الأسرة المسلمة
وتحدي النسوية
أ. مهجة مشهور*
تلتقي الإنسانية على مر العصور على جوامع قيمية وأخلاقية مشتركة كانت تؤسس لروابط وعلاقات قيمية ثابتة تجمع البشرية وتحقق التعاون والتضامن بين البشر جميعًا. وقد أدت الحروب والخروقات المتكررة لهذه المنظومة من القيم إلى مزيد من التمسك بها، فصدر في عام 1948 “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي ينص على مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان (رجلًا كان أو امرأة) في هذا العالم. دعوة أيدها الجميع في وقت كان البحث فيه عن إطار يحمي قيم الإنسانية المشتركة أمر مطلوب بعد الحروب والصراعات التي مزقت العالم.
إلا أننا وجدنا أخيرًا، بتأثير من تيار ما بعد الحداثة، هجومًا شرسًا على مفهوم القيم الإنسانية المشتركة، وتبلور ذلك الهجوم في نفس الشعار الذي لم يرفضه أحد عند ظهوره في منتصف القرن الماضي، شعار “حقوق الإنسان”، فقد أفرز هذا الشعار في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين حالة غير مسبوقة من التشرذم الإنساني والصراع، إذ تحول هذا الشعار إلى أداة “سيئة السمعة” للدفاع عما عرف بحقوق الأقليات أو المهمشين، وانقسم العالم إلى مجموعات لا نهائية من الأقليات، تجمع ما هو مشروع وما هو غير مشروع، ما هو متفق على أهميته وما هو مرفوض قيميًا وإنسانيًا، فنجد أن الجماعات الإثنية أقلية، والشواذ جنسيًا أقلية، والمسنون أقلية، والبدينون أقلية، والأطفال أقلية، والنساء أقلية، والمدمنون أقلية…. واختفت أية معايير لتحديد مفهوم الأقلية، فلا يمكن القول بأنها معايير كمية نظرًا لأن النساء على سبيل المثال يمثلون نصف سكان العالم تقريبًا. كما أنها ليست معايير قيمية لأن الدفاع عن حقوق المثليين لا يخضع لأية معايير أخلاقية، فهو أمر كان مستهجنًا بشدة في كل المجتمعات على مستوى العالم حتى وقت قريب، بل كانت هناك عقوبات رادعة في معظم الدول لهؤلاء الشواذ. واستبدلت بدلًا من القيم المتفق عليها عبر تاريخ البشرية قيم محملة بمعان هاشة فضفاضة لا تحمل أبعاد راسخة في الوعي الإنساني، مثل قيمة التسامح مع الآخر مهما كان مخطئًا أو شاذًا، وقيمة قبول الآخر مهما كان مرفوضًا أخلاقيًا، والاعتراف بالحق في الاختلاف مهما ذهب هذا الاختلاف إلى أبعد مدى. وأصبح رفض هذه القيم أو حتى التعبير عن تحفظ المرء لها نوع من التنمر الذي يستدعي العقاب.
ويصر أعضاء كل جماعة على أنهم أقلية لها سمات فريدة وهوية متفردة تستحق الاعتراف بها، والحفاظ عليها، بل وقبولها، والتطبيع مع سماتها المختلفة مهما كانت شاذة. وفكرة أن كل مجموعة من الناس تمثل أقلية تعني أنه لا يوجد أغلبية، أي لا يوجد معيارية إنسانية ولا ثوابت. ومن ثم تصبح كل الأمور نسبية متساوية وتسود الفوضى الأخلاقية. وإذا كان لكل أقلية حقوق “مطلقة” فإن هذا يؤدي في واقع الأمر إلى أن فكرة المجتمع الذي يستند إلى الإيمان بإنسانية مشتركة تصبح مستحيلة، فالحقوق المطلقة التي لا تستند إلى أي إطار قيمي مشترك لا يمكنها التعايش. فأصبحت كل “أقلية” تدافع عن حقوقها التي تراها مشروعة بكل الوسائل، فساد الصراع وتشققت أواصر المجتمعات.
وقد جاءت هذه الدعوة إلى حماية حقوق الأقليات من خلال رفض ما بعد الحداثة لأي صورة من صور السلطة وتبني مبدأ السيولة التامة في كل مناحي الحياة، فبدأت برفض السلطة الدينية ثم السلطة السياسية، وأخيرًا اقتحمت المجال الاجتماعي فاعتبرت الأسرة مؤسسة تتعارض مع فكرها نظرًا لأنها تمارس سلطة أبوية على أفراد الأسرة، فطرحت من الأدوات ما يحقق لها التخلص من هذه المؤسسة، فبدأت بضرب الأسرة الممتدة حتى اختفت تقريبًا، كما سعت إلى التعامل مع الأسرة النووية للقضاء عليها.
تطور مفهوم الأسرة:
الأسرة هي المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الإنسان معاني الحياة، وتتفتح مداركه على الواقع، والأسرة ضرورة نفسية حيث يتلقى الفرد فيها منذ ولادته الحنان والاطمئنان والسكن والمودة والرحمة، كما أن الأسرة ضرورة أخلاقية وتربوية فهي تدرب وتوجه وتعد الفرد قيميًا وأخلاقيًا لمواجهة الحياة.
إن المسئولية الأسرية الفعالة ليست توفير حاجيات البيت المادية أو القيام بأمور البيت الداخلية فحسب، ولكنها مسئولية صنع أجيال المستقبل والإسهام في الحفاظ على كيان واستقرار الأسرة وبالتالي على تماسك المجتمع بتربية الأبناء وبناء القلوب والمساكنة الزوجية. وقد جاءت الشريعة الإسلامية بأحكام عديدة تصون الأسرة وتقوي بناءها، فأسرار الشريعة ومقاصدها في تشريع المسئوليات الزوجية الأسرية كثيرة وعميقة، وحين تنشأ الأسرة على أسس هشة من الجهل بالمقاصد السامية للمسئوليات الأسرية وحقيقتها وحدودها ومظاهرها والحقوق الشرعية المتبادلة يكون السقوط السريع عند أول عقبة في الحياة.
وقد اكتسبت الأسرة عبر التاريخ تماسكها من خلال التمسك بقواعد إيمانية وأعراف اجتماعية تعمل على توجيه الرغبة الجنسية من خلال قنوات اجتماعية، وباسمها يتم تنشئة الأطفال. أي أن الأسرة كانت في معظم الأحيان تستند إلى الإيمان الديني الظاهر أو الكامن. ومع سيادة العلمانية وتآكل العقيدة تآكلت مؤسسة الأسرة، وبدا تفككها واضحًا، فأصبح لكل فرد من أفراد الأسرة حقوقه ورغباته وطموحه لتحقيق ذاته وأحلامه، وهو ما شكل ضغوطًا شديدة على بناء الأسرة وتماسكها. فقد أدى تزايد مفهوم الفردية -التي تعتبر إحدى دعائم قيم الحداثة- إلى تزايد حدة الصراع داخل الأسرة، إذ أصبح لكل عضو في الأسرة ثقافته الخاصة وتوجهاته الخاصة ومتطلباته الخاصة، فبدأت مؤسسة الأسرة في التصدع.
وهنا بدأ العمل ليس على تدمير الأسرة كمفهوم فحسب وإنما على تدمير صورة الأسرة التقليدية المكونة من أب وأم وأبناء، من خلال ممارسات مرفوضة شرعًا وعلى المستوى القيمي، فبدأت مطالبات دولية (من خلال مؤتمرات عديدة وضغوطات عالمية) لإقرار أنماط أسرية بديلة مثل الأمهات العازبات single mothers، والمعاشرة بدون زواج، والتغاضي عن النشاط الجنسي للأبناء المراهقين عن غير طريق الزواج، واعتبار ذلك من الحرية الشخصية التي لا يحق لأحد أن يتدخل فيها، حتى إن كان الأب أو الأم، ويأتي إباحة الإجهاض مكملًا لهذا الانفلات الجنسي. ثم قفزوا فوق كثير من الضوابط الدينية والأعراف الاجتماعية ليقرروا أن مفهوم الأسرة بالمعنى المتعارف عليه ليس إلا قيدًا على الحرية الشخصية لأنه يشترط أن تكون العلاقة بين ذكر وأنثى ولا يمنح المثليين حقهم في تكوين أسر بينهم، ولذلك دعوا إلى زواج الجنس الواحد.
هذا التركيز على الانفلات الجنسي في المجتمعات الغربية يفسره د. المسيري بأن هناك علاقة مباشرة بين بحث الإنسان عن المطلق ورغبته في التجاوز من ناحية وبين تصاعد رغبته الجنسية من جهة أخرى، فكلما ضمرت النزعة الدينية وتوارت المقدرة على التجاوز زاد السعار الجنسي كمحاولة لتعويض الإنسان عن اختفاء المعنى، كذلك كلما زاد العالم نسبية وتوارى المطلق زاد السعار الجنسي بحثًا عن مركز ومطلق مؤقتين في عالم لا مركز له ولا مطلقات فيه، فهو مركز مؤقت و”مطلق نسبي” يملآن الفراغ الذي يخلقه غياب المركز الدائم والمطلق الحقيقي.
إن الإنسان هنا ينعزل عن وجوده الإنساني المركب من جسد وروح، يعيش في الجسد فقط، يبحث عن المتعة المباشرة، وبالنسبة لهذا الإنسان المتمركز حول لذته تصبح الأسرة أمرًا غير مهم، فالباحث عن اللذة لا يطيق أي حدود أو قيود أو مسئولية، ولذلك فإن هذا الموقف من الجنس أثَر على بناء الأسرة، بل إنه أطاح بكل القيم الإنسانية المشتركة التي تحيط بمفهوم الأسرة على مر تاريخ البشرية. ذلك أن مؤسسة الأسرة بطبيعة تكوينها تلقي على كل من الأب والأم مسئوليات اجتماعية وتربوية وأخلاقية شتى وتفرض حدودًا وقيودًا على أعضاء الأسرة أن يتقبلوها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الأسر في العالم الإسلامي أصبحت تمثل نماذج ومعابر خطيرة لمفاهيم الأسرة في الحضارة الغربية، إلا أن تلك الصور والنماذج ما تزال تشكل حالات شاذة ونماذج رديئة ومهمشة خارج الإيقاع العام، وإن الأسرة في المجتمعات العربية والإسلامية بعمومها حتى اليوم ما تزال إحدى القلاع الأساسية في حماية القيم والتحصين ضد الهجمات الشرسة الآتية من الغرب.
وسوف تركز الدراسة فيما يلي على تيار واحد ضمن تيارات متعددة تعبر عن الأفكار السابقة وهو حركة النسوية.
النسوية: Feminism
من الأمور المألوفة في الوقت الحاضر أن نتلقى معظم، إن لم يكن كل، ما يأتينا من الغرب بقبول وتسليم منقطع النظير، دون أن نحاول أن نحلله أو نفسره، ودون أن ندرك أن ما يأتينا منهم يعكس منظورهم وتحيزاتهم. ولذا ثمة غياب ملحوظ للبُعد النقدي في الدراسات العربية والإسلامية للمفاهيم والمصطلحات الغربية. إذ أننا نكتفي دائمًا بنقل أفكارهم دون أن نطرح أي أسئلة تنبع من رؤيتنا الإسلامية وتجاربنا التاريخية والإنسانية، ودون أن نتفهم الرؤية الكلية والنهائية الكامنة في النصوص.
فقد ظن البعض أن مصطلح الفيمينزم Feminism مجرد تنويع على مصطلح Women’s liberation movement الذي يترجم عادة إلى “حركة تحرير المرأة”، لذا حل المصطلح الجديد تدريجيًا محل المصطلح القديم وكأنهما مترادفين أو متقاربين في المعنى.
ولكننا لو دققنا النظر لوجدنا أن المصطلح الجديد مختلف تمام الاختلاف عن مدلولات حركة تحرير المرأة، فالأخيرة هي حركة تَحرُر تدور في إطار إنساني يؤمن بفكرة مركزية الإنسان في الكون، فالإنسان كيان حضاري مستقل عن عالم المادة، يؤمن بفكرة الإنسانية المشتركة التي تشمل كل الأجناس والألوان وتشمل الرجال والنساء. وتدافع هذه الحركة عن حقوق المرأة، بحيث تنال المرأة ما يطمح اليه أي إنسان (رجلًا كان أم إمرأة) من تحقيق لذاته والحصول على مكافأة عادلة (مادية أو معنوية) لما يقدم من عمل، كما تطالب هذه الحركة بأن تحصل المرأة على حقوقها السياسية (حق المرأة في الانتخاب والمشاركة في السلطة) وحقوقها الاجتماعية (حق المرأة في الطلاق وفي حضانة الأطفال)، وحقوقها الاقتصادية (مساواة المرأة في الأجور مع الرجل). وتتحرك حركة تحرير المرأة داخل إطار من المفاهيم الإنسانية المشتركة التي صاحبت الإنسان عبر تاريخه الإنساني، مثل مفهوم الأسرة واعتبار المرأة العمود الفقري لها.
أما النسوية أو الفيمينزم فقد تحولت من حركة تسعى إلى تحقيق الحقوق الاجتماعية والإنسانية للمرأة إلى حركة تدور حول فكرة الهوية، فالمرأة في هذه الحركة مكتفية بذاتها، تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي. وهي تسعى إلى تحقيق المساواة المطلقة مع الرجل، ولذلك فهي في حالة صراع أزلي معه، كأنه لا توجد مرجعية مشتركة بينهما أو إنسانية جوهرية مشتركة تجمعهما. ويصبح تاريخ الحضارة البشرية في ظل هذه الحركة هو تاريخ الصراع بين الرجل والمرأة وهيمنة الذكر على الأنثى، ومحاولة المرأة التحرر من هذه الهيمنة. ومن ثم يرى دعاة ما بعد الحداثة ضرورة وضع نهاية لهذا التاريخ وتفكيك هذا العالم الذكوري.
ولمزيد فهم لمنطلقات الحركات النسوية يمكن التمعن في هذه العبارات الكاشفة من سيمون دي بوفوار، ملهمة الحركة النسوية الحديثة: “إن المرء لا يكون محققًا لماهيته إلا حين يمتلك الاختيار المطلق الذي لا يحده أي وازع خارجي”. وهذه العبارة تكشف بوضوح عن رفض كامل ومطلق لأي سلطة على المرء حتى إن كانت دينية.
“المرأة تعيش حياتها في خدمة غيرها ضمن أعمال لا تسمو بها ولا تمنحها استقلاليتها ولا تثبت أصالة وجودها، ولذلك فإن على المرأة أن تعيش لذاتها مهتمة بإثبات نفسها متخلية عن قيد الزواج الذي يمنعها من ذلك”. هذه العبارة مليئة بالمصادرات وتقدم أفكارا مريضة باعتبارها مسلمات، فما يمكن استنتاجه هنا أن الأمومة والزوجية -هذه الأمور المتفقة مع الفطرة- أمور وضيعة لا تسمو بالمرأة ولا تحقق لها إثبات الذات، وتحقيق للمرأة ذاتها لا يكون إلا بالتخلي عن أي مسئوليات متعارف عليها، سواء أكانت أسرية أو غيره، فهي وحدها التي تقرر بعيدًا عن أي إرث إنساني ما يمكن أن “يحقق لها ذاتها”.
وتتوحد حركة النسوية حول مفهومين رئيسيين: مفهوم النوع Gender، ومفهوم الضحية Victim. أما مفهوم النوع فينطلق من هوس لدى هذه الحركة بالمساواة والمنافسة بين الجنسين في كل السياقات مما وصل بها إلى تغيير مفردات اللغة ودلالاتها بنقل التعريف الأصلي للجندر –الذي يعني الفوارق بين الجنسين- إلى معنى إلغاء الفوارق تمامًا بين الجنسين، وعدم الاعتراف بها أو بما يترتب عليها من توزيع أدوار الجنسين في الحياة، فتدعو هذه الحركة إلى إلغاء تام لوجود مسمى ذكر وأنثى، والادعاء أن الفوارق بين الرجل والمرأة فيها نوع من التضخيم جراء التنشئة الاجتماعية، ومن ثم بدأ التشكيك في مفهوم الزواج الشرعي وفطرية العلاقات الأسرية القائمة على ارتباط الرجل بالمرأة.
أما مفهوم الضحية فقائم على تعميق الشعور بكراهية الرجل، لأن المرأة على حد قولهم هي ضحية دائمة للرجل، ومن ثم تتخذ الحركات في توجهها آلية الانتقاد والهجوم على الرجل، مفترضة أن العلاقة بينهما تقتضي تسلط أحدهما على الآخر.
وانتشرت نتيجة النسوية نظرة فردية مطلقة للمرأة بمعزل عن السياق الأسري والمجتمعي الذي تعيش فيه، فبالنسبة للحركة النسوية تعتبر الأسرة صفقة خاسرة، ولذلك يجب إعفاء المرأة من كامل المسئولية تجاه الآخرين (الوالدين، الزوج والطفل..)، بل وصل الأمر إلى أن من حقها الكامل اتخاذ قرار الإنجاب أو عدمه دون الرجوع إلى الزوج، وكذلك قرار الإجهاض. كما ازدرت النسوية وظيفة الأمومة والزوجية والتربية وسائر الأدوار الأسرية للمرأة، وعدتها ظلمًا اجتماعيًا وإعاقة لنهضتها، ونظر إليها على أنها أدوار هامشية لها وتسلطية من النظام الذكوري.
واستنادًا إلى فكر الحركات النسوية بدأت العلاقة بين الرجل والمرأة تبنى في مستوى العلاقة الزوجية على الصراع، فحل النزاع والخصومة محل المودة والرحمة، وانحسرت مشاعر الاحترام بين أعضاء الأسرة الواحدة، وتعرضت الأسر للطلاق والتفكك بمستوييه المعلن والمخفي، أو الاجتماعي والنفسي. وأدى انتفاء الفوارق بين الرجل والمرأة إلى انتفاء الدور المتوقع لكل عضو في الأسرة، ومن ثم انتفاء العلاقة التكاملية لأعضائها.
وهنا يمكن فهم ظاهرة التصاعد الملحوظ في أعداد الشاذات من النساء lesbian، حيث تعود هذه الظاهرة إلى حركة النسوية الحديثة التي ينادي بعض زعمائها أن المرأة الشاذة جنسيًا هي المرأة التي استغنت كليًا عن الرجل، ولذا فهي أكثر النساء تحررًا، وهي المرأة التي حققت المساواة البيولوجية الكاملة مع الرجال، وبذلك حققت الاكتفاء الذاتي.
وهنا يأتي التساؤل حول وضع الأسرة المسلمة تجاه هذا التيار، هل نحن معنيون بكل هذه المفاهيم المتطرفة؟ هل وقعت الأسرة المسلمة في براثن الأفكار النسوية؟
إن مثل هذه الأفكار لا يتم نقلها دفعة واحدة وإنما هي عملية تسلل بطيء يعيد إنتاج المفاهيم بطريقة ناعمة لا يُلتفت اليها، وأحيانًا يتم تبريرها والدفاع عنها في ظل حالة من عدم وضوح الرؤية الكاملة، فمجرد استبدال المفهوم التعاقدي في العلاقة الزوجية بدلًا من مفهوم المودة والرحمة، الذي هو ليس مجرد قيمة عامة، ولكن مفهوم تأسيسي للعلاقة الزوجية، فذلك نذير خطر. بل إن طرح بعض الأسئلة التي لم تكن أساسًا واردة في العقلية المسلمة هو أيضًا نذير تشوه أصيل في العلاقة بين الرجل وزوجته، على سبيل المثال التساؤل حول هل الزوج مسؤول عن علاج زوجته في حالة مرضها؟ أو عن أجر الأم الذي يجب أن تتقضاه مقابل إرضاعها وليدها. وغيرها من التساؤلات والممارسات التي تؤكد على وجود خلل أساسي في بناء الأسرة على المودة والرحمة.
يمكننا القول إذن بأن أصداء هذه الحركة قد بدأت تظهر على استحياء في مجتمعاتنا الإسلامية، فقد تم تمرير أطروحات التيارات النسوية و”أيديولوجيتها” بمسميات براقة مثل تنمية المرأة وتمكينها، وغيرها من المسميات الكفيلة بدفع المرأة في العالم العربي والإسلامي للانسياق وراءها دون إدراك حقيقي لمضمونها، فتغلغلت العلاقات التعاقدية بين الرجل وزوجته، الأمر الذي أدى إلى تزايد القيم المادية، مثل الكفاءة في العمل في الحياة العامة مع إهمال الحياة الخاصة، الاهتمام بدور المرأة العاملة مع إهمال دور المرأة الأم، الاهتمام بصورة المرأة العاملة الناجحة على حساب قيم أخلاقية واجتماعية أساسية (مثل تماسك الأسرة وضرورة توفير الطمأنينة للأطفال)، إسقاط أهمية الإحساس بالأمن النفسي الداخلي.. وأخيرًا وصل الأمر بأن أصبحت مؤسسة الأسرة عبئًا لا يطاق. هذه المقدمات هي بالضرورة تهديد واضح لمفهوم الأسرة كخلية أولى للمجتمع، وتهديد بضياع الأطفال لغياب دور الأسرة في التربية، وتوجه الأبناء إلى اللاهوية سواء بمعانيها الشخصية أو الثقافية، وكذلك تمهيد لدخول أفكار حركة الفيمينزم بما تتضمن من الاستغناء عن الرجل وإعادة تعريف كل شيء من وجهة نظر أنثوية.
إن نقطة البدء في الرؤية الإسلامية مختلفة تمامًا عن كل الطرح السابق للنسوية، ففي رؤيتنا لا تكمن النقطة المرجعية في تحديد طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، ولكن في تحديد طبيعة علاقة الإنسان بخالقه، وبالتالي فإذا كان الإنسان على يقين أن الخالق أعلم بالفرد من نفسه فإن عليه تقبل أوامره ونواهيه وممارسة جهد أكبر في محاولة التعرف على الأسرار المكنونة وراء هذه الأوامر والنواهي، فالأمر محسوم لأي مسلم أن هذه الشريعة هي لسعادة الأسرة وكل فرد فيها.
هذه البداية تجعلنا نتحرك على مضمار موازي تمامًا لما تثيره حركات النسوية من أفكار وقيم بعيدة كل البعد عما تدعونا اليه مرجعيتنا الإيمانية، فمضمار النسوية مضمار ملغم بالدعوات الفاسدة التي قد تقنع البعض بأسلوبها الثوري المنمق، وتُستثمر فيه المشاكل الجزئية القابلة للحل لصالح دعوتها المريضة، فالعمل على حل المشاكل الزوجية من خلال أطروحات هذه المنظومة لن تحقق للإنسان سوى الضياع، فإلقاء الفرد نفسه في هذا الخضم المهلك هروبًا من أوضاع خاطئة قد سقطت فيها بعض التجارب الأسرية نتيجة خلل ما، لا يستدعي اللجوء إلى ما يؤدي إلى مزيد من الخسائر، ولكن يستدعي تمحيص الأمر والبحث عن الحل انطلاقًا من مسلماتنا الإيمانية وقيمنا الحضارية الراسخة.
في رؤيتنا الإسلامية تقوم العلاقة بين الرجل والمرأة في الأسرة على التكامل لا التضاد والصراع، فحقوقهما وواجبتهما لا تحدد تبعًا لأهوائهما، ولكن الله تعالى هو مَن رسم لهم الطريق. فلا حرية مطلقة ولا مساواة مطلقة، ولكنها منظومة من الحقوق والواجبات في إطار تكاملي من المودة والرحمة.
إن غاية أي عمل هو رضا الله تعالى، ولكل فرد واجباته الخاصة المرتبطة بظروفه، يؤديها مستحضرًا مراقبة الله تعالى له، بصرف النظر عن تقييم المجتمع له. فالمرأة قد تعمل خارج بيتها أو قد لا تفعل لأسباب خاصة بها هي وزوجها فقط، وهي في ذلك تراعي مالها وما عليها شرعًا. وهكذا السعي داخل الأسرة في إطار الشريعة الإسلامية، هناك ضوابط كلية تؤطر هذه المؤسسة، وعلى كل أسرة العمل على إنجاح هذه المؤسسة في ضوء الظروف الخاصة بها.
الخاتمة:
تعلي الرؤية الإسلامية من مكانة الأخلاق والقيم، فهي قيم معيارية وثابتة وليست متغيرة ونسبية، معيارية بمعنى أنها معيار لضبط جودة أي فكر وصلاحيته والحكم له أو عليه، وهي غير قابلة للمساومة والإبطال، وثابتة بمعنى أنها لا تتغير بتغير الأزمان والأمكنة. إلا أن الحركة النسوية وهي إفراز لتيار ما بعد الحداثة يرى الأخلاق من منظور نسبي، وأنها أثر للتنشئة الاجتماعية، وهي تسعى انطلاقًا من هذا المنطق إلى إقرار وتثبيت ما تراه حقًا للمرأة مهما تناقض مع الأخلاق والقيم.
هذه الدعوة الجديدة التي أطلقتها فلسفة ما بعد الحداثة ترفض الفطرة البشرية كما عُرفت على مر التاريخ كمرجعية نهائية وكمركز ثابت، وتقبل الطبيعة والمادة وحسب كمقياس وحيد، فالإنسان، في هذا الإطار، سقفه مادي ودوافعه مادية وأهدافه مادية، وما عدا ذلك فمجرد أوهام، فهي دعوة موجهة ضد العنصر الإنساني نفسه، وضد ظاهرة الإنسان ذاته ككائن متميز، وضد مفهوم الطبيعة البشرية والمعايير البشرية والمرجعية الإنسانية.
تتميز ما بعد الحداثة أنها تأخذ شكل دعوة مساواة وتسامح وتعددية، وتستخدم مفردات الخطاب التقليدي المعادي للتفاوت بين البشر، ولكن داخل منظومة معرفية مختلفة تمامًا، ويمكن اعتبار التسامح الذي تنادي به ما بعد الحداثة تعبير عن لاإنسانية الإنسان، فالإنسان يفقد إنسانيته إذا ما أضاع مجموعة القيم والأخلاقيات التي قامت عليها البشرية منذ فجر التاريخ، وأصبح إنسانًا طبيعيًا عامًا، إنسانًا مرنًا قادرًا على تغيير قيمه بعد إشعار قصير، ويتقبل ما يمليه عليه قطاع اللذة من أحلام وأوهام. ومن هنا الإصرار على الدفاع عن الشواذ جنسيًا والتمركز حول الأنثى أو النسوية والحق المطلق لأي فرد في أن يفعل ما يشاء.
سبل مواجهة هذه الأخطار تتضمن ضرورة تداعي مؤسسات المجتمع (خاصة في مجال الإعلام والتعليم) لوضع خطة ممنهجة ومدروسة تتحسس الأخطار وتضع برامج المواجهة لإعداد جيل يدرك أهمية الأسرة ويرى ضرورة الحصانة الشرعية لها في الإنشاء والضبط.
كذلك يجب الانتقال من مرحلة الدفاع عن قضايا المرأة والأسرة لحظة الهجوم إلى لحظة المبادأة بتقديم النموذج الإسلامي النظري والعملي للأسرة المسلمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مدير مركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وسكرتير تحرير مجلة المسلم المعاصر.