التوحيد- التزكية- العمران: منظومة القيم العليا*
تشتمل الرؤية الإسلامية على منظومة قيم عليا حاكمة مكونة من ثلاث قيم أساسية هي: التوحيد، والتزكية، والعمران؛ فالدين قائم على توحيد الله الخالق، وتزكية الإنسان المخلوق، لتمكنيه من حمل أمانة الخلافة في الكون، وعُمران هذا الكون وبناء الحضارة فيه. فالإنسان المخلوق هو المخاطب بالوحي المنزَّل من الخالق الواحد، فيؤمن بوحدانيته، ويقرُّ بالعبودية له، ويوظِّف طاقته العلمية والعملية في إعمار الأرض وترقية الحياة البشرية عليها، وهو بذلك يحقق مقصد التزكية تطهيرًا، وتنمية لنفسه، وماله، وعلاقاته.
ويمكننا أن نشتق من هذه المنظومة، التي تبدأ بتوحيد الخالق، ثم بتزكية الإنسان، وتعمير الكون كل القيم الأخرى، فالإنسان الذي يؤمن بوحدانية الله يجد الوحدانية والعبودية أمرين متلازمين يرتبطان ارتباطًا مباشرًا، ويجعلان الإنسان ملتزمًا بتعليمات الوحي القرآني في الاتصاف بالتقوى، وإقامة مجتمع العدل، والأخوة الإنسانية وأداء أمانة الاستخلاف، وتوظيف طاقاته في إعمار الكون وبناء الحضارات.
إنَّ التعامل مع عناصر منظومة: التوحيد، والتزكية، والعمران، رغم تكاملها وترابطها، لا يجعلها بالضرورة في مستوى واحد من القيمة والأهمية؛ إذ يبقى التوحيد رأس الأمر كله في الإسلام، فبه يتقوَّم جهد الإنسان في الدنيا وجزاؤه في الآخرة. فالتوحيد أساس الدين، ورسالة الله إلى الأنبياء والرسل أجمعين (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون) [الأنبياء: 25] فالنطق بالشهادتين: “لا إله إلا الله محمد رسول الله” هو باب الدخول في الإسلام للبدء في بناء “أركان الإسلام الخمسة”، والتحقق بالإسلام: عقيدة وعبادة ونظام حياة، وبمضمون الشهادتين يترقى الإنسان لإطلاق طاقاته الفكرية والوجدانية، وتحريرها من قيد المادة، للسمو بها في آفاق التوازن بين المادة والروح، وعتقها من سجن الدنيا لتنطلق في فضاءات الدنيا والآخرة، وتخليصها من أوهام الخرافة إلى يقين العلم.
التوحيد
التوحيد قيمة حاكمة كبرى، وهو أساس الإسلام، وهو الذي يعطي للحضارة الإسلامية هُويَّتَها، والتوحيد في الرؤية الإسلامية هو قيمة مركزية ومصدر للقيم الأخرى وقاعدة لمضامين هذه القيم في أنظمة الفكر والحياة جميعها من التفكير والنظر العقلي إلى النظام السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي إلى النسق الجمالي.
وتتمثل حقيقة التوحيد في أنّ الكون قائم على الانتظام في السلوك، دون اضطراب أو فساد، مما يشير إلى وحدة المرجعية في هذا النظام، وهي الخالق الواحد سبحانه، فلو كان في الكون آلهة متعددة، لاضطرب الكون وفسد أمره؛ لأنه لا يستطيع أن يأتمر بأمر سيدين في الوقت نفسه، ولذلك كان توحيد الله يمثل المقام الأعلى في الدين وله الميزة العظمى في اعتقاد الإنسان وفي جزائه.
وقيمة التوحيد هي مصدر القيم الأخرى في جميع أنظمة الحياة البشرية، وفيما يلي توضيح لتجليات التوحيد في بعض هذه الأنظمة:
1- تجليات التوحيد في النظام الاجتماعي: الأسرة والأمة([1])
تشتمل تعاليم الإسلام على ما يختص بمناحي الحياة كلها؛ ومهمة الخلافة التي أراد الله للإنسان أن يتولاها تختص في جزئها الأكبر بإقامة الحياة الاجتماعية، وتنظيم المعاملات فيها وفق أحكام الله.
ولا شك في أن النظام الاجتماعي الإسلامي الذي يقوم على التوحيد يعتمد الأسرة وحدة بناء المجتمع، وروح العلاقات الأسرية ومتانتها. وفي هذا يختلف النظام الاجتماعي الإسلامي عن أي نظام آخر. فقد أدت النظرية الشيوعية التي حاولت إلغاء دور الأسرة إلى إضعاف الروابط والعلاقات الأسرية، وأدت الروح الفردانية في الغرب إلى انفراط عقد الأسرة وإيصالها إلى مرحلة الاحتضار.
ولعل مما يلفت الانتباه أنَّ ميدان الأسرة في القرآن الكريم، قد تم تنظيمه بقدر كبير من الأحكام والتشريعات التفصيلية في الزواج والطلاق والرضاع والإرث، في حين اكتفى القرآن الكريم في سائر الميادين الأخرى بمبادئ عامة، وقليل من الأحكام التفصيلية. فلمحورية الأسرة في الحياة الاجتماعية أفرد لها القرآن الكريم كل تفصيلات علاقة أفرادها منذ الزواج بل وما قبله الى ما بعد وفاة أحد أفرادها من خلال منظومة الميراث الدقيقة، كما أكد على القيم الناظمة للعلاقات الفطرية التي تختص بالمشاعر الإنسانية بين أفراد الأسرة من سكن وحب ورحمة ومودة، وتعاون وتشاور، وغيرها، وأن هذه القيم الفطرية هي أساس بناء الأحكام والتشريعات.
إن دلالة توحيد الخالق سبحانه تفترض أنَّ جميع البشر متساوون أمام الله. وتقوم المساواة بين الذكر والأنثى في الحقوق والواجبات والمسؤوليات الدينية والأخلاقية والمدنية، والنصوص القرآنية في هذا الشأن نصوص متعددة وقاطعة في دلالاتها، وما يبدو من استثناءات وألوان من الخصوصية لأحد الجنسين، إنما هو تأكيد لهذه المساواة مع الأخذ في الاعتبار بعض الاختلافات الطبيعية التي تنبني عليها مسؤوليات خاصة بالرجل أو المرأة. فالاختلاف في التكوين الجسدي والوظائف الفطرية يؤدي إلى تكامل في الأدوار، دون اختلاف في القيم والمعايير الأخلاقية والمسؤوليات الدينية؛ فكل من الرجل والمرأة يحتاج إلى الذكاء والموهبة والجهد الشخصي الذي لا بد من بذله للقيام بمهمته على الوجه الأفضل، ومع ذلك فإن بعض الأدوار قد تتشابك وتتداخل في بعض مساحات العمل المنزلي أو المهني أو الاجتماعي، دون الإخلال بمتطلبات الطبيعة البشرية لكل منهما.
2- تجليات التوحيد في النظام الاقتصادي:
إن البعد القيمي المترتب على شهادة “لا إله إلا الله” هو من أهم تجليات التوحيد في الإسلام؛ وهو يعني أن كل شيء يستمد قيمته من الله سبحانه بقدر ما يحققه من مشيئة الله وإرادته. لذلك فإنَّ الهدف الإلهي من خلق الكون هو بناء عالم تملؤه القيم عن طريق امتلاك الإنسان للرؤية الكونية الإلهية لهذا العالم، والعمل الأخلاقي الصالح الذي يملأ به حياته. فكل شيء فيه يحمل قيمة كونية عليا، فالبشر جميعًا متساوون ولا يتفاضلون إلا بالعمل الصالح (التقوى). وكذلك الأشياء كلّها في هذا العالم تسلك وفق سنن الله وقوانينه. وقيمة كل منها تكمن في تسخيرها للإنسان؛ ليرتقي بهذا العالم إلى الصورة التي يريدها الله سبحانه.
وقد تميّز الإسلام بوصفه دين التوحيد بتأكيده العلاقة التوحيدية المتوازنة بين المادي والروحي، وهو بهذه الميزة يسعى إلى تحقيق النفع والخير للبشر جميعًا، وذلك بالحرص على العمل، والانتفاع بخيرات الأرض، وتوظيف طاقاتها، وتوفير المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وجمع الثروة، وإنشاء العمران، وتوفير متطلبات الحياة المادية للناس، وأي تقدم وارتقاء روحي يلزم أن يصاحبه تحسن مادي، وإذا انعدم التوازن بينهما اختل نظام الحياة.
ويقوم النظام الاقتصادي في الإسلام على مبدئين؛ الأول: عدم شرعية قيام فرد أو مجموعة باستغلال الآخرين، والثاني: عدم شرعية قيام فرد أو مجموعة بإنشاء حصار اقتصادي على الآخرين أو حجر عليهم.
وكما كان للتوحيد في الاقتصاد الإسلامي قيمتُه في وضع المبادئ العامة للاقتصاد، فقد كان للتوحيد تجلياته في أخلاقيات العمل ومبادئ الإنتاج، ومن ذلك الحث على الحد الأقصى للإنتاج؛ أي أن ينتج المرء، أكثر مما يستهلك، ويقدم من الخدمات أكثر مما يستعمل.
وكما كان للتوحيد تجلياته في أخلاقيات الإنتاج، فكذلك شأنه في أخلاقيات الاستهلاك، فالتوحيد يمنح الإنسان شرعية الاستهلاك، الذي يعني تلبية الاحتياجات الأساسية في حد أقصى لا يصل إلى التبذير أو الإسراف. أما فائض الدخل فيعاد استثماره لزيادة الإنتاج وإغناء الأمة، وإنفاقه في وجوه الخير والخدمات الاجتماعية، طمعًا في مرضاة الله وإعمالا لقيم التراحم والتكافل وسد الحاجات الأساسية على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع والدولة. فعلى مستوى الفرد ينفق الفرد على ذويه إنفاقًا إلزاميًا، ويدفع الزكاة المفروضة في وجوهها المحددة، ويتصدق تطوعًا في الوجوه الأخرى، وعند الموت يوزع الميراث ضمن نظام غاية في الدقة والعدالة.
إنَّ أخلاقيات النظام الاقتصادي في العمل والإنتاج والاستهلاك كفيلة بتحقيق السعادة للناس في حياتهم المادية والروحية ضمن نظام قيمي يتصف بالإيجابية والمسؤولية والعدالة.
3- تجليات التوحيد في مجال النظام المعرفي([2]):
والتوحيد الإسلامي بوصفه مبدأ للمعرفة يعترف بأن الحقيقة في متناول يد الإنسان حين يقوم بمهمته الاستخلافية في التفكير والبحث. وإذا كان التوحيد هو القيمة المركزية الأولى في الرؤية الإسلامية، فإن إعمال هذه القيمة هو مبدأ أساسي من مبادئ المنهجية الإسلامية في التفكير والبحث والسلوك.
التزكية في منظومة القيم العليا
الحديث عن التزكية هو حديث عن مفهوم مركزي من المفاهيم القرآنية، وهو يتخذ موقعًا مهمًا ضمن منظومة القيم القرآنية؛ فالتزكية موضوعها الإنسان المستخلف، وهو موضوع إصلاح الفرد والجماعة والأمة. فالإنسان مادة وروح، والتزكية تشمل المادة والروح. والحديث عن قضايا الإصلاح يتعلق بالإنسان وترقيته في مراتب التزكية، والتزكية هدف العمران ووسيلته فهي ليست مسألة مشاعر وخلجات وخواطر نفسيه مقصورة على مستوى الإصلاح الفردي، بل تدخل في صميم البناء الاجتماعي والعمران البشرى.
وردت في القرآن الكريم مشتقات “زكو” وهو الأصل الثلاثي من لفظ التزكية تسعًا وخمسين مرة. والمطلوب من الإنسان أن يزكي نفسه وبذلك يتحقق له الفلاح والنجاح (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس: 9]، وتتحقق تزكية الفرد بدخوله في دائرة الإيمان (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) وتتحقق في تجنب الدخول في جهنَّم (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) [الليل: 17 – 18]، وعندها يكون عائد التزكية خاصًا بالنفس ذاتها (وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِير) [فاطر: 18]، وتكتسب التزكية المطلوبة بالإيمان والعمل الصالح وبها يتفضّل الله على الإنسان بالرضا ويؤتيه الأجر والثواب (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى) [طه: 75 – 76]. وقد تكون الإشارة إلى التزكية بوصفها حالة لما يكون عليه أمر الإنسان “في الاستقبال لا في الحال، والمعنى: سيتزكى (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُون) [المؤمنون: 14]؛ أي: يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله، أو ليزكوا أنفسهم، والمعنيان واحد([3]).
ومحور التزكية في كل ذلك هو الوجدان الإنساني الذي يكون موضوعًا للترقية والتربية والتنمية. وهذا الوجدان وجدانان وجدان نزوعي ووجدان إدراكي. والوجدان النزوعي له دوافع غريزية وحاجات مادية ويرتبط بما يصفه القرآن بالنفس الأمارة بالسوء؛ النفس التي تنتهي إلى أن الإنسان خلق هلوعًا. أما الوجدان الإدراكي فتمثله دوافع الفطرة البشرية في تلمس الحاجات الروحية، ويتحرك الإنسان معها من البعد المادي إلى الروحي، فتتكون لديه نفس لوامة، لا تزال تترقى في درجات التزكية، لتصبح النفس المطمئنة، التي تستحق خطاب الله سبحانه لها (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر: 28-30].
والله سبحانه ينهى عن أن يقوم الناس بتزكية أنفسهم، يظنون أنهم بذلك يصلون إلى حالة التقوى، فالله أعلم بالناس، وأعلم بما تؤول إليه أمورهم بعد ذلك، وهو أعلم بمن يصل إلى التقوى (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32] وحينما يصل الذين آمنوا إلى حالة التقوى بما تتضمنه من التوجه إلى الله والجهاد في سبيله، فهناك يضمنون الفلاح (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) [المائدة: 35].
ويرد لفظ التزكية في القرآن الكريم بمعنى التطهير والترقية للمشاعر النفسية وللعلاقات الاجتماعية، فهي مشاعر وخواطر نفسية تُزكِّي القلوب وتحدد العلاقات والأنظمة القائمة في المجتمع وتعالج القضايا الاجتماعية.(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون) [البقرة: 232].
وألفاظ (أَزْكَى لَكُمْ(و)أَزْكَى لَهُمْ) تتكرر في سياق ما قد يحيك في النفس نتيجة بعض الممارسات، فالاعتذار عن استقبال الضيوف في المنزل احترامًا للخصوصيات، وغض البصر، وحفظ الفرج صيانةً للأعراض، يرافقهما تطهير الضمير والشعور وتطهير العمل والسلوك؛ تطهير لحياة الفرد وسريرته وواقعه، فيكون مستشعرًا مراقبة الملأ الأعلى لخلجات قلبه وسلوك جوارحه (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم) [النور: 28]، (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون) [النور: 30].
والنفس الإنسانية جسم وعقل وروح، وكلُّ مكوّن من مكوِّنات الذات الإنسانية، وكلُّ جزء من أجزاء الجسم الإنساني يتحمل جزءًا من مسؤولية التزكية؛ المسؤولية عن صواب الفكرة، وحسن النية، وصحة الفعل، فيجازي بذلك ثوابًا، وإحسانًا، والمسؤولية عن الخطأ وسوء النية، فيجازى بذلك عقابًا وخسرانًا. فتزكية اليد أن تتحرك بالعطاء والصدقة، وتصافح بشوق ومحبة، وتمسح على رأس الصغير برحمة، وتكتب ما هو حق وخير وتعين المحتاج إلى العون. ومن تزكية العين أن تتأمل في ملكوت الله ومظاهر عظمته، فترى الأشكال والألوان والأحجام، وتتفحص تمثلات التناسق والتوازن والجمال في مخلوقات الله فتمجده، كما أن تزكية العين تعني غضها عما نهى الله التمعن فيه. ومن تزكية البطن أن يُملأ بالطعام الحلال؛ في اعتدال. ومن تزكية اللسان أن يكون نطقه ذكرًا، وصمته فكرًا، فلا يقول إلا الحق والصدق، ولا ينطق بالغيبة والنميمة وإشاعة الفاحشة، وقول السوء “مَنْ كان يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر، فليَقُلْ خيرًا أو ليَصْمُت”([4]).
ومن التدسية، أن تقوم كل جارحة من جوارح الإنسان بما يقابل ذلك من أبواب الحرام، والأذى، والعبث. فتقع العين في الزنا، وزناها النظر، ويقع اللسان بالزنا، وزناه النطق، ويصدِّقُ الفرج ذلك بالفعل الحرام، أو يكذِّبْه([5]).
ومن تزكية الجسم، أن يحيط الإنسان نفسه بالبيئة الصالحة من أهل التقوى والإيمان والأعمال الصالحة التي تزكي أصحابها وتنمي غيرها، فلا تسمع في هذه البيئة إلا الخير فيستعين الإنسان بها على الاستقامة. ويتجنب الاختلاط والألفة برفاق السوء والبيئات الفاسدة والمفسدة، التي تزين للناس المعاصي، وتنشر الأذى، وتكرس الفتنة.
ومن تزكية الجسم القيام بالطاعات وأوّلها إقامة الصلاة؛ أي تأديتها على وجهها، باستكمال متطلبات الوقوف والركوع والسجود والجلوس والاطمئنان في كل حالة وتصور الحضور بين يدي الله في كل حركة وسكنة. ومن التزكية الحج والعمرة إلى بيت الله الحرام، وأداء المناسك من طواف وسعي ورمي وانتقال من مكان إلى آخر اقتداءً برسول الله g، “خذوا عني مناسككم.” وإذا كان إتقان الواجبات العملية التي يؤديها جسم الإنسان وجوارحه هي الصورة الظاهرة للعمل الصالح، التي تتكفل أحكام الفقه في ضبطها، فإن استقامة النية، وتوجه القلب من الصور الباطنة للعمل، وهي ما يهتم به علماء التزكية، لا ليكون بديلاً عن إتقان العمل وفق أحكام الفقه، وإنما ليكون متممًا ومكملاً.
وتزكية العقل الذي هو مناط التكليف البشري والمسؤولية([6]) يكون بتعقُل العلوم والمعارف والوعي بها وإدراكها. كما في قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون) [البقرة: 164] فهذه الآيات الكونية معروضة للتعقل؛ أي للنظر والتفكر والتدبر والفهم. وتكون نتيجة ذلك اكتساب الهدى، ومن ثم حسن العاقبة والثواب في الآخرة.
ومن رحمة الله بالإنسان أن جعل أسباب الهداية “آيات” كثيرة، معروضة للتعقل والتدبر، وربط النتيجة المطلوبة وهي “الهداية” ربطًا مباشرًا بفعل “التفكر” بالآيات، وبفعل التعقل لها وهي آيات مسطورة وآيات منظورة. قال سبحانه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُون) [البقرة: 170] فالآيات التي هي مناط الهداية هنا هي آيات مسطورة تتلى في الكتاب. وقال سبحانه (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون) [آل عمران: 103] والآيات هنا آيات نفسية واجتماعية. وربطت الآيات القرآنية في كثير من المواقع بين الآيات الكونية المنظورة من جهة، وعمليتي التفكر والتعقل مجتمعتين من جهة أخرى، قال سبحانه (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون، وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون) [الرعد: 3 – 4]، وقال سبحانه (يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون) [النحل: [11 – 12] وقال سبحانه (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِين، وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُون، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون) [النحل: 66 – 69].
وربطت الآيات القرآنية في موقع واحد أهمية الآيات الهادية من جهة وعمليات التفكر والتعقل والعلم وقيام جوارح الإنسان – لا سيما السمع والبصر- بوظائفها، كما جمعت في الموقع نفسه الآيات النفسية والاجتماعية والكونية، يقول سبحانه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُون، وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون) [الروم: 21 – 24].
إنَّ الاستطراد في الاستشهاد بهذه الأمثلة من الآيات القرآنية الكريمة – وثمة آيات كثيرة غيرها – تؤكد أنَّ الله سبحانه يريد للعقل الإنساني أن يتزكَّى بالنظر والتدبر والتفكر، وأنه لابد لذلك من القيام بالوظائف التي خلقت لها أدوات التعقل من سمع وبصر وغيرها وتؤكد أن السير في الأرض، والنظر في مشاهد الكون، والاعتبار بأحداث التاريخ، سوف يزود الإنسان بكثير من العلم الطبيعي والاجتماعي والنفسي، عن عالم الشهادة الذي يعيش فيه الإنسان في هذه الدنيا، ومع ذلك، فإنَّ تلك الآيات هي تنبيه وتذكير وحثّ يستهدف إنقاذ الإنسان من حياة الغفلة والعبث ونزوات الأهواء والشهوات، واتباع ما أَلفه الناس واعتادوا عليه، وما خلَّفه الآباء والأجداد من صور التيه والضلال.
أما العلم والمعرفة عن عالم الغيب، فقد تكفل الله بتعليم الإنسان ما يلزمه عن هذا العالم، مؤكدًا له أنَّه لن يجد إلى العلم به، وعنه، سبيلاً من البحث والتفكير، غير ما يوحي به الله إليه، وأنَّ أي جهد يبذله بحثًا عن مصدر آخر غير الوحي، هو جهد عابث ضائع أولى له أن يصرفه فيما يفيده. ومثل ذلك يقال كذلك عن مسائل الشريعة وتفصيلات أحكامها ومقاصدها من صلاة وصيام وحج، وأحكام الحلال والحرام في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، فالتسليم بأنَّ الله لا يريد للإنسان منها إلا ما هو خير، ومصلحة، وحياة طيبة راشدة، هو منتهى العلم والمعرفة ومن ثم فإن العمل بهذا العلم هو الهدى والتزكية والرشاد، أما كثرة الجدل والمراء، وإثارة الشكوك والاعتراضات، واللجوء إلى أساليب الرفض والإنكار، فتلك هي سبل الضلال التي لن تأتي لصاحبها بخير، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وفي ختام الحديث عن تزكية العقل يجب أن نذكر أنَّ العلوم والمعارف التي تشكل ثقافة الإنسان المسلم لا بد أن تتصف بالشمول والتوازن والتكامل، فثمة قدر من العلوم العامة لا بد منه لكل فرد لتزكية حياته وآخرته، وثمة قدر من العلوم المتخصصة لا بد منه لتزكية أهل المهن والحرف للوصول إلى الإتقان والإحسان في أدائها، وثمة قدر من العلوم لا بد منه للخاصة الذين يزكون دور الأمة لتسهم في منافسة الأمم الأخرى في الإبداع والاختراع والتمكين في الأرض. وفي كل مستوى من مستويات العلوم هذه، جوانبُ نظرية وأخرى تطبيقية، تتكامل فيها جوانب الإيمان والعلم والعمل؛ وتتكامل فيها مصادر العلم من وحي إلهي، وخبرة بشرية عن عوالم الأشياء والأحداث والظواهر، تستهدي بالماضي، وتحيط بالحاضر، وتستشرف المستقبل وتتكامل فيها مكونات النفس الإنسانية: روحًا وعقلاً وجسدًا.
إذا كان العقل هو موضع العلم والمعرفة والفكر، أو ما يضادُّ ذلك من جهل وغباء وجدل وإنكار، فالقلب موضع النية والإيمان والعواطف والمشاعر، وما يضاد ذلك من كفر، وزيغ، ومرض، وهوى.
والقرآن الكريم يصرّح بصورة واضحة أن عملية التعقل بمعنى الوعي والإدراك والفهم تتم في القلب (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) [الحج: 146]. كما يميز القرآن الكريم بصورة واضحة بين الظاهر المحسوس، والذي يبدو للناظر والملاحظ في صورة عمل الجوارح وأجزاء الجسم البشري، والباطن الذي يمكن للإنسان أن يخفيه، وما يخفيه الإنسان يخفيه في صدره (قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ( [آل عمران: 29] والصدر هو مستودع القلب )وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور) [الحج: 46]. فالباطن هنا هو ما يخفيه القلب من أعمال يقوم بها الإنسان مثل عقد النية والعزم، وفعل الإرادة، وعرض الخاطر، وانفعال النفس بمشاعر الحب والكره، فضلاً عن تعقل الأفكار وفهمها وتدبرها، وأشواق الروح وتواصلها مع خالقها([7]).
والقلب، في المصطلح القرآني، يتقلب بين الخير والشر، ويتحول من حال إلى آخر في الأمور الخطيرة الشأن، مثل الكفر والإيمان، وفي الخواطر العابرة من العزم على فعل الشيء أو تركه. وقد وردت الآيات القرآنية تتحدث عن أعمال يكتسبها القلب ويحاسب عليها (لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيم) [البقرة: 225]، وأهمها ما تنعقد عليه إرادة الإنسان وتعمده قلبه (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب: 5] وما يلجأ إليه من توبة وخشية وإنابة (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيب) [ق: 32] ووردت الآيات القرآنية تتحدث عن صفات يكتسبها القلب من لين (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ) [الزمر: 23] ورأفة ورحمة )وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً( [الحديد: 27] أو غلظة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، أو قسوة (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم) [الزمر: 22]، أو اشمئزاز (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) [الزمر: 45]. والقلب محل الاطمئنان والسكينة (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب) [الرعد: 128]، )هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ( [الفتح: 4]. ومحل الألفة والحب (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) [الأنفال: 63].
والآيات كثيرة عن أصناف من الناس يتصفون بمرض القلوب (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُم) [محمد: 29] وهؤلاء هم المنافقون (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم( الذين )يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح: 11]، أو (الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) [المائدة: 41].
الإنسان مدعو إلى تزكية نفسه حتى يتحقق له الفلاح (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى) [الأعلى: 14]، (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس: 9]. ومع ذلك فإنَّ الله سبحانه قد قرر أنَّ التزكية فضلٌ من الله ورحمة يتفضّل الله به على من يشاء ممن سلكوا سبيل الرحمن، وتجنبوا خطوات الشيطان، وطلبوا فضل الله ورحمته بإخلاص (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم) [النور: 21].
فكيف يمكن تزكية النفس؟ التزكية بمعنى التطهير والتنقية،([8]) تعني التخلي عن سائر الصفات المذمومة التي قبَّحها الله ونهى عنها، وهذه الصفات كثيرة، لعل أهمها الرياء والعجب والكبر والاغترار والحسد. والتخلية لا تعني ترك الإنسان خاليًا فارغًا، وإنما تعني إعداده ليمتلئ بما يحلو من الصفات الممدوحة، التي زينها الله له وأمره بها، وهي كذلك صفات كثيرة، أهمها القيام بالفرائض والنوافل، وتعهد القرآن الكريم بالقراءة والتدبر والتفكر والتحلي بالتقوى، وكثرة ذكر الله سبحانه؛ أي حضوره سبحانه في قلب الإنسان، فلا يغفل عنه، ومحاسبة النفس، وذكر الموت، وغير ذلك. فليس ثمة تزكية لا تبدأ بالقرآن وتنتهي إليه. وليس ثمة تزكية لا تبدأ بالنفس الإنسانية وتنتهي بها، لذلك أصبحت تزكية النفس هي المظلة العامة لكل أشكال التزكية.
وفي كثير من المواقع التي ورد فيه الذكر في القرآن ورد معه طلب كثرة الذكر (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار) [آل عمران: 41]، (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) [الأحزاب: 41]، إلخ. وهذا يؤكد أن الذكر لا يقتصر على كلمات التسبيح والتحميد والتهليل في مواعيد وحالات ومواقف محددة، وإنما الحضور الدائم في العقل والقلب، فلا يعتريه غياب قط، ومراقبة المشاعر في كلِّ ما يخطر لها، ومحاسبة النفس في ما تأتي وتدع.
والأمر ليس صعبًا، ولا تكليفًا بما لا يطاق، وإنما هو تحقيق معنى العبودية الله سبحانه، “أن تعبد الله، كأنَّكَ تَرَاه”. والعبادة هي إدارة الإنسان لشؤون حياته كلَّها على الوجه المشروع الذي يُرضي الله سبحانه، فما يقوم به من عبادات مفروضة من صلاة وصيام وحج، وما يمارسه مأكل ومشرب وملبس، وما يمارسه من متع مباحة، وما يؤديه من أعمال المهن والصنائع، وما يقوم به من علاقات مع الناس، كل ذلك يصبح عبادة ما ابتغى به الإنسانُ وَجْهَ الله سبحانه وعقد النية فيه على الاستعانة به على طاعته، وأتى به على وجهه المشروع. وقد يتطلب ذلك في بداية الأمر جهادًا للنفس وتذليلاً لها، ثم يصبح هذا السلوك عادةً محبَّبَةً، وسجيَّةٌ مُيَسَّرَة، ومِتْعَةٌ مُقَدَّرة، لا تَصَنُّعَ فيها ولا تكلف، ولا معاناة معها ولا ألم.
العُمْرَانُ في مَنظُومة القيم العليا
العُمران مفهوم مركزي من مفاهيم القرآن الكريم، والعمران قيمة تحدّد فقه العمل في الحياة الدنيا. وقد جاءت دلالات العمران في القرآن، بما يفيد سُكنى الإنسان في المكان، وتعميره، وإصلاحه والاستقرار فيه، وتوظيف طاقاته وإمكاناته، وأداء حق الله سبحانه في إقامة الحياة البشرية وفق مقاصد شرائعه، وهدي أنبيائه، يتعاون فيها الأفراد على المعاش البشري وتوفير متطلبات الحياة الاجتماعية التي لا تتحقق إلا بهذا الاجتماع، استجابة لأمر الله سبحانه، الذي يقول (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيب) [هود: 61]، ويقول (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُون) [الأعراف: 10].
ويوم فقه المسلمون “فقه العُمران” على هذا الوجه، كثر الخير فيهم، وانتشرت مؤسسات العلم بينهم ففتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، وأكلوا من بين أيديهم ومن تحت أرجلهم وأبدعوا من أساليب رغد العيش وأشاعوا من قيم الرقي والحضارة، ما جعلهم قبلة للأمم الأخرى.
ويوم غفل المسلمون عن “فقه العُمران” على ذلك الوجه، ضعف شأنهم، وانهار سلطانهم وخرب عمرانهم، وتسلط عليهم عدوهم. وقد كان من وجوه الغفلة ضعف الهمة، والتخاذل عن صعود القمَّة وإيثار حياة الخمول والكسل. وقد أسهمت في ذلك أحيانًا، علوم غريبة وفهوم سقيمة، ليست من فقه الشريعة في شيء، روّجت لتحقير الحياة الدنيا وإنكار قيمتها والإعراض عن شؤونها، والإهمال في رعاية شؤون المجتمع وحفظ مصالحه، والانتماء للأمة وأداء حقوقها.
-والعمران المادي للأرض هو الجانب المادي من الحضارة البشرية، ويكون إعمار الأرض باستصلاحها بالفلاحة والزراعة، وتنمية سبل الرزق حتى لا تبقى في الأرض مساحات معطلة من الإنتاج، ولا تبقى بين الناس أيد معطلة عن العمل، ويكون إعمار الأرض بالبناء عليها، وتيسير سبل السعي فيها من طرق وأساليب في الانتقال والتواصل بين ساكنيها (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) [الروم: 9].
ويكون إعمار الأرض إعمارًا لبرها وبحرها، وقد جمع الله سبحانه وتعالى البر والبحر في حالة الفساد الذي أحدثه الناس في الأرض: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون) [الروم: 41]. ولتجنب هذا الفساد لا بد من إعمار البحر، مثل إعمار البر. وما تقوم به بعض المجتمعات من دفن الفضلات النووية والمشعة في البر والبحر إنما هو إفساد للبر والبحر وما تنفثه المصانع والآلات من الملوثات إنما هو إفساد للجو كذلك إضافة إلى إفساد البر والبحر.
أما العُمران الثقافي والفكري فهو الجانب المعنوي من الحضارة البشرية، ويتحقق نتيجة تطور خبرة الجماعات والشعوب في ما يتعلق بتنظيم أمور الحياة الاجتماعية والمعيشة الاقتصادية، وسنّ القوانين والأنظمة التي تحكم العلاقات بين الناس المقيمين في المكان، فتنشأ الثقافات، وتتكرَّس الأعراف والعادات، ولعل القدرات التي زود الله بها الإنسان على سائر المخلوقات حتى الملائكة حين علمه الأسماء كلها، كانت جزءًا من عملية التمكين في الأرض، حتى يتمكن من أداء مهمة العمران، في هذا الجانب المعنوي والثقافي من الحضارة البشرية.
ومن سنن العمران اختلاف الناس في كسبهم من العلم والمعرفة، فيلجأ قليل العلم إلى سؤال الأكثر علمًا، فتنشأ المدارس والجامعات ومعاهد التدريب والدراسات ومراكز البحث وحل المشكلات، كل ذلك وأمثاله من مظاهر التطور والرقي العمراني في الفكر والثقافة والتنظيم والإدارة، فالناس بها يتفاخرون، وعليها يتنافسون وعلى أساس كسبهم فيها يصنفون فمنهم بلاد العالم الأول في تقدمه، ومنهم بلاد العالم الثالث في تخلفه.
ومن السنن المستقرة والقوانين الثابتة التي تسير وفقها حياة الناس في الأرض أنَّ عمران البلاد وخرابها، وطيب الحياة وبؤسها، إنَّما هو نتيجة لأعمال الناس وممارساتهم، وقد قصَّ علينا القرآن الكريم أنباء عن أمم بلغت من العمران المادي والمعنوي شأوًا بعيدًا، لكنها لم تشكر نعمة الله، فركنت إلى الظلم، ظلم النفس وظلم الآخرين، فقضت سنة الله بهلاك أهلها بسبب ظلمهم، فأصبحت البلاد خاوية على عروشها؛ فالقصور المشيدة لا تزال قائمة لكنها خلت من ساكنيها، أما مظاهر الحضارة والعمران، والماءُ روحها فلا تزال صالحة للاستعمال، لكنها أصبحت معطلة لا تجد من الناس من يوظفها ويستفيد منها، وبقيت شاهدة على ما وصل إليها أهلها من عمران لم يحفظوه، ونعمة لم يشكروها (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيد) [الحج: 45].
ومن المهم أن نؤكد في هذا المقام أنَّ دلالات الحضارة أو العمران الحضاري في رؤية العالم الإسلامية التي تتصف بالتكامل والانسجام لا بد أن تجمع بين البعد المعنوي الذي يعنى بالمبادئ الفكرية، والنظم الإدارية، والعلاقات الاجتماعية والقيم الأخلاقية من جهة، والبعد المادي الذي يعنى بالتقدم العلمي والتطور التقاني والعمران المدني من جهة أخرى، وأن مقياس الحضارة في الرؤية الإسلامية لا يقتصر على الجهة الأولى دون الثانية.
ولعل في دعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام بعد أن أسكن زوجته وابنه في موقع البيت الحرام بمكة ما يشير إلى مقومات العمران البشري وهي: الإنسان الذي يقوم بالعمران، والمكان الذي يقوم عليه العمران، والمبدأ الذي يصون العمران. (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون) [إبراهيم: 137].
العُمران الخلدوني:
التقط ابن خلدون المصطلح القرآني: العمران، فأدرك قدرًا كبيرًا من “فقه العُمران”، وانتبه إلى كثير من دلالاته التي لم يدركها من سبقه. وقد أخذ ابن خلدون المفهوم القرآني للعُمران، وجعله عَلَمًا على عِلْمٍ جديد يدرس حياة الناس وما يطرأ على هذه الحياة من تحولات وتبدلات، وما ينشأ فيها من علاقات ومؤسسات، سمَّاه علم العمران البشري، أو علم الاجتماع، أو حالة الحضارة. ([9]).
وقد لفت ابن خلدون النظر الى أن سنَّة الله في حياة المجتمعات البشرية تقتضي أن يرافق العمران البشري ركون إلى الدعة والانغماس في الترف، فيؤدي ذلك إلى خلل في أسباب القوة والتماسك، ومن ثم في ضعف الأمة المترفة وانهيار حضارتها لتَخلُفها بعد ذلك أمَّةٌ أخرى أكثر فُتوَّة وأشدّ عصبية وتماسكًا، فتأخذ دورتها فترة من الزمن، ثم تدول دولتها (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140].
وقد تميَّز ابن خلدون في فهمه للتاريخ والاجتماع البشري، وعلاقته بالكون الطبيعي وسنن الوجود، بمزايا واضحة، بالقياس إلى غيره ممن عالج هذه الموضوعات، فالمجتمع الإنساني كان موضع تأمل ونظر من مفكرين آخرين قبل ابن خلدون، مثل أفلاطون وأرسطو والفارابي وأوغسطين، لكن التصور النظري الفلسفي الذي طغى على جهودهم لم يقترب من الوقائع والطبائع الاجتماعية في حياة البشر، لأنَّ همَّهُم كان همًّا غائيًا معياريًا يحدد ما يجب أن يكون عليه المجتمع. وفي المقابل فإنَّ ابن خلدون قد اعتمد في دراسته للمجتمع على ما يحدث في المجتمع فعلا، بحكم خبرته العملية في المجتمع، مع أنه لم يغفل عما يجب أن يكون عليه المجتمع في الصورة الغائية المعيارية، ولكن ليس في إطار نظرة فلسفية مجردة، بل في إطار الهدي الإلهي كما فهمه من القرآن الكريم. لذلك فإنه جمع بين التقرير الوصفي والتحديد المعياري، وتحدث عن عالم الشهادة دون أن يغفل عالم الغيب، واعتمد العقل دون أن ينسى النقل.
لكن الميزة الأكثر أهمية في فهم ابن خلدون للعمران البشري تأكيده المتكرر ألا سبيل إلى فهم طبيعة العمران دون فهم قوانين الاجتماع الإنساني وطبائع هذا الاجتماع، لأنَّ ما يحدث فيه فعلا إنما يكون وفق سنن تشبه سنن الكون الأخرى، التي تجري في عالم الأشياء المادية، لذلك لا بد من دراسة الأحداث والوقائع الاجتماعية وفق منهج منظم، لا يتجاوز الوقائع والطبائع. إذن لا تغيب العلاقة بين العمران والحياة في تحليلات ابن خلدون، حياة الأفراد وحياة المجتمعات وحياة الدول فهو يتحدث عن أركان ثلاثة للعمران البشري على هذه الأرض: الركن الأول هو تقوى الله، وهو حياة للقلب بتزكية النفس من الأهواء والشهوات. والركن الثاني هو السعي في الرزق، وفيه حياة المجتمع بالتعاون والتكافل والتكامل، لأنَّ الإنسان لا يستطيع بمفرده أن يستجمع متطلبات المعيشة والأمن. أما الركن الثالث فهو العدل في الحكم، وهو حياة الدولة بالعصبية واستجماع متطلبات السلطان.
وإذا كانت الحضارة في الرؤية المادية هي نتيجة قوانين في التنافس والتسابق العلمي والصناعي والتجاري وهو تنافس يقوم على إنجازات العقل البشري والمنهج العلمي التجريبي، وأنّ الرؤية الإيمانية تقوم على النظر في أقدار الله سبحانه، وسننه الفطرية في الخلق ونواميسه الإلهية في تدبير العالم، والاعتقاد بأن الأنبياء والرسل كانوا بناة الحضارة الحقيقيين، فإنّ عبقرية ابن خلدون علمتنا الجمع بين الرؤيتين، وأن الرؤية الأولى متضمنة في الرؤية الثانية، وأن قيام الحضارة والعمران البشري، يتطلب بالضرورة فقه السنن والنواميس والقوانين التي تسير الطبائع البشرية وتحكم الوقائع العملية. ألم نتبين مدى الحاجة إلى تحقيق التكامل والتوازن بين الحاجات المادية والحاجات الروحية للإنسان، بصورة يمكنها أن تنقذ الحضارة البشرية المعاصرة من أزماتها المستحكمة، ومن المصير الذي تتجه إليه في غياب هذا التوازن؟!
الحضارة في الفقه الخلدوني هي غاية العمران؛ أي إن اتجاه التطور في العمران هو الانتقال من البداوة إلى الحضارة([10])، فالتحضر ظاهرة طبيعية نامية، يرافقها تطور في صور العمران وأشيائه المادية وأدواته التقانية وعلاقاته الاجتماعية، ونظمه الإدارية والسياسية. ولعلّ الصورة التي يرسمها ابن خلدون للحضارة تميل إلى الجانب السلبي بما يرافقها من أسباب الترف والرفاه، وأهل “الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوثت نفوسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك… وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد([11]).
ومع ذلك فإنَّ العمران الحق هو العمران القائم على طاعة الله والإخلاص في عبادته، وفعل الإصلاح في الأرض بصوره وحالاته من حرية وعدل ومساواة ولن يدوم عمران يقوم على الظلم والفساد والتخريب (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون) [الأعراف: 96]، (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) [المائدة: 66].
ويشكِّل العمران البشري مع توحيد الله الخالق سبحانه، وتزكية حياة الإنسان وتطهيرها وترقيتها على مستوى الأفراد والجماعات والأمة، منظومة قيمية، تحتاج أمتنا إلى اعتمادها مصدرًا لسائر القيم الرئيسية والفرعية.
الخاتمة:
هكذا نجد أنَّ التوحيد قيمةٌ معيارية عليا تختص أساسًا بالرؤية الإسلامية للإله الخالق المدبّر، وتُقوّم بها معتقدات الإنسان، ونتائج هذه المعتقدات وآثارها في فكر الإنسان وحياته. وأن التزكية قيمة معيارية عليا تختص بالرؤية الإسلامية للإنسان المخلوق المستخلف، ويُقوَّمُ بها سلوك الإنسان وجهود ترقيته في مراتب التزكية في جسمه وعقله وقلبه وفي سلوكه وتصرفاته، وفي ماله وممتلكاته، وفي أنظمته وعلاقاته في حياة الفرد والمجتمع. وإنَّ العُمران قيمة معيارية عليا تختص بالرؤية الإسلامية لوظيفة الإنسان في الكون المستخلف فيه، وتقاس بها “قيمة” الحياة في عُمر الإنسان الفرد، أو عُمر الجماعة أو الأمة، وسائر الجهود والإنجازات الحضارية “العمرانية” للفرد أو الجماعة أو الأمة.
وهذه القيم الثلاث تتصل ببعضها اتصالاً وثيقًا، فالتوحيد هو الحقيقة الكبرى في هذا الوجود وهي حقيقة تستمد قيمتها من ذاتها، وعنها يصدر غيرها من الحقائق، والكون كله خاضع بالفطرة لمتقضيات التوحيد، فإذا أراد الإنسان أن ينسجم مع فطرة الكون، فلا بد له من أن يتزكى فيتوجه إلى الله وحده بالعبادة، فالتزكية موضوعها الإنسان المستخلف وهو موضوع الإصلاح في الواقع الإنساني، والعمران موضوعه هذا الكون الذي نعيش فيه ونقيم فيه مراد الله تعالى من الحياة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* منقول بتصرف من كتاب:
فتحي حسن ملكاوي (2013). منظومة القيم العليا: التوحيد والتزكية والعمران. ط. 1. فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 183 ص.
([2]) Ibid. p. 39 – 48, and p. 49 – 60.
([3]) الأصفهاني، الراغب مفردات ألفاظ القرآن الكريم. تحقيق صفوان داوودي، دمشق: دار القلم بيروت الدار الشامية، ط4، 2009م، ص381.
([4]) البخاري. صحيح البخاري مرجع سابق، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، حديث رقم 6475، ص1611 والحديث متفق عليه، وورد عند البخاري في مواقع متعددة بألفاظ متقاربة وهذا واحد منها: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدَّثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَه، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَلْيُكرم ضَيْفَهُ”.
([5]) النيسابوري، مسلم بن الحجاج صحيح مسلم مرجع سابق، كتاب القدر، باب كتب على ابن آدم حظه من الزنا، عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم ما قال أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه” حديث رقم 2657، ص1066.
([6]) الإيجي، عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد المواقف في علم الكلام. القاهرة: مكتبة المتنبي (د. ت.)، ص146.
([7]) إشارة إلى الحديث الصحيح الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها اثْتَلَف وما تناكر منها اخْتَلَف”. انظر:
– البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب أحاديث الأنبياء، باب الأرواح جنود مجندة، حديث رقم 3336، ص820.
([8]) المصطلح عن أبي حامد الغزالي هو التزكية والتحلية، والتزكية عنده هي ما يسميه غيره بالتخلية، حين يتحدث عن: “أخلاق مذمومة تجب التزكية عنها، وأخلاق ممدوحة تجب التحلية بها” انظر: الغزالي الأربعين في أصول الدين، مرجع سابق، ص13.
([9]) ابن خلدون عبد الرحمن مقدمة ابن خلدون تحقيق علي عبد الواحد وافي، القاهرة: مكتبة نهضة مصر، ج3، ص1213.
([10]) يقول ابن خلدون: “ومما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر ومتقدم عليه، وأنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أوَّليَّة أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر، وفي قراء، وأنهم أيسروا (أي أصبحوا ذوي يسار وغنى فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف الذي في الحضر. وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنها أصل لها، فتفهمه. “انظر: – ابن خلدون المقدمة مرجع سابق، ج2، ص472.