المقدمة
فرانز روزنتال
فرانز روزنتال (1914- 2003) مستشرق ألماني قام بترجمة مقدمة ابن خلدون الى الإنجليزية.
وقد قدَم روزنتال لترجمته بدراسة باللغة الإنجليزية مكونة من ثلاثة أقسام:
القسم الأول بعنوان “حياة ابن خلدون” Ibn Khaldun’s life( 36 صفحة)
القسم الثاني بعنوان ” المقدمة” The Muqaddimah ( 16 صفحة) وهو القسم الذي تم ترجمته ويقوم فيه روزنتال بتحليل مقدمة ابن خلدون.
القسم الثالث بعنوان “التاريخ النصي للمقدمة” The Textual History of the Muqaddimah (29 صفحة).
المقدمة الأصلية لكتاب “التاريخ” لابن خلدون تقع في بضع صفحات قليلة، وكمعظم مؤلفات المسلمين التاريخية، تحتوي هذه الصفحات مديحا تاريخيا يعقبه نقاشا للأخطاء التي يقع فيها المؤرخون وأسبابها، موضحة بأمثلة تاريخية. فقد كان الجهل بالتغيرات الطارئة على البيئة محل الدراسة أحد الأسباب الرئيسية وراء الأغلاط التاريخية التي لم يُعصم منها حتى كبار المؤرخين من حين لآخر. ويمثل ما يُعرف اليوم باسم “المقدمة” المجلد الأول لكتاب “التاريخ” لابن خلدون، وقد صُممت هذه المقدمة لتوضيح المبادئ الرئيسية للتاريخ، تلك المبادئ التي تحدد دور المؤرخ الفعّال في إعادة بناء الأحداث التاريخية.
ولذا وفي عهد واضعها، اُعتبرت المقدمة الأصلية والكتاب الأول مؤلف منفصل نُشر تحت عنوان “المقدمة”. ففي سيرته الذاتية (عام 1394م) أشار ابن خلدون الى مؤلفه الأول في التاريخ من هذا المنطلق. كما تضمن فهرس المحتويات الخاص بالمخطوطات القديمة الإشارة الى المقدمة بأنها “المجلد الأول الذي عرف باسم المقدمة حتى صار علماً عليه.” إذاً، فلا عجب أن يشير إليها ابن خلدون نفسه في مراجعته الأخيرة باسم المقدمة[1] كما أنه كرّس محاضرات خاصة لها. وفي العصور اللاحقة كانت “المقدمة” هي العنوان التي عرفت به في مختلف أنحاء العالم.
وبالنظر إلى بنائها اللغوي، تستحق المقدمة إطراء خاصا[2]. ويعد هذا الكتاب، مع آخر مجلدين من كتاب التاريخ، هو المؤلف الأصلي لابن خلدون؛ فهو لم يتأثر فيهم بالطابع الأدبي لمصادره، كما هو الحال غالبا في معظم الكتابات التاريخية الإسلامية، وكما هو الحال في المجلدات الوسطى من كتاب ابن خلدون. كُتبت المقدمة بالأسلوب الدقيق المثقف الذي كان يميز النقاشات الأكاديمية لابن خلدون وزملائه ومعاصريه في الشرق الإسلامي. ويعتبر هذا الأسلوب قريبا من لغة المثقفين في أي مكان في العالم. وتعكس لغة المقدمة وأسلوبها النهج الاستطرادي للمحاضر الأكاديمي المهتم أساسا بجمهور مستمعيه فيعمل جاهدا على توصيل خطابه الشفهي. ونجد أن قطاعا كبيرا من الأدب الإسلامي قد تأثر بالأسلوب والمحتوى المستخدم في قاعات الدراسة، لذا أصبح من اليسير على الكاتب استخدام هذا الأسلوب حتى وإن لم تكن كتاباته للاستخدام المدرسي أو لجمهور من المستمعين. وهذا هو الأسلوب الذي تبناه ابن خلدون عند كتابة المقدمة.
هناك عامل آخر ساعد على ظهور الإطناب في أسلوب ابن خلدون وهو استخدامه لمصطلحات محدثة أغلبها من وحي الإلهام. وبما أنها غريبة على أعين المتلقين ومسامعهم، احتاج إلى بيانها مرارا وتكرارا وإعادة تعريفها. بالإضافة إلى ذلك، واجه ابن خلدون مشكلة تداخل المراجع التي لم يستطع أدب المخطوطات قبل اختراع الطباعة حلها[3]. وبسبب صعوبة الإشارة إلى بعض العبارات السابقة بإيجاز ووضوح، كان على المؤلف تكرار المعلومة ذاتها كلما اقتضت الحاجة لذلك. لذا، تميز أسلوب ابن خلدون بميله إلى التكرار لدرجة تجعل من السهل اختصار “المقدمة” إلى نصف حجمها الحالي فتكون بذلك أيسر في القراءة، خاصة للقرّاء الذين لا يُجيدون تذوق ثراء اللغة الفصحى وغناها أو لا يتطلعون إلى معرفة كافة الفوارق الدقيقة والاختلافات الخفية في روائع من نتاج عقل عالم عظيم.
وعلى الرغم من ذلك، فإن نظرة الى فهرس الموضوعات يبين أن المقدمة تتبع نظاما منطقيا يلتزم بموضوعها حتى النهاية. فقد بدأ الكتاب بالحديث عن بيئة الإنسان المادية وتأثيرها عليه وعلى صفاته المعنوية، يتبع ذلك مناقشة التنظيم الاجتماعي البدائي وخصائص القيادة فيه والعلاقات بين المجتمعات البدائية فيما بينها وعلاقتها بالمجتمع المدني الأكثر تحضراً. ثم ناقشت المقدمة سلطة الدولة باعتبارها النموذج الأرقى للتنظيم الاجتماعي الإنساني و كذلك سلطة الخلافة باعتبارها النموذج الإسلامي المميز. وفي هذا الجزء يتم مناقشة المتغيرات التي تطرأ على أنظمة الحكم المسئولة عن إدارة دولة ما. ثم يعود الكاتب إلى الحياة المدنية باعتبارها النموذج الأكثر تطوراً للاجتماع والعمران الإنساني. وأخيراً، يفرد الكاتب عنايةً خاصة للحضارة والتجارة والحِرَف والعلوم باعتبارهم شروط تأسيس الحياة المدنية وثمارها وطريق نحو فَهم التاريخ. وبذلك نجد أنه من الصعب تخيل صورة أفضل لعرض أفكار ابن خلدون.
وقد أثبت ابن خلدون، كحِرفي مثقف، براعته في وضع مخططا للتطور التاريخي لمختلف المهن والعلوم. الا أن معلوماته، المعتمدة على تعاليم أساتذته كانت محدودة مقارنة بالمؤلفات العربية الضخمة من مختلف الأزمنة والتي يتخذها العالم الحديث مرجعاً له. وقد اعتمد ابن خلدون على المعلومات التقليدية الواردة في بعض كتب التراث دون محاولة تحقيقها، ولم يتردد في الانتقال من الأزمنة القديمة إلى الماضي القريب، وبدت النتيجة، للدارس المعاصر سطحية وتحكمية، ورغم ذلك فإنهم يشهدون ببصيرة وقوة ومهارة ابن خلدون.
ويعد أسلوب ابن خلدون في إدراج الاقتباسات إحدى مهاراته العلمية، حيث الانتقال من الموثوق إلى العليل ومن الاقتباسات المُحَققة الواضحة إلى الإشارات الغريبة غير الدقيقة. فعلى سبيل المثال، في الرسالة المطولة من طاهر بن الحسين إلى ابنه والتي اقتبسها ابن خلدون من كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير ثم راجعها وصححها من تاريخ الطبري الذي كان يضم النص الأصلي لرسالة طاهر والتي اقتبسها ابن الأثير في كتابه [4]. إذن فكلما شك ابن خلدون في صحة مصدر المخطوطة المقتبس منها لا يتغافل عن الأمر ولا يترك قرّاءه في ظلام الشك.
ومن ناحية أخرى، نجد هناك مراجع عامة تسعى لبيان محتوى عمل ما لكنها تفشل في أداء مهمتها على نحو صحيح مثل الإشارة الى مرجع ابن العربي، كما أن هناك مراجع يصعب تحديد موضع الاستشهاد بها أو على الأقل لا يأتي الاستشهاد في المكان المشار اليه، وهذه غالبا ما تكون معتمدة على الذاكرة ومن الصعب الاعتماد على الذاكرة مهما كانت مدربة وقوية. إن الظروف المحيطة بتأليف كتاب المقدمة في عزلة قلعة ابن سلامةً سبباً في الوقوع في مثل هذه الهفوات. إلا أن ابن خلدون أتيحت له فرص كثيرة لتصحيح أخطاء المراجع كما فعل في رسالة طاهر، ولكنه لم يفعل.
وإضافةً إلى ذلك، نجد هناك هوامش تحيل الى عدد من المراجع المعنية بموضوع واحد ولكن دون العناية بدقتها. كما نجد اقتباسات منقولة كما هي دون زيادة أو نقصان، وأخرى يتم إعطاء المعنى الصحيح بشيء من التصرف كتبديل الألفاظ المستخدمة رغبةً في الاختصار. وبصفةٍ عامة، فقد استخدم ابن خلدون هذا الأسلوب الأخير الذي يتفق والطرح التاريخي الذي يقدمه.
رغم أهمية التفاصيل العلمية لهذا العمل التي تدفع الى تقديره وتقدير مؤلفه الا أن قيمته الأساسية تكمن في مساهمته في الفكر الإنساني. إن تقديم ملخص للمحتوى لن يفي هذا العمل حقه، فقيمته الأساسية تكمن فيما يلقيه هذا العمل من ضوء على فكر ابن خلدون السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفلسفي. ويمدنا النص الكامل الوارد في الصفحات التالية بالمعنى الحقيقي للعمل بصورة أفضل من أي ملخص. لذا يتم هنا فقط التعليق على بعض الأفكار الرائدة في منهج ابن خلدون.
الإنسان هو محور عالم ابن خلدون كما هو الحال بالنسبة لمعظم المؤرخين والفلاسفة المسلمين.
ترى الجغرافية الإغريقية، كما تم نقلها إلى المسلمين، اعتماد الإنسان على بيئته الطبيعية التي تمده بالظروف المادية للحفاظ على حياته. وبينما تعد شدة البرودة والحرارة في القطبين الشمالي والجنوبي ظروف غير ملائمة لحياة بني البشر، توفر المناطق الوسطى للكرة الأرضية الظروف الملائمة للعيش. كذلك تؤثر البيئة الطبيعية في شخصية الإنسان وهيئته وعاداته باختلاف المناخ والخصوبة من منطقة الى أخرى.[5]
ما فوق البشر، تتجلى المدارك الغيبية (الإلهيات) في عدة صور، فهي تمتد من الذات العليّة للإله القدير الجبار الصمد عند المسلمين- حيث يصعب تحديد الفرق بين الوحدانية الإلهية في الفلسفة الإسلامية المتأثرة بالإغريق وإله التوحيد- وحتى أقدم الطلسمات والسحر والشعوذة. ويؤمن ابن خلدون إيماناً راسخاً بجميع التجليات الإلهية، ويأتي التراث الإسلامي ليعضده في ذلك؛ حيث لا يعد الإيمان بالذات الإلهية وحده ضمن العقيدة الإسلامية ولكن أيضاً الإيمان بالسحر،مصداقاً لما جاء به القرآن الكريم وحياة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام). فعلى سبيل المثال، توضح رسالة ابن أبي زيد القيرواني الشهيرة، وهو مرجع مختصر في الفقه المالكي، حقيقة السحر والحسد وقوة الرؤي. ومن ناحية أخرى، تنفي هذه الرسالة حقيقة الكهانة (التنجيم) لتعارضه مع العقيدة الإسلامية[6]. وقد درس ابن خلدون متن هذه الرسالة في شبابه حتى أنه قد أتم حفظها.
ورغم إيمانه بحقيقة الغيبيات إلا أن ابن خلدون قد أرجع تأثيرها إلى ما هو خارج نطاق أو ما وراء القدرة البشرية الطبيعية. كما أنه يؤمن بوجود السحر والشعوذة لكنه مقتنع بوجود الكثير من الخداع والاحتيال في ممارساتها والتي عاصرها وسمع بأخبارها. من ناحية أخرى لا يؤمن ابن خلدون بالكهانة (التنجيم) والكيمياء القديمة، حيث أن جميع إدعائتهما يمكن دحضها بالحجج العقلية. وبالرغم من حقيقة وجود بعض أشكال السحر الأسود، إلا أنها لاتؤثر في مسيرة التاريخ الإنساني بأي شكل من الأشكال.
كذلك حدد ابن خلدون المشيئة الإلهيّة في شئون البشر على أنها لا نهائية. وتأثيرها يمكن أن يتجلى بين الحين والآخر في السلوكيات النفسية. فعلى سبيل المثال، تلعب العوامل النفسية دوراً أكثر حسما في تحديد نتيجة معركة ما من أثر العدد والعتاد. ويأتي الأثر الديني على الأحوال البشرية ك”دفعة إضافية” غير معتادة على التقدم الممكن إحرازه. إن العقيدة الدينية وإرسال الرسل، الذين لا يستطيعون النجاح دون مساندة سياسية، الا أنهم يقومون بدفع الحركات السياسية وتطورها، ويمدنا التاريخ بأمثلة عديدة على صحة هذا الطرح ومن أبرزها النجاح الفائق الذي حققته رسالة الإسلام.
ولهذا، يرى ابن خلدون أن القدرة الإلهية في الشئون البشرية حقيقة راسخة لا ريب فيها، إلا أنه كان يعتبر ذلك الأمر خارج النسق الطبيعي وليس عنصرا ضروريا في التطور التاريخي. وفي هذا الصدد، يمكن وصف فلسفة ابن خلدون على أنها مدنية غير دينية كما وصفها العلماء أحيانا. وبالرغم من ذلك، لا تتعارض الفلسفة المدنية لابن خلدون مع الغيب ناهيك عن إنكاره، فوجوده بالنسبة له حتمي مثله مثل أي شيء يمكن ملاحظته من الوهلة الأولى. ولكن المسألة عنده تتعلق بدرجة العلاقة بين الإنسان والغيب. فقد عاصر ابن خلدون حضارة متأصل فيها جذور الصوفية منذ قرون عديدة، لذا اعتبر ابن خلدون الصلة الدائمة والحيّة مع الذات الإلهية هي ما تميز الفرد عن غيره، مقراً بحقيقة العلاقة العارضة بين الذات الإلهية وأشكال الاجتماع الإنساني.
ولتفسير أصول تنظيم الاجتماع الإنساني، والذي يعد الخطوة الأولى في مسيرة الإنسان التاريخية، تبنى ابن خلدون نظرية كانت قد لاقت قبول معظم الفلاسفة المسلمين، وكما يخبرنا ابن خلدون بنفسه فإن هذه الرؤية قد تبلورت من خلال مناقشة بعض الإشكالات الدينية وخاصةً الحاجة إلى”النبوة”. وبطبيعة تفكير ابن خلدون فإنه قد رأى إمكانية تعميم نظريته شديدة التشاؤم وإضفاء عليها طابعا دنيويا. فلقد اكتشف الإنسان من خلال قوة التفكير التي أهداها الله إياه مكانته العليا في سلم عالم المخلوقات من المعادن ثم النبات ثم الحيوان انتهاءً بالإنسان، إلا أن الإنسان في الأصل “حيوان”، حيث بدأت نشأة النظام الإنساني منذ إدراك هذا الإنسان أنه إذا لم يضبط غريزته الحيوانية فسينتهي به الأمر أن يفترس أخيه الإنسان.[7]
لاحظ ابن خلدون أن تلك النظرية تم مناقشتها في اثنين من المؤلفات المشهورة لابن سينا كتاب الشفاء ونسخته الموجزة كتاب النجاة.[8] كذلك ورد شرحا وافيا لهذه النظرية في الموسوعة الفلسفية الضخمة التي صنفها الشهرزوري أحد مؤلفي القرن الثالث عشر، ولكن من الأرجح أن ابن خلدون لم يطلع عليها. ولكن نظرا للتشابه الواضح بين رواية الشهرزوي وفكر ابن خلدون فمن المفيد الإشارة هنا الى ذلك الأمر. وكما هو مألوف في مؤلفات ابن سينا، عُرضت نظرية أصول الاجتماع الإنساني على شكل مقدمات لإثبات حقيقة النبوة: [9]
1-لا يستطيع الإنسان الحصول على كل ما هو ضروري للبقاء إلا من خلال التعاون مع غيره، فهو يحتاج إلى المأكل والملبس والمسكن والأسلحة له ولزوجاته وأطفاله وخدمه ومن يعول من أقاربه. وكل ما سبق ذكره يندرج ضمن الصنائع التي يستغرق الإنسان من أجل إتقانها وقتاً أطول من المدة التي سيتمكن فيها من البقاء حياً بدونها. وإذا افترضنا أنه استطاع (بشكل أو بآخر) العيش (اعتمادا على نفسه فقط)، سيحيا حياة مليئة بالصعوبات والتحديات، ولن يتمكن من الوصول إلى الأشكال المتعددة من الكمال الفكري (والتي تعد غاية البشرية). لذا، دعت الحاجة إلى تعاون مجموعة من الأفراد فيما بينهم لاكتساب كل منهم المهارات الخاصة بالحِرف والصنائع المختلفة فيتيح لباقي الأفراد الإفادة من عمله. ويتبلور هذا التعاون في بلوغ البشر والحيوانات الكمال… وقد أطلق الحكماء على هذا النظام المجتمعي مصطلح “التحضر” (أي التمدن، مستوحى من الإغريق)، لهذا قالوا أن “الإنسان سياسي بطبعه.” ويمكن فهم هذا من منظور أن حاجة الإنسان لمثل هذا النوع من النظام المجتمعي نابعة من غريزة البقاء وتوفير ما يحتاجه للعيش والارتقاء بمستواه المعيشي في العالم الدنيوي وتزكية روحه وإعدادها للانتقال إلى العالم الأخروي.
2-ويتجسد هذا النظام المجتمعي، السياسي بالأساس والقائم على مبدأ التعاون، من خلال تبلور نظام من التبادل القائم على العدالة الاجتماعية، لأنه -بخلاف ذلك- قد يطمع كل فرد في الحصول على كافة المنافع لنفسه مشعلاً بذلك نار الصراع مع الآخرين الذين يتنافسون معه في ذلك….
3-ويحتاج هذا التشريع الديني إلى من يقنن له كل هذه المبادئ العامة….
على عكس الشهرزوري، لم يعتبر ابن خلدون الإلهام الديني سلاحاً ضرورياً في يد المسؤول عن ردع الناس من الاعتداء على بعضهم البعض، فإن أي شخص في موقع يسمح له بالتحكم في الآخرين يمكنه فعل ذلك، فهناك أشخاص يتمتعون بمستوى أخلاقي رفيع ولديهم مواهب فطرية للقيام بهذا الدور. ويطلق ابن خلدون على الشخص الذي يتحلى بهذه القدرات على السيطرة والسلطان ب”الوازع”. وقد تم استعارة هذا المصطلح بما يحمله من معنى من كتب التراث (من السنة النبوية الشريفة والمسلمين الأوائل). فقد نقلت هذه الكتب قول الحسن البصري حين وَلي القضاء: “لا يمكن أن يستغنى الناس عن الوازع”؛ ويمكن تعريف الوازع في هذا السياق على أنه “الحاكم ورجاله كسلطة تحول دون اعتداء الناس بعضهم على البعض الآخر.”[10]
إن القدرة على التفكير، التي ميز الله بها الإنسان، هي الصفة الإنسانية الأساسية أو الهبة الفطرية التي تسمح للبشر التعاون فيما بينهم، ذلك التعاون الذي نراه محدودا في عالم الحيوان. وكقاعدة عامة تتميز الحيوانات بالتفوق الجسماني على الإنسان لامتلاكهم أسنان حادة ومخالب جارحة وغيرها، وقد أعطي الإنسان عوضاً عن ذلك القدرة على التفكير، كما أعطي اليدين لاستخدامهما في تحقيق أفكاره.
وفي الوقت الذي يقوم فيه مجموعة من البشر بالاستعانة بقوة العقل التي حباها الله إياهم للتعاون مع بعضهم البعض وتأسيس شكل من أشكال النظام الاجتماعي، يتحقق معنى العمران. ويعد مصطلح العمران (الذي يترجم الى مصطلح الحضارة) من المصطلحات المفتاحية التي استعملها ابن خلدون في المقدمة، وهو مصطلح مشتق من الجذر عَمَرَ ومعناه”البناء والزراعة”، وهو اسم يشير الى أية مستوطنة ترقي بالفرد عن مستوى البربرية البدائية. وتشهد الآثار الموجودة في زمن ابن خلدون عن مدن كبيرة كانت مزدهرة وعن وجود عمران حضاري سابق، مما يدل على توقف العديد من التجمعات البشرية الكبيرة عن النمو والتوسع بسبب بعض العوامل الجغرافية. وهذا ما ألهم ابن خلدون إلى وجود علاقة طردية بين التقدم الحضاري وعدد الأشخاص المتعاونين لأجل الصالح العام. لهذا، يشير مصطلح العمران إلى معنى آخر وهو “السكان”، ويستخدم ابن خلدون كثيرا هذا المصطلح بهذا المعنى، فحيث وُجد تعاون بين مجموعة أفراد مهما كان عددهم محدود تحقق العمران، وكلما زاد عدد الأشخاص المجتمعين توسع العمران وتحقق على نحو أفضل، حيث يتوج هذا النمو العددي بالتزامن مع التقدم العمراني بأعلى مستويات التحضر التي يمكن للإنسان الوصول إليها، بينما تنحدر من أعلى قمتها عندما ينخفض عدد الأشخاص المشاركين.
وقد ميز ابن خلدون بين “الصحراء، الحياة الصحراوية” (البدوية) و”المدينة، البيئة الحضرية” باعتبارهما اثنين من البيئات الأساسية التي تُمكِن الإنسان من تحقيق التعاون المشترك وتنمية أنماط النظام الاجتماعي. وتحتاج الترجمة الحرفية الى اللغة الانجليزية لكلمة بداوة الى”صحراء، (البدو)”، إلى بعض التوضيح حيث لا تشير الا جزئيا الى المفهوم الذي قصده ابن خلدون عند استخدامه لهذه الكلمة. ذلك أن ابن خلدون كان معتادا على طبيعة حياة الترحال وكثيرا ما أكد على ضرر الحياة البدوية على أشكال الحضارة الأعلى. وفي هذا الصدد، استخدم مصطلح “بداوة” للتعبير عن حياة الترحال. الا أن في اللغة العربية المستخدمة خارج الجزيرة العربية يطلقون مصطلح “بداوة” على السكان المستقرين بعيدا عن التجمعات البشرية الكبرى، ونجد أن ابن خلدون قد فضّل أحيانا أن يستخدم هذا المصطلح بهذا المعنى. ومن هنا فإن إشارة ابن خلدون الى”الصحراء، البدو” و”المستوطنات، أهل الحضر” كانت دون تفرقة بين حياة الترحال والتحضر باعتبارهما ظواهر اجتماعية. فقد قام بتجميع الرحل والمدنيين المستقرين في جانب وأهل الحضر الذين يقطنون في المراكز المدنية الكبيرة في جانب آخر. فالبدو عند ابن خلدون، ليسوا فقط ساكني الصحراء بل ساكني القرى أيضاً الذين يمارسون الزراعة وتربية الماشية. ومن الجدير بالذكر أن مصطلح “أهل الحضر” عند ابن خلدون لا يحمل نفس المعنى المعاصر المعروف اليوم، فلقد كانت المدن في زمانه تعتمد بشكل كبير على النشاط الزراعي. وبالتالي فالتفرقة بين كل هذه التعريفات تعتمد بالأساس على البعد الكمي لحجم وكثافة التجمعات البشرية.
وهنا يأتي التساؤل: ما أسباب ظهور الاختلافات في حجم التجمعات البشرية؟ نجد أنه إذا كانت جميع العناصر الطبيعية متوفرة بنفس القدر من حيث الكمية والتأثير، فهنا لن يتحقق أي تفاعل أو إبداع أو توليد. وبالمثل إذا امتلك البشر جميعهم نفس الحاجة والدافع الى التعاون، فلن يحدث التنوع والاختلاف في نوعية أو حجم الأنظمة الاجتماعية البشرية. إذن فهناك بالضرورة بعض العوامل وراء ظهور مثل تلك الاختلافات، بما يدفع الى التعاون بين البشر على نطاق أوسع في بعض الحالات دون غيرها؛ وهذا هو أساس نشأة الدول الكبرى.
أطلق ابن خلدون على هذا العامل الذي أدى الى ظهور مثل هذه الاختلافات اسم “العصبية.”[11] أو “إحساس المجموعة”. ولقد نجح مؤلفو المعاجم في إرجاع أصل الكلمة إلى “عَصَبة”، فهي تشير في الأساس إلى معنى “القضية المشتركة بين أهل النسب الواحد،”[12] ولكن أراد ابن خلدون معنى آخر يرتبط بهذه الكلمة وهو “عِصابة” أو اللفظ القرآني “عُصبة” والذي يشير كليهما الى معنى “الجماعة”.[13] فيشعر الإنسان بمشاعر الانتماء إلى الجماعة الأقرب إليه وهي أهله وأنسابه، ولكن قد تتولد مشاعر العصبية بين أناس لا يوجد بينهم صلة قرابة ولكن تجمعهم روابط طويلة من المودة والأخوة العميقة.
إن استخدام ابن خلدون لهذا المصطلح أمر جدير بالملاحظة فلقد كَثُر استعماله في مؤلفات المسلمين بمعانٍ مختلفة. ولقد نبذ الإسلام بصفة عامة العصبية باعتبارها صفة وحالة فكرية، فهي تعني عادةً الانحياز أو بمعنى أدق التأييد الأعمى لجماعة محددة دون النظر الى مدى عدالة قضيتها؛ وعلى ذلك فإن أي فعل ناتج عن العصبية مدان باعتباره إحياء لعقلية الجاهلية الأولى. ولقد كان ابن خلدون على وعي تام للاستخدام الشائع لهذا المصطلح، ففي قول مأثور [14] قام بالتفرقة بين العصبية المذمومة و”العصبية الطبيعية” التي جُبِل عليها بنو البشر والتي يحملها الإنسان تجاه أخيه أو جاره عندما يتعرض لظلم أو قتل، فهي مشاعر جبلّية ملازمة له ولا تحرِمها الشريعة الإسلامية، بل على العكس من ذلك فإنها مشاعر ضرورية ونافعة في الحروب المقدسة والدعوة الى الدين.
ولقد أثنى بعض المؤلفين في كتاباتهم على العصبية باعتبارها صفة محمودة. وقد توصل ابن خلدون الى أن المؤرخ ابن الأثير قد عرّف العصبية في أحد كتاباته على أنها “دعم الجماعة لكل محتاج الى المساعدة أو مطالبا بها”[15] وكان يعلم أيضا أن العصبية قد ينتج عنها مشاعر سامية مثل مشاعر الوطنية، كما أشار الى ذلك ابن الخطيب[16] طالما أنها لا تتعارض مع أمور الدين والدنيا. ورغم هذا فإننا لا يمكن تصور مدى ابتكارية وجرأة ابن خلدون في إضفاء المعنى الإيجابي على ذلك المصطلح، كما أنه لا يمكن الجزم بمدى تأثره بمحيطه الثقافي ومن كان يدعمه في ذلك. وقد أكد الفقه على المكانة المتميزة لرابطة الدم في كثير من الأحوال، ولكن يجب مراجعة ما إذا كانت المؤلفات الفقهية قد ناقشت العصبية في بعدها المجرد [17]. على أي حال ووفقاً لما وصل إلينا، يتضح أن استخدام ابن خلدون لمصطلح العصبية من منظور إيجابي هي الإضافة الفكرية الفريدة والأصيلة في مقدمته.
إن غلبة العصبية يجعل مجموعة محددة في مكانة أعلى من الآخرين وتحدد القائد داخل هذه الجماعة، بحيث يكون العنصر القائد أو الحاكم داخل مجموعة معينة هو في الأغلب ذاك الشخص أو تلك الأسرة التي تنتمي إلى “أهل الغلب” من رحم علاقات القرابة التي تجعلهم الأقوى وأصحاب الحق في استمرار رئاستهم لجميع العصبيات الأخرى. ولا يمكن لأي جماعة أن تحتفظ بزعامتها أو أي قائد بسيطرته إذا اختفت نعرة العصبية المتوارثة الداعمة له.
يمكن للقائد على رأس عصبيته المتمتعة بالقوة والغلبة الكافية النجاح في الصعود إلى السلطان والفوز بالمُلك له ولأسرته. ويقصد ابن خلدون بمصطلح “السلطان” و”الرئاسة” الإشارة إلى الدولة بالرغم من أن المعنى التقريبي لها عادةً هو الأمر والكلمة. [18] ومن مدخل تاريخي يرى ابن خلدون أنه بما أن العالم بأكمله يعتمد على الإنسان، فلا داع إلى المعنى المجرد لمصطلح “الدولة”. توجد الدولة فقط في حالة ما إذا حكمها أفراد مدعمين بجماعتهم، وهذا ما يُعرف بالحكم المتوارث. وعند اختفاء هذا الحكم تنتهي الدولة لوجود تطابق كامل بينهما.
وبالنسبة لابن خلدون، لا تنطبق عملية بناء الدول السابق ذكرها على دولة الإسلام الأولى. فالحقبة التاريخية الأولى للدولة الإسلامية -المتمثلة في الخلفاء الأربعة الأوائل- بمفهومها الخاص للدولة الصالحة تعتبر استثناء عن مبدأ العصبية الذي يعتبر أساسا لتكوين الدول بصفة عامة، فهذه الحالة تمثل إحدى التجليات الإلهية النادرة في شئون البشر. لذا، استطاع ابن خلدون السير على نهج رؤية السلف فيما يخص بداية التاريخ الإسلامي (وعودة الظروف الأولى في حقبة متأخرة في عصر المهدي المنتظر)، فتكلم باستفاضة عن الخلافة ومؤسساتها على الرغم من أنه اعتبرها نموذجاً لا يمكن تعميمه.
ونظرا لحاجة الممالك والدول الى عدد كبير من البشر لقيامها، كان من الضروري ارتباطها بأكثر المراحل تطورا من العمران الذي يصل الى مرتبة الحضارة. ويحتاج الملك بطبيعته إلى تأسيس المدن الكبرى مما يمهد الطريق نحو حياة الترف. إذن وبالاعتماد على أصول النظام الاجتماعي البشري، تهدف كافة أنشطة الإنسان إلى تمكينه من البقاء وتأمين أسباب معيشته. لذا، توجب على كل إنسان المشاركة بجهده الذي يعد رأس ماله الأول لتلبية الاحتياجات الأساسية لجماعته. فإذا وُجدت عصبة كبيرة من البشر وُجدت الأيدي العاملة الوفيرة التي قد تزيد عن الحاجة، وهنا يمكن توجيه قسط محدد من الأيدي العاملة للإنتاج وتوفير الخدمات التي لا تعد من الضروريات بل من “الكماليات”. وأخيراً، تقوم القوى العاملة المتاحة بصقل الحِرَف والصنائع التي تنتج وسائل الترف دوناً عن الاحتياجات الأساسية.[19] فبمجرد الوصول إلى ذلك الطور من الحضارة، يستطيع الإنسان تطوير شتى العلوم حتى تلك التي لا ينتج عنها أي غرض مادي أو منفعة فورية ولكنها تمثل إشباع لتطلعات الإنسان العليا في المجالات الروحية والفكرية.
يحمل هذا التطور نحو حياة الترف في طياته عقوبة هي الانحطاط والتردي. فالبساطة البدائية وخشونة الطباع (المعروفة “بحياة البداوة” و”طباع البداوة”) التي ميزت الجماعات البشرية الصغيرة تتآكل بتأثير الترف. [20] ومن الواضخ أن ابن خلدون كان لديه إعجابا عاطفيا بالأيام الجميلة القديمة التي تشبعت فيها الحضارة العربية بالبيئة الصحراوية، لكنه أدرك تمام الإدراك غلبة الحضارة، والتي تمثل الغاية وراء كافة جهود الإنسان في سعيه نحو التحضر، وبالتالي فقد أذعن للمآل الحتمي لهذا التطور.
الضحية الأولى لهذا التوجه المحتوم نحو الترف هما الدولة والسلطان. وللممالك مثل الإنسان دورة حياة طبيعية، حيث تمتد دورتها الكاملة إلى ثلاثة أجيال منتقلةً من الظلام إلى القوة والغنى ثم إلى الظلام مجدداً. وتساهم ثلاثة عوامل مترابطة في تحقيق هذا التطور والدفع السريع الى شيخوخة الممالك، وهم الانغماس في الترف وضياع العصبية والاضطراب المالي.[21] إن رغبة الفئة الحاكمة في السيطرة الكاملة على جميع مصادر القوة والثروة أدت إلى توتر العلاقات واحتدام الصراع بين السلطان وأصحاب العصبية، وقد استدعى هذا الصراع اللجوء الى دعم عسكري خارجي بالإضافة الى الأموال اللازمة لتمويل ذلك. وإضافةً إلى ذلك، أدى تزايد إدمانهم للترف زيادة حاجتهم إلى المال، ولتوفير هذه الأموال ترفع الضرائب وتستحدث مصادر جديدة للدخل. وأخيراً، نصل الى نقطة تناقص العائدات من جباية الضرائب ومن الإيرادات الإضافية الأخرى.
وقد اهتم ابن خلدون -بصفته قاضياً- بمجال الأعمال والنظام المالي للدولة. وتعكس كتابات المسلمين المتوارثة في المجال القانوني والاقتصادي المكانة العملية الكبيرة لهذه المجالات وإسنادها الى النشاط القضائي، ولكن يسيطر على هذه الكتابات الآراء النظرية وتميل بشكل كبير إلى اتباع الأساليب التقليدية كما أنها تبتعد عن تفصيل المعلومات حول الجوانب المتعددة للحياة المالية والاقتصادية اليومية التي دائماً ما تجذب انتباه أهل المحاماة والقضاء وتثير المناقشات داخل الأوساط الأكاديمية القانونية. وقد التزمت الصيغ المكتوبة للقضايا القانونية بالمسارات النظرية؛ أما المسائل العملية في المجال الاقتصادي والمالي فلم تكن جديرة بتناولها في مؤلفات. ولهذا فاهتمام ابن خلدون في مؤلفاته بالقضايا العملية أبرز جرأة مبهرة، فقد نجح في إعطاء صورة للدور الذي يلعبه رأس المال والعمل في المجتمع، ولا يعود الفضل في ذلك فقط الى فطنته بل هو شاهد على المستوى المرتفع الذي وصلت اليه الأوساط القانونية في زمنه فيما يخص هذه القضايا.
وتفقد الدولة القدرة على التحكم في مصيرها خلال اندفاعها السريع نحو الهِرَم والانهيار الأخير، وفي هذه الحالة عادةً ما يصبح الحاكم حاكماً صُورياً خاضعاً لشخص من خارج الأسرة الملكية يمارس السلطة الفعلية. وعلى الرغم من ذلك، فإن سلطة هذا الدخيل محدودة طالما لا تسانده العصبية، وبالتالي فإنه لا يمكنه الاستيلاء على كامل السلطة. وأخيرا قد يتمكن من إقامة سلطانه الخاص على أنقاض الملك المنهار مدعما بعصبية جديدة.
ويدور تاريخ الممالك في دوائر، فعند اقترابها من الهِرم تتقلص تدريجياً نحو الداخل متجهةً الى مركزها تحت الضغط المستمر الذي يفرضه القائد الجديد “الدخيل” وجماعته، وينتهي الأمر بسقوطها. عندئذ يؤسس القائد الجديد وعصابته دولة جديدة تتولى حكم البلاد لتلاقي بعد عدة أجيال مصير أسلافها.
وهنا تظهر معضلة أخرى. كيف يمكن تفسير نجاة أي حضارة عظمى في ظل تلك الظروف؟ في المقام الأول، هناك الانجذاب الحتمي للمستضعف الى الحضارة الأرقى، فالشعوب المهزومة لديها ميل قوي لتقليد عادات مستعمريها بكل تفاصيلها. فأثناء محاربة الدولة القائمة وخلال المرحلة الأولى من حكمهم بعد الفوز بالملك، تتبنى الجماعات الأقل تحضرا بعض المميزات الحضارية للدولة الحاكمة، إذن فهم لا يبدأون من نقطة الصفر ولكن يتم الاحتفاظ ببعض مكتسبات الحضارة السابقة. ولقد أجاب ابن خلدون عن التساؤل الخاص بكيفية استمرار الحضارات الكبرى من خلال مصطلح “المَلَكة” وهي الترجمة الحرفية لكلمة إغريقية، والتي تُرجمت إلى اللغة اللاتينية بكلمة (Habitus) المشتق منها الكلمة الإنجليزية (Habit). [22] فمن خلال التكرار المستمر يمكن للفرد إتقان حرفة أو علم ما حتى تصبح ملكته الخاصة، وهذا يفسر إتقان العرب الأوائل للغتهم واكتساب الأجيال المتأخرة تلك “المَلَكة”. فبمجرد اكتساب الفرد مَلَكة حرفة أو علم معين يصبح من الصعب بل قد يكون من المستحيل له إتقان حرفة أخرى؛ حيث تبقى هذه المَلَكة الأولى ملازمة له طوال حياته. وبما أن اكتساب المَلَكة تحصل بالتعلم، إذن فيمكن نقلها إلى آخرين ممن يسعون الى ذلك، شريطة معرفة الوسائل المناسبة للتعليم والتوجيه وضمان عدم تأثر أنشطتها بالاضطرابات السياسية. وبهذا، يمكننا فهم سبب بقاء الحضارات القديمة حتى وإن ظهرت لنا في بعض الآثار البسيطة وفي بعض العادات والممارسات التي يمكن للمشاهد المدرب فقط أن يتعرف عليها كشكل من أشكال البقاء الحضاري.
في البيئة السلفية التي عاش فيها ابن خلدون كان يعتقد أن القوة الفكرية للإنسان ثابتة وقادرة على إنتاج أرقى الحضارات في أي زمان كان. لذا، لم يكن بمقدور ابن خلدون تصور إمكانية أو ضرورة تحقيق تقدم منتظم في الحضارة الإنسانية. ولكن انتشر مفهوم آخر في عهده، حيث اُعتقد أن الأمم السابقة كانت تتمتع بقوة جسدية ساعدتها على بناء عمران مادي أكثر تحضراً ورقياً من الأمم المعاصرة. وقد قام ابن خلدون بدحض هذه المقولة بكل قوة، فمن وجهة نظره أن ضعف النظام السياسي وسلطة الدولة أعطى معاصريه انطباعاً بأن العمران في زمانهم أقل تحضراً من الأمم السابقة. ففي فكر ابن خلدون لا يوجد فرق جوهري بين إمكانيات وإنجازات الأجيال المتتالية بسبب طبيعة حركة الحياة السياسية والثقافية في حلقات متكررة لانهائية.
وبعد هذا الاستعراض الموجز لبعض الأفكار الرائدة التي تناولتها المقدمة، يمكننا أن نتساءل عن مصادر الإلهام والمعلومات التي استعان بها ابن خلدون لبناء هذا التصور الشامل عن المجتمع الإنساني. لقد أقر بنفسه أنه اعتمد اعتماداً كبيراً على مؤلفات المسلمين حول الحكم السياسي بالإضافة إلى نصائح الملوك والأمراء المعروفة في الألمانية باسم “”Furstenspiegel. ولقد استعان بالتحديد بالأحكام السلطانية للماوردي الذي يتضمن معلومات أساسية عن القانون والإدارة، بالإضافة إلى مؤلف الإمام العلّامة الطرطوشي الأندلسي في مرايا الأمراء، والذي يعد عملا متواضعا بالمقارنة بمؤلفات أخرى في نفس المجال الا أنه يحتوي على بعض المواد المفيدة. ويبدو أن إحالات ابن خلدون إلى هذين المرجعين كانت من الذاكرة؛ فبالتأكيد كان عالما بمحتوياتهما ولكن من الواضح أنه لم يعد اليهما وقت تأليف المقدمة. وإضافةً إلى ذلك النوع من الكتابات الذي أكد على تأثيرها عليه،يقوم ابن خلدون غالبا بالإشارة إلى مصادر معلوماته.
ويدين ابن خلدون بكثير من أفكاره الرائدة ومعظم مادته العلمية الى مدارسته القضاء ومناقشاته للمسائل القانونية مع أساتذته وتلامذته وزملائه التي ساهمت بوضوح في إثرائه، إلا أنه لم تحفظ مادة تلك المناقشات الشفهية فلا يجدي البحث عنها. فكما ذكرنا آنفا، تتميز مؤلفات المسلمين في مجال القضاء بأنها نظرية الفكر تقليدية الصياغة؛ بالإضافة إلى أن المخطوطات الأدبية عامةً اتبعت نهج الانتقائية والحذر من إدخال تخصصات أو موضوعات مستحدثة. فكل مؤلَف جديد يجب أن يكرر كل أو معظم المواد المعروفة مسبقاً وإلا يكون مآلها الضياع. لكل هذه الأسباب، لا نتوقع أن نجد أصداء للمناقشات الشفهية التي دارت بين ابن خلدون وأصدقائه أو بين أهل القانون في أزمنة أخرى.
وإضافةً إلى ذلك، وبسبب الظروف التاريخية المعروفة، نجد أن حجم المؤلفات العربية التي وصلت الينا من إسبانيا وشمال غرب إفريقيا أقل بكثير نسبياً من مؤلفات مسلمي الشرق. فنحن نعرف قليل جدا من مؤلفات هذه المناطق الغربية خلال زمن ابن خلدون أو ما سبقه مباشرةً.[23] وفي ظل هذه الظروف، ربما وجب تفهم الافتراض القائل أن كل موضوع مفصل في المقدمة لم يكن غالبا من بنات أفكار ابن خلدون ولكنه قد تم التعبير عنه في مؤلفات أخرى سابقة. فوصفه للعصبية على أنها عامل إيجابي في المجتمع أو طلبه معرفة الظروف الاجتماعية كشرط مسبق لتقييم المعلومات التاريخية تقييما صحيحا قد يبدو من وحي أفكاره الخاصة، إلا أنه ربما يكون قد استوحى هذه الأفكار من مصدر لم يتم اكتشافه بعد.
لا تسمح هذه الأدلة بنسبة قدر كبير من أصالة الأفكار إلى ابن خلدون، لكنه كان على حق في وصفه المقدمة على أنها عمل أصيل يؤسس لمسار جديد في البحث العلمي؛ فأصالتها من الناحية الفكرية جليّة. فقد تفردت المقدمة بإعادة تقييم كل التصورات الفردية عن التقدم العمراني والحضاري، وقد أتمت هذا بنظرة شمولية وتفصيلية ببصيرة سليمة، وخاصةً من خلال اعتبار كل شيء مسخر للنظام الاجتماعي الإنساني.
وسيظل التساؤل حول سر تبني ابن خلدون لهذه الفكرة بلا جواب شافٍ، إلا إذا توصلنا الى معرفة عمل العقول الإبداعية الفذّة. لقد منحته ظروفه الحياتية المؤهلات اللازمة لكتابة مؤلف مثل المقدمة بالإضافة إلى عوامل أخرى هيأت البيئة الصالحة لخروجها إلى النور. وبالفعل فقد استعان ابن خلدون ببعض النماذج مباشرةً من التاريخ المعاصر، ويتضح هذا عند مقارنة المقدمة بكتاب الأمير “II Principe” لمكيافيلي (على الرغم من اختلافهما الشديد في المجال والهدف مما يجعل من الصعب ذكرهما معا). فكتاب الأمير مليء بأحداث معاصرة شهدها المؤلف بنفسه، في حين أن اسلوب ابن خلدون قد تميز بسرد الأدلة الاستنباطية لا الاستقرائية. بالإضافة الى ذلك فكونه ممارسا للسياسة شعر بضرورة الحذر في تفسير الأحداث المعاصرة في حياة محدثيها الأساسيين أو في عهد خلفائهم، لكنه تمتع بخبرة سياسية واسعة وقدرة كبيرة على استعراض الأحداث التاريخية المعاصرة التي يشهدها إقليم الشمال الغربي لإفريقيا بتجرد المنظر الأجنبي الذي يقارن أوضاع هذا الإقليم بعظمة وطنه الأندلس.[24]
ولكن من المؤكد أنه كان هناك آخرون، وربما الكثير منهم، الذين عاشوا الظروف ذاتها لكنهم لم يؤلفوا مقدمة كتلك. ولا يمكننا الا أن نعترف بأن هذا شخص يمتلك عقلية فذّة استطاع بها المزج بين الفعل والفكر، وكان وريثا لحضارة عظيمة ومواطن في بلد تتمتع بتراث تاريخي حي، وقد أدرك هذا الشخص كل هذه المنح والفرص المنبثقة من مكانته التاريخية عبر مؤلف وُضع ضمن أهم النجاحات البشرية.
ترجمة:
رحاب جمال بكري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] في شارة اختتام الفصل الثالث (أ) “نهاية الجزء الأول من المقدمة“، وفي شارة اختتام الفصل الرابع (د) باعتباره “الفصل الرابع لمقدمة التاريخ“. انظر أيضاً ص 10، في الفصل الأول و11 أدناه.
[2] الآراء حول أسلوب “المقدمة” ولغتها.
[3] قارن كتاب فرانز روزنتال ” “The Technique And Approach Of Muslim Scholarship(Analecta orientalia، رقم 24) (روما، 1947)، ص 37 وما يليها
[4] قارن سيرة ابن خلدون الذاتية ““Autobiography” ص 73؛ وكتاب والتر فيشل جوزيف، Ibn Khaldun and Tamerlane، ص 87 وما يليها (ترجمه محمد توفيق بعنوان “لقاء ابن خلدون لتيمورلنك).
[5] قارن رباعية بطليموس “TETRABIBLOS“2، تحقيق وترجمة فرانك إيجلستون روبنز (Loeb Classical Library ) (جامعة كامبريدج، ماساتشوسِتْسْ – لندن، 1940).
ومقال ألفرد فن كريمر بمجلس الأكاديمية النمساوية للعلوم ” Ibn Chalddn und seine Kulturgeschichte der islamischen Reiche, Sitzungsberichte der k. akademie der wissenschaften zu wien XCIII (1879), 589 ff,”، بالإشارة إلى الجاحظ. قارن أيضاً رسائل الكِنْدي “ في الإبانة عن العلة الفاعلة والقريبة للكون والفساد” تحقيق: محمد عبد الهادي أبو ريده في” رسائل الكندي الفلسفية” (القاهرة، 1869/ 1950)، الفصل الأول، ص 224 وما يليها.
واستشهاداً بالفترة المتأخرة، على سبيل المثال، يمكن مقارنة كتاب رشيد الدين “تاريخ الغازاني” (نسخة من مخطوطات إسطنبول في دار الكتب المصرية بالقاهرة، تاريخ 1889، ص 41): يوجد في كل ولاية سكاناً يعيشون في المدن والصحاري البعيدة وخاصةً في البلدان التي تذخر بالمروج والمراعي والمياه الوفيرة والمراعي الواسعة والتي ليس بها توزيع متساوٍ لرقعة الأراضي المزروعة.
[6] قارن رسالة ابن أبي زيد، ترجمة ومراجعة ليون بيرشر (الجزائر، Bibliothèque arabe-française، 1949)، ص 820 وما يليها. وقد تلقى ابن خلدون إجازة في “الرسالة” على يد الوادي آشي وابن عبد السلام؛ قارن كتاب السخاوي “الضوء اللامع“، 9، 241.
[7] ولقد استشهد القابسي، أحد علماء المالكية بالإقليم الشمالي الغربي لإفريقيا بقول ابن مسعود الذي عاش في القرن السابع: ” يحتاج الإنسان إلى ثلاثة أشياء: (1) حاكم يحل النزاعات وإلا سيفترس كل واحد الآخر…” قارن كتاب أحمد فؤاد الأهوانى (“التربية في الإسلام“) الملحق به التعليم في رأي القابسي (القاهرة، 1864/1945)، ص 270.
[8] قارن طبعة ماكس هورتن Die Metaphysik Avicennas” (هالي، نيويورك، 1970). ص 678 وما يليها، لكتاب الشفاء وكتاب النجاح لابن سينا (روما، 1598)، ص 84. للاطّلاع على مصادر المؤلفات الإغريقية والعربية في هذا الصدد، انظر كتاب دافيد سانتيلانا ” Istituzioni di diritto musulmano malichita” (روما، 1926-88)، الفصل الأول، 10 (57). تم الاستشهاد بقول ابن تيمية الموجز في كتابه “الحسبة في الإسلام” (القاهرة، 1818/1900/1901)، ص 8 بالإضافة إلى قول ابن خلدون في مقال هاميلتون الكسندر روسكين جيب في مجلة كلية الدراسات الشرقية بجامعة لندن(“The Islamic Background of Ibn Khaldin’s Political”, Bulletin of the School of Oriental Studies, VII (1933), 23-31)
[9] رسائل الشجرة الإلهية للإمام الشهرزوري من مخطوطات إسطنبول، قصر طوب قابي “Ṭopḳapu Sarāyı”، السلطان العثماني أحمد الثالث، 501 (أ).
[10] قارن كتاب مجد الدين ابن الأثير، النهاية (القاهرة، 1822/ 1904) الجزء الرابع، 221؛ لسان العرب (بولاق، 1800-1808/1882-90)، الجزء العاشر، 270. وقد تم إضافة بعد الاقتباسات من كتب التراث التي تنقل قول أحد الخلفاء العثمانيين عن أن السلطة الرادعة التي تفرضها حكومة الدول تعد ذات أثر أبلغ من الأحكام القرآنية في نفوس أغلبية الرعية، وقد سبق هذا القول كتاب عبد الله البغدادي في القرن التاسع الكُتّاب وصفة الدواة والقلم وتصريفها والذي عُني بنشره وتحقيقه دومينيك سورديل ونشره في مجلة (Bulletin d’Etudes Orientales, XIV (1954), 142)، دمشق. وقد طبّق أبي الحسن محمد بن يوسف العامري هذا القول على النظرية السياسية في القرن العاشر عبر كتابه الإعلام بمناقب الإسلام ]المخطوطات، إسطنبول، مكتبة راغب باشا 1463، وما يليه 18 (ب)[. قارن (The Islamic Quarterly, III (1956), 51). ففي كتاب المؤلف الأندلسي ابن بسّام الذي كان يعرفه ابن خلدون أشار إلى أن هذا القول منسوب إلى الحسن ابن أبي الحسن البصري ( تقريباً 728). وقارن رائعة ابن بسّام الذخيرة (القاهرة، 1861/1942)، م 12، 9. وتعد الوزعة (جمع وازع) كمسئول الغياب في المدرسة الذي يبحث عن المشاغبين كما ورد في حكاية من حكايات كتاب الأغاني (بولاق، 1285/ 1868)، 18، 124. وقارن كتاب الشريشي شرح مقامات الحريري (القاهرة، 1806/ 1889)، 1، 148.
ولم يشر المؤلفون الأوائل إلى الشخص الذي يحمل في جنبيه الوازع باستخدام “وزع” بل استخدموا كلمات مشابهة مثل “وعظ” و”زجر”؛ قارن كتاب الجاحظ البخلاء (القاهرة، 1948)، ص 178؛ ترجمة تشارلز بيلات (بيروت وباريس، 1951)، ص 274؛ والماوردي الأحكام السلطانية (القاهرة، 1298/1881)، فصل 16، ص 180. يقول الماوردي أن العلماء كانوا يجاهدون أنفسهم “فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَاجِرٌ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ لَا يَتَصَدَّى لِمَا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ” فلا يجلسون في مجالس العلم والفُتيا ما داموا ليس أهلاً لها. وفي إشارة الغزّالي في كتابه إحياء علوم الدين (القاهرة، 1852، 1988)، الجزء 3، 10، بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه” (إسناده جيد). ولقد ذكر ابن خلدون، اقتداءً بأساتذته، “زاجر من نفسه”، ص 452، 1-12 أدناه.
[11] كان لفظ العصبية محل جدل بين العلماء المعاصرين. وقد ننشر هنا فقط ما نشره فرانشيسكو غابرييلي “
(“Il Concetto della asabiyyah nel pemsiero storico di ibn haldun“, Atti della R. Accademia delle scienze di Torino, Classe di scienze morali, storiche e filologishe, LXV (1930), 473-512)؛ والعالم المعاصر جون ريتر ( in Oriens, I (1948), 1-44 “Irrational Solidarity Groups, a Socio-Psychological Study in Connection with Ibn Khaldun,” ).
[12] قارن لسان العرب، 2، 96.
[13] فرانشيسكو غابرييلي، ص 474 (1).
[14]كتاب العِبَر، 3، 8.
[15] قارن كتاب العِبَر، 5، 237، وبعده الكامل لابن الأثير (القاهرة، 1802/1885)، 11، 49، عام 541.
[16] الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب، 1، 7. وقارن أيضاً 1، 100. ويرد في مختار الحكم للمبشّر (الذي لم ينشر بعد بنسخة مترجمة) مفهوم العصبية من المنطلق ذاته. قارن كتاب فرانز روزنتال، (“Arabische Nachrechten Uber Zenon den Eleaten,” in Orientalia, N.S. VI (1987), 88 f.)). ولقد ورد المزيد من الأمثلة عن العبية المحمودة في كتاب الياقوت إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، طبعة مرجليوث (E. J. W. Gibb Memorial Series, No. 6) (لايدن ولندن، 1907-27)، 1، 77؛ 157؛ (القاهرة، 1355-57)،2، 129؛ 5، 155؛ ولكن في مثل هذه الحالات كانت كلمة “تعصب” أكثر رواجاً.
[17] قارن ديفيد سانيلانا، (Istituzioni di diritto musulmano malichita“, II, 541”): “… ’اشُتقت كلمة عصبة من “عَصَب” والتي تعني الاجتماع والحماية،’ لأن حسب ما يراه القضاة فإن العصبية تحمي الإنسان وتقويه.”
[18] تحمل كلمة الأمر معانٍ عديدة من أبرزها “الإمارة أو الرئاسة” و “الشئ”. وفي هذا السياق، قد تشير كلا من “الأمر” و”الكلمة” إلى معنى “الأمر كله.” شاع استخدام لفظ الكلمة في مؤلفات المسلمين بالمقصود ذاته. وقد استعارت هذا المعنى من لفظ “كلمة” التي قد تعني “شيء،” وهو تغيير في المعنى المستخدم في اللغات السامية الأخرى. لهذا، تُرجمت “كلمة” في الصفحات التالية إلى “the whole thing” أي قصد بها معنى “الأمر كله”
[19] .المراحل الثلاثة للتطور البشري التي وضعها ابن خلدون: الاحتياجات والكماليات والرفاهيات بما يعادل الخطوات الستة التي وضعها فيكو: “يشهر الإنسان أولاً بالحاجة ثم يبحث عن سُبُل الراحة ثم يكن إليها وبعد هذا يمتع نفسه بالملذات ثم ينغمس في الرفاهية حتى يتحول إلى طور الجنون فيضيع.” قارن كتاب جيامباتيستا فيكو، (The New Science, tr. T. G. Bergin and M. H. Fisch (Ithaca, N. Y., 1948), p. 70.)). وقارن الأطوار الخمسة في حياة الدولة التي وضعها ابن خلدون.
[20] اتفق فيكو مع ابن خلدون (المصدر السابق): “إن طبائع النفس البشرية تتحول من الوحشية إلى خشونة (البداوة) ثم إلى رقة (الحضارة) فاللين حتى تصل إلى الدعة والترف.” إن المبشر بن فاتك صاحب كتاب مختار الحكم، الذي يضم مجموعة مختارات أدبية لمأثورات الحكماء القدامى، وهو ممن ذاع صيتهم في الأندلس حتى وإن لم يكن في زمن ابن خلدون بقرن سبق على أي حال، قد أنسب القول التالي إلى أفلاطون (مأثورات أفلاطون رقم 400 المقتبسة من طبعتي الخاصة لكتاب المختار):
“يتمير طابع الدول العظمى بالخشونة في أول نشئتها حتى تتمكن من التأقلم مع الوقائع والسير على النهج الإلهي والسلطة المدنية. وتتجه في طورها الأخير نحو فنائها ]؟[ عندما تنعم بالأمن، حيث يعيش جيلها الأخير في نعيم الترف المتوارث حتى يصل بهم الحال إلى الانغماس في حياة السعة والرخاء بفضل الأوائل، فيركنون إلى حياة الترف حتى إذا احتاجت إليهم الدولة اثّاقلوا متأثرين بالأحداث التي عاصروها حتى وهنوا وفقدوا القدرة على الدفاع عن أنفسهم ضد هجمات المعتدين. فعند تحقق هذا، تتضاعف قوة الدولة عند مواجهة أول اعتداء عليها. فالدول مثل الفاكهة: صلبة للغاية حتى يصعب أكلها في بداية طور النمو حتى تصل إلى الاعتدال في طور النضوج. فما إن اكتمل نضحها تصبح لذيذة المذاق، ولكن في هذه المرحلة الدول مثلها مثل الفاكهة تصل إلى طور العفن والتغيير.”
[21] قارن قول أفلاطون في كتاب المبشر بن فاتك مختار الحكم، مأثورات أفلاطون رقم 148؛ وقارن كتاب هاينريش نوست (Mitteilungen aus dem Eskuroial (Bibliothek des Litterarischen Vereins in Stuttgart, No. 141) (Tubingen, 1879), p.224)):
تمر الدول في بداية نشأتها بمرحلة الطفولة حتى تصل إلى مرحلة الشباب ثم الهِرَم. فعندما يكون دخل الدولة أكبر من دخل الحاكم والمستخلفين تكون هذه الدولة في مرحلة الطفولة (أي التأسيس) الواعدة. وحينما يتساوى الدخل مع الاحتياجات تكون الدولة قد وصلت إلى مرحلة الشباب (طور العظمة). وفي حال أصبح الدخل أقل من احتياجات الدولة، انتقلت الدولة إلى مرحلة الشيخوخة (طور الهِرَم).
[22] قارن كتاب سالومون مانك(Mélanges de philosophie juive et arabe (Paris, 1859), p. 450 (n. 1)) . استخدم ابن خلدون كلمة “مَلَكة” كمصكلح فني قاصداً معنى مختلف وهو “الإمامة.”.
[23] إن نسبة كبيرة من المؤلفات المتوارثة غير معروفة ولم تُنشر بعد.
[24] والتي ذكرت أن ابن خلدون انتقد القاضي أبو بكر في عهد الحفصيين الذي ولد فيه ولم يعبأ بتغيير رأيه.