أزمة العقل والوجدان المسلم*
أ. د. عبد الحميد أبو سليمان
إذا سلمنا أن الأمة الإسلامية في أزمة، وأنها لا تنقصها الموارد المادية والبشرية، وأنها لا تنقصها القيم والمبادئ، ولا الغايات والمقاصد السامية التي يزخر بها الإسلام، فهي كرسالة خاتمة تملك كمال الهداية إلى الخير، والحق، والعدل، والإخاء. كذلك إذا سلمنا بأن المعالجات والجهود التي طرحتها رؤى المصلحين المسلمين لم تنجح حتى اليوم في استعادة عافية الأمة ورأب صدعها، فإن السؤال الذي لابد من أن يطرح هو: ما الذي أصاب الأمة؟ وكيف انحرفت مسيرتها؟.
حين ننظر الى مسيرة الدفع الإسلامي الأول وما فجرته الرؤية الإسلامية وجيل الرسالة في كيان الأمة الإسلامية في التاريخ، وكيف تعثرت مسيرة الرسالة في واقع الأمة فيما بعد، فيبدو الأمر وكأن قيم الرسالة، ورؤية الرسالة، وروح الرسالة في الاستخلاف بالإخاء والعدل والبذل وإتقان الأداء قد تعطلت عن الحركة أو كادت.
ويصبح السؤال المهم الآن هو: ما أهم التشوهات والانحرافات الفكرية والثقافية التي شوهت بناء الأمة النفسي، وحالت دون استرداد الأمة عافيتها، ومنعت مشروع الأمة الحضاري أن يحقق مقصده وغايته؟ وللإجابة عن هذا السؤال فإن من الممكن أن نتبين خمسة أنواع من هذه التشوهات:
التشوه الأول- تشوه الرؤية الكلية:
أول هذه التشوهات وأخطرها كان تشوه الرؤية الكونية الإسلامية التي تشكل إطار فكر الأمة وثقافتها؛ بحيث لم تعد رؤية كونية توحيدية شمولية إيجابية قادرة على أن تقدم الدليل والهداية الكلية لفكر المسلم وضميره وعلاقاته ونظمه.
لقد كانت الرؤية الكونية القرآنية -كما مارسها جيل الرسالة الأول- تتصف بالشمول والوضوح والإيجابية والتلقائية الفطرية، فهي إيمان بالله الخالق الحق العدل الذي ليس كمثله شيء، وهي إيمان بأن الإنسان الخليفة مخلوق من نفس واحدة، ليسعى في الأرض على أساس من العدل والتكافل والشورى؛ بقصد الخير والإصلاح والعمران ورعاية لكافة المخلوقات، وهو ذلك المخلوق الذي يقرر تقواه وإخلاص أدائه واجتهاده موضعَه ومكانته الأبدية في الدار الآخرة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، (وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعيه سوف يُرَى، ثُمَّ يُجزاه الجزاء الأوفي، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنتهى) [النجم: ٣٩/٥٣-٤٢]، وبذلك فالرؤية الكونية الإسلامية للإنسان تتلخص في ثلاث قضايا أساسية عامة هي:
- في الغيب: إيمان بالله الخالق وحده لا شريك له.
- وفي الحياة: حس المسؤولية، وقصد الخير والعدل، والسعي بالإصلاح والإعمار تحقيقاً وتجسيداً لقيم الخير والعدل.
- وفي الآخرة والمآل: مواجهة المصير، وحصيلة العمل –برحمة الله- تكون وفق الجزاء العادل، “إن خيراً فخير، وإن شراً فشر”.
ولذلك نجد الإيمان والعمل الصالح – في الرؤية القرآنية – لا ينفصمان، فغاية الإيمان هو العمل الصالح، والعمل الصالح هو كل أعمال جوارح الإنسان لا فرق بين عمل وآخر، حتى لو كان مثقال ذرة، حيث يتقرر نوعه وبعده الروحي على أساس قصد الخير منه وجهد الإتقان فيه، أي ليس فقط بالقصد؛ ولكن أيضاً بصلاح الأداء الذي يعني الاجتهاد في الأداء بطلب السنن والأخذ بالأسباب، والعمل بمقتضاها، أي أن يكون العمل صالحاً مستصحباً الإحسان والإتقان، فالنوايا وحدها لا تكفي لاستحقاق الاستخلاف والتمكين في الأرض، فذلك له ثواب الآخرة، أما التمكين والاستخلاف في الأرض والتوفيق في العمل وفعل الخير في الدنيا فمشروط بالصلاح، أي بالإحسان والإتقان والاجتهاد في العمل (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ ليستَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارتضى لهم) [النور: ٥٥].
هذه الرؤية الكونية الشاملة الواضحة الصافية في توحيد الخالق، وغائية الخلق، واستخلاف الإنسان، وقصد الخير والإصلاح والإتقان، وحمل المسؤولية، أصابتها تشوهات خطيرة، أسهمت في ذبول روح الإسلام وقوة دفعها، ومكنت لعوامل التخلف كي تفعل فعلها فيها؛ بحيث تخمد طاقة التجدد فيها، وتسلم الأمة إلى حالة من السلبية وانعدام الوزن، وتُقْتَلُ فيها كل إرادة للبحث والتنقيب والتجدد والدفع، وتسلم نفسيتها وكيانها إلى منحدرات المحاكاة والتقليد، ويُهدم فيها معنى العمل والمبادرة والإتقان، ومعنى الجماعة والأمة وتكافلها.
نلمس هذا بوضوح في الرؤية التي تقدمها بشكل عام وأساسي كتب الفقه والكلام، ويكون بها أسس التكوين التربوي والنفسي للفرد المسلم؛ فهي -في جوهرها- رؤية فردية لا رؤية جماعية، رؤية تتعلق بالشؤون الشخصية لا بالشؤون العامة. هي في نهاية المطاف رؤية سلبية لا تتفاعل مع كل أبعاد الحياة ولا تنفعل بها ولا تتابع مجرياتها ومتغيراتها، ولا تدفع عجلة أدائها الحضاري، فالهم الحاضر والشغل الشاغل محصور في “العبادات” كما عبر عن ذلك مصطلح علم الفقه؛ فيسهبوا في تفصيل أدق حركاتها وسكناتها، وينقسموا نحوها مدارس ومذاهب، ويتوزعوا بشأنها شيعاً وأحزاباً، أما شؤون الحياة والعمل والاستخلاف فجاء اهتمامهم بطبيعة موقعهم وزاوية نظرهم متعلقاً في جوهره بشؤون الحياة الفردية دون شؤون الحياة العامة، وليطلقوا عليها مصطلح “المعاملات”. والمقصود بالمعاملات مجموع المعالجات والضوابط الفقهية القانونية لشؤون تعاملات حياة الفرد المسلم وما يتعلق بها من القواعد والعقود، ويتطلب القضاء فيها، وتكاد تجردها من البعد الروحي الذي خُصت به العبادات “باعتبار” المعاملات كما عبر عن ذلك بعض الفقهاء أنها يجب أن تتم إجراءاتها وحسب القواعد الشرعية ولكنها في نفس الوقت أمر دنيوي اختياري لا يتعلق بها ثواب، ولا يلحق بعدم إتيانها إثم أو عقاب.
إنّ هذه الرؤية الفقهية واهتماماتها تختلف كلية عن الرؤية القرآنية التي تنظر إلى الإنسان نظرة شمولية لا تفرق بين مسؤولياته الفردية في حفظ النفس، ومسؤولياته الجماعية في حفظ الجماعة والأمة، ويشمل بعدها الروحي كل أعمال الإنسان، وتجعل من كل أعماله دون تفريق “عبادة” بحسب الغاية والقصد، حتى ولو كان ذلك من أعمال البضع وشهوات النفوس، فحياة الإنسان المسلم في الرؤية القرآنية كلها ذكر وجهاد، وكلها تعبد وعبادة.
فحياة المسلم في الصلاة والدعاء والصوم والزكاة وتلاوة القرآن وتعظيم الشعائر وأداء المناسك، وهي في الرؤية القرآنية ذكر وتذكر يحيي ضمير المسلم ويعينه على أداء واجباته والوفاء بالتزماته (إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وأَقِمِ الصَّلَوَةَ لِذِكْرِي) [طه: ١٤]. (قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى). (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَمَكُم) [البقرة: ٢]. (إن الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت: ٤٥]. (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله) [آل عمران: ٣].
إذن فحياة المسلم عمل وسعي في كل شؤون حياته الخاصة والعامة وفق الرؤية القرآنية، وهي كلها جهاد واجتهاد في كل شيء يفعله، جهاد في طلب العلم وفي طلب الرزق، وفي تهذيب النفس، وفي القيام بواجبات العدل وحماية المستضعفين، والسعي في حاجات الأمة، والذب عن ديار المسلمين، وفي تبليغ دعوة الحق والدين؛ بل إن هذا الجهاد والاجتهاد في شؤون الحياة الإسلامية هو من أهم غايات أعمال الذكر في حياة المسلم؛ لأن حياة المسلم كلٌ لا يتجزأ في قصد الخير اتباعاً وطاعة للحق سبحانه وتعالى (قُلْ إِنَّنِي هدني ربي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قيماً مَلَةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا أول المسلمين) [الأنعام: ١٦١/١٦٣].
فبقدر ما كانت الرؤية الإسلامية صافية فعالة شمولية إيجابية، كانت رؤية عصر العزلة والمدرسية -فكرياً- رؤيةً منكفئة على نفسها في جُل ممارساتها، وكانت في كثير من وجوهها ناقصة جزئية سلبية.
التشوه الثاني- التشوه المنهجي:
والتشوه الثاني هو تشوه معرفي منهجيّ، حَوَّل الفكر الإسلامي إلى فكر نظري، غارق في تأملات نظرية مدرسية، لا تجد طريقها إلى الحياة الاجتماعية للأمة، وهو تشوه أدى إلى عقم منهجي خطير، جعل المعرفة عملية استظهار وتقليد ومحاكاة، يغيب فيها بشكل عام كل أثر فعّال لعنصري الزمان والمكان، ومعرفة سنن الطبائع في الخلائق والكائنات. وقد ساعد على إحداث هذا التشوه المنهجي -إلى جانب العزلة الفكرية- الطبيعة النظرية الميتافيريقية الصورية للفلسفة والمنطق الإغريقي، وما أدى إليه الانبهار بهما وتأثيرهما على المناخ الفكري للأمة من إضعاف الفكر العملي التجريبي والفضول العلمي الذي دعت إليه المفاهيم الإسلامية في النظر، وفي السير في الأرض، وفي التفكر والتدبر، وفي القياس والمقارنة. وقد أدى ذلك إلى العجز الفكري الذي أسلم رجال العلم إلى التقليد والمحاكاة، وأدى مع مرور الزمن إلى التوسع في طلب النصوص، وإضفاء قهر القدسية عليها، مداراةً منهم لذلك العجز الفكري. كما ضَعُفَتْ أدواتُ الاجتهاد ووسائله الضرورية اللازمة لتوليد المعارف الإنسانية التي تتكامل مع معارف الوحي وهدايته، وتوليد المعارف اللازمة لنماء الأمة وامدادها بما تتطلبه من فكر قادر على مواجهة التحديات واحتواء المتغيرات والإفادة من الإمكانات.
وبسبب هذا التشوه المعرفي المنهجي بقيت منطلقات العلوم الاجتماعية في الفكر الإسلامي على هيئة عناوين ومبادئ مجردة، وعلى شكل مصادر ثانوية في ميدان علوم الفقه وأصوله، وحتى حين تهيأت الفرصة لأحد كبار علماء المالكية، بما تيسر له من الممارسة والاشتغال الواسع بالسياسة والحياة العامة أن يفتح أمام الفكر الإسلامي باب المعرفة الإنسانية الاجتماعية، ويكشف -مبدعاً- الكثير الثمين من مكنونات أسرارها وفهم طبائعها وعوامل تفاعلاتها ومتغيراتها ومعرفة أوجه التأثير فيها في كتابه العَلَم: (المقدمة)[1] تم تهميش هذا الفكر المبدع كما هُمش فكر كثير سواه من المبدعين، وبقى مشروع البحث في آيات العلم والمعرفة السننية الحية مشروعاً معطلاً، لم يكتب له -مع جدب الحياة العلمية المدرسية النظرية النصية- موضع، حتى صحت الأمة على كنوز المعرفة الاجتماعية التي فتحت للغرب -على أساس منطلقات ابن خلدون ومنهجه السنني في مجالات العلوم الاجتماعية في التاريخ وفلسفة التاريخ والاجتماع والاقتصاد والتربية- أبواباً وآفاقاً واسعةً.
لقد أدى هذا التشوه المنهجي الى أحادية المعرفة -سواء أكانت دينية أم مدنية-، وضمور الفكر وغياب النظرة السننية؛ مما حرم الأمة من نمو العلوم الاجتماعية التي تتكامل مع كليات الوحي وهدايته في ترشيد الحياة الاجتماعية الإسلامية، وتجديدها، وتطوير مفاهيمها ومؤسساتها وطاقاتها وإمكاناتها. وبسبب التشوه المنهجي أصبحت المعرفة نصية حرفية جزئية تقوم على التقليد والمتابعة والمحاكاة والاستظهار، وغرقت في التعقيد والحواشي والمختصرات. وجُزُئَتْ المعرفة، فبُوعد بين العقيدة وممارسة الحياة؛ حيث اختص فيها علم التوحيد بالعقائد المجرَّدة أو ما يسمى ب “علم الكلام”، وانفصل “علم الفقه” عن علم العقائد، واستقل بشؤون تفاصيل ممارسات الحياة الفردية، معتمداً في دراساته واجتهاداته على منهج جزئي يقوم على القياس الجزئي على ما سلف من حالات متفرقة دون أن تؤخذ فيها الصورة الكلية في الحسبان، وأصبح جُلُّ ما يعتمد عليه عند المتأخرين هو المفاهيم اللغوية للنص. وأصبحت المعرفة النصية في عصور العجز والجمود والتقليد غايةً تُطلب ليغطي قهر القداسة عجز المعرفة، وفي الوقت نفسه تُستخدم مادةً تُحشَى بها رؤوس الطلاب دون عظيم دراية أو اهتمام بآثار تلك المعارف، ومدى ملاءمتها للدارس، ودورها في تكوين عقليته، وبناء نفسيته[2].
التشوه الثالث- تشوه المفاهيم:
وثالث التشوهات الخطيرة التي أصابت الفكر الإسلامي والعقل المسلم هو تشوه المفاهيم، وقد كان نتيجة عزلة العلماء، وما نجم عن ذلك من عجز فكري وجمود وتوظيف لخطاب الترهيب؛ لإخماد روح المحاكمة والنقد، وإرغام العامة – بسبب العجز الفكري – على استسلام المتابعة والقبول لعلمائهم؛ لأنه ماكان بالإمكان أن تُخمَد روح المحاكمة، وطلب الاقتناع، إلا بأن يمتد التشويه إلى كثير من المفاهيم الإسلامية الأساسية؛ بما يسهل المهمة، ويهيئ العقول والنفوس للخضوع والمتابعة والاستسلام.
تشوه مفهوم العبودية: إن مفهوم (العبودية) يُعدُّ واحداً مهماً من المفاهيم الإسلامية الأساسية، وقد أدى تشويهه إلى تشويه كثير من المفاهيم الإسلامية الأخرى؛ لتتضافر المفاهيم المشوَّهة وتتمكن من إحكام القهر النفسي، وإلغاء العقل الناقد، والحجر على التفكر والبحث والاستقصاء، والاكتفاء بدغدغة الأحلام دون طلب النتائج وتقصي الآثار.
فالمسلم -كما أراد له الإسلام- عزيز، وهو خليفة مكرم، وعبوديته لله هي مثار عزة وكرامة، لأنها تعبير عن إرادة حرة في معرفة الحق واتباع طريقه السوي القويم، والمسلمون المؤمنون هم عباد الله المخلصون، وليس صدفة أن سبحانه وتعالى خاطب الإنسان في القرآن الكريم دائماً بلفظة (عباد) بكسر العين وفتح الباء، ومنها عُباد بضم العين وتشديد الباء المفتوحة، فلفظة (عباد) جاءت من (التعبيد)، وليس من (الاستعباد)، أما لفظة (عبيد) فقد جاءت في صيغة واحدة تكررت بلفظها ذاته في خمسة مواضع من القرآن الكريم وهي أن الله سبحانه وتعالى ليس “بظلام للعبيد”، لأن الإنسان حينما يضل ويشرك مع الله غيره من الخلق أو الهوى أو الشهوات فإنه -في هذه الحالة- يظلم نفسه ويستعبدها، فالعبد في طاعة الله هو من تعبيد النفس، والعبد بالانحراف عن الحق هو من استعباد النفس الذي هو ظلم وضياع وإضلال لها، وانحراف بها عن مسار الحق والهداية، ومن ذلك يتضح أن عبودية المسلم لله مشتقة من التعبيد لا من الاستعباد، والإنسان السوي؛ الذي هو على الفطرة السوية، هو معبَد لله، وليس مستعبداً، لأن الله هو خالقه، وهو بطاعة الطواغيت والأهواء لا يكون معبداً؛ بل يكون مستعبداً.
أما الخلط بين خطاب الله للكافر المكابر الجاحد المحارب مع خطابه سبحانه للمؤمن المعبد المقبل، وأن يصبح مفهوم “عبوديته” مشتق من الاستعباد، ويصبح هذا المفهوم الأخير مشجباً لكل ألوان المهانة والتهديد والوعيد وقهر الضمير، وأداة تحقير وسحق كرامة، وإلجام عقل، وحاجزاً بين المخلوق والخالق، فهو خلط لا أساس ولا معنى ولا داعي له، لأن الإنسان مخلوق محدود، والله هو الخالق المطلق، ولا مجال أصلاً للمقارنة بين المخلوق والخالق، ولا معنى لإثارة مثل هذه الدعاوى وتلك المقارنات في غير موضعها، وإشهارها في مواجهة العقل المسلم المؤمن غير المكابر أو المعاند؛ فتلك أمور لا نتيجة لها إلا استعباد ضمير المسلم وقهر عقله من قِبَل مُخاطبه، وإلزامه متابعته ومتابعة فهمه وفكره وغرضه دون فكر ولا عقل. وبتشويه مفهوم “العبودية” أمكن التهوين من شأن العقل، وأصبحت تساؤلاته وتفحصاته موضع الاتهام بالإنكار والعصيان، وقد أسهم هذا التشويه في قهر ضمير المسلم ومصادرة حقه في التفكير والتقدير والنقد فيما يخص سير حياته وعلاقاتها ومواجهة متغيراتها ومستجداتها.
لا شك أن تشويه مفهوم (العبودية) -الذي هو مصدر اعتزاز للمسلم ومنبع ثقة بالنفس- قد جعل التجهيل والإلجام والتحقير مصدراً لمشاعر الذل والعجز والضعف ومهانة القدر والعقل؛ وبذلك يصبح التقليد والمتابعة بديلاً عن التفكر والتدبر، ويصبح الخضوع بديلاً عن الاقتناع، ويكون القهر بديلاً عن الإرادة والخيار[3].
إن من المهم إدراك العلاقة بين المفاهيم الأساسية الإسلامية المتمثلة في مفهوم التوحيد، ومفهوم الإرادة ومفهوم العبودية، ومفهوم الاستخلاف، ومفهوم التزكية، ومفهوم العمران.
فمفهوم التوحيد ليس قضية كهنوتية تقف عند أوصاف مجردة للذات الإلهية، يتولى فئات من البشر الحديث عنها بالنيابة، ولكنه مبدأ ديني، ومفهوم إسلامي، له دلالته في حياة البشر، وفي فهم معنى هذه الحياة، وفهم الغاية منها.
مركزية مفهوم التوحيد ودلالاته الحياتية: إن أهمية مبدأ التوحيد في الإسلام تتمثل في أنه يشكل إطاراً لفهم الحياة والكون، ويرسي مبادئ العلاقات الإنسانية والأسس التي ترتكز عليها، وإن أي إخلال بهذا المبدأ والمفهوم له آثاره الخطيرة في معنى الحياة الإسلامية، ونوعيتها، والغاية منها.
فمبدأ التوحيد يعني وحدانية الخالق، وهذه الحقيقة تعني وحدة خلق الكون، ووحدة الحياة والإنسان، وغائية الخلق والكون، ويعني قصد الخير في الخلق، فلا مجال للاستعلاء أو الجور أو الاستبداد بين البشر، وبذلك فإنّ مبدأ التوحيد يحتم التزام مبادئ العدل والشورى والمساواة في الحقوق، وفي الكرامة الإنسانية، وفي حرية الإرادة والمسؤولية الإنسانية.
ومبدأ التوحيد – على أساس من مبدأ وحدة الخلق وغائيته الخيرة – يحتم التزام مبدأ استخلاف الإنسان بما أودع الله فيه من الإرادة والعقل والقدرة على التسخير، حيث يقع عليه واجب السعي الفردي والجماعي بالإصلاح في الكون، دون جور ولا استعلاء، ولا استبداد ولا إفساد أو إسراف.
والغائية الخيرية وحرية الإرادة والمسؤولية الإنسانية تتمثل في مبدأ التوحيد، ومبدأ الاستخلاف، الذي ينبني عليه حتمية التزام مفهوم التزكية ومفهوم الإعمار، حيث إن على الإنسان فرداً كان أم جماعة السعي إلى تحقيق غايات الخلق الخيرة، فيسعى إلى التكامل والتفاعل البناء مع الكون من حوله، وفق ما أودع الله فيه من السنن في النفس وفي الكون.
وإقامة التفاعل البناء في النفس بين المعاني الروحية والأشواق الخيرة وبين النوازع والغرائز والحاجات المادية الإنسانية المسيِرة للإنسان هو في تزكيتها تزكية النفس وأخذها بمبادئ الحق والعدل والخير وفق ما أوحى الخالق به في رسالاته من هداية ومعرفة، وما أودع في الكون والمادة من السنن، فذلك هو الوسيلة والتجسيد والتعبير عن تفاعل الأشواق الروحية الضميرية الخيرة، والغرائز والشهوات والحاجات المادية الإنسانية وتحقيق الإعمار الصالح والإتقان والإحسان، وفق ما أوحى به الخالق من هداية ومعرفة، وما أودع من الطاقات والسنن.
وإن تزكية النفس والسعي بالإصلاح في الأرض والكون على أساس هداية الوحي وسنن الفطرة التي أودعها الله في الكائنات هو لب مفهوم العبودية التي تعني: أخذ المسلم نفسه وتربيتها وترويضها وتزكيتها بما هو حق وعدل وصواب، فذلك هو “تعبيد” النفس للحق الذي هو صفة واسم الله سبحانه وتعالى، وهو السبيل إلى الإيمان والعمل الصالح المؤهل للاستخلاف والإمامة وخير الدارين.
وبهذا الفهم المتسق بين منظومة المبادئ والمفاهيم والرؤية الإسلامية الكلية يصبح مفهوم “العبودية” – كما عبّر عنه القرآن الكريم – مصدر عزة واعتزاز وقوة وثقة في ضمير المسلم، وفي بنائه النفسي والوجداني، وليس استعباداً للنفس الإنسانية، ولا مصدراً لأحاسيس المذلة والمهانة والخنوع والسلبية في ضمير المسلم، وفي بنائه النفسي والوجداني، على غير مقاصد الإسلام وغاياته في الإصلاح والإعمار، ومن بنيت نفسيته على الذل والمهانة والخنوع في أي اتجاه فلن يستطيع معرفة معاني العزة والكرامة والمسؤولية في أي اتجاه.
ومن المفيد في هذا المقام الاستعانة ببعض نصوص القرآن الكريم التي تصل القارئ الكريم بالمصدر الأساس لمبادئ الإسلام ومفاهيمه في التوحيد والعبودية والتزكية، وفي الاستخلاف والإصلاح والعمران، على النحو الآتي:
في التوحيد والعبودية والتزكية: تجعل آيات القرآن الكريم مبدأ الوحدانية مبدأ أساسياً لقيام الكون وأساساً لصلاحه وحفظه، فالله هو الواحد وهو الخالق، وهو بذلك مصدر المعرفة بحال الكون، وله وحده حق التوجيه والطاعة في أمر الكون، وفي غايته وصلاح أمره، وعلى طريق الإيمان بالخالق والإحسان في الأداء يكون الصلاح، وتكون العزة وحسن المآل في الدارين.
يقول الله سبحانه وتعالى في تقرير مبدأ الوحدانية (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ خَلقُ كُلِّ شَيْءٍ فَأَعْبُدُوهُ) [الأنعام: ١٠٢]. (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلهة إلَّا اللهُ لَفَسَدَنَا فَسُبْحَنَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنبياء: ٢١).
ويجعل الله سبحانه وتعالى الإحسان وتعبيد النفس لله سبباً للصلاح (إنا كَذِلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات: ۸۰-۸۱]. (فمن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَلِحًا وَلَا يُشْرِكَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحدا) [الكهف: ۱۸) (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَللْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) المنافقون: ٨].
والصلاح سبيل العزة في الدارين يقول الله في كتابه العزيز (أم نجعل الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصّاَلِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص: ۲۸]. ﴿يأيتها النَّفْسُ الْمُطمئنة، ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي في عبدِي وَادْخُلِي جَنَّتي) [الفجر: ۲۷/۸۹-]. (إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ لَهُمْ أَجْرُ غَيْرُ مَمْنُونِ) [الانشقاق: ٢٥].
في الاستخلاف والإصلاح والإعمار: ومن المفيد أيضاً أن نذكر بعض الآيات التي يفصل القرآن الكريم فيها سبيل الهدى والصلاح، ومآل المستخلف المؤمن المتقن الصالح الذي يسعى بالصلاح، كما يفصل فيها القرآن الكريم سبيل الجحود والضلال، ومآل الجاحد الضال؛ ففي ذلك تبيان لمبادئ الحق ومناهج العزة والإصلاح والإعمار. يقول الله سبحانه وتعالى (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) [النور: ٢٤] (ثمَّ جَعَلْنَكُمْ خَلَائفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس: ١٤] (يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَاكُم مِّنَ الْأَرْضِ واسْتَعْمَركم فيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ تُجيب) [هود: ٦١]. (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّن الله إن اللهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: ٥٠] (الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى: ٢] (إِنَّ اللَّهَ بَالِغْ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىءٍ قَدْرًا) [الطلاق: ١٣]. (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) [المرسلات: ۲۳] (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْتَهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49] (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَوْ يَلْبِسُوا إِيمانهُم بظلم أولئكَ لَهمُ الأَمنُ وَهُم مُهْتَدُونَ) [الأنعام: ١٨٢]. (مَنْ عَمِلَ صَلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حيوة طيبة ولنجزينهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: ٩٧] (وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأَوَلَئْك لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلَى) [طه: ٧٥] (يَا قَومِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَه غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيْنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ والميزان وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأعراف: ٨٥]. (وابتغِ فيمآ أتاكَ اللهُ الدارَ الْآخِرَةٌ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: ۷۷]. (ومن كَانَ يَرْجوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أحدا) [الكهف: ١١٠].
وفي كتاب الله المزيد للمستزيد، كما أن في صحيح السنة – متناً وسنداً كنوزاً من الهداية والتوجيه ما يزال الكثير منه ينتظر الجهود العلمية للإفادة منها في تربية النشء، وإصلاح منهج فكره وتنقية ثقافته، وحسن توجيهه. إن من المهم استعادة سلامة فهم المبادئ والمفاهيم الإسلامية الأساسية، وحسن عرضها وتحريرها وشرح حقيقة دلالاتها في حياة الإنسان المسلم، الفردية والجماعية، وإزالة كل ما علق بها من تشويهات وصبغات كهنوتية حرفية تحكمية، كما يجب إزالة كل ما علق من تشوهات بالرؤية الإسلامية الكلية، حتى نحافظ على فعاليتها وصفائها وما تعبر عنه من روح إيجابية إصلاحية عمرانية؛ تقوم على قيم العدل والشورى والتكافل والمسؤولية والكرامة.
التشوه الرابع: تشوه الخطاب
والتشوه الخطير الرابع الذي أضر بالعقل والوجدان والنفسية المسلمة هو تشوه الخطاب الإسلامي في عهد الفصام بين النخبة الفكرية الإسلامية والنخبة السياسية، وما أورثه هذا الفصام والعزلة من عجز فكري حول فكر الممارسة والاجتهاد والتجديد والإبداع إلى فكر مدرسي نصي مغلق، فقد تحول هذا الخطاب من خطاب فكر ونظر وتدبر واقتناع وقدرة على الاجتهاد والتجديد واحتواء متغيرات الزمان والمكان ومستجداتهما، إلى خطاب إرهاب وقهر وقمع اعتمد – في كثير منه–على التقليد والنص الضعيف وسوء التأويل. فإرهاب الخطاب الديني -المتمثل في جهنم ولظى الجحيم وأهوال القبر ويوم الحشر الذي ينتظر المؤمنين عقاباً لهم على صغير خطاياهم وكبيرها، يعتبر من أسباب خمود روح الأمة وغيبوبتها وسلبيتها وعجزها.
من الأمثلة المباشرة التي تقرب إلى ذهن القارئ بعض ما أصاب الخطاب الإسلامي من إرهاب فكري وسوء استخدام رموز القداسة ذلك الأسلوب الذي لجأ إليه أحد الخطباء في خطبة من خطب الجمعة بشأن أمر من أمور الهيئة، وهو موضوع إطلاق اللحية، إلا أن ذلك الخطيب لم يكن لديه الشيء الكثير الذي يمكن أن يوضح به للجمهور الحكمة من إطلاق اللحية، ولم يحاول أن يصل إلى إقناع المستمعين بما يعرضه عليهم، فقام تحويل هذه القضية الهامشية من كونها قضية من قضايا الهيئة، مثلها في ذلك مثل شعر الرأس وأزياء اللباس، إلى قضية عقيدة وإيمان، وكفر وعصيان، حيث إنه افترض أن حليقي اللحى هم بالضرورة منكرون للسنة، والمنكر لأمر النبي منكر للدين، ومنكر الدين كافر.
ومن صور الترهيب غير الواعية ما تسمعه وتحسه في قراءة بعض الأئمة من حدة النبرة في توجيه آيات الوعيد وكأن القارئ يتقمص الذات الإلهية في توجيه الخطاب إلى من خلفه من المأمومين ولا يدرك مثل هذا الإمام أو القارئ أن الخطاب هو خطاب إلهي موجه إلى الإنسان قارئا أو مستمعاً | إماماً أو مأموماً، وعلى الجميع أن يقرأه وينصت إليه بخشوع وحس مرهف لا يستثنى من ذلك أحد، فأسلوب الدعوة والوعظ الصحيح هو من يخاطب نفسه بما يقول قبل أن يخاطب سواه، وهو خطاب مؤثر من منطلق الحب والترغيب والمشاركة في العمل الطيب قبل أي شيء آخر.
والإشكال في الأمر هنا هو الفكر والمنهج الذي ما زال يسمح – حتى اليوم لهذا اللون من الخطاب ومن التعليم – باستخدام النصوص وتوظيفها وتوظيف قدسيتها بشكل عشوائي دون تحقيق علمي ومنهجية شمولية تتكامل فيها مصادر المعرفة، ودون تربية وتعليم ينشئ عقولاً واعية، ونفوساً ناضجة تدرك أطراف القضايا المطروحة في واقع الحياة وتكون قادرة على إدراك أبعادها وأولوياتها وموضع المتغيرات فيها.
ولما كانت التربية وتعليم العقيدة والدين والثقافة بمثل هذا النوع من الخطاب المستخدم في تكوين العقلية وبناء النفسية المسلمة، كان أثر التعليم الديني – في أغلب الأحيان ضعيفاً وغير إيجابي، ومن الممكن استقراء ذلك وملاحظته في ضعف استجابة عامة أبناء الأمة لما يلقى عليهم من مواعظ، كما يمكن تحسسه في عواطف الطفل نحو هذه المعارف وأساليب تلقينها وتعليمها.
يكفينا في هذا الموضع أن نشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أباً وجداً ومربياً ناجحاً، وأنه لم يضرب طفلاً قط؛ لأنه كان رفيقاً بالأطفال والناشئة، وكان -في تعامله وتواصله معهم- مدركاً لطبائع نفوسهم، ومراحل نموهم، وما يناسب عقولهم من أنواع الخطاب، ولذلك لم يكن في حاجة – في منهجه التربوي الواعي، وفي تواصله الوجداني الفعال مع الصغار- إلى أن يضرب في حياته طفلاً قط.
إن من الضروري إلى جانب المنهجية الشمولية التحليلية المنضبطة، وتكامل مصادر المعرفة في التعليم الإسلامي، إيجاد آلية شورية منتخبة مؤهلة علمياً لكي تميز الآراء والاجتهادات، وتختار للأمة الرأي الذي يرى فيه أهل الشورى -على أساس من العلم بثوابت الشريعة ومقاصدها وأحوال الناس- ما فيه صلاح الأمة، ويستجيب لأحوال النفوس وطبائعها، وما تتطلبه من الحاجات، وما يتوافر لديها من الإمكانات، وما يناسب الظروف والمتغيرات، مستنداً في ذلك كله إلى العلم والمعرفة والمنهجية الإسلامية المتكاملة فيكون بذلك خطاباً شورياً له أولوياته، خطاباً مدركاً لمواضع خطواته في قيادة المجتمع وتوجيه مسيرته ونظام حياته، يكسب بمؤهلاته الشرعية والسياسية قناعات الشعوب، ويضم صفوفها، ويفجر طاقاتها، ويحكم نسيج علاقات مجتمعاتها.
هذا اللون من المناهج المعرفية العلمية الإسلامية حين يتكامل مع الآلية الشورية يوفر المناخ الذي يفسح المجال للاجتهاد والتجديد دون الآثار السلبية التي تجعل من الاجتهادات وسيلة إلى تشتت الولاءات، وأداة لمزيد من تمزق الصف، وبلبلة النفوس، وسلبية الاستجابة وذلك بسبب غيبة المنهج المعرفي العلمي السليم، وفكر تكامل المعرفة الإسلامية والإنسانية الكونية، وغياب آليات الشورى التي تعين على تمحيص الفكر والاجتهادات، وتنسخ دون مخاطر هامة مجال حرية التفكير والتعبير، وتشرع إسلامياً للأمة، بعد استقصاء كل رأي واجتهاد ومطلب فيأتي التشريع عقدياً -موثوقًا ممحصًا- دليل حركة الأمة المتطور بتطور متغيرات أحوالها، وعلى أساس من هدي ثوابت دينها وطبائع الخلق وحاجات المجتمع.
إن مسحة الإرهاب التي أصابت الخطاب الإسلامي لم يقتصر أثرها على خطاب البالغين، بل امتد أثرها إلى كل ألوان الخطاب، ولاسيما خطاب الطفل وتعليمه الذي اصطبغ بمنهج الإملاء والاستظهار والمتابعة وقهر العنف المادي والمعنوي، وتوظيف رموز القداسة لكبت روح النقد والفحص والتمييز والخضوع.
التشوه الخامس: عقلية الشعوذة والخرافة
والتشوه الخامس الخطير الذي أصاب عقلية الأمة وترك آثاره المدمرة على البناء النفسي وأسهم في انحطاطها، وفي غياب دورها العمراني الحضاري، هو تكوين عقلية الشعوذة والخرافة لدى عامة الأمة.
وعقلية الشعوذة والخرافة في معناها ودلالاتها الإنسانية والحضارية هي تشويه للعقلية السننية وتدميرها لدى أبناء الأمة. وإذا أدركنا أن أهم وجوه التحدي الذي تواجه الأمة في هذا العصر، إنما هو التخلف العلمي والتقني، سواء أكان ذلك في ميدان السياسة أو الاقتصاد أو العمران، أو في ميدان القدرة على تطوير سلاح المنازلة والحرب والقتال.
والعجيب أن تفشو عقلية الخرافة والشعوذة في أمة القرآن الذي جاء يدعو إلى السعي والتفكر والنظر والتدبر والجد والإتقان والإحسان والاجتهاد والجهاد وتتبع السنن والأخذ في طلب الأمور بالأسباب.
طلب السنن الكونية شرط لازم غير كاف: التوكل والتواكل:
وإذا كان خطاب القرآن في آلاف آياته موجهاً إلى القلب والعقل، يقيم الحجة ويدعو إلى العمل ويلقي المسؤولية، ويأمر أمة محمد عليه السلام بالجد والسعي والجهاد والأخذ بالأسباب: “اعقلها وتوكل”[4]. (وَأَن لَّيْسَ الْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: ٣٩]. فبالعمل والسعي وبطلب السنن الإلهية الكونية يتحقق التأهيل للحصول على الثمر، وتكون المسؤولية، فذلك شرطٌ لازمٌ، ودون ذلك لا يكون أصلاً أي استحقاق لأي أحد، وليس في العجز والقعود عن طلب الأسباب والجري وراء الخرافة والأوهام أي معنى من معاني التوكل والسعي واتباع السنن الإلهية الكونية التي لا بديل عنها في إدارة شؤون الحياة، ولأن حقيقة التوكل والدعاء ونفعهما إنما تكون بعد أداء العمل وبذل الجهد والسعي والكد والاجتهاد، ويقصد بهما طلب عون الله وتوفيقه.
إن من العجيب المحير للعقول كيف أمكن مع تلك الرؤية الصافية والعقائد الهادية أن تتسرب عقائد الخرافة والعشوائية والقعود عن العمل وعدم إعمال العقل وطلب السنن وقيمها ومفاهيمها إلى عقول المسلمين وثقافتهم؛ وهم أتباع الكتاب والمطالبون بالقراءة والعلم والمكلفون بالسعي والعمل؟.
إن العمل وطلب الأسباب على أساس من سنن الطبائع التي أودعها الله ما خلق من الكائنات شرط ضروري للتأهيل بهدف الحصول على الثمر، ولكن الوفاء بشرط السعي والعمل غير كافٍ وحده لضمان الحصول على النجاح، ولا هو وسيلة كافية في خاتمة المطاف إلى نيل أي شيء من الثمر إلا بعون الله وتوفيقه، والدعاء إلى الله والتوسل إليه، وسيلة المسلم المباشرة في طلب العون والتوفيق من الله وهو في الوقت نفسه روحية تشحذ الهمة، وتقوي العزم وتعين على الصبر، وتخطي الإخفاقات، ومواصلة العمل والجهد بعزيمة وهمة متجددة، وأي شيء وراء ذلك إسلامياً- هو جهل وخرافة وشعوذة، وهو وهم وضلال وسوء تأويل، يضر بالمرء، ولا يزيده إلا خبالاً وضياعاً وشقاء ورهقاً.
مواصلة الجهود لتحرير النصوص والمفاهيم والتفاسير وتنقيتها: إن ما يعاني منه منهج الفكر الغالب في الأمة من الجزئية اللغوية والنصية الحرفية التقليدية المستندة إلى رؤى وظروف تاريخية لا تتعلق بالسنن، ولا بالواقع الذي نعيشه، ولا بالتحديات والمشاكل التي نواجهها اليوم؛ يجعله اليوم كالأحجية التي تمزق صورة معقدة إلى أجزاء كثيرة متساوية، فيصبح من الصعب على من لا دارية لهم بكلية المطلوب أن يصنع من تلك المزق الصورة الصحيحة الأصلية، وينتهي جهل الناس بحل الأحجية إلى صور مشوهة عديدة، كل صورة منها تختلف عن الأخرى، وكل صورة تمثل مزقاً غير متناسقة؛ بحيث لا يسهل أن يملك أي واحد صورة تمثل الحقيقة كاملة، وهو ما نراه اليوم؛ حيث ترتفع في كل أمر أصوات لا تُعَدُّ، وبرؤى وأسانيد متغايرة متنافرة، لا يعلم الناس أيها يحوي الحقيقة والصواب، وكل واحد منهم لديه قول يسنده نص يدحضه قول آخر ونص آخر؛ ولو التزم الفكر منهجاً شمولياً سليماً موحداً محرراً في الشكل والموضوع لانتهى البحث والحوار بأهل الفكر والعلم إلى حدود في الفهم يلتزمونها، لها قواسمها المشتركة التي تختلف في تفاصيلها وتطبيقاتها وأولوياتها بحسب الظروف الزمانية والمكانية، وبحسب الزوايا التي يتعاملون معها؛ مما يعني إثراء الفكر وتكامل الخبرات والتجارب.
المنهجية السليمة لا تسمح للأحداث والتطبيقات والملابسات الزمانية والمكانية أن تطغى على المقاصد والثوابت والكليات، وأن تضلل الجهود المبذولة لمواجهة المشكلات والتحديات، فلا تجد التفسيرات والمفاهيم الخاطئة والنصوص المحرفة والموضوعة والقصص والأساطير والإسرائيليات طريقها إلى فكر الأمة وثوابتها وكلياتها وثقافتها وممارسات جمهورها.
تتقدم الأمم بالعلم والمعرفة لا بالخرافة والجهل: لم تتقدم الأمم بفعل السحرة وجهود المشعوذين، وإنما تقدمت الأمم وعمرت الأرض بما وهب الله للإنسان من العقل والمعرفة والقدرة وفقاً لما قدر في الكائنات من الطبائع والإمكانات.
أما من أخذ بالعلم والمعرفة فقد قربت له المسافات، ونما له الإنتاج، وتيسرت له الجهود، وتقدمت لديه الصنائع والخدمات، وتوسع بين أبناء قومه نطاق العلم والتعليم وعولجت في ربوعه الأمراض، وكوفحت الأوبئة. وبالجهل والخرافة زادت معاناة الشعوب وازداد فقرها، وفشا الجهل والمرض في ربوعها، وضاعت حقوقها، وذلت رقابها، وانتهكت حرماتها.
مزيداً من الجهد في تحرير المفاهيم الأساسية: لقد بدأ الأستاذ الإمام محمد عبده بعد أن تعرض للتحدي العلمي الأوربي، وتابعه عدد من العلماء والمفكرين – أمر التصدي في العصر الحديث لتنقية التراث من اثار الخرافة والشعوذة في العقل المسلم؛ وذلك بإعادة النظر في فهم النصوص وأدبيات التراث، وأعاد عرض هذه الإشكالات من زاوية معطيات العصر ومفاهيمه ومعارفه وإمكاناته وتحدياته؛ وذلك بدعوته إلى إعادة النظر في نصوص التراث وأساليب فهمها ونقدها وتأويلها، وإعادة صياغة الخطاب الإسلامي على ما كان على زمانه من المستجدات والمتغيرات والحاجات والإمكانات، وكانت الغاية من جهوده تنقية الثقافة ودعم الروح والعقلية العلمية لأبناء الأمة. وعلى الرغم من جهوده وغيره من الرواد التي مثلت بداية هامة، إلا أنه ما زالت هناك حاجة ماسة إلى مزيد من الجهد الذي يجب أن يكون منهجياً، يمكنه أن يرسي الأسس والمفاهيم العامة الضرورية المطلوبة لتحرير العقل المسلم من فكر الخرافة والشعوذة، وعلى أسس متينة، تليق بأمة (العلق) و(القلم) و(الحديد)، وفي عصر تجلية قدرة علم السنن التي لا تغيير لها ولا تبديل؛ فبالمنهجية العلمية السليمة تتوحد الرؤية ويتسع القدر المشترك، ودون المنهج العلمي السليم تمتنع على الأمة الرؤية الصحيحة المشتركة، وتتلاشى القدرة على تحرير الأفكار والثقافة والمواقف بشكل موضوعي مقنع فعال.
ولذلك، فإنه من غير المجدي إدارة الحوار بشكل عشوائي، وعلى أساس من المنهجية الجزئية أو الحرفية اللغوية في أمر جوهري هام، مثل مقاومة فكر الخرافة والشعوذة وتمكين العقلية العلمية، لأنه وفي غياب ضابط منهجي لحوارات الفكر وخلافات الرأي، ستنتهي هذه الحوارات إلى متاهات من القضايا الجزئية التي لا نهاية لها، ولا تقود إلا إلى الفوضى الفكرية، وإلى حدة الخلافات الوهمية، وتطرف المواقف الزائفة، والهروب من النظر العلمي إلى الحكم على النوايا وتراشق الاتهامات وتوليد العداوات؛ التي تمزق الصفوف، وتضعف العزم، وتدمر الحس الجماعي، وتقيم حواجز العزلة وعدم الاكتراث بين جمهور الأمة وصفوتها المثقفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عبد الحميد أبو سليمان (2005). أزمة الإرادة والوجدان المسلم: البعد الغائب في مشروع إصلاح الأمة (في إصلاح الثقافة والتربية: رؤية إسلامية معاصرة). دمشق: دار الفكر. ص ص. 53 – 103.
[1] هو أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون (۷۳۲ – ۸۰۸ هـ، ١٣۳۲-١٤٠٦م) صاحب المقدمة.
[2] السنة النبوية مصدر غني ،ومهم ومن خلاله يُبَيِّنُ نموذج التطبيقات النبوية في واقع المجتمع الإنساني على عهد رسول الله ﷺ أبعاد الرسالة ومبادئها ويثبت إمكانية تطبيقها في واقع الحياة البشرية ولكن يجب أيضاً فهمها وفهم ظروف تطبيقاتها الزمانية والمكانية، حتى ندرك حقيقة دلالاتها، كما يجب الحرص على الصحيح منها فقط؛ الذي تعمل في تحقيقه كافة الأساليب العلمية من حيث نقد السند ونقد المتن، وأهمها اتساق معاني النصوص مع مبادئ القرآن الكريم ومفاهيمه ومقاصده، وإن أي نص لا يوثق بسنده أو لا يحقق المبادئ والمقاصد القرآنية لا يمكن لأوهام شكلية ومغالطات كلامية، أو لقصور منهجي أن نقبله ونلغي بذلك عقولنا ونعطل مناهجنا ونتجاهل مقاصد القرآن الكريم ونسيء تأويله. أما ما صحت معانيه من النصوص التي لا يوثق بسندها فتكون من باب الآثار ويستفاد من المعاني المشتملة عليها دون حاجة إلى أن نضفي عليها أستار القداسة؛ لأن قبولها حينذاك يكون متعلقاً بما فيها من المعاني، وفي ذلك الكفاية.
[3] أبو سليمان، عبد الحميد أحمد، ترجمة ناصر أحمد المرشد البريك. النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية الرياض مطابع الفرزدق التجارية الرياض ۱۹۹۳م – الأصل باللغة الإنجليزية صدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي هرندن فرجينيا ١٩٨٦م.
وانظر كذلك كتاب أبو سليمان عبد الحميد أحمد أزمة العقل المسلم. الرياض: المعهد العالمي للفكر الإسلامي والدار العالمية للكتاب الإسلامي. ١٩٩٤م.
[4] سنن الترمذي: ١٤٤١.