إسلامية المعرفة وفلسفة التكامل المعرفي

إسلامية المعرفة

وفلسفة التكامل المعرفي*

د. عزيز البطيوي**

إن الحديث عن فلسفة التكامل المعرفي هو حديث ينتمي إلى مجال الإبستيمولوجيا ولا يندرج ضمن مباحث العلم ذاته. إن تمزق التخصصات المعرفية وانغلاقها وإعجابها بذاتها والاغترار بنتائجها وتحقير ما سواها، أنشأ التباسات جديدة بين ما هو عقلاني وما هو لاعقلاني. فقد صار التخصص العلمي صنمًا، وعبادة الأصنام تصنع أوهامًا جديدة سرعان ما تتحول إلى حقائق بحكم النسيان اللاشعوري، ويصير ما هو محل العقلاني لاعقلانيًا. لذلك كان مشروع التكامل المعرفي محاولة لترشيد حقل المعرفة البشرية بكل أجزائها وما تحمله من اختلافات على مستوى مصادرها ومناهجها وسياقاتها.

ويمكن القول إن فلسفة هذا المشروع هي في حقيقة الأمر نظر في الأساس الفلسفي والاعتقادي الموجه للعلم، ومحاولة لإيجاد حل لأزمة المعرفة البشرية المعاصرة، وهو ما يستدعي البحث في الطبيعة الإشكالية لمفهوم التكامل المعرفي، وفحص مدى أصالته وفعاليته في تجاوز معضلة التشظي والانقسام التي أفرزتها عملية الفصل بين العلوم والمعارف والكشف عن الأسس الإبستيمولوجية والخلفية الفلسفية والأبعاد الحضارية لمطلب التكامل المعرفي.

في التحديد الدلالي لمفهوم التكامل المعرفي:

بعيدًا عن الكتابات الغربية التي أطرت المفهوم فلسفيًا وإبستيمولوجيًا، وبغض النظر عن الحقول العلمية التي أبرزت فكرة التكامل المعرفي ضمن الحداثة الغربية، فإننا سنتجه صوب بعض الكتابات في الحقل العربي والإسلامي لتبين حقيقة التكامل المعرفي ضمن سياق تداولي خاص. فالتكامل المعرفي في نظر أبي بكر محمد إبراهيم عبارة عن «مشروع فكري يسعى لتطوير منظور توحيدي تصدر عنه كل العلوم والمعارف»[1]. فالمنظور التوحيدي ذو المرجعية الدينية الإسلامية هو منطلق تحقيق التكامل بين دائرتي العلم والإيمان، وهو ما أفرزته مدرسة “إسلامية المعرفة” لتجاوز التناقض الصارخ بين النظام التعليمي التقليدي والحديث.

ورغم ما يكتنف هذا التحديد من اعتراضات وإشكالات ترجع في جزء منها إلى المنطلقات والأسس التي يصدر عنها مشروع “إسلامية المعرفة”، فإن هذا الأخير يبقى محاولة أصيلة لتخطي أزمة المعرفة كما تبدت عبر عصور انحطاط الأمة. وقد كان من المنتظر تطوير هذا المنظور في اتجاه تجاوز الاعتراضات التي وجهت إليه خصوصًا من داخل المنظور التوحيدي نفسه، لكن الدراسات والمقالات التي جاءت بعد ذلك كانت تفتقر إلى وضوح الرؤية وقوة المنهج؛ فوقعت في تلفيقية غريبة ظنت من خلالها أنها هي المقصودة بمشروع التكامل المعرفي. تجدر الإشارة هنا إلى كل من عشوي وقطب سانو، على سبيل المثال لا الحصر. فقد رأى عشوي[2] أن التكامل هو عملية ردم للهوة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية، أما قطب سانو[3] فينظر إلى التكامل المعرفي على أنه «ذلك الجهد العلمي المنهجي المنظم الذي يهدف إلى تطعيم المعارف الشرعية بإيجابيات وحسنات المعارف الإنسانية والاجتماعية من جهة، وتطعيم المعارف الإنسانية والاجتماعية بإيجابيات وحسنات المعارف الشرعية من جهة أخرى». لقد صار التكامل المعرفي بما يحمله من أبعاد ودلالات إبستيمولوجية وفلسفية وقيمية مختزلاً في مجرد إزاحة تلك المسافة بين العلم الاجتماعي والعلم الشرعي، بغض النظر عن خلفياتهما ومنطلقاتهما والمنظومة التي يصدران عنها، خصوصًا حينما نعمل فقط على تطعيم كل واحد منهما بحسنات الآخر. إن التكامل المعرفي ليس مجرد تطعيم أو ردم للهوة بين علم وآخر، أو سعيًا نحو المجانسة والمماثلة؛ إنه المدخل نحو إعادة بناء المنظومة المعرفية للعلوم بما يتوافق مع بنيتها وطبيعتها وخصائصها.

الأساس الإبستيمولوجي للتكامل المعرفي:

يتميز مفهوم التكامل بأصالته التاريخية وعمقه الحضاري. فدعوى التكامل ليست دعوى مرتبطة بفلسفة الحداثة وتحولات العلم المعاصر، بل تجد أصولها في تراث العلم وتاريخه؛ إذ التكامل هو الموقف الطبيعي والأصلي والأصيل من المعرفة، وهو ما يكسب هذا المفهوم معقولية تاريخية يستمدها من تلك الصور ومظاهر التأسيس الأولي لمفهوم التكامل في التراث وامتداداته وتعبيراته عند كثير من أعلام العلم في الثقافة العربية والإسلامية، مثل ابن حزم والغزالي وابن خلدون رحمهم الله. وليس من أغراضنا في هذا البحث استقصاء المشاريع التكاملية في التراث الإسلامي، ولكن يكفي الإشارة إلى قول ابن حزم في رسالة العلوم: «العلوم كلها متعلق بعضها ببعض… محتاج بعضها إلى بعض، ولا غرض لها إلا معرفة ما أدى إلى الفوز في الآخرة»[4].

فعالية مفهوم التكامل المعرفي: يتمتع مفهوم التكامل من حيث طبيعته وبنيته وامتداداته بصلاحية إبستيمولوجية، وتمنح هذه الصلاحية إنجازية وأدائية للفعل التكاملي المعرفي. ولعل تفجر المعرفة قد أسهم في تعميق الأزمة والهوة بين العلماء الطبيعيين وعلماء الإنسانيات وتوزع المعرفة إلى وحدات وفروع معرفية مستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض لا يكاد يوحد بينها أي رابط، مما أفقر هذه العلوم ودفع بها إلى أزمات إبستيمولوجية عولجت للأسف بمزيد من التشظي والتفرع المعرفي خلال القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، لكن صيحات تعالت هنا وهناك منذرة بما آلت إليه حقول المعرفة العلمية.

وقد نتج عن معضلة وأزمة نشأة العلوم الإنسانية والاجتماعية بالغرب، وسياقات ورودها داخل المجتمعات الإسلامية، واستنباتها دون الوعي بأصولها المعرفية وخلفياتها الفلسفية ورؤيتها للإنسان والكون والحياة، وذلك من لدن أناس لا صلة لهم بالرؤية المعرفية والمنهجية للعلوم الشرعية – نتج عن كل هذا – «انفصال العلوم الوافدة عن العلوم الموروثة بمناهجها وموضوعاتها وقضاياها التي تهتم بها، والنتائج التي تتوصل إليها. وأضحت لدينا علوم اجتماعية حديثة ولكنها غير وظيفية، كما أضحت لدينا علوم شرعية أصيلة ولكنها غير فاعلة في التطور الاجتماعي. وإضافة إلى ذلك، كانت مدرسة العلوم الاجتماعية الحديثة أكثر قدرة من مدرسة العلوم الشرعية على ملء الفراغ الذي أوجده جمود العلوم الشرعية وعجز القائمين عليها عن استيعاب القضايا المستحدثة وإخضاعها للمنهجيات الشرعية، ووجدت مدرسة العلوم الاجتماعية داعمًا قويًا لها في الدولة الحديثة من جهة والدوائر الأكاديمية الغربية من جهة أخرى. وبعد مرور ما يقرب من قرن على نشأة العلوم الاجتماعية الحديثة – المنقولة- ثبت أنها لم تسهم في تقدم أو نهضة المجتمعات العربية والإسلامية، وأن حصيلة ما أنتجه أساتذة العلوم الاجتماعية – بمختلف فروعها – لم يعد كونه مجرد نظريات واهية الصلة بمشكلات المجتمع الذي ينتمون إليه، واتضح أنهم كانوا في أغلبهم وسطاء مترجمين ولم يكونوا علماء حقيقيين، ولم يظهر لواحد منهم نظرية اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو اقتصادية تنسب إليه هو وإلى اجتهاده الذاتي[5].

وإذا ما تحولنا إلى الحديث عن التكامل المعرفي بين العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الشرعية، على ما في هذا التصنيف من نظر، فإنه لا بد من القول إنه من الضروري إعادة بنية العلاقة المعرفية بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، وتجاوز الفصل بينهما الناتج عن ظروف انحطاط الأمة وتخلفها. والأصل أن علوم الشرع كانت اجتماعية، وأن ما هو اجتماعي كان موجهًا بعلوم الشرع، فطبيعة هذه الأخيرة اجتماعية، كما أن العلوم الاجتماعية ينبغي أن تكون شرعية ويجب أن تكون المنهجية الشرعية الإنسانية هي الحاكمة، وهو ما يقتضي منا اليوم وضع قواعد ضرورة استثمار المنهجيات الشرعية الأصولية في تطوير مناهج العلوم الاجتماعية برؤية مقاصدية.

ذلك أن الخطاب الشرعي من خلال ما يسنه ويضعه من تكاليف شرعية، يعمل على بناء نظام جديد ويسهم في تشكيل شبكة من العلاقات والقيم والتصورات داخل المجتمع، ولا يمكن للعلوم الاجتماعية أن تتفهم قضايا هذا النظام الاجتماعي الذي يحدثه فعل الخطاب الشرعي إلا إذا كانت تنطلق من المنهجية الأصولية نفسها. ولو «التزم المسلمون الرؤية القرآنية الكونية في إدراك الفطرة الروحية الإنسانية السوية (النفس اللوامة) بمنظار الوحي؛ لالتزموا دائمًا المنهج العلمي السنني الموضوعي الشمولي، ولانفتحت الرؤية الإسلامية على عوالم الفطرة السوية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولعلِمناها وانتفعنا بها قبل سوانا، ولأغنينا هذه المجالات بالغايات والمقاصد الروحية السوية الخيرة الحقيقية للفطرة السوية الإنسانية والسنن الكونية، ولما تراجع وانكفأ النظر المسلم في رعاية شؤون الأمة ومتغيرات الحياة»[6].

إن العلم الشرعي الحي الذي يوجه حركة الحياة ويصنعها في اتجاه إقامة قيم الإنسانية والاستخلاف والخيرية هو الذي يتفاعل مع العلوم والمعارف ولا ينفصل عن واقعه، وينطلق من رؤية تكاملية قاعدتها الوحي وأداتها النظر العقلي والتجريبي في الأنفس والآفاق مع التخلص من تلك التقابلات الثنائية المزعومة بين العقل والنقل والرأي والأثر… وتصنيف العلوم إلى دينية شريفة وعلوم دنيوية وضيعة.

ولا يستقيم الحديث عن فلسفة التكامل المعرفي إلا من خلال تقديم نماذج تبني المقاربة التكاملية المعرفية، إما من جهة التنظير والتأصيل أو من جهة التطبيق والممارسة.

نموذج المقاربة التكاملية المعرفية بين العلم الشرعي والعلم الاجتماعي: ابن خلدون نموذجًا

ننطلق في هذا النموذج من تنبيه العلامة الطاهر بن عاشور إلى النسق المقاصدي العمراني حينما ميز بين المقاصد المتعلقة بحفظ الفرد والمقاصد المتعلقة بحفظ الأمة، موليًا اهتمامًا خاصًا بالمقاصد الاجتماعية العامة. وفي نصوص ابن تيمية وابن القيم وابن خلدون والشاطبي شواهد عديدة لذلك الحوار بين أحوال الاجتماع وطبائعه وأسرار الشريعة والفقه المتجدد، مما يدل على أن الأصوليين يقررون فقه السنن إذ هو فقه قائم على حفظ المصالح والمقاصد، ومراع للحكمة والتعليل، وناظر في العواقب والمآلات وارتباط الأسباب بالمسببات… وهو ما يقوي ضرورة إعمال المنهجية الأصولية لصياغة فقه سنني قادر على فهم الظاهرة العمرانية، وهو ما سينهض به مشروع ابن خلدون (۸۰۸هـ) في المقدمة.

ويتعلق اختيارنا لابن خلدون بـ:

– سياقات التفاعل التاريخي الحضاري للأمة الإسلامية في القرن الثامن الهجري.

– المذهبية الفقهية المالكية وما يفيده ذلك من الأبعاد العملية والواقعية والاجتماعية التي امتازت بها أصول الإمام مالك بن أنس، ومن بينها: اعتبار عمل أهل المدينة، وأصل اعتبار المآل، وسد الذريعة ودوران كثير من اختيارات الإمام حولها وبناء العديد من قواعد الفهم والاستنباط في المذهب عليها، وهذا ما مكَن ابن خلدون من امتلاك عقلية مقاصدية سننية تفقه النص والواقع والموقع معا.

– ارتباط مشروعه العلمي بإصلاح مناهج البحث في العلوم الشرعية والاجتماعية والتاريخية.

– تقديم مقاربة تجديدية لعلم التاريخ والعمران البشري والاجتماع الإنساني مع ابن خلدون من خلال تقييم وتقويم الجهود العلمية السابقة.

– في التعامل مع المنظومة المقاصدية والمنظومة السننية تعاملاُ تناسبيًا تفاعليًا، فإذا كان الشاطبي من وجهة نظرنا قد انطلق من الكشف عن مقاصد الشريعة وحفظها للضروريات في انسجام مع سنن الله تعالى، وأثث بناءه المعرفي في ضبط عناصر الفعل العمراني وفق عناصر النموذج المقاصدي؛ فإن ابن خلدون سيفتتح مشروعه المعرفي بالمدخل السنني التاريخي، مبينًا سنن العمران والاجتماع البشري الذي لا تقوم له قائمة إلا بحفظ المصالح واعتبار المقاصد ولذلك وظف الشاطبي المقاصد لفهم سنن الله تعالى، في حين وظف ابن خلدون السنن وأجرى عليها تطبيقاً مقاصديًا أفضى به إلى القول إن عين وظيفة السنن هي رؤية مقاصد الشرع وعدم مخالفتها.

ولكن يمكن القول إن «الذي يميز ابن خلدون عن الشاطبي في حديثه عن المقاصد، أو في الاستناد إليها والتعويل عليها، أن ابن خلدون وضع هذه المقاصد في السياق التاريخي، أي: الاجتماعي من حيث الظهور، كما أنه نقل بعض المحرمات في الشريعة من الحكم الديني إلى الإطار الاقتصادي والاجتماعي أو التمس لهذا التحريم علة اجتماعية تتصل بالعمران البشري»[7]. وكلام ابن خلدون في المقدمة يشهد بهذا، ومنه قوله: واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مُؤذن بانقطاع النوع البشري[8]. كما يمكن القول إن الذي يميز الشاطبي هو انطلاقه من النص إلى المقاصد إلى السنن، أما ابن خلدون فقد انطلق من الواقع إلى السنن إلى المقاصد مع استثماره للنص الشرعي؛ لذلك أشار سيف الدين عبد الفتاح إلى الربط الذي أقامه ابن خلدون وهو يقدم رؤيته الإسلامية حول العمران بين المقاصد والسنن[9].

وقد وظف ابن خلدون بوعي المقاربة المقاصدية في الدفع بالعقل المسلم نحو اكتشاف سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران البشري، وذلك بإعمال رؤية القرآن الكريم في فهم حركة التاريخ، وتبني منهج تاريخي نقدي يقوم على الملاحظة والاستقراء والتشخيص المادي والتعليل المنطقي مع السبر والتقسيم لاستخلاص العبر، وإعادة تشكيل عقل المسلم على وعي سنني تاريخي، وتمكينه من قراءة أو مقاربة أو نموذج إرشادي تحليلي تفسيري يكون بمثابة الدليل لفهم مجريات الواقع وتبصر احتمالات المستقبل وإمكاناته. وقد أخضع ابن خلدون نظريته في العمران والاجتماع البشري لعملية تقصيدية وظف فيها مصطلح المصالح الشرعية ومدى اعتبارها في إقامة العمران وحفظ أحواله ومجالاته. «فقد حرص على إعمال المقاصد في سياقات مختلفة في مقدمته تدل على إدراكه العميق لأهمية المقاصد الشرعية في توسيع العمل الاجتهادي المتعلق بالبحث التاريخي وصناعات العمران البشري، ذلك الإدراك المستمد في بعض جوانبه من فقهه المالكي الذي يعتبر المقاصد الشرعية أصلاً من أصوله العقلية التي بني عليها الاجتهاد الفقهي؛ ولذا عمل على توظيفها في منهجه لدراسة الاجتماع الإنساني»[10]. ولعل قراءة ابن خلدون لأحوال العمران وطبائع العادة قراءة مقاصدية مصلحية تعليلية، هي التي أثمرت لديه ذلك الفهم الاجتماعي للسنن المتحكمة في حركة العمران، فهو فهم تحكمه مرجعية الوحي ومصدريته المطلقة ويتجلى ذلك في استدلالات ابن خلدون التي يرجع فيها إلى القرآن والسنة، كما تحكمه الخبرة التاريخية والنظر العقلي. فمن ذلك قوله: «فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران»، ففي شرحه لهذه العبارة نرى كيف أن مقاصد الشريعة تصبح لدى ابن خلدون سننًا حاكمة بحكم آثارها الاجتماعية وفاعليتها التاريخية، يقول ابن خلدون: «الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعاة للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان تحريمه مهمًا، وأدلته من القرآن والسنة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر»[11]. وواضح في هذا النص توظيف ابن خلدون لمفاهيم ومصطلحات النظر الأصولي المقاصدي: الحكمة – المقاصد الضرورية.

إن النزعة المقاصدية العملية لدى ابن خلدون مكنته من إعمال المقاصد في الكشف عن سنن العمران ومن تطبيق المنهجية الأصولية على ظواهر الاجتماع البشري التي أفضت به إلى الوعي بالتلازم بين السنن والمقاصد؛ فعدم اعتبار مقاصد الشرع هو مخالفة لسنن الله تعالى في الاجتماع والعمران، وموافقة السنن لا تتم إلا من خلال مراعاة المقاصد الشرعية والمصالح المعتبرة في حفظ العمران. وكما أن المقاصد مراتب فكذلك السنن تخضع في حركيتها لعملية ترتيب تناسبي وتلازمي بين ما هو ضروري وما هو حاجي وما هو تحسيني، فمن ذلك قول الأصوليين: إن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي. وتفعيلا لقول الأصوليين وتوظيفًا للبنية المفهومية لعلم الأصول في المقاربة السننية المقاصدية الخلدونية، فإننا نلفاه يقول: «اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي»[12].

إن منهجية ابن خلدون المقاصدية في تبصر سنن الله الاجتماعية والتاريخية واستثماره لمفاهيم ومصطلحات النظر الأصولي المصلحي المقاصدي المرتبطة بالحكمة والمصلحة الشرعية والتعليل والسبر والتقسيم والكليات الأساسية والضروريات الخمس والحاجيات والتحسينيات، «وهي قواعد منهجية ترسم وعيًا تاريخيًا يلج بقوة علمية وعمق معرفي عالم الماضي المدون المتعلق بالعمران البشري، لفحصه وقراءة مقاصده والنظر في مرجعياته واكتشاف القوانين المستمرة والمنتهية في بلورته»[13]، إن هذه المنهجية قد دشنت مرحلة جديدة في تاريخ العلوم الإسلامية – وإن لم تستمر بالفاعلية نفسها والأداء نفسه – تمثلت في ذلك التكامل المعرفي والمنهجي بين مناهج ومقاربات علمية في مجالات مختلفة شكلت فيها المنهجية الأصولية المقاصدية نقطة ارتكاز كبرى لفهم الواقع الاجتماعي وإخراج الأمة من قيود التخلف والهزيمة الحضارية، ولاستشراف المستقبل بفقه مقاصدي سنني يمكِن الأمة من استعادة شهادتها على الناس.

وما يثير الانتباه هو أن ابن خلدون لم ينشغل بالتأصيل للسنن، ولم يفتتح «المقدمة» بمقدمات نظرية في علاقة المقاصد بالسنن؛ فالمشروع العلمي الإصلاحي الجديد المبني على تكاملية المناهج العلمية وتفاعليتها في الكشف عن حقيقة الظاهرة العمرانية كان واضحًا بتفاصيله وجزئياته في ذهن ابن خلدون، فلم يحتج معه إلى تنظير مجرد يحرر فيه القواعد والمبادئ، فكانت وجهة ابن خلدون وجهة ميدانية عملية اختار فيها أن يقدم نموذجًا تحليليًا تفسيريًا في فهم ظواهر الاجتماع والعمران، يعتمد التوظيف والاستثمار التطبيقي التعليلي التركيبي لمقاصد الشريعة في ميدان السنن الاجتماعية.

وقد خلص بعض الباحثين إلى أنه لم يكن عمل ابن خلدون في تطبيقه للمنهج المقاصدي في نظريته العمرانية إلا اجتهادًا تأويليًا تعليليًا جزئيًا أمام الدفعة الحضارية القرآنية للعقل المسلم، كي يتدبر ويتبصر ويتفكر وينظر في السنن الكونية التي جعلها الله تعالى عللاً تنشأ عنها الظواهر… وأن أساس البحث في هذه العلية هو الاستقراء الكلي أو الأغلبي أو الجزئي… بمقصد إرادة البناء الحضاري الاستخلافي، هذه الدفعة، المستمرة استمرار حفظ الوحي الإلهي، تقتضي يقظة اجتهادية تجديدية متطورة للعقل المسلم مسايرة لما يختزنه الوحي من عطاءات معرفية لا تنقضي لرفع الإنسان إلى أحسن تقويم في فعله الحضاري. إن النقلة المنهجية التي فتقها ابن خلدون تنتظر من المسلمين رعاية علمية تستلهم الأسئلة المعرفية التي أثارها ابن خلدون وتؤسس لمعاصرة فاعلة للعقل المسلم تحرره من أسر الظاهر وطغيان الباطن، ليصوغ آلية علمية وسطية قادرة على الحفر والغوص في فقه النص وفقه الواقع وجدليتهما، والغوص في استكشاف عوالم الشهادة بما يقتضيه منطق الشرع ومصالحه»[14].

البعد المنهجي والأخلاقي للتكاملية المعرفية في فكر طه عبد الرحمن:

ترد النظرة التكاملية في كتابات عبد الرحمن في مقابل النظرة التفاضلية؛ الأولى محمودة والثانية منقودة[15]، فلا تفاضل بين النظر والعمل، وبين الإيمان والأخلاق، وإنما ثمة تكاملية بينهما قائمة على تكاملية النظر الملكوتي المؤسس للنظر الملكي، وتكاملية العمل التعارفي المؤسس للعمل التعاوني. وتبرز هذه التكاملية بين الطرفين على مستوى علاقة التسديد والتكميل. فالنظر الملكي من حيث هو موصل إلى العلم في حاجة إلى النظر الملكوتي من حيث هو موصل إلى الإيمان، حيث يسدد الثاني الأول نحو أغراض نافعة ويذكره بحدوده التي لا تتجاوز عالم الأشياء والظواهر، ويكتمل الأول بالثاني بسد النقص الحاصل فيه من جهة المعايير المأخوذة من القيم الروحية التي اختص بها النظر الملكوتي التي يحصلها من تدبر مختلف الآيات الهادية إلى الإيمان، والتي تعمل على توجيه وضبط تطبيقات قوانین عالم الظواهر التي يكتشفها النظر الملكي. والفصل بينهما دون اعتبار لتكاملهما أفضى إلى إنتاج علم مادي وضعي محدود بحدود الظواهر التي انكب عليها كما أن العمل التعاوني في حاجة إلى العمل التعارفي، حيث يسدد الثاني الأول فيمكن الإنسان من الارتفاع بسلوكه وتحصيل الضوابط التي تفصل بين المعروف والمنكر، ويكتمل الأول بالثاني الذي يزوده بالمعايير العليا التي تضبط عملية الوفاء بحاجات ورغبات الفرد والمجتمع، فلا تخرجها عن القيم الخلقية الهادية إلى التخلق التعارفي، التي اختص العمل التعارفي دون غيره بالإيصال إليها. والفصل بينهما دون اعتبار لتكاملهما أفضى إلى مطلق التعاون القائم على مجرد تحصیل خدمات. وهكذا تتكامل الظواهر والآيات من حيث هي موضوع النظر، ويتكامل العلم والإيمان من حيث هما ثمرة النظر، وتتكامل الأسباب والقيم من حيث هي وجهة النظر، وتتكامل الملاحظة والتأمل من حيث هما آليات النظر، داخل مبدأ تقوم عليه الخصائص الاختلافية الإسلامية هو مبدأ اختلاف الآيات المتمثل في اختلاف الآيات الكونية.

التكاملية الحاصلة بين موضوع النظر وطرائقه ووجهته وثمرته ليست تكاملية تفاضلية وإن كانت تكاملية تباينية فموضوع النظر الملكي متباين عن موضوع النظر الملكوتي، والأمر نفسه يقال عن ثمرته وطرائقه ووجهته، لكنه تباين مفض إلى تكاملية طرفاها التسديد والتكميل وليس إلى تكاملية تفاضل ينفي الواحد منها الآخر وإلا لما دعيت بالتكاملية؛ لأن النفي متعارض الاختلاف والاختلاف مؤسس للتكاملية، ولا تكاملية مع النفي.

ثم ثمة تكامل ثانٍ هو تكامل حقيقة الإيمان المتوصل إليه بالنظر في مختلف الآيات، أي بالنظر الملكوتي المؤسس للنظر الملكي، وحقيقة التخلق المتوصل إليه مختلف الأشخاص والأمم، أي بالعمل التعارفي بوصفه مؤسسًا للعمل التعاوني في تحديد روح الجواب الإسلامي وخصوصيته.

نصل إلى أن تكاملية طه تكاملية نقدية تركيبية إبداعية؛ فتكاملية النظرين: الملكوتي والملكي، والعملين: التعارفي والتعاوني، أفضت إلى تكاملية ثمرتهما: الإيمان والتخلق، ونتج عن هذه التكاملية تكاملية ثالثة هي تكاملية الاختلافية الإيمانية والأخلاقية، وهي التكاملية المؤسسة لتكاملية النقد الإيماني والأخلاقي المسدد بالنظر الملكوتي المورث لرسوخ الإيمان، والعمل التعارفي المورث لدوام التخلق. ولم تكن التكاملية النقدية عند طه سوى تركيب مبدع بديل عن التفكيك الذي يذهب متفلسفة العرب فيه إلى تقليد غيرهم دون التحقق بما يقوم عليه التفكيك من أطر فلسفية وآليات منهجية واختيارات مذهبية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عزيز البطيوي (2019). فلسفة التكامل المعرفي: بحث في الأس والنماذج في:

الحسن حما، عمر مزواضي”تحرير وتنسيق” (2019). الإبستيمولوجيا وإسلامية المعرفة: مقاربات في المنهج “أعمال المنتدى الفكري الثامن جورة إسماعيل راجي الفاروقي. جامعة ابن طفيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية 20- 21 فبراير 2015م/ تقديم الحاج أوحمنة دواق”. ط. 1. بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات. ص ص.69- 95.

** أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن زهر أكادير – المغرب.

[1] التكامل المعرفي وتطبيقاته في المناهج الجامعية، أبو بكر محمد إبراهيم المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص ۳۳.

[2] نحو تكامل العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية، عشوي مصطفى مجلة التجديد، كوالالمبور ۱۹۹۷، س۱، ع۲، ص ٥٥-٨١.

[3] التكامل بين الفكر المقاصدي ومناهج البحث في العلوم الإنسانية المعاصرة، قطب سانو، مجلة تفكر، ۲۰۰۱، مجلد۳، ع۱، ص۸..

[4] رسالة العلوم ابن حزم، ص ۹۰، في رسائل ابن حزم تحقيق إحسان عباس، مطبعة الخانجي، القاهرة، د.ت.

[5] المجتمع المدني في ضوء المقاصد العامة للشريعة إبراهيم البيومي غانم، ص۱۲۱. ضمن كتاب: مقاصد الشريعة وقضايا العصر: مجموعة بحوث.

[6] الرؤية الكونية الحضارية القرآنية أبو سليمان، ص ۹۹ – ۱۰۰.

[7] ابن خلدون وفقه السنن، عدنان زرزور مجلة إسلامية المعرفة، ع ٥٠، السنة ١٣، خريف ١٤٣٨هـ / ۲۰۰۷م.

[8] المقدمة ابن خلدون، 2/699.

[9] نحو تفعيل النموذج المقاصدي في المجال السياسي والاجتماعي سيف الدين عبد الفتاح، ص۱۹۰.

[10] التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني عبد الرحمن العضراوي مجلة إسلامية المعرفة، ع ٥٠، السنة ۱۳ خريف ١٤٢٨ هـ / ۲۰۰۷م، ص ۱۸۸.

[11] المقدمة ابن خلدون، ٦٩٩/٢-٧٠٠.

[12] المصدر نفسه، 2/467.

[13] التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني، عبد الرحمن العضراوي، ص۱۹۸.

[14] التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني، عبد الرحمن العضراوي، ص۲۱۱ -۲۱۲.

[15] تجديد المنهج في تقويم التراث طه عبد الرحمن، ص۱۲.

عن عزيز البطيوي

شاهد أيضاً

إسماعيل راجي الفاروقي: قراءة في الرؤية الإصلاحية والمشروع المعرفي

د. فاطمة حافظ

مع انتصاف القرن العشرين بدا واضحاً أن مشروع النهضة والإصلاح الإسلامي الذي تأسس في القرن التاسع عشر بات على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة عبّرت عنها متغيرات عديدة.

إسلامية المعرفة مشروعًا للعلم والإنسان

أ. يارا عبد الجواد

إن الرؤية الإسلامية المنطلقة من مبدأ توحيد الخالق ومن ثم وحدة الكون ووحدة الإنسانية، جعلت حضارة الإسلام في عصور ازدهارها تعكس سمة العالمية وترسي دعائمها بصورة غير مسبوقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.