العنوان: الصهيونية والعنف: من بداية الاستيطان إلى انتفاضة الأقصى.
المؤلف: د.عبد الوهاب المسيري.
الطبعة: ط. 2.
مكان النشر: القاهرة.
الناشر: دار الشروق.
تاريخ النشر: 2002.
الوصف المادي: 353 ص.، 24 سم.
الترقيم الدولي الموحد: 7-0793-14-977.
الفكرة المحورية لهذا الكتاب تدور حول تناول الأبعاد البنيوية اللصيقة بالظاهرة الصهيونية والنموذج الكائن وراء الحوادث الإرهابية والعنصرية المتفرقة ضد الفلسطينيين العرب، حيث يرى الدكتورعبدالوهاب المسيري أن العنف الصهيوني جزء عضوي من الظاهرة الصهيونية نفسها.
خلال أربعة عشر فصلاً وملحق خاص ببعض المفاهيم التي تم استخدمها في ثنايا الكتاب يستعرض لنا د.المسيري العنف الصهيوني ومحاولة فهم الدولة الصهيونية لاّليات ودوافع هذا العنف. الفصلان الأول والثاني تناولا النقد الصهيوني للشخصية اليهودية (هامشيتها وشذوذها وعجزها) والحلول الصهيونية لهذه الإشكالية، وفي الفصل الثالث تناول الرؤية الصهيوينة للذات، بينما تناول في الفصل الرابع الإرهاب الناجم عن وضع الرؤية الصهيوينة موضع التنفيذ، ثم تناول الفصل الخامس العنف الفكري ضد العرب، أما الفصلان السادس والسابع تناولا الصهيونية باعتبارها ظاهرة استعمارية استيطانية.وتناولت الفصول (الثامن والتاسع والعاشر) أثر هذه الظاهرة الاستيطانية علي نظرية الأمن الإسرائيلية، وعلي المفهوم الإسرائيلي للصراع والحكم الذاتي، وعلي علاقة الاقتصاد الإسرائيلي بالاستيطان. أما الفصل الحادي عشر فيتناول فيه د.المسيري الصهيوينة لا باعتبارها استعماراً استيطانياً وحسب، وإنما باعتبارها استعماراً استيطانياً إحلالياً. وتناولت الفصول الأخيرة (الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر) تاريخ الإرهاب الصهيوني ومؤسساته المختلفة، بإعتبارها جزءاً عضوياً من العنف الصهيوني ومرحلة متبلورة منه، وليس أمراً عرضياً دخيلاً عليه.
وفي السطور التالي سنقوم بعرض ضمني لفصول هذا الكتاب .
في البداية تناول د.المسيري النقد الصهيوني للشخصية اليهودية من حيث هامشيتها وعجزها وشذوذها، والحلول الصهيونية لهذه الإشكالية. فيقول بأن الصهيونية تعادي اليهودية، ومن ثم تطرح نفسها بديلاً للعقيدة اليهودية، فالصهاينة يتهمون يهود المنفي “أي يهود العالم” بالهامشية والشذوذ والعجز وأن لا نفع لهم.
ويدلل علي ذلك بالقول بأن اليهود كانوا يشغلون وظائف وحرف ومهن مختلفة في شرق أوروبا، وهي مهن بدائية مرتبطة بالنظام الإقطاعي وبالتجارة وبالأمراء اليهود والإقطاعيين. وحينما ظهرت الرأسمالية في شرق أوروبا مع بدايات القرن التاسع عشر، وجد أعضاء الجماعات اليهودية أنفسهم بلا دور اقتصادي أو إنتاجي ما أدي إلي زيادة حدة تفاقم المسألة اليهودية وزيادة هجرتهم إلي غرب أوروبا. ومن ثم نُظر إلي اليهود من خلال نماذج اختزالية ولم يُسمح لهم بالاندماج وعاشوا علي الهامش. أيضاً لم يُسمح لهم بأي مظهر من مظاهر السيادة ولم يتم إشراكهم في السلطة أو في صنع القرار.
ومع مرور الوقت ظهرت منظمات بإسم “منظمات أحباء صهيون” وهي مُنظمات حديثة انطلقت من مفاهيم معينة مثل تطبيع الشخصية اليهودية وحل المسألة اليهودية عن طريق الإستعمار. ثم طلب أعضاء هذه المنظمات من الأثرياء اليهود في الغرب تقديم المساعدة لهم لدعم مشروعهم الاستيطاني. فجاء ” تيودور هرتزل ” وهو صحفي نمساوي يهودي ومؤسس المنظمة الصهيونية وحدًث الحل الصهيوني وطرح المسألة في إطار استعماري غربي بعيداً عن الإطار اليهودي التقليدي، فأسس المنظمة الصهيونية العالمية التي أصبحت الوسيط المباشر بين أعضاء الجماعات اليهودية والقوي الإمبريالية.
ثم جاء وعد بلفور الذي حدد الشكل الجديد للعلاقة بين الجماعات اليهودية والحضارة الغربية. فكانت الصفقة هي نقل فائض أوروبا من اليهود إلي فلسطين تخلصاُ منهم ولتأسيس قاعدة للاستعمار الغربي، علي أن يقوم الغرب بحمايتهم في المقابل.
وإذا عُدنا إلي العداء الصهيوني لليهود سنلحظ أن هذا العداء ظاهرة طبيعية ورد فعل تاريخي وطبيعي وحتمي لوجود اليهود كجسم غريب في المجتمعات المُضيفة، وقد وصف المفكر الصهيوني الروسي “جيكوب كلاتزكين” العداء لليهود بأنه دفاع مشروع عن الذات.
وفي نهاية الفصل الأول تعرض د. المسيري للحديث عن مصطلح “اليهود مقابل الأغيار” ، فيقول بأن أي إنسان غير يهودي يطلق عليه مصطلح “الأغيار”. فاليهود يرفضون أي شخص غير يهودي ويجعلونه في مرتبة أقل، فيصفون غيرهم بالأشرار والمتآمرين الذين يجب سحقهم . فاليهود يعتبرون أن أرواحهم مُستمدة من الكيان المُقدس. بينما أرواح الأغيار مُستمدة من الشيطان. كما يصف اليهود الذكور والإناث غير اليهوديين بالنجاسة وعدم الطهارة والدنس، وقد أثبتت بعض استطلاعات الرأي في إسرائيل أن الخوف من الأغيار لا يزال واحداً من أهم الدوافع وراء سلوك الإسرائيليين.
وفي الفصل الثاني تناول د.المسيري الطرح الصهيوني لمفهوم جديد للشخصية اليهودية يستند إلي الأساس العرقي والإثني، وهذه الشخصية عنيفة ومرنة في ذات الوقت، حيث يُفترض فيها المقدرة علي أن تأخذ القانون في يدها وأن تلجأ للعنف والإرهاب.
فهناك إتجاه صهيوني يؤمن بأن ثمة عرقاً يهودياً مستقلاً، وأن أساس الهوية اليهودية والشخصية اليهودية هو الإنتماء العرقي. ولعل المفكر الصهيوني “موسي هس” مؤسس الفكرة الصهيونية (في ديباجتها الاشتراكية) هو أول من طرح تعريفاً لليهود علي أساس بيولوجي أو عنصري حين ذكر أن العرق اليهودي من الأعراق الرئيسية في الجنس البشري، وأن هذا العرق حافظ علي وحدته رغم كل التأثيرات ، فحافظت اليهودية علي نقائها عبر العصور. وقد تنبا بأن الصراع بين الأجناس سيكون أهم الصراعات.
وكما يقول المفكر الألماني اليهودي “ماكس نوردو” (إن اليهودية ليست مسألة دين وإنما هي مسألة عرق وحسب) . كما أن وعد بلفور الذي أعطي اليهود وطن قومي في فلسطين، حملت إحدي المسودات الأولي من وعده جملة ” وطن قومي للجنس اليهودي” وهي جملة تحمل في طياتها تعريفاً بيولوجياً واضحاً للهوية اليهودية.
إذن ثمة إجماع صهيوني علي التعريف العرقي لليهود، وهو أمر متوقع ومفهوم، فقد كانت الصهيونية تبحث عن الشرعية من أوروبا لا من اليهودية، ولذا كان عليها أن تصبح عرقاً مستقلاً لأن العرق المستقل وحده هو الذي من حقه أن تكون له دولة مستقلة (حسب الإطار المعرفي الذي كان سائداً في أوروبا العلمانية الشاملة في ذلك الوقت).
ثم ينتقل د. المسيري للحديث عن العنف والرؤية الصهيونية للواقع والتاريخ مبرراً إن أحد الأشكال الأساسية للعنف الصهيوني هو رفض الصهاينة قبول الواقع والتاريخ العربي في فلسطين، معتبرين أن الذات الصهيونية واليهودية هي مركز هذا الواقع ومرجعيته الوحيدة. لذلك يستبعد الصهاينة العناصر الأساسية (غير اليهودية) المكونة لواقع فلسطين وتاريخها من وجدانهم ورؤيتهم وخريطتهم الإدراكية. فالإرهاب الصهيوني هو محاولة تستهدف فرض الرؤية الصهيونية علي الواقع المركب بإستخدام العنف المسلح.
ويُرجع د.المسيري العنف الصهيوني إلي جذوره الخاصة التي تمنحه بعض السمات المميزة ومنها:
- أن الحركة الصهيونية لم تكن حركة استعمارية فحسب بل حركة استيطانية إحلالية . فهم يريدون أن تُخلي الأرض من سكانها (أرض بلا شعب)، لينفذوا مشروعهم الصهيوني. وهذا لن يتم إلا من خلال استخدام أقصي درجات العنف.
- هم يرون أن هذا العنف مُبارك من قبل الإله، لأنهم يزعمون أن الإله حل فيهم وبالتالي يباركهم في القتل والنهب.
- السبب الثالث ينطلق من إيمانهم بمعاداة الأغيار كما أشرنا، وبالتالي تجعل الأخر مُباحاً تماماً وتجعل استخدام العنف إتجاهه أمراً مقبولاً.
لكل هذا، أصبح العنف إحدي المقولات الأساسية للإدراك الصهيوني للواقع والتاريخ.
ومن المفاهيم التي استند إليها البرنامج الصهيوني الاستيطاني مفهوم “اقتحام الأرض” وهو مفهوم ينادي بالاستيلاء علي أرض فلسطين واستغلالها حتي يمكن إنقاذها من أيدي الأغيار وبناء المستعمرات اليهودية. وبامتلاكه للأرض سيحدد الأعمال التي يقوم بها، ومن ثم سيؤدي احتلاله للأرض إلي إحتلاله للعمل. وبالتالي إحلال العامل العربي بالمستوطن الصهيوني حتي لا يظل المستوطن الصهيوني معتمداً علي العرب وغير مستقل عنهم.
بعد ذلك تناول المسيري الرؤية الصهيونية للذات، التي تنطلق من توليفة الأفكار العلمانية الشاملة التي شاعت في الحضارة الغربية في القرن التاسع عشر. والتي من أهمها النظرة النفعية المادية والنظرية العرقية والإثنية التي تذهب إلي أن الاختلافات بين البشر إن هي إلا اختلافات مادية، كامنة في خصائصهم العرقية والتشريحية والثقافية والإثنية. وأن البشر مادة بشرية يمكن أن توظف فتكون نافعة كما يمكن ألا يكون لها نفع. ومن هنا تبرز أهمية الاختلافات العرقية (لون الجلد – حجم الرأس – ……إلخ)، كمعيار للتفرقة بين البشر، وأن رقي أو تخلف شعب ما نتيجة صفاته العرقية والتشريحية.
وبناءً علي ذلك تفترض الصهيونية أن اليهود شعب عضوي يحوي داخله خصائصه العرقية والإثنية، ولكن هذا الشعب غير نافع ولذا لابد من نقله إلي أرض خارج أوروبا لتوظيفه لصالحها ليتحول إلي عنصر نافع، وقد استخدمت الصهيوينة النظريات العرقية الغربية لتبرير نقل الشعب اليهودي المنبوذ من أوروبا ولتبرير إبادة السكان الأصليين ليحل أعضاء هذا الشعب محلهم.
وقد تم الغزو الصهيوني لفلسطين مثلما تم أي استعمار استيطاني إحلالي اّخر، أي عن طريق العنف واغتصاب الأرض من أصحابها. لكن الغزو في حالة فلسطين كانت وراءه انتماءات حضارية ودينية وثقافية وسياسية مختلفة، ومن ثم تنوعت الديباجات والتبريرات التي استند إليها الغزو الصهيوني بشكل يفوق الاعتذاريات الاستعمارية المألوفة. فاللورد بلفور وصف عملية الاستعمار الاستيطاني بأنها تعبير عن حقوق وامتيازات الأجناس الأوروبية، واعتبر عدم المساواة بين الأجناس حقيقة تاريخية واضحة. والبعض الآخر رأي أن الاستعمار الاستيطاني الأوروبي يصدر عن الإيمان بأن الرجل الأبيض سيقوم بجلب الحضارة إلي السكان الأقل تحضراً في اّسيا وأفريقيا حتي لو أدي ذلك إلي إبادة السكان الأصليين.
كما تحدث د.المسيري عن فكرة “عبء اليهودي الخالص” فهي مثلها مثل فكرة الرجل الأبيض المتفوق، حيث تمنح اليهود حقوقاً معينة مقدسة وخالدة لا تتأثر بأية اعتبارات أو مطالب تاريخية، ولا يمكن حتي للفلسطينيين أنفسهم أن يكون لهم حقوق أقوي أو حتي مطالب مماثلة لحقوق اليهود في فلسطين.
لكن يصل د.المسيري في نهاية الفصل الثالث إلي أن نظرية الحقوق الصهيونية في فلسطين تعني في واقع الأمر أن اليهود لا حقوق لهم في أوطانهم التي يقيمون فيها، فمن له حقوق مطلقة في مكان لا يمكنه الادعاء أن له حقوقاً مطلقة أو نسبية في مكان اّخر.
ثم انتقل المسيري بعد ذلك من العنف الفكري الصهيوني ضد اليهود إلي العنف الفعلي، أي الإرهاب الصهيوني ضد اليهود، وهو ما يوضح مدي عمق عداء الصهيونية للتاريخ سواء تاريخ العرب في فلسطين او تاريخ الجماعات اليهودية والعالم. تمثل ذلك العنف من خلال عمليات التهجير أو الخلاص الجبري. ذلك أن الصهيونية كانت وما زالت حركة مبنية علي تهجير اليهود، فهي حركة توظيفية استيطانية، كما ان تدفق المادة البشرية القتالية علي المستوطن اليهودي مسألة أساسية وحيوية بالنسبة له حتي يستمر في الإضطلاع بوظيفته القتالية، ولذا نجد ان الحركة الصهيونية كثيراً ما تلجأ إلي عملية تهجير قسرية لبعض يهود العالم.
أما مصطلح الخلاص الجبري، فهو مصطلح قام بسكه د.المسيري لوصف المحاولات الصهيونية التي تهدف إلي غزو الجماعات اليهودية في العالم لإرغام أعضائها علي ترك أوطانهم والهجرة إلي إسرائيل. ذلك لأن هجرتهم هذه فيها خلاص لهم من النفي في أرض الأغيار. فالصهيونية تفترض أنها تعرف ما فيه صالح أعضاء الجماعات اليهودية وأن يهود المنفي غافلون عما يحيق بهم من أخطار مادية ومعنوية. ونظراً لغفلتهم هذه فإنهم لا يبدون حماساً كبيراً للهجرة إلي إسرائيل.
ويأخذ الخلاص الجبري عدة أشكال منها :
- قطع المعونات عن المهاجرين اليهود الذين يرفضون الإتجاه لإسرائيل.
- توريط المستوطنين الجدد في إسرائيل من خلال إعطائهم معونات كبيرة يقومون بإنفاقها ويصبح من المستحيل عليهم سدادها.
- التعاون مع القوي المعادية لليهود بإغلاق تلك القوي لباب الهجرة أمام أعضاء الجماعات اليهودية بحيث يتجهون- شاءوا أم أبوا – إلي أرض الميعاد.
ومثال علي ذلك، تهجير يهود العراق، حيث قام الصهاينة بخلق الظروف الموضوعية والبنيوية التي أضطرت أعضاء الجماعة اليهودية إلي الهجرة، مثل وضع القنابل في المعبد اليهودي في العراق.
تطرق المسيري في الفصل الخامس إلي دراسة العنف الصهيوني الفكري ضد العرب، موضحاً أن طريقة صياغة الرؤية الصهيونية للعرب تتسم بكثير من سمات الخطاب الصهيوني، ابتداء بالإبهام المتعمد وانتهاء بالتزام الصمت والتغييب الكامل للعربي.
تصور العربي كعضو في الشعوب الشرقية الملونة تصور تكميلي لرؤية اليهود كأعضاء في الحضارة الغربية البيضاء، فالجنس الأبيض هو موضع القداسة أما الاجناس الأخري فتصبح خارجها، والعربي هو من هذه الأجناس المختلفة. لذلك يُقدم الصهاينة وصفاً للشخصية العربية علي أنها شخصية مُتخلفة، وجاهلة، تشبه الحيوانات، ولن يصلوا إلي التقدم الذي وصل إليه اليهود.
كما أن التصور اليهودي يقوم علي تحديث الشخصية العربية، وهذا قد يؤدي إما إلى تلاشي الشخصية العربية نفسها، أو أنها ستكتشف أنه لا يوجد هوية عربية، وإنما هوية سنية أو شيعية أو مصرية (فرعونية) وهكذا تتبخر القومية العربية وتظهر الدويلات الإثنية الدينية علي النمط الإسرائيلي.
كما يحاول الصهاينة تصوير العربي ممثلاً لكل الأغيار، حتي يصبح ذلك الشخص العربي بغير ملامح أو قسمات.
والصهاينة بذلك يريدون تهميش الإنسان العربي حتي لا يشغل مركز الأحداث بالنسبة لفلسطين، فالعربي الهامشي هو نمط أساسي في الإدراك الصهيوني للعرب، فالصهاينة ينكرون وجود أية هوية سياسية للعرب عامة.
كما يحاول الصهاينة إخفاء العرب، من خلال عدم ذكرهم سواء بالخير أو بالشر، فهم يركزون علي أنفسهم ويستبعدون الاّخر تدريجياً إلي أن يختفي تماماً ويغيب، حتي يصبح اليهودي الخالص هو اليهودي المطلق ذي الحقوق المطلقة الخالدة التي لا تتأثر بوجود الاّخرين أو غيابهم. وبالتالي فإن إفراغ فلسطين من كل سكانها أو معظمهم (أي تغييبهم) هو أحد ثوابت الفكر الصهيوني. إذ لو تم الاستيلاء علي الأرض وبقي سكانها عليها لأصبح تأسيس الدولة الوظيفية مستحيلاً، ولتم تأسيس دولة عادية تمثل مصالح سكانها بدرجات متفاوتة. فيهودية الدولة مع تغييب السكان الأصليين، هو ضمان وظيفتها وعمالتها. إذن الصهيونية حركة إحلالية ” إحلال شعب مكان شعب أخر”.
بعد ذلك يتناول د.المسيرى ظاهرة الاستعمار الاستيطانى؛ الغربى والصهيوني، ويذهب إلى أن الصهيونية نشأت في أحضان الاستعمار الغربى، وأنها ظاهرة استيطانية إحلالية، لا تختلف في جوهرها عن أى حركة استعمارية أخرى.
والاستعمار الاستيطانى يعرفه المسيرى بأنه ” انتقال كتلة بشرية من مكانها وزمانها إلى مكان وزمان آخر”، حيث تقوم الكتلة الواحدة بإبادة السكان الأصليين أو طردهم او استعبادهم، أو خليط من كل هذه الأمور. وهذا ما حدث في فلسطين.
كما لم تكن بلورة رؤية صهيونية أمرا سهلا، اذ ان المستوطنين الصهاينة حلوا في ارض لا يعرفونها وهى أرض مأهولة بالسكان. ومن هنا كان ضرورى أن ينظموا أنفسهم بطريقة صارمة، وأن تكون لهم مؤسساتهم الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ، لذا فقد فرض الاستعمار الاستيطانى كثيراً من سماته ومن أهمها العنف والطابع العسكرى المتكامل، ثم أسس الوكالة اليهودية للقيام بمعظم عمليات التخطيط والتطبيق الفعلى والهجرى وتدريب المستوطنين وتأمين كل ما يحتاجونه من وسائل وأدوات إنتاج وخدمات للمهاجرين.
وفرق المسيرى بين نوعين من الإستعمار الاستيطانى:
- الأول يهدف إلى استغلال كل من الارض ومن عليها من البشر، وهذا هو الاستعمار الاستيطانى المبنى على التفرقة اللونية (الأبارتهايد) وجنوب افريقيا مثال على ذلك.
- الثانى يهدف إلى استغلال الأرض بدون سكانها، اسرائيل نموذج على ذلك.
لكن اسرائيل تحولت كذلك من النظام الاستيطانى الإحلالى إلى النظام المبنى على الابارتهايد بعد عام 1967.
د/ المسيرى في موضع آخر يرى أن العنف الصهيوني ليس سمة عرضية في الظاهرة الاستيطانية الاحلالية، لكنه سمة عضوية جوهرية، لصيقة بسمات الاستعمار الصهيوني الأخرى.
لكن لماذا وقع الاختيار على فلسطين دون غيرها لتكون بقعة لتوطين اليهود فيها؟
وقع الاختيار عليها بسبب موقعها الاستراتيجى، ففلسطين ليست معروفة بثرواتها الطبيعية، وهى صغيرة الرقعة، وأرضها ليست خصبة. لكن موقعها هو الذى جعلها ضحية مباشرة للاغتصاب الاستعمارى الصهيوني. وكما قال نابليون “إن من يسيطر في المعركة على تقاطع الطرق يصبح سيد الأرض” وفلسطين تطل على البحر الاحمر والمتوسط وقناة السويس والتى تقسم العالم العربى إلي قسمين، وتقع على نقطة الالتقاء بين آسيا وأفريقيا، لذلك كانت مقصدا للصهاينة.
وبعد أن أمًن الاستعمار الصهيوني موضع قدم (للشعب اليهودى) ورقعة من الأرض هى بداية وطنه القومى اليهودى، كان لابد من استيراد المزيد من المهاجرين اليهود والتهام المزيد من الأرض، أى أنه كان لا مفر من التوسع السكانى والجغرافى. لذلك عارضت اسرائيل قرار الامم المتحدة رقم 242 على أساس أنه قد يسفر عن خنق الصهيونية وهى في ذروة اندفاعها.
وقد قدم عضو الكنيست السابق الصحفى “أودى أفنيرى” قراءة ذكية لتاريخ الدولة العبرانية في الماضى وتاريخ الدولة الصهيونية في الحاضر. حيث بيَّن أن قيامهما لم يكن يستند إلى قوتهما الذاتية وإنما إلى ضعف الشعوب القاطنة في فلسطين (الكنعانيين في الماضى والعرب في الحاضر). ويقول أن ما يدفع الصهاينة ويقرر حركاتهم ليس الدافع العقائدي فحسب (حيث أنه آخذ في الضمور) وإنما موازين القوة. كما يتنبأ بأن التوسع الصهيوني لن يتوقف ما دام هناك فراغ بسبب الغياب العربي، ويتنبأ بأن هذا التوسع سيستمر حتى يتخطى حدود اسرائيل الكبرى نفسها اذا سنحت الفرصة.
كما أشار د. المسيرى إلى أن مفهوم اسرائيل الكبرى الذى يمتدد من “النيل إلى الفرات” لم يعد مهما في الفكر الاستراتيجى الصهيوني في اسرائيل، فظهور النظام العالمى الجديد قد غير وظيفة اسرائيل وطبيعة دورها، ولم يعد ضم الأراضى مسألة حيوية بالنسبة لها، بل أمر سلبى. فهى تحاول الآن أن تلعب دورا وظيفيا جديدا بالتغلغل في العالم العربى بالتعاون مع بعض النخب الثقافية والسياسية العربية الحاكمة كجزء من عملية تدويل المنطقة وضمها إلى السوق العالمى والنظام العالمى الجديد. (أي التحول من نظرية الحدود الجغرافية واستبدالها بنظرية الحدود الاقتصادية).
ثم تحدث د. المسيرى عن أن المجتمعات الاستيطانية هى مجتمعات ذات طابع عسكرى بسبب رفض السكان الأصليين لها، وبسبب أنه لا يمكن وضع الأسطورة الاستيطانية موضع التنفيذ إلا بقوة السلاح. والمجتمع الإسرائيلي هو مثال على ذلك، لذا يتمتع المجتمع الإسرائيلي بصفة عسكرية شاملة قوية، فجميع الإسرائليين قادرين على حمل السلاح رجالا ونساءً ويؤدوا الخدمة الإلزامية. والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية تدخل في كل مناحي الحياة.
الفصل الثامن من هذا الكتاب حاول الإجابة على هذا التساؤل: هل يمكن تأسيس مجتمع استيطانى دون اللجوء لقوة السلاح؟ كانت الإجابة بالنفى. إذ كيف يمكن أن توطن كتلة سكانية في وطن ليس وطنها، وعلى حساب كتلة أخرى، إلا بحد السلاح. ومن هنا جاءت فكرة الهاجس الأمنى وعقلية الحصار التى تبناها المستوطن الصهيوني.
تلك الفكرة تبين لنا مدى كذب الصهاينة بالقول أن أرض فلسطين هى أرضهم. فالأرض التى يسيرون عليها منذ آلاف السنين هى في الواقع ليست أرضهم وليست أرضا بلا شعب كما كان الزعم، وأن أهلها لم يستسلموا كما كان متوقعا منهم، ولم تتم إبادتهم كما كان المفروض أن يحدث. بل إنهم يقاومون وينتفضون ويتزايدون في العدد والكفاءات ولم يكفوا عن المطالبة بشكل صريح بالضفة وقطاع غزة، وبشكل خفى كل فلسطين وبحق العودة لها.
لذلك قامت إسرائيل بحماية نفسها داخل حزام مسلح تحميه الأسلحة النووية.
ثم تحدث المسيرى عن تطور مفهوم الأمن القومى الإسرائيلي الذى ينطلق من مقولة أن فلسطين هى أرض بلا شعب، ومن ثم إن وجد مثل هذا الشعب فلا بد أن يغيب. أى أن مفهوم الأمن القومى الإسرائيلي ينطلق من إنكار الزمان العربى والوجود العربى، والفلسطينى على وجه التحديد.
أما مراحل تطور هذا المفهوم فقد مرت بعدة مراحل هى:
- مفهوم “الضربة المضادة الاستباقية” ومفاداه عدم السماح مطلقا بأن تدور الحرب في أرض إسرائيل. بل يجب نقلها إلى أرض العدو.
- مفهوم “الحدود الآمنة” وهى نظرية تقوم على وضع حدود يمكن الدفاع عنها دون اللجوء إلى حرب وقائية، حيث يُنظر للشعب العربى باعتباره شعب يجب القضاء عليه تماماً او تهميشه، أى نهاية التاريخ العربى.
- نظرية “ذريعة الحرب” أى شن الحرب من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو أمنية مزدوجة المعايير، وتطوير استراتيجية الردع النووى.
فى نهاية الفصل الثامن تناول د. المسيرى الأمن القومى الإسرائيلي في التسعينات وساق العديد من الأمثلة والأحداث التي بيَّن من خلالها كيف أن إسرائيل تريد الاحتفاظ لنفسها بتفوق عسكرى نوعي على بقية الشعوب العربية، وكيف أنها تعارض امتلاك الدول العربية لأى صواريخ وأسلحة هجومية متطورة يمكن أن تهددها. كما قاومت بكل السبل امتلاك الدول العربية لسلاح نووى، حيث قامت بقصف المفاعل النووى العراقى عام 1981.
بعد ذلك تناول د. المسيري الرؤية الصهيونية/ الإسرائيلية للصراع والحكم الذاتي والسلام مع العرب، فيقول بأن بنية الصراع العربي الإسرائيلي ظلت واضحة حتى هزيمة 1967م، ومنذ ذلك الحين بدأ الحديث عن “السلام” والرغبة في التسوية من جانب الطرفين، وربما هذا الأمر كان مفهوماً بالنسبة للعرب بعد هزائمهم المتكررة، بينما ما دفع إسرائيل للسلام هو أن الانتصارات العسكرية لم تأت بسلام للإسرائيليين، ولم يعد الإسرائيليين قادرين علي تحمل الحرب الدائمة والاستنفار المتواصل، وثار القلق لدى الإسرائيليين من أنه ربما يأتي الوقت الذي تمتنع فيه الولايات المتحدة من مساعدتهم، كما بدأت تظهر علامات الإرهاق والتذمر بين المستوطنين الصهاينة بسبب الخدمة العسكرية الإلزامية، إضافة إلي أن العرب بدأو يطورون نظماً هجومية ودفاعية ربما تعادل القوة النووية الإسرائيلية. أيضاً بدا أن مسألة التسليم والاستسلام، وبخاصة من جانب الفلسطينيين حتي بعد أوسلو، لم تعد واردة.
إذن لاشك في أن الرغبة الإسرائيلية في السلام كانت حقيقية وصادقة، ولكن بنية الصراع ظلت قائمة، فالدولة الصهيونية هي دول استيطانية إحلالية، اغتصبت الأرض وحاصرت سكانها، ولا يزال المستوطنون الصهاينة متمسكين بالأرض والسيادة عليها وبمحاولة فرض سلام المقابر على الفلسطينيين، لذا نرى أن ما حدث هو أن الرؤية العدوانية القمعية لا تزال كما هي والسلوك العدواني والقمعي لم يتغير وما تغيًر هو الديباجة والخطاب نظراً لتًغير الظروف الدولية وظهور النظام العالمي الجديد المبني علي التفكيك والإغواء بدلاً من المواجهة المباشرة مع شعوب العالم الثالث، ولذا بدلاً من دق طبول الحرب، فإن الإعداد للحرب يستمر علي أن تُعزف نغمات السلام.
بعد ذلك تناول د. المسيري الحديث عن طبيعة الاقتصاد الإسرائيلي، متسائلا هل هو اقتصاد سلم أم اقتصاد حرب؟ وتناول أيضا المؤسسات الاقتصادية الاستيطانية/ الإسرائيلية، مثل الهستدروت والكيبوتس.
قال إن الاقتصاد الإسرائيلي يمكن تسميته بالاقتصاد الاستيطانى. وهذا الاقتصاد يأخذ أشكال متباينة تختلف من مجتمع لآخر، لكنه يتسم ببعض السمات الثابتة التي لا تتغير، منها أنه يعطي الأولوية للاعتبارات الاستيطانية على أي اعتبارات أخرى، حتى لو كان ذلك على حساب التكلفة الاقتصادية والمردود الاقتصادى.
الهستدروت:
هى كلمة عبرية تعني “الاتحاد العام للعمال العبرانيين في إرتس يسرائيل” ، أنشأ الصهاينة هذا الاتحاد العمالى سنة 1920 لا ليمثل أي طبقة عاملة وإنما ليساهم في توطين المهاجرين الصهاينة وليبلور وينمي، بالاشتراك مع الوكالة اليهودية، جماعة المستوطنين الصهاينة في فلسطين، حتى تصبح بناءً استيطانيا متكاملا توجد داخله طبقة عاملة. فهو مؤسسة صهيونية استيطانية بالدرجة الأولى، بل هو أهم المؤسسات الاستيطانية على الإطلاق، حيث تشرف على معظم النشاطات، وتتحرك داخلها كل الأحزاب وتربط المستوطن الصهيوني بالجماعات اليهودية في العالم.
الكيبوتس:
كلمة عبرية تعني (تجمع) ولها بعد شبه دينى يهدف لجمع شمل يهود العالم في فلسطين، أما في الكتابات الصهيونية فتستخدم للإشارة إلى مستوطنة تعاونية تضم جماعة من المستوطنين الصهاينة، يعيشون ويعملون سويا، ويعد الكيبوتس من أهم المؤسسات الاستيطانية التي يستند إليها الاستعمار الصهيوني في فلسطين المحتلة، ويمكن النظر إليه باعتباره مؤسسة نماذجية لتوليد جماعة وظيفية شبه عسكرية.
قامت الكيبوتسات بتنظيم الهجرة غير الشرعية إلى فلسطين منذ عام 1943م، كما أن نظام الكيبوتس مبني على ما يمكن تسميته بالزراعة المسلحة؛ فأطفال الكيبوتس (فى عنابرهم الجماعية) كانوا يتدربون على الفلاحة وعلى القتال في ذات الوقت. كان الأطفال يرسلون إلى العنبر الجماعى بعد ولادتهم مباشرة ويظلون فيه حتى سن الالتحاق بالجيش. ونسبة كبيرة من القيادات العسكرية في الجيش النظامى الاحتياطى الإسرائيلي تأتي من الكيبوتس.
كما أن إضعاف الروابط الأسرية في الكيبوتس يتم على حساب الروابط القومية ولحساب الولاء للدولة أو المؤسسة، فالفرد الذى لا يعيش حياة خاصة به، أى ليس له ذكريات فردية، ولا مرتبط بأي إنسان آخر، هو الفرد القادر على الانتماء بسهولة ويسر إلى جماعته الوظيفية.
كانت فكرة الكيبوتس الأصلية قائمة على أن مصلحة الجماعة أهم من مصلحة الفرد، ولكن مع تصاعد معدلات العولمة الاستهلاكية، وبعد عام 1967، بدأت النزعات الفردية في التطور، وبدأت الجماعة تفقد أهميتها وأصبحت الأولوية للفرد على حساب الجماعة.
وبعد أن تناول د. المسيرى الصهيونية بإعتبارها تنتمى إلى النمط الاستعمار الاستيطانى، انتقل في الفصل الحادي عشر إلى دراسة الجانب الإحلالى للصهيونية، أي الجهود الصهيونية التي تركزت على إحلال الكتلة البشرية اليهودية الوافدة محل السكان الأصليين، وعليه فإن عملية النقل التي بدأت في أوروبا بتهجير اليهود إلى فلسطين قد انتهت، وبدأ طرد الفلسطينيين من ديارهم ثم الاستيطان في بلادهم.
إذ أن الهدف من الصهيونية هو إنشاء دولة وظيفية قتالية تستوعب الفائض البشرى اليهودى وتقوم بحماية المصالح الغربية، وحتى تحتفظ الدولة بكفائتها القتالية، كان لابد أن تظل بمعزل عن الجماهير العربية التى ستحارب ضدها، ولذا كان طرد العرب من نطاق الدولة الصهيونية ضروريا حتى تظل يهودية خالصة، وكأن يهودية الدولة مرتبطة بوظيفتها القتالية.
وبالتالي كان إخلاء فلسطين من كل سكانها أو معظمهم (على أقل تقدير) هو أحد ثوابت الفكر الصهيوني.
فالمفكر الصهيوني البريطانى “إسرائيل رانجويل” يؤكد في كتاباته على ضرورة طرد العرب وترحيلهم فيقول “يجب ألا يسمح للعرب أن يحولوا دون تحقيق المشروع الصهيون، ولذا لابد من إقناعهم بالهجرة الجماعية…أليست لهم بلاد العرب كلها…. ليس ثمة من سبب خاص يحمل العرب على التثبت بهذه الكيلومترات القليلة….فهم بدو رحل يطوون خيامهم وينسلون في صمت وينتقلون من مكان لآخر
وكانت الخطة الصهيونية المتبعة لطرد الفلسطينيين تتمثل في “إزعاجهم بغارات متكررة وتهديدهم وإثارة الذعر في صفوفهم حتى يرحلون ثم يذهبوا إلى ما وراء الأردن، ثم تقوم إسرائيل ببناء المستوطنات، ومن ثم تستولى على الأرض وتصبح قوية، وتقوم بطرد الفلسطينيين منها، ويعودوا إلى الدول العربية”.
وبصورة عامة فالوضع الخاص المتعلق بالأقليات العربية في إسرائيل متردي ومتدهور للغاية قياسا بالسكان اليهود فعلى سبيل المثال:
- المخصصات المالية الحكومية للمجالس المحلية اليهودية تتخطى خمسة أضعاف مساهمة الحكومة لميزانية المجالس المحلية العربية.
- دعم الحكومة لتكلفة المياه التي يستهلكها المزارعون اليهود يناهز ما تمنحه للمزارعين العرب بمائة ضعف.
- يبلغ عدد الأكاديميين في الجامعات الاسرائيلية نحو خمسة آلاف أكاديمي، لا يوجد بينهم سوى عشرة من الشعب العربي الفلسطيني، في الوقت نفسه التي تبلغ فيه نسبة العرب من 15 – 20% من السكان.
- يتاح للمهاجرين اليهود القادمين حديثا دروسا جامعية بلغاتهم الأصلية، بينما يٌجبر الطلاب العرب على الدراسة باللغة العبرية.
وفى الفصول الأخيرة من هذا الكتاب تناول د/الميسرى تاريخ الإرهاب الصهيوني ومؤسساته المختلفة، باعتبارها جزءا عضويا من العنف الصهيوني، ومرحلة متبلورة منه، وليس أمرا عرضياً دخيلا عليه.
فيتناول موضوع الإرهاب الصهيوني قبل عام 1948، ويصف الإرهاب الصهيوني بأنه يتضمن سرقة الأراضى بالاحتيال والتزوير والقانون كما يتضمن طرد أصحابها بقوة السلاح، وفرض أنظمة تعليمية تشوه الوعي الفلسطينى، ويرى أن الإرهاب الصهيوني ليس حدثا عابرا عرضيا وإنما هو أمر كامن في المشروع الصهيوني للاستيطان الإحلالى.
فالإرهاب الصهيوني هو الآلية التى يتم بها تفريغ جزء من فلسطين من سكانها وفرض المستوطنين الصهاينة ودولتهم على شعب فلسطين وأرضها، وقد تم هذا من خلال الإرهاب المباشر، غير المنظم وغير المؤسسى الذى تقوم به المنظمات الإرهابية غير الرسمية (المذابح – مليشيات المستوطنين – التخريب – التمييز العنصرى) والإرهاب المباشر، المنظم والمؤسسى، الذى تقوم به الدولة الصهيونية (التهجير – الهيكل القانونى للدولة الصهيونية – التفرقة العنصرية من خلال القانون – الجيش الإسرائيلي – الشرطة الإسرائيلية – هدم القرى).
ورغم هذا التفريق بين النوعين إلا أنهما مرتبطان تمام الارتباط ويتم التنسيق بينهما ويجمع بينهما الهدف النهائي، وهو إفراغ فلسطين من سكانها أو إخضاعهم وحصارهم.
تحدث د. المسيري عن الإرهاب الصهيوني الذى ساد قبل 1948 واستخدام كل الطرق غير المشروعة في قتال العرب باستخدام كل الوسائل غير القانونية وعمليات الاغتيال الفردية والجماعية، تحدث أيضا عن المذابح الصهيونية بين عامي 1947 – 1948 وبشاعتها.
وتعليقا على هذه المجازر، وفي كتابه المعنون “التوراة” كتب بيجين يقول “إن مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر في تفريغ البلاد من 650 ألف عربى” وقال لولا دير ياسين لما قامت إسرائيل.
فكل المذابح التى ارتكبتها الدولة الصهيونية لم تكن مجرد حوادث فردية أو استثنائية طائشة، بل كانت جزءا أصيلا من نمط ثابت ومتواتر ومتصل يعكس الرؤية الصهيونية للواقع والتاريخ والآخر، حيث يصبح العنف بأشكاله المختلفة وسيلة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية، كما أنه أداة تفريغ فلسطين من سكانها وإحلال المستوطنين الصهاينة محلهم، وتثبيت دعائم الدولة الصهيونية، وفرض واقع جديد في فلسطين يستبعد العناصر الأخرى غير اليهودية المكونة لهويتها وتاريخها.
تحدث أيضا عن التنظيمات الصهيونية العسكرية قبل عام 1948 وقسمها إلى قسمين أساسيين، الأول تنظيمات توجه عملياتها العسكرية ضد السكان العرب الفلسطينيين أصحاب البلاد، والثانى يوظف نفسه في خدمة الدولة الإمبريالية الراعية وصراعاتها الممتدة إلى خارج البلاد.
كما أن الإرهاب الصهيوني لم ينتهي بإعلان الدولة الصهيونية في مايو عام 1948، لكنه استمر في إرهاب السكان العرب واتخذ أشكالا مختلفة، فما حدث هو تحول الإرهاب من إرهاب ميشيليات غير منظمة إلى إرهاب مؤسس منظم من خلال الجيش الإسرائيلي، حيث ارتكب العديد من المذابح والمجازر بحق العرب ومنها مذبحة بحر البقر 8 ابريل 1970 ومذبحة صبرا وشاتيلا في سبتمبر 1982.
ومع اندلاع انتفاضة الشعب الفلسطيني في ديسمبر 1987 أصبحت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة يومية مع حركة عصيان مدني تمتد جغرافيا بمسافة الضفة الغربية وقطاع غزة، وتتخذ من الحجارة والعلم الفلسطيني رموزا لمقاومة الاستعمار الاستيطانى الإحلالي الذي استهدف محو الوجود العربي الفلسطيني، وبحكم طبيعته الاستيطانية الإحلالية لجأ الاستعمار الصهيوني إلى المزيد من الارهاب تمثل في تكثيف آليات العقاب الجماعى مع حظر تجول وحصار أمنى للبيوت فضلا عن التوسع في الاعتقالات وأحكام السجن والتعذيب والطرد والإبعاد، كما لجأت السلطات الإسرائيلية إلى طائرات الهليكوبتر بتوسع لمطاردة المتظاهرين وإطلاق النار عليهم.
وتقدر حصيلة الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي أثناء الانتفاضة من 1987 – 1991 بحوالي ألف شهيد ونحو 90 ألف جريح ومصاب و15 ألف معتقل، فضلا عن تدمير ونسف 1228 منزلا واقتلاع 140 ألف شجرة من الحقول والمزارع الفلسطينية.
إزاء كل ذلك ظلت السياسة الأمريكية تمارس دور الراعي والحامي للإرهاب الصهيوني الإسرائيلي، ويعكس اتجاه تصويت الولايات المتحدة في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة الإصرار على الوقوف إلى جانب إسرائيل.
وللأسف استمر الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي حتى بعد إعلان مبادئ اتفاقيات أوسلو في سبتمبر 1993، رغم ما كان متوقعا من أن هذا الاتفاق بما يتضمنه من بنود سيخلق واقعا جديدا في العلاقة بين الشعب الفلسطينى وحكومة المستوطنين الصهاينة حيث نص على:
- تراجع الاحتكاك بين الفلسطينيين والقوة العسكرية الصهيونية بسبب تقلص سلطات الاحتلال فوق مناطق تركز الكثافة السكانية للشعب الفلسطينى في الضفة وغزة.
- كان المفروض أن السوق الشرق أوسطية والمؤتمرات الاقتصادية المختلفة ستؤدى إلى ظهور علاقات اقتصادية قوية بين الدول العربية واسرائيل.
- كان المفروض أن تقوم السلطة الفلسطينية بمكافحة “الإرهاب” والقضاء على أية مقاومة للاحتلال الصهيوني، الأمر الذى يعفي سلطات الاحتلال الصهيوني من هذه المهام.
لكن يبدو أن البنية الاستيطانية الإحلالية العنصرية للكيان الصهيوني، بما تحتويه من إرهاب حتمي، تجعل توقع تلاشي الإرهاب الصهيوني أو حتى احتوائه دون فك هذه البنية أو التخلص منها أمر شبه مستحيل.
والحكومة الإسرائيلية تبدو بعد أوسلو رهينة لميول المستوطنين المتطرفة الإرهابية، ولذا فإنها لم تبد بعد أى استعداد للتخفيف بجدية من بعض مهامها القمعية والإرهابية الرسمية ضد الفلسطينيين في ظل التفاوض مع قيادتهم.
وفي النهاية تحدث د. الميسرى عن الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي وانتفاضة الأقصى التي انطلقت يومي 28 و 29 سبتمبر 2000، نتيجة التصدي لدخول إرييل شارون، زعيم حزب الليكود إلى حرم المسجد الأقصى في حراسة جنود الاحتلال الإسرائيلي المدججين بالسلاح، وجاء اندلاع انتفاضة الأقصى بعد نحو شهرين من فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية، وهي المفاوضات التي أعادت التأكيد على استحالة الالتقاء بين الحدود الدنيا للمشروع الوطني الفلسطيني وولاءات المشروع الصهيوني وجوهره وأسسه.
وكان عنف الاستجابة الإسرائيلية لانتفاضة الأقصى لم تر له مثيل من قبل في عمليات القمع الإسرائيلي في الماضي، فتشير الأرقام إلى أن شهداء انتفاضة الأقصى في شهريها الأوليين بلغوا نحو ثلاثمائة شهيد بينما تدور تقديرات شهداء انتفاضة 1987 التى استمرت زهاء ست سنوات في مجملها نحو الألف شهيد، كما استهدفت آلة الإرهاب الإسرائيلية وبشكل مكثف الأطفال الصبية وسيارات الإسعاف ورجالها، وقامت بحصار المدن الفلسطينية التي كانت تتمتع بدرجة من الحكم الذاتى وفقا لبنود اتفاقية أوسلو، وحاصرت الفلسطينيين ومنعت عنهم كل الخدمات، حتى الرئيس ياسر عرفات شخصيا كان محاصرا وعاجزا عن التنقل إلى خارج مناطق الحكم الذاتى، وأغلقت إسرائيل أيضا مطار غزة.
والخلاصة، يمكننا القول بأنه وعلى الرغم من الاستخدام المفرط للعنف من جانب الكيان الصهيوني الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطينى، لا يزال هذا الشعب الأبي صامدا مدافعا مستميتا على أرضه ووطنه. وسيظل الفلسطينيون يدافعون عن أرضهم ووطنهم حتى يزول ويندثر هذا الاحتلال مثلما تم القضاء على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وتم التحرر من الاحتلال الفرنسي في الجزائر.
عرض:
أ. أحمد محمد علي
باحث ماجستير في العلوم السياسية، جامعة القاهرة.