جارديد برس، كراتشي، ص. 245.

[8] فخر الدين الرازي (ت604هـ)، التفسير الكبير، دار الكتب العلمية بيروت، 2000، ط. 1، ج. 4، ص. 91.

[9] مرجع سابق، ج. 4، ص.93.

[10]  السرخسي، أصول السرخسي، ص. 131.

[11] أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ)، المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال، تحقيق: محب الدين الخطيب، ص.547- 549.

[12] أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي (ت،973هـ)، الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، مؤسسة الرسالة، بيروت،1997، ط. 1، تحقيق: عبد الرحمن التركي، كامل الخياط، ج. 2، ص. 604.

[13] الفخر الرازي، التفسير الكبير، مرجع سابق، ج. 4، ص. 90.

[14]  أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (728هـ)، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، مطبعة المدني، تحقيق: سيد صبح المدني، ج. 1 ص. 68.

[15] أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير، مكتبة ابن تيمية، ط. 2، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد النجدي، ج. 15، ص. 298.

[16] الإمام عبد الله بن حمزة بن سليمان (ت614هـ)، الشافي في الإمامة، مكتبة أهل البيت، صنعاء، ط. 1، 2009، طبع مؤسسة دلتا، بيروت، ج. 1، ص. 490.

[17] ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، مرجع سابق، ج. 1، ص. 67- 68.

[18] مرجع سابق، ج. 5، ص. 80.

[19] مرجع سابق، ج. 5، ص. 300- 302.

[20] مرجع سابق، ج. 1، ص. 97- 98.

[21] محمد عمارة، جمال الدين الأفغاني بين حقائق التاريخ وأكاذيب لويس عوض، دار السلام، القاهرة، ط. 1، 2009، ص. 205- 207.

[22] محمد عبده، الأعمال الكاملة، تحقيق وتقديم: د. محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، ط. 1، 1993، ج. 2، ص. 310.

[23] محمد عبده مرجع سابق، ج. 4، ص. 319.

[24] مرجع سابق، ج. 4، ص. 319- 320.

[25] محمد عمارة، معالم المنهج الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار السلام، القاهرة، 2008، ص. 73- 77.

[26] منى أبو الفضل، الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط. 1، 2005، ص. 83- 84.

[27] عبد العزيز كحيل، مقال (صياغة إنسان الحضارة والشهادة)، موقع مسلم أون لاين، 13/7/2010م.

[28] محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 2003، ص. 131- 136.

[29] مرجع سابق، ص. 137- 154.

[30] الصبحي عتيق، مقال (الوسطية بين الفكر المقاصدي والفكر الحركي)، موقع إسلام أون لاين، 6/10/2010.

[31] يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، ص. 210.

[32] مرجع سابق.

[33] يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، مرجع سابق، ص. 23- 27.

[34] فهمي هويدي، التدين المنقوص، دار الشروق، القاهرة، ط. 1، 1994، ص. 208.

[35] نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار القارئ العربي، القاهرة، 1981، ص. 211.

[36] نصر حامد أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، مكتبة مدبولي القاهرة، ط. 3، 2003، ص. 96- 97.

[37] يراجع كمثال على ذلك معالجة الدكتور علي الصلابي لوسطية القرآن في العقائد [الوسطية في القرآن الكريم]، ص. 199- 260.

عن رانيا رجب شعبان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.