النزعة الاستهلاكية في المجتمع المصري

النزعة الاستهلاكية

في المجتمع المصري

أ. رضوى منتصر الفقي

خرجت الرأسمالية من رحم “الفلسفة المادية،” أو يمكننا القول إنها كانت بمثابة التطبيق الاقتصادي للأفكار والمبادئ المادية التي لم تكن مجرد توجهات فلسفية نظرية بل امتد تأثيرها ليطال نمط الحياة والروابط الاجتماعية لتصبح إحدى ركائز الحضارة الغربية التي تقوم على الإيمان بأن هناك عنصر واحد لتفسير الحياة ونشأة الكون وهو المادة. فالمادة هنا هي أساس الوجود، وهي الحقيقة المطلقة الوحيدة وما عداها (مثل الروح والمطلقات والغيبيات) يعتبر ثانويا أو لا وجود له.

وقد استطاعت الأفكار الرأسمالية أن تعيد تشكيل الإنسان الحديث، وأن تجعل منه كائنا ذا بعد واحد، تتراجع لديه الأبعاد القيمية والروحية لصالح أفكار الرفاهية والإشباع المادي. كما نجحت في ربط السعادة بالاستهلاك المادي، فأصبحت كل زيادة في الاستهلاك والاستمتاع المادي مؤشرا لتحقيق درجات أعلى من السعادة. وأخيرا نجحت الرأسمالية في إقناع الإنسان المعاصر بأن حاجاته غير محدودة، وانطلقت من خلال هذه القناعة لخلق حاجات جديدة لا أهمية فعلية لها، ثم حولت هذه الحاجات المفتعلة إلى ضروريات لا غنى عنها، فخلقت كائنا مستهلكا بامتياز.

هذا التشكيل الجديد للإنسان ولنمط حياته يتعارض تماما مع الرؤية القيمية للإنسان المسلم، القائمة على التوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي، دون طغيان لجانب على الآخر، من أجل الوصول إلى الطمأنينة والهدوء النفسي. كما أن ربط السعادة بالإشباع المادي فقط كما تصوره الرؤية المادية هو في إطار الرؤية الإسلامية انحراف كبير، فالإنسان بتبنيه الرؤية المادية للسعادة يدخل في دوامة لا قرار لها، ويعيش لاهثا وراء تطلعاته الاستهلاكية المتجددة دوما. وهو في ذلك لا يشعر بالسعادة ولكن بإشباع لحظي يليه شعور بالقلق والضيق بفعل تجدد حاجته المستمرة للمزيد من المال للحصول على المزيد من السلع. هذه الدائرة المفرغة من الاستهلاك، والسعي لكسب المال، ثم المزيد من الاستهلاك، لا تؤدي يقينا إلى سعادة.  

وقد اكتسحت ظاهرة المجتمع الاستهلاكي دول العالم في وقت قصير نسبيا، واعتمدت في سرعة انتشارها على التطور التكنولوجي وما ارتبط به من طفرة إنتاجية كبرى خلقت أسواقا تروج للسلع المتراكمة. وكانت بداية ظهور ما يعرف بالمجتمع الاستهلاكي في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ثم في دول غرب أوروبا بعد أن انتهت مهمة إعادة إعمار الدول التي دمرتها الحرب، ولم تسلم دول العالم الثالث الفقيرة من النزعة الاستهلاكية، وحتى الدول التي كانت نظمها تتبع التوجه الاشتراكي لم تستطع المقاومة، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي، كما اجتاحت ظاهرة المجتمع الاستهلاكي الصين — أكثر الدول شيوعية وتحفظاً على المستوى السياسي— والتي لم تستطع الصمود أمام النهم الاستهلاكي، بل وأصبحت مساهمة في تغذية النزعة الاستهلاكية في سائر دول العالم بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها. فأصبحنا أمام ظاهرة شبه حتمية، لا يمكن تصور مسار محتمل للتاريخ بعيدا عنها.

وقد شكلت النزعة الاستهلاكية الذهنية العامة ونمط حياة السائد في المجتمعات المعاصرة، فحلت علاقات السوق التعاقدية محل العلاقات التراحمية بين أفراد المجتمع الواحد، بل بين أفراد الأسر المترابطة، وأصبحت الاعتبارات المادية تهيمن على تصرفات الأفراد، وتنحي كافة العوامل المعنوية والإنسانية جانبا، كما طغى الاستهلاك على أمور كانت منذ عهد قريب ذات أهمية معتبرة مثل الاستمتاع بالطبيعة أو بناء علاقات اجتماعية جديدة. وظهر ما يعرف “بالاستهلاك المظهري” الذي يعتمد على استهلاك السلع باهظة الثمن ليس لجودتها أو لكونها تشبع حاجة لدى الإنسان، بل لسعرها المرتفع الذي يجعل الفرد يشعر بالهيبة والقدرة على التباهي. ومن هنا اكتسب الاستهلاك — في حد ذاته — قيمة يقاس من خلالها مركز الفرد الاجتماعي، وأصبحت قدرة الفرد على مواكبة الموضة، وتغييره المستمر للسلع التي يمتلكها بطاقة قبول له في الطبقات العليا للمجتمع.

وقد أدى اللهاث وراء حيازة السلع والخدمات إلى تراجع الجانب الأخلاقي والديني لدى الأفراد نظرا لسيادة المرجعية المادية في المجتمع، فأصبح من الملحوظ ضمور البعد القيمي والروحي لدى الأفراد. وهنا يمكننا استحضار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته: “.. وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها…”. (البخاري) وحديثه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه: “…فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم”. (البخاري). وفي هذه الورقة نحاول تتبع بدايات ظهور النزعة الاستهلاكية في المجتمع المصري، ورصد تبعات هذه الظاهرة على هيكل المجتمع وتماسكه وعلاقات أفراده.

الانفتاح الاقتصادي والنزعة الاستهلاكية في مصر:

قبل أن تطرق النزعة الاستهلاكية أبواب المجتمع المصري، كانت الدولة تعتمد على نموذج التخطيط المركزي وبموجبه كانت الدولة تتحكم في كافة الأنشطة الاقتصادية، وكان الهدف من هذه السياسة هو تحقيق العدالة الاجتماعية والتقريب بين الطبقات وحماية المستهلكين من سطوة القطاع الخاص، وعلى الرغم من العيوب والأخطاء التي صاحبت التطبيق العملي لهذه الأهداف، إلا أن التجربة في المجمل استطاعت تحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي في المجالين الزراعي والصناعي، وكان لها الفضل في تشكيل منظومة قيمية ونمط حياة خاص في هذه المرحلة التي لم تكن قد عرفت بعد السباق الاستهلاكي والتوحش المادي العالمي.

على سبيل المثال كان التعليم وتحصيل المعرفة أولوية وهدفا لمعظم الأسر المصرية بعد أن طبقت سياسة مجانية التعليم، وكان استكمال المراحل التعليمية المختلفة والالتحاق بالجامعة وتولي وظيفة حكومية غاية خريجي الجامعات، لما تكسبه لصاحبها من شأن في المجتمع، كما اعتبر العمل وبذل الجهد هو المصدر الأساسي للكسب المشروع مما أدى إلى ارتفاع قيمة الفرد صاحب العمل (حتى البسيط منه) في المجتمع.

في هذه المرحلة أيضا تقاربت الفوارق بين الطبقات إلى حد كبير، وكان حجم الطبقة الثرية محدودا، في الوقت الذي اتسع فيه حجم الطبقة الوسطى، وكانت السلع والخدمات التي يحصل عليها المستهلكون واحدة تقريبا، ويرجع ذلك إلى انغلاق المجتمع عن العالم الخارجي، والاعتماد في أغلب الوقت على المنتج المحلي، بل وكان ما يرتدونه من ملابس متشابها إلى حد كبير، فمعظم الأقمشة كانت من إنتاج المصانع الوطنية، حتى أماكن التنزه كانت واحدة وتحقق المرجو منها، وفي الوقت ذاته كان للعلم والعمل قيمتهما، فلم لا يشعر العامل والموظف والمزارع بالعجز والحرمان أمام الطبقة الغنية بل ظل المجتمع يحترم مجهوداتهم وإسهامهم.

بعد حرب أكتوبر 1973 بدأ النظام يتحدث عن معاناة المصريين وما عايشوه من فترات طويلة من الضغط الاقتصادي والأزمات الطاحنة في ظل الاشتراكية، واضطرارهم للوقوف ساعات طويلة في طوابير الجمعيات الاستهلاكية لشراء السلع الأساسية، وتكدسهم في المواصلات العامة، وبدأ الترويج لسياسة الانفتاح الاقتصادي التي كانت السبب في تحقيق دول العالم معدلات نمو اقتصادي عالية في الوقت الذي كان فيه المصريون منغلقين على أنفسهم ومنعزلين عن العالم، على غير دراية بما يحدث فيه.

شرعت مصر في تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي منذ منتصف السبعينات، وفُتح الباب أمام الاستثمارات العربية والأجنبية للعمل بحرية في مصر لتنشيط المشروعات الصناعية ودفع القطاع الخاص للعمل بالسوق من أجل بناء مصر الحديثة ومواكبة التطورات الدولية والتغيرات العالمية ودفع عجلة النمو وتحديث الاقتصاد المصري.

ومع بداية تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي تسللت قيم السوق في هدوء إلى البنية الأخلاقية للمواطن المصري، فأعيد تشكيل وعيه ومنظومة قيمه، فتم تشجيع الميل الغريزي للمادة والاستهلاك لدى الفرد على حساب الأبعاد القيمية والروحية والإنسانية. ويمكن تلخيص الوضع الاجتماعي في مصر منذ منتصف السبعينيات حتى اليوم في النقاط التالية:

أولا: تم إغراق الأسواق المصرية بالسلع الكمالية، فمع كل يوم جديد كانت تظهر سلعة أو خدمة جديدة تجبر الفرد على أن يظل منخرطا في عملية الاستهلاك دون توقف، فعلى سبيل المثال ظهرت الماركات أو ما يعرف بـ “البراندات” في عالم الملابس، والتي أصبح ارتداؤها علامة على الانتماء للطبقات العليا في المجتمع. أما بالنسبة للأجهزة الكهربائية فقد جعل تطويرها المستمر وإدخال تقنيات حديثة عليها الفرد دائماً في حاجة إلى اقتناء أحدث إصدارتها. حتى المأكولات لم تسلم من التحديث المستمر لها في ظل تنوعها — البيتزا والبرجر والفراخ المقرمشة وغيرها— وجلبت أكلات متنوعة من جميع أنحاء العالم.

وقد تصاعد حب الاستهلاك لدى المواطن المصري بشكل كبير، وأصبح الاستهلاك ثقافة يومية وتقليدا اجتماعيا، حيث تم ربط كل مناسبة يمر بها المرء بسلعة ما، من أعياد الميلاد ومراسم الزواج والإنجاب وموسم دخول المدارس والإجازات الصيفية وعيد الحب وعيد الأم وغيرها، وتسابق التجار لجلب آخر صيحات الموضة من الأسواق العالمية لجذب المستهلك المصري اليها. وتحولت معظم الكماليات إلى ضروريات يشعر الإنسان بحاجة ماسة إليها، ويبحث عن سبل لإشباعها، ويشعر بالحرمان الشديد إذا لم يتحصل عليها.

وقد لعب الإعلام دورا محوريا في تكوين العقلية الاستهلاكية لدى طبقات المجتمع المختلفة، فقام بالترويج لقيم مجتمع المتعة واللذة من خلال الأفلام والمسلسلات التليفزيونية والحملات الدعائية والإعلانية التي سيطرت على أحلام ورغبات الفرد، وقامت بتنميطها تبعا للرؤية المادية الاستهلاكية. وظهر في مصر ما صار يعرف “بمجتمع الفرجة” حيث تحول الأفراد إلى متفرجين سلبيين، خاضعين لسطوة الصور المبهرة، وساعين نحو الاستهلاك بكافة أشكاله، استهلاك السلع واستهلاك الأفكار.

ثانياً: أحدث الانفتاح الاقتصادي تقلبات اجتماعية شديدة في وقت قصير جداً، كانت كفية بأن تهز القيم والثوابت المجتمعية، وتؤدي إلى اختلالات اجتماعية واقتصادية عميقة في المجتمع، حيث ظهرت فئات جديدة على قمة الهرم الاجتماعي، وفي مقابل ذلك تدهورت أوضاع فئات أخرى مادياً واجتماعياً:

فقد واكب صغار التجار وأصحاب المدخرات التوجهات الاستهلاكية الجديدة، وتمكنوا من تحقيق أعلى استفادة من القرارات والتسهيلات الاقتصادية والتجارية، فنجحوا في تحقيق أرباح طائلة من الأعمال التجارية والخدمية عالية الربح وسريعة العائد، مثل المقاولات والمضاربات والسمسرة والخدمات السياحية وخدمات الاستيراد والتصدير، التي أغرقت الأسواق بسلع استهلاكية. ما أفرز طبقة رأسمالية طفيلية تمكنت من تحقيق قفزات سريعة في مستويات الدخول وبالتالي تحسين أوضاعها المعيشية على نحو لا يقارن مع بقية المصريين.

ويمكن القول إن الأسر التي استطاعت أن تجاري الانفتاح الاقتصادي وتنخرط في أنشطته هي التي تمكنت من تحقيق قفزة في مستويات دخلها، أما الأسر التي لم تكن لديها فرصة المشاركة في هذه الأنشطة والاستفادة من امتيازات الانفتاح فقد عانت مما فرضته عليها الأوضاع الجديدة من ضغوط معيشية، وعجزت عن مجاراة الممارسات الاستهلاكية الحديثة، وتزايد لديها الشعور بالعجز في ظل سعيها نحو تقليد ومحاكاة الفئات الأعلى دخلاً.

من ناحية أخرى تزايدت هجرة أعداد كبيرة من العمال والحرفيين لدول النفط ممن مثلت تحويلاتهم النقدية لأسرهم طريقا للصعود الاجتماعي، والانضمام لطبقة أعلى سريعاً دون أن يتطلب الأمر منهم تدرجا وظيفيا أو تنميةً لقدراتهم العلمية. 

كل هذا أدى إلى هزة اجتماعية شديدة، حيث صعدت شرائح اجتماعية في السلم الاجتماعي كان باب الترقي مغلقا أمامها في الماضي القريب، بسبب قلة حظها في التعليم، حاملة معها في صعودها أنماطا ثقافية وسلوكية غريبة على المجتمع لتنخر في صلابة البناء القيمي له، وكان صعودها السريع وتحقيقها لعوائد مالية ضخمة سبيلا لممارستها استهلاكا تفاخريا، استفزازيا في الوقت ذاته للطبقة المتوسطة وباقي فئات المجتمع التي بذل كثير من أفرادها جهودا مبددة واجتازوا مراحل تعليمية لم تغنها شيئا في إطار المعادلة الاجتماعية الجديدة. حيث بدأت الفئة الجديدة التي اعتلت قمة الهرم الاجتماعي بفرض ثقافتها وقيمها الخاصة مما أعاد صياغة المشهد الثقافي والاجتماعي بأكمله.

وقد قامت العديد من الأفلام المصرية بدق ناقوس الخطر حول هذه الظاهرة، وذلك من خلال تسليط الضوء على المشكلات التي أفرزها تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي وتأثيرها المدمر على التركيبة الاجتماعية والثقافية للمجتمع. فنجد على سبيل المثال فيلم “انتبهوا أيها السادة” عام 1980، الذي أراد تنبيه المجتمع والنخبة السياسية والثقافية إلى أن هناك انقلابا في القيم سمح لجامع القمامة غير المتعلم بالتفوق على صاحب العلم وسرقة خطيبته منه، لا لشيء الا لأنه أصبح أكثر غنى من الأخير. كذلك فيلم “سوبر ماركت” عام 1990 الذي استعرض الحياة عندما تهيمن عليها القيم والمفاهيم المادية، وحاول الفيلم أن يكشف سلبيات المجتمع عندما يصبح للمال قيمة تعلو على قيمة العمل والأخلاق والفن الرفيع. في هذا الفيلم سقطت معظم الشخصيات أمام مغريات الحياة المادية ومباهجها الزائفة وقاموا بتقديم تنازلات كثيرة من أجلها، حتى صاروا جميعا جزءا من سوبر ماركت كبير، كل شيء فيه معروض للبيع حتى الأخلاق. ولكن عمل المؤلف في هذا الفيلم على تقديم نموذج البطل الذي قاوم شراسة المادة حتى النهاية، ووقف أمام مغريات الحياة المادية انتصارا لقيمه واحتراما لنفسه. 

ثالثا: كانت سياسات الانفتاح محطة ميلاد لثورة التطلعات في المجتمع المصري، فأصبح القفز من مستوى إلى آخر في استهلاك نفس السلعة هاجسا متسلطا على نفسية الكثير من أفراد المجتمع، وساعد في تأجيج هذه الثورة من التطلعات ظهور تناسب طردي بين مكانة الفرد الاجتماعية ومقدار ونوعية ما يملك من سلع ومقتنيات. فالوجاهة المادية المعبر عنها بحزمة من السلع والخدمات الغالية الثمن وبنمط الحياة المترفة وبأماكن الترفيه الخاصة، اعتبرت حلما لباقي أفراد المجتمع من الطبقة الوسطى والطبقات الأقل دخلا.

فلكي يتفادى الفرد نظرة الآخرين الدونية إليه، عليه أن يسير في عملية الاستهلاك دون توقف حتى وإن أرهقته مادياً أو جاءت على حساب أمور أخرى أكثر أهمية، فالمهم شعوره بالصعود الاجتماعي والانتماء لفئة أعلى اجتماعياً، وهو ما يفسر التغير الذي حدث في المجتمع المصري في عاداته وتقاليده ومناسباته الاجتماعية: فمن المنزل البسيط الذي يسع أفراد الأسرة الواحدة والقريب من سكن بقية الأهل، إلى الفيلات الفاخرة ذات الحدائق الواسعة وحمامات السباحة في تجمعات بعيدة، محاطة بأسوار عالية، لتحقيق اعتبارات الحياة الآمنة مع المتشابهين اجتماعيا وماديا. وهي الظاهرة التي تطورت إلى ما يعرف بمجتمعات الصفوة أو الكومباوندات، التي تعلي ثقافة الانسحاب من المجتمع وتنحاز للطبقة الغنية فيه، فهي ثقافة الانقسام المجتمعي بامتياز، ذلك الانقسام الذي يحول دون تحقيق التجربة المجتمعية المشتركة بين كافة الطبقات، والتي يصاحبها سيادة لمفاهيم القلق من الآخر وفقدان اللغة المشتركة والقيم الجامعة، فتلاشت تدريجيا قيم التراحم والتكافل والتلاحم بين أفراد المجتمع. ويمكن القول إن ظاهرة الكومباندوات تتعارض تماما مع الرؤية القيمية الإسلامية التي تدفع باتجاه العلاقات المجتمعية الأفقية التشابكية التي يسودها التفاعل المتبادل بين كافة أفراد المجتمع بما يترتب عليه إحساس بالأمان.

كما تضمنت التحولات الاستهلاكية تغير نمط الممارسات الاجتماعية التقليدية، فمن الأفراح التي تقام في المنازل إلى الأفراح المقامة في الفنادق خمس نجوم التي يحييها كبار الفنانين مقابل أجور طائلة، إلى المنتجعات السياحية التي يطير إليها المدعوين خصيصا لقضاء ليلة الفرح، والتي تجلب إليها المأكولات المتميزة والورود من الخارج بالطائرات الخاصة، مع بذخ استهلاكي تتبارى فيه كل أسرة لتسجيل إضافة جديدة غير معهودة في أفراح الأقران. وهكذا بعد أن كانت الأفراح تعبر عن لحظة إنسانية يتم فيها التحام الجميع في صورة مبهجة، أصبحت إحدى اللحظات المادية التي يتم فيها استعراض الثروة والتباهي بها.

ولم تسلم الإجازات الصيفية هي الأخرى من هجمة الاستهلاك، فتحول المصيف من شواطئ الإسكندرية التقليدية إلى شواطئ المعمورة والمنتزة ثم العجمي ثم قرى الساحل الشمالي، التي لم تسلم من التسابق الطبقي فيما بينها، فكانت مارينا هي محط أنظار المتنافسين، ثم انتقل التسابق نحو هاسيندا ومراسي وغيرها، وفي كل مرة تغير فيها الطبقات العليا مقصدها الصيفي تتطلع إليه الطبقات الأخرى وتسعى جاهدة لتحقيق حلم جوار هذه الفئات المتميزة في تطبيق سافر لظاهرة المحاكاة في الاستهلاك.

ويجب الإشارة هنا إلى الدور المحوري الذي قام به الإعلام في تغذية هذا التوجه الاستهلاكي المتسارع، من خلال ما يبثه من إعلانات تجذب عين المشاهد بالسلع والمنتجات الجديدة المبهرة، كما ساهمت في ذلك مجموعة الأفلام والمسلسلات التي تتناول قصص درامية تعلي من مكانة صاحب المال بغض النظر عن قيمه وعلمه، فتضفي عليه قدر كبيرا من الأبهة والفخامة والاحترام، في الوقت الذي تصور فيه العامل وموظف الحكومة وأستاذ الجامعة على أنهم أشخاص ضعفاء محدودي الإمكانيات، ينادون بقيم ومثل عليا عفا عليها الزمن. وتستمر معاناة المجتمع من ويلات ثورة التطلعات حتى يومنا الحاضر، بعد أن أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منبرا لعرض حياة من طفوا على سطح المجتمع، وأصبحوا الهدف الوحيد للغالبية هو محاكاتهم والانتماء لهم مهما كان الثمن.

ومما يبقى النزعة الاستهلاكية في حالة من التوهج الدائم والمستمر تلك التسهيلات التي أدخلتها التكنولوجيا الاقتصادية الحديثة، وسهلت من خلالها الاندفاع نحو الاستهلاك دون تردد من خلال أنظمة الشراء بالتقسيط، وما وفرته البنوك من إمكانية الحصول على قروض بنكية تسدد على فترات طويلة، عبر البطاقات الائتمانية وبطاقات المشتريات.

ليس ما سبق سوى نماذج محدودة لما بتنا نعيشه من هوس استهلاكي انطلقت شرارته منذ ما يقرب من نصف قرن، رغبة في حب الظهور وتحقيق الكمال المادي والاجتماعي لقد سيطرت النزعة المادية، وطغت على الجوانب الإنسانية وتحكمت في معظم مظاهر السلوك والقيم في ظل غياب المناخ الأسري والروابط الاجتماعية، فالآباء يعملون جاهدين لزيادة دخولهم إما عن طريق الهجرة للخارج أو الالتحاق بأعمال إضافية بعد ساعات العمل الأساسية، والأمهات خرجن لسوق العمل من أجل توفير الاحتياجات المادية التي لا تنتهي لأسرهن الصغيرة، فتحولت الأسرة إلى وحدة استهلاكية، وأصبح أعضائها بمثابة ماكينة تعمل وتبذل أقصى جهد — على حساب الصحة الشخصية والواجبات الأسرية — لتوفير الكماليات وإشباع النزعة الاستهلاكية، حتى بات من النادر أن تلتف أسرة اليوم حول مائدة طعام واحدة، وهو ما نتج عنه زيادة حالات التفكك الأسري وانحراف الأبناء.

لقد انشغل الفرد باللهاث وراء المادة والاستهلاك، وأصبح مهموما بعقد المقارنات بين دخله ودخل غيره من أقرانه، وبين استهلاكه واستهلاكهم، حتى أصبح من الواجب إعادة الاعتبار للبعد القيمي والأخلاقي في حياة الفرد حتى يستعيد المجتمع توازنه، ويشعر أعضاؤه بالرضا والسعادة الحقيقية.

المراجع:

  1. محمد شفيق وجيهان شعبان وفاطمة رمضان، الأفندية في مصر من محمد علي إلى النيوليبرالية، موقع مصر العربية، 19 يناير 2016.
  2. أمجد السالم، ثقافة الاستهلاك: بين اضمحلال البعد القيمي والروحي وتوحش النزعة المادية، موقع وكالة أنباء براثا، 26 مايو 2019، متاح على الرابط التالي: http://burathanews.com/arabic/studies/350913
  3. محمد عمر، التغيرات الاجتماعية في مصر بعد حرب أكتوبر 1973، موقع المركز العربي للبحوث والدراسات، 8 أكتوبر 2018.
  4. جلال أمين، قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد مبارك، (القاهرة: دار الشروق)، 2012.
  5. رائد جميل عكاشة ومنذر عرفات يتون (محرران)، الأسرة المسلمة في ظل التغيرات المعاصرة، (الأردن: دار الفتح للدراسات والنشر)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2015.
  6. سارة السهيل، ثقافة الاستهلاك وأزماتنا الاقتصادية، موقع رأي اليوم، 1 يوليو 2018، متوافر على الرابط التالي:https://www.raialyoum.com
  7. ياسر عيد أحمد شحاتة، الإصلاح الاقتصادي وثقافة الاستهلاك في المجتمع المصري، مجلة كلية الآداب، جامعة بورسعيد، العدد: 11، يناير 2018.
  8. سعيد المصري، ثقافة الاستهلاك في المجتمع المصري، مجلة قضايا، العدد:19، يوليو 2006.
  9. عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، (دمشق: دار الفكر)، 2002.
  10. جلال أمين، ماذا حدث للمصريين؟: تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945-1995، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب)، 1997.
  11. جلال أمين، العولمة، (القاهرة: دار الشروق)، 2009.
  12. أحمد ثابت وأخرون، الأسرة المصرية وتحديات العولمة، متوافر على الرابط التالي:                 https://www.mobt3ath.com/uplode/book/book-11735.pdf
  13. خالد فياض، ظاهرة الاستهلاك بين التحليل الاقتصادي والتفسير الاجتماعي، موقع SocioAlger، 14 يوليو 2009، متاح على الرابط التالي:                                                                      https://sites.google.com/site/socioalger1/lm-alajtma/mwady-amte/zahrte-alasthlak-byn-althlyl-alaqtsady-waltfsyr-alajtmay
  14. عبد المجيد راشد، سياسة الانفتاح الاقتصادي ونتائجه، موقع الحوار المتمدن، 29 نوفمبر 2006، متوفر على الرابط التالي: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=82061&r=0
  15. مفتاح على حسين بالحاج، نمط الاستهلاك الأسري بين المظهري (التفاخري / الاعتيادي) في ظل المتغيرات المجتمعية، مجلة كلية الآداب، جامعة مصراته، العدد:8، متوافر على الرابط التالي:                                   https://misuratau.edu.ly/journal/arts/upload/file/R-93-8.pdf
  16. خيري أبو العزايم فرجاني، ملامح تطور الاقتصاد المصري في ظل التحولات السياسية والاقتصادية، متوفر على الرابط التالي: http://www.saaid.net/book/20/13395.pdf
  17. جلال أمين، جيل الانفتاح الاقتصادي في مصر، موقع البيان، 2 مايو 2016، متوافر على الرابط التالي: https://www.albayan.ae/opinions/articles/2016-05-02-1.2630568
  18. علي أحمد البلبل ومحمد مصطفى عمران وأيتن فتح الدين، التطور والهيكل المالي والنمو الاقتصادي: حالة مصر 1974-2002، (أبو ظبي: صندوق النقد العربي)، أبريل 2004.
  19. ميسون عباس حسين الجبوري، الانفتاح الاقتصادي وآثاره في عهد الرئيس محمد أنور السادات 1970-1981 (دراسة تاريخية)، مجلة كلية التربية الأساسية، العدد:104، 2019.
  20. منى يسري، هل إلتهمت سياسة الانفتاح الاقتصادي الطبقة الوسطى في مصر؟، موقع حفريات، 27 نوفمبر 2018، متوافر على الرابط التالي:https://www.hafryat.com/en/node/16462
  21. أمل حسين، ما يجب أن نعرفه عن الانفتاح الاقتصادي، موقع الباحثون المصريون، 5 مايو 2016، متوافر على الرابط التالي: https://www.egyres.com

عن رضوى منتصر الفقي

شاهد أيضاً

في علم الاقتصاد الإسلامي: صياغة إسلامية لجوانب من دالة المصلحة الاجتماعية ونظرية سلوك المستهلكين

د. محمد أنس الزرقا

لقد كان هناك كم هائل من الكتابات في الخمس والعشرين سنة الماضية بالنسبة للمجالات الاقتصادية الواسعة للنظام الإسلامي.

الأخلاق في عصر الحداثة السائلة

تأليف: زيجمونت باومان

ترجمة: د. سعد البازعي، أ. بثينة الإبراهيم

عرض: أ. أحمد محمد علي

أشار المترجمان أن "زيجمونت باومان" هو من قام باستبدال مفهومي "الحداثة" و"ما بعد الحداثة" بمفهومي "الحداثة الصلبة" و"الحداثة السائلة".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.