الأسرة المسلمة
ومواجهة المشكلات المعاصرة*
د. إسماعيل راجي الفاروقي
ساهمت عوامل عديدة في تآكل الرابطة الأسرية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، تشمل النزوح إلى التجمعات الحضرية الكبرى، التي لا يعرف أحد فيها أحداً، للبحث عن عمل، والاختلاط بين الجنسين، والتسيب الخلقي، والاستقلال الاقتصادي للمرأة، وروح الفردية الجامحة، واستبطان فكرة إطلاقية الطبيعة. وينطق ما عرفه النصف الثاني من القرن العشرين من شيوع الفجور والفاحشة بالحالة المحزنة التي تردت اليها مؤسسة الأسرة. فأكثر من نصف مواليد المدن حالياً أطفال غير شرعيين. وأصبحت الأسرة حيوانية، من حيث إنها تدوم فقط طالما كان الأطفال عاجزين مادياً، وبحاجة إلى رعاية أبويهم الدائمة، وبمجرد بلوغهم سن الرشد وزوال تلك الحاجة المادية تنفك عرى الأسرة. والأدهى والأمر من ذلك أن انشغال الأبوين بالعمل خارج المنزل، وما يعانيانه من إرهاق بدني، وما يتعرضان له من ضغوط تدفعهما إلى تلمس الإشباع العاطفي خارج البيت أضْعَفَ رابطة الأسرة حتى في فترة شدة حاجة الصغار إليها[1].
وساهم علماء الأنثروبولوجيا بدورهم في تردي الأسرة بتعليم النشء أن أشكال الارتباط الأخرى ممكنة، وأنها أحرزت نجاحًا بين الحيوانات والبشر البدائيين. وقام هؤلاء بغسيل أدمغة البشر بالرجوع المستمر إلى عالم الحيوان وإسقاط نتائج بحوثهم على الحالة الإنسانية، بحيث لم تعد تعي أن الفروق بين الحيوانات والإنسان ليست فروقًا طبيعية.
وطرأ تحول جذري على مؤسسة الأسرة في كل أرجاء العالمين الشيوعي والغربي. وتعاني الأسرة اليوم – على نحو لا فكاك منه – من الوهن العام الذي أصاب المجتمع. وتؤثر الأسرة وتتأثر بالوهن الذي أصاب كلًا من الأخلاق، وتماسك المجتمع، واستمرارية التقاليد بانتقالها من جيل إلى آخر والتأثير فيها. وبصرف النظر عن تحديد من يمثل العلة ومن يمثل المعلول في ثنائية الأسرة والحضارة، فإن من المقطوع به أنَّ قَدَر الحضارة والأسرة هو أن ينهضا معًا أو يسقطا معًا.
وتنفرد مجتمعات العالم الإسلامي وبقية العالم الثالث – حتى الآن – باحتفاظ الأسرة فيها بمكانتها الكريمة، مع ارتباط ذلك بمدى محافظة تلك المجتمعات على هويتها في مواجهة هجمة الأيدولوجيتين الغربية والشيوعية. وتتمتع مؤسسة الأسرة المسلمة بأفضل فرصة للبقاء لكونها مُعزَّزة بالشريعة، ومُقرَّرة بعلاقتها الوثيقة بالتوحيد الذي هو لباب الخبرة الدينية الإسلامية.
الأسرة كوحدة تأسيسية:
يقتضي مراد الله تعالى بالنسبة للبشر أن يتناكحوا ويتكاثروا ويعيشوا معًا، ويوفروا بذلك مسرح العلاقات الذي يُحقَّق الشق الأخلاقي من الإرادة الإلهية بقرار وفعل إنسانيين. ويمكن أن يتكون هذا المسرح من ثلاثة مستويات النفس، والأسرة، والأمة العالمية الجامعة.
والحاجة إلى النفس بدهية. فأي تحقيق لأية أخلاقية يتطلب فاعلًا إنسانيًا فردًا في علاقة أخلاقية مع نفسه. ومعرفة الإنسان لنفسه، والمحافظة عليـهـا وتعزيزها، وإخضاعها لمقتضيات القيم الأخلاقية، شروط لا قوام للخليقة بدونها.
أما الأمة فهي تؤسس علاقات بين بشر، لا تربطهم علاقة نسب مباشرة، على الدين، وتفتح باب العضوية أمام من يطلبها، بصرف النظر عن المولد أو المتغيرات الاجتماعية العارضة مثل اللغة أو التاريخ أو اللون. يقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ [آل عمران: 104]، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون﴾ [الأنبياء: 92] فرابطة الأمة أكثر إنسانية وصيانة لكرامة الإنسان، بينما تنتهك العلاقة القائمة على وحدة القبيلة أو العرق أو القومية، تلك الكرامة نظرًا لقيامها على أساس فرز حصري لا دخل للإنسان فيه مفروض عليه بعارض مولده. وهذا هو السبب في رفض الإسلام إقامة العلاقة بين البشر على الناظم العرقي القبلي، واستبدال علاقة تقوم على الأمة الجامعة به. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون) [الأنبياء: 92]، ويقول: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾ [البقرة: 213]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون) [المؤمنون: 52، 53]، وفي المقابل يقول سبحانه: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الفتح: 26].
أما الأسرة فهي المؤسسة الاجتماعية النهائية، المعزّزة بالفرد من جانب، وبالأمة من جانب آخر. وأهميتها في النظام القرآني مؤكدة بنص القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون﴾ [الروم: 21].
ولا يدين الإسلام العلاقة الجنسية بين الزوجين، بل يـعـتـبـرها من الحلال الطيب الضروري، ولا يقف الإسلام عند حد إباحتها بل يوصي الأزواج رجالًا ونساء بالوفاء بحق بعضهم لبعض فيها. ونقرأ في القرآن الكريم قول الله تعالى: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين﴾ [البقرة: 223]، وقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيم﴾ [البقرة: 228].
إلا أن الإسلام لا يعتبر الإشباع الجنسي بين الزوجين أساسًا كافيًا ليحقق بمفرده الغرض من الزواج. بل يعتبر الزواج القائم على البعد الجنسي والحب الرومانسي العارض زواجًا قاصراً وبعيدًا عن الكمال. ويقول الرسول في هذا السياق ضمن خطبة الوداع: «استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن شقائق الرجال استحللتم فروجهن بكلمة الله. أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قَولي، فإني قد بلغت»[2].
فالزواج ينشئ شبكةً واسعةً من العلاقات الإنسانية يدور حولها جزءٌ كبير من الفعل الأخلاقي. وعائل الأسرة هو المسؤول الأول تجاه أسرته عن واجبات الإنجاب والحب والتراحم والشورى والتوجيه والتربية والتعاون والمودة. ويحتل أولو القربى مكانة رفيعةً في الأوامر الربانية المتعلقة بالبعد الاجتماعي، الواردة بالقرآن الكريم، بدليل كثرة الآيات المتضمنة لعبارة (أولي القربى)، ومنها على سبيل المثال، قول الله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون﴾ [البقرة: 177]، وقوله سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، وقوله جل وعلا: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ [النساء: ٧، ١٨][3].
وقصارى القول إن الإسلام يرى أنه لا غنى عن الأسرة لتحقيق مراد الله تعالى من البشر في هذه الحياة الدنيا. ولا يمكن أن يكون هناك توحيد دون تحقق ذلك المراد الإلهي. ذلك أن معنى الشهادة لله تعالى بالوحدانية هو الإقرار بوجوب طاعة مراد الله تعالى وأمره باعتبارها مناط الخير والغاية بالنسبة للإنسان. ومقتضى الإقرار بالتوحيد هو النظر إلى أمر الله التكليفي على أنه فريضة ملزمة، مما يستتبع بدوره السعي لإيجاد المواد التي بها تتجسد القيم الكامنة في تلك الأوامر. فكل هذه الأمور مرتبطة ببعضها منطقيًا، ولا يمكن التفريق بينها ولا تحقيق بعضها دون بعضها الآخر. والواقع أن الله تعالى لم يأمر الإنسان بتجسيد تلك القيم في أرض الواقع فحسب، بل شفع ذلك ببيان وسيلة تحقيقها، وضوابط الوفاء بها ولوازمه متمثلةً في الأسرة وشبكة العلاقات التي تنشأ عنها.
ومن الممكن البرهنة عقليًا على الحاجة إلى الجمع بين التوحيد والأسرة. وبيان الله تعالى المفصل لشأنهما دليل بذاته على الحاجة المنطقية إليهما. فلا يمكن أن يقوم التوحيد في الأرض دون الأسرة.
ومن الملاحظ أن الله تعالى اختص الأسرة ببيان المبادئ العامة الناظمة لها، فضلًا عن بيان أدق تفصيلات العلاقات الخاصة بها، كما يتضح من أحكام الزواج والطلاق والميراث بالقرآن الكريم، أما فيما عدا الأسرة من مجالات، مثل: الشأن الاقتصادي والسياسي، فاكتفى القرآن ببيان المبادئ العامة الناظمة لها دون الدخول في تفصيلاتها.
مشكلات معاصرة:
1. المساواة بين المرأة والرجل:
مما لا يرقى إليه الشك أن الله تعالى جعل المرأة والرجل متساويين في الحقوق والواجبات والمسؤوليات الدينية والأخلاقية والمدنية. يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾ [النحل: ۹۷]، إلا أن هذا المبدأ العام ترد عليه استثناءات جد محدودة تقتضيها وظيفتي الأبوة والأمومة.
فلقد بيَن الله تعالى في آيات كثيرة مبدأ التسوية بين الرجل والمرأة على مستوى الدين. ومن بين الشواهد القرآنية على ذلك، قوله سبحانه: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَاب﴾ [آل عمران: ١٩٥]، وقوله سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم، وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾ [التوبة: ۷۱، ۷۲]، وقوله سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾ [النحل: 97]، وتؤكد هذه الآيات ذاتها المساواة بينهما على المستوى الأخلاقي.
كما أثبت القرآن المساواة بين الرجل والمرأة على مستوى الحقوق المدنية. ومن بين الشواهد القرآنية على ذلك، قول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم﴾ [الممتحنة: ۱۲]، وقوله سبحانه: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [النساء: ۳۲]، وقوله سبحانه: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيم، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم﴾ [المائدة: ۳۸]، وقوله سبحانه: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِين﴾ [النور: ٢].
ولا يصمد الزعم بأن الإسلام يرى عدم التسوية بين الرجل والمرأة، بالاستشهاد بالآية الرابعة والثلاثين من سورة النساء أمام أدنى درجات التمحيص. فلنذكر نص تلك الآية أولاً وندقق فيها. يقول الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٣٤]، فالآية تختص بادئ ذي بدء بالعلاقة بين الزوجين فحسب. والدليل على ذلك مضمّن في بقية نص الآية ذاتها التي قصرت القوامة على شروط تتعلق بالكلية بالعلاقة الأسرية المبينة فى صدر الآية. أما الشطر الأخير منها فلا يشير إليه دعاة هذا الزَّعم عادةً من أجل إفساح المجال أمام ذلك التعميم الذي لا سند له فيها. ومن المؤكد أن للرجال أسبقية فيما يخص تلك العلاقة الأسرية لكون النظام الأبوي للحياة الأسرية هو الشكل الوحيد الثابت الذي تمرس عليه البشر، وحافظوا عليه من بدء الخليقة.
فالأسرة بيت يحتاج الدفاعُ عنه وتزويده بمتطلبات الحياة من خلال الكدح والسعي المستمر خارجه. ومن الجلي أن استعداد الرجل لتحمل مسؤولية ذلك يفوق استعداد المرأة له، ومن جهة أخرى فإن الزعم بتأويل هذه الآية على وجه يصب باتجاه عدم المساواة بين الرجل والمرأة يتناقض مع كافة الآيات الأخرى الدالة على العكس السالف الإشارة إليها، التي تثبت المساواة بين المرأة والرجل في الدين والأخلاق والحياة المدنية.
2. التمايز والتكامل بين دور المرأة والرجل:
يرى الإسلام أن المرأة والرجل خلقا لتحقيق وظيفتين مختلفتين ولكنهما متكاملتين. يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [النساء: ۳۲]، فوظائفُ الأمومة المتمثلِّةُ في الرعاية المنزلية وتربية الأطفال، ووظائف الأبوَّة المتمثلةُ في حماية البيت وتزويده بمتطلبات المعيشة والقوامة العامة، استدعت اختلاف الرجل عن المرأة في البنْيَة الجسدية والنفسية والعاطفية.
ويبارك الإسلام هذا التمايز ويعتبرُه ضروريًا لتحقيق كل من المرأة والرجل لذاته. يقول الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَاب﴾ [آل عمران: 195].
وشتَّان بين القول بتمايز دور الرجل عن دور المرأة، والقول بالتمييز أو الفصل العنصري بينهما. فدور المرأة كدور الرجل خاضع على قدم المساواة مع نظيره للأحكام الدينية والأعراف الأخلاقية، ويستدعي كلاهما من صاحبه استخدام كل ما أوتي من الذكاء والموهبة والطاقة والقدرة على العطاء من أجل القيام به. ومن جهة أخرى، فإن هذا التمايز في الأدوار لا يتعلق بمجالات النشاط الإنساني التي يتشابك فيها دور كل من الرجل والمرأة، بالمجالات الأخرى التي لا تتشابك فيها أدوارهما. ومن الممكن أن تقوم المرأة بأنشطة ذكورية في الأصل أو العكس، وأن يعبر أي منهما إلى فضاء نشاط الآخر، لو توفرت قابليات فطرية تجعل ذلك أمرًا مستحبًا، أو طرأت ضرورة تجعله مفيدًا، شريطة عدم الإخلال بالتمايز الرئيس الذي أودعه الله تعالى فيهما بفطرة خلقهما. والقول بخلاف ذلك لا يستقيم مع الحقيقة الثابتة التي لا يماري فيها أحد، الخاصة بتقرير القرآن الحقوق المدنية كاملة للمرأة.
3. السفور والعزلة:
مما لا ريب فيه أن الإسلام لا يريد من المرأة أن تعزل نفسها عن المجتمع بنقاب أو داخل جدران البيت بقاعات الحريم. والدليل على ذلك هو اعتراف الإسلام بحق المرأة في المشاركة في الحكم، يقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم﴾ [الممتحنة: ۱۲]، وحقها في المشاركة في الحياة العامة، يقول الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم، وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾ [التوبة: ٧١، ٧٢]، بل حقها في المشاركة في الحرب يقول الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَاب﴾ [آل عمران: ١٩٥].
ومن الواضح أن مُثُل تلك المشاركة تتناقض مع العزلة والنقاب، وهي غير متصورة في وجودهما. فما يعول الإسلام على تحاشيه في المقام الأول هو السفور الذي يقود إلى شيوع الرذيلة والفحشاء. يقول الله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾ [النور: ۳۰، ۳۱]، ويقول سبحانه: ﴿يَانِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٠ – ٣٣].
ويأتي هنا أمران الهيان في الآيتين ۳۰، ۳۱ من سورة النور، أولهما موجه إلى المرأة والرجل بذات الدرجة، إن لم يكن أشد بالنسبة للرجل؛ حيث توجه الأمر للرجال بغض البصر وحفظ الفرج، قبل أن يوجه إلى النساء، والثاني خاص بقواعد إبداء الزينة وحدودها، موجه للنساء وخاص بهن. والحق أن القرآن يأمر المرأة بأن تستر جسدها، ولكنه يستثني صراحة تلك الأجزاء التي يقتضي العرف كشفها لو أريد للمرأة أن تقوم بدورها وتقرر مصيرها في الحياة، على النحو الذي حدده الإسلام.
ولمَّا كان تعمُّد المرأة إبداء جمالها الأنثوي، والكشف عن زينتها يقود إلى الغواية بالقطع، فإن الإسلام حرمه عليها، مستثنيًا الأطفال الصغار والمحارم البالغين كالأب والأخ والعم على نحو ما بينت الآية الحادية والثلاثون من سورة النور. وتجنب الغواية مثل أخلاقي رفيع، ولا يتعارض مع قيام المرأة بواجباتها التي فرضها الإسلام عليها في المجتمع. وعلى أي حال، فإن التاريخ الإسلامي عرف على الدوام منذ العهد النبوي كشف النساء عن الوجه واليدين والقدمين وهن يقمن بتلك الواجبات الإسلامية، حتى في بيت الله الحرام ذاته.
٤. الزواج والطلاق:
الزواج واجب ديني وأخلاقي على الرجال والنساء. يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون﴾ [الروم: ۲۱]. وينبغي مراعاة عدم تعويق زواج الرجال والنساء بالمغالاة في المهور وبعدم توفر السكن والتعليم وفرص العمل. ولقد أصبحت هذه العوامل موانع للزواج في الغرب، بسبب القيمة العالية التي يوليها الغرب للإنجاز المادي، مقابل عدم اكتراثه بالعفة الجنسية. ومع تحول مؤسسة الأسرة إلى نمط الأسرة النووية، بات لزامًا على من يعتزمون الزواج تحقيق الاستقلال الاقتصادي قبل الإقدام عليه.
وعلى العكس من ذلك، فإن الأسرة الإسلامية أسرة ممتدة تشمل: الآباء والجدود وأزواجهم وذريتهم. وكفل الإسلام للمرأة حق إعالة وليِّها لها إن لم تكن متزوجة، وإعالة زوجها لها إن كانت متزوجة. ولما كان الإسلام قد أقر القوامة الأسرية لرب الأسرة، فإنه حمله مسؤولية الإنفاق على الإناث على مستوى الأسرة. ومؤدى امتداد الأسرة وتأمين النفقة على هذا النحو هو تمكُن معظم النساء والرجال المسلمين من الزواج في سنِّ مبكِّرةٍ، لانتفاء الربط بين الإقدام على الزواج وتحقيق الزوج شخصيًا للاستقلال الاقتصادي أولًا.
إلا أن آفة التغريب تطول الشباب المسلم – للأسف – بمعدلات منذرة بالخطر؛ حيث بات من الشائع بينهم السعي إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي أولًا، وإرجاء الزواج إلى ما بعد إنجاز ذلك. وهذا التطور مؤسف بل مأسوي، لاعتبارات عديدة:
أ-الاستقلال الاقتصادي الشخصي ليس عيبًا في ذاته، ولكنَّ معيار القيمة الكامن وراءه هو الشر بعينه، والانضواء تحت لوائه والنظر إليه على أنه هو المثل الأعلى الواجب السعي إليه يستبطنُ رؤيةً ماديةً للحياة على هذه الأرض. ويقود الإيمان بمثل تلك الرؤية إلى تفضيل الأسرة النووية على العائلة الممتدة. ويؤدي ذلك بدوره إلى نزعة فردية وذاتية مفرطة. ومن هنا فإن التسليم بالأولوية للاستقلال الاقتصادي يُعدُّ سِمَةُ أساسية في الأغلب الأعم للشخص غير المنضبط وغير القابل للانضباط.
ب-يُعرِّض تأخيرُ الزواج كُلًا من المرأة والرجل للغواية. فالزواج درع العفة.
ج-الأسرة الممتدة والزواج المبكر لا يضعان العروسين أمام متطلبات مستحيلة. ففي ظل الأسرة الممتدة يظل بوسع الزوجين الذهاب إلى المدرسة أو إلى العمل، لوجود أقارب أحبة على الدوام في البيت يتولون تدبير شؤونهما ورعاية الأطفال.
وفي ضوء كل هذه الاعتبارات يدعو الإسلام المسلمين إلى الزواج في سنٍّ مبكرة، وإلى اختيار العيش في أحضان أسرة ممتدَّة على الدوام.
5. الأسرة الممتدة:
شرع الله تعالى الأسرة بنمطها الممتدِّ. واحاطتها الشريعة الإسلامية بتشريع يحدد أصحاب الفرائض، ونظام النفقة، والمواريث[4]، وعامة القول، أن الحق في الإعالة يصل إلى أي قريب مهما بعدت درجةً قرابته شريطة أن يكون محتاجًا، والأولوية في النفقة للجدود والأحفاد والأعمام وذرياتهم. فالقرابة من جهة الأب مقدمة في حق النفقة على القرابة من جهة الأم. وتضم الأسرة الممتدة عادةً قرابة عشرين شخصًا، يعيشون معًا في مجمع متعدِّد المراكز، ويجتمعون على طعام واحد، وفي ديوان واحد يستقبلون فيه ضيوفهم، ويلتفون فيه حول أكبرهم سنًا.
ولا تعاني الأسرة الممتدَّة فجوة بين الأجيال؛ حيث إنها تجمع بين ثلاثة أجيال، مما يجعل تنشئة الصغار وانتقال الثقافة بين الأجيال كاملًا على الدوام، على نحو يكفل انتقال الأعراف والثقافة بأدنى درجة ممكنة من التزييف. ففي ظلها يتصل الماضي بالحاضر والمستقبل على نحو أصيل.
وثمة ميزة أخرى للأسرة الممتدة هي كونها تمد أي عضو فيها برفقة فورية وقتما يشاء. فهي توفر له فرصة للاختيار بما يتوافق ومزاجه في كل حين. فهو يجد في كنفها على الدوام شخصًا مستعدًا للعب معه، أو لممازحته، أو للتشاور معه، أو للتأمل معه، أو حتى للبكاء مما يبكيه معه، أو لمشاطرته في الرجاء والأمل. وهذا متطلب أساس للاستواء العقلي. فالأسرة الممتدَّة لا تخلو عادةً من طفل، ومن عناصر شابَّة من الإناث ومن الذكور، ومن عنصر مسن أكثر حكمةً، وأكثر خبرة من بقية أعضائها.
حقيقة أن الأسرة الممتدة تفرض الانضباط والتضحية المتبادلة على أفرادها، وقد تحد الحياة بها من خصوصياتهم الشخصية. إلا أن طبيعة الحياة في هذه الحياة الدنيا لا تسمح بطبيعتها لأي إنسان بالعيش كما يحلو له دون ضوابط ولا تضحيات، كما لو كانت الحياة قد خلقت له وحده. ومن الخير للإنسان – بالتأكيد – أن يتمرَّس على الانضباط الذاتي، وأن يتحلى بالإيثار والتضحية من أجل الآخرين ومن الأفضل لنا أن نتعلم كيف نضبط أنفسنا، على يد أحبة لنا في بيوتنا، وليس على يد غرباء عنا.
٦. المرأة صاحبة المهنة والمرأة العاملة المسلمة:
بلغت محاكاةً كثير من المسلمات للمرأة الغربية في السعي إلى مهنة يحقِّقُنَ من خلالها الاستقلال الاقتصادي والحرية الشخصية حدًا يتعين معه بيان موقف الإسلام من هذه المسألة.
ومما لا شك فيه أن الواجب الأساس للأغلبية العظمى من المسلمات هو التفرغُّ لمهنتهنَّ الدائمة بصفتهن ربات بيوت وأمهات. ومن نافلة القول، التذكير هنا بأنَّ هذه المهنة تتطلَّب تأهيلًا يوازي أو يزيد عن التأهيل الذي تقتضيه أيَّةٌ مهنة أخرى خارج البيت. ومن التشويه للمهمة النبيلة للمرأة بالبيت تصويرها على أنها تختصُّ بمجردَّ الطبخ والقيام بالأعمال المنزلية الروتينية. فهذه المهمة تتعلَّق برعاية البشر كبارًا وصغارًا، وهي أصعبُ وظيفة على وجه الأرض. ومن ثم هي مهنة تحتاج لأقصى ما يمكن أن يتمتع به إنسان من النّضج والحكمة والذكاء والذوق الفني والإبداع وحضور البديهة والخبرة. وفرصة التدرُّب على هذا كلِّه متاحةٌ بقدر ما يسمح به وقت طالبته وقدراتها في علوم التدبير المنزلي والتربية والآداب والفنون والتاريخ وعلم النفس والثقافة.
وبرغم أن التدبير المنزلي والحمل والإرضاع مهنة عامة للمرأة، فإنها لا تستنفذ كل طاقاتها طيلة حياتها. ثم إن عضوية المرأة في الأسرة الممتدة التي تنتمي إليها ابتداء بمولدها فيها، وفي الأسرة الممتدة التي باتت منتميةً إليها بالزواج، توفِّر لها أعوانًا في مهمتَّها، مما يتيح لها المزيد من وقت الفراغ. وقد لا يستغرق أمدُ عناية المرأة بالإنجاب وتربية الأطفال أكثر من عقدين أو ثلاثة على أعلى تقدير. وقد تُعمَّر ثلاثة عقود أخرى بعد توقفها عن الإنجاب. فهل يكون من الصواب تبديد هذا الوقت الثمين في الثرثرة الأسرية، في الوقت الذي يمكن فيه توجيه تلك الطاقة والموهبة لخدمة الأمة؟ وبالمثل، هناك من النساء من يُقدِّر الله تعالى لهن ألا يتزوجن أو لا ينجبن أو لا يعشن في كنف أسرة ممتدة. فكيف ترتب حياة مثل هؤلاء، ويستفاد منهن في منظور الإسلام؟
الجواب أنَّ من واجب كل إنسان رجلًا أو امرأةٌ – على قدم المساواة – النهوض بفريضة عبادة الله تعالى وتحقيق النفع للأمة بأقصى قدر تسمح به مواهبهُ الفطرية. والقيام بهذه المهمة الآن ضرورةٌ تفوق أيَّ وقت مضى بالنظر إلى ما تعاني منه الأمة من وهن وسبات. فالأمة لا تستغني عن جهد أحد من أبنائها. وتستدعي ظروفنا الحاضرة أن تكون كل امرأة صاحبة مهنة في جزء من حياتها على الأقل. ومن الممكن أن تكون تلك الفترة في أثناء دراستها، أو في أثناء قيامها بدور الأمومة، لو كانت تعيش ضمن أسرة كبيرة ممتدة، أو بعد مرحلة الإنجاب وتربية النشء.
ومن هنا فإنَّ المهمة الأولى التي ينبغي للمرأة المسلمة أن تركز عليها، هي التدريب لتغدو مسلمةً عاملة من أجل إيقاظ عقلها وتغذيته بالحكمة الإسلامية، وإكسابها انضباطًا ومرانًا ذاتيًا، وتحقيق تأهلها النفسي، استعداداً للعمل. والمرأة مطالبة في هذا الصدد بالسعى لتنمية المهارات المطلوبة للعمل الاجتماعي على مستوى القرية والمدينة، لتغدو قادرة عبر عملها الاجتماعي على إرشاد غيرها من البشر إلى واجبهم الإسلامي، ومساعدتهم بالتعليم وبالأسوة الحسنة. والواقع أن كل مجالات النشاط الإنساني مفتوحةٌ أمام المرأة المسلمة، وبحاجة إليها، بل إن ثمة مهنًا يمكن أن تكون حكرًا على المرأة بكاملها. والمجتمع الإسلامي في أمسِّ الحاجة إلى المرأة الإسلامية العاملة، وبدرجة تفوق كلَّ ما يتصوَّرُه أي جهد تعبويٍّ معاصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* التوحيد مبدأ الأسرة. في: إسماعيل راجي الفاروقي (2020). التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة/ ترجمة السيد عمر. ط. 5. القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر. ص ص. 213- 228.
[1] William F. Kenkel. The Family in Perspective: New York: Meredith Corporation. ,1973. Chap. V,VII.
[2] انظر خطبة الوداع في: محمد حسين هيكل حياة محمد، القاهرة: دار المعارف، ص٤٨٦.
[3] وانظر أيضًا: محمد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص541.
[4] يمكن الرجوع في تفصيلات أحكام المواريث إلى أي مرجع في الفقه الإسلامي. انظر على سبيل المثال: عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة.