النيوليبرالية ونظام السوق والعولمة

النيوليبرالية ونظام السوق والعولمة

أ. مهجة مشهور*

في بداية التسعينات من القرن العشرين حدث تحول كبير في الواقع الدولي بانهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية، وبدأ الحديث عن إطار جديد للعلاقات يجب أن يسود الواقع الدولي على تعدد واختلاف الأقطار والثقافات والنظم، هذا الإطار -الذي كان يخطط له منذ منتصف القرن الماضي- هو نظام العولمة[1] Globalization، وقد تجاوز تأثير هذا النظام الجانب الاقتصادي ليمتد إلى النماذج السياسية والأنماط الثقافية والرؤى الاجتماعية.

 وتعني العولمة في أبسط تعريفاتها سهولة أو سيولة انتقال المعلومات والسلع والأموال والأفكار والعادات الاجتماعية والثقافية من الغرب المهيمن حضاريا إلى كافة الدول على نطاق الكرة الأرضية، ويترتب على ذلك انفتاح الأسواق وزوال الحواجز الجمركية وتقليص نفوذ الدولة القومية، وقد كان لظهور التقنية المتطورة في الاتصالات الدور الأساسي في إيجاد “المجتمع المعلوماتي العالمي” والتحول في مفهومي الزمان والمكان، فأصبح العالم قرية صغيرة تتفاعل لحظيا على كل المستويات الفكرية والاقتصادية والثقافية والسياسية[2].

وتعتبر النيوليبرالية المرجعية النظرية والأصل الاقتصادي للعولمة[3]، وتقوم النظرية النيوليبرالية على جعل السوق كيان مهيمن ومؤسس للرؤية الاقتصادية، فقفز السوق إلى مكانة مركزية شبه مقدسة تعبر عن الحرية المطلقة التي تتبناها هذه النظرية، بحيث أطلق على هذا النظام “نظام السوق”، بما يعنيه ذلك من بقاء الأقوى اقتصاديا وإغفال البعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية. إذن ففي إطار العولمة تُفرض القوانين من سلطة مادية جديدة مسكوت عنها في خطاب العولمة السياسي والثقافي وهو “السوق”.

ويجب التأكيد هنا على أن الرؤية النيوليبرالية لا تتوقف عند الجانب الاقتصادي فقط من حيث هو حقل للسلع المادية ولكنها تتجاوزه إلى أبعاد ثقافية عميقة في التشكيل النفسي والقيمي للإنسان والمجتمع المعاصرين، فالثقافة لا تنفصل عن الاقتصاد، فهي تجتاح الحدود المعنوية والاعتقادية للبشرية في نفس الوقت الذي تجتاح فيه الحدود المادية الاقتصادية، ومن ثم فالعولمة بتبنيها النيوليبرالية تستهدف الهيمنة ليس فقط على المقدرات المادية للعالم ولكن أيضا على الأنساق الثقافية المختلفة وصبغها بصبغة غربية موحدة، بحيث تصل إلى ما يمكن أن نطلق عليه “مجتمع السوق”، حيث يصبح لكل شيء في المجتمع قيمته السوقية حتى القيم والعلاقات الإنسانية. وهذا ما يهدد الثوابت الموجودة في المجتمعات -وعلى رأسها الثوابت العقائدية- بالذوبان والتلاشي تحت تأثير تقنيات الإعلام والاتصالات.

وهذا الوضع الحضاري هو ما أطلق عليه فرنسيس فوكوياما عام 1992 في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” “The End of History and the Last Man” مصطلح “نهاية التاريخ”، والذي كان يعني به أن الديمقراطية الليبرالية ومبادىء الليبرالية الاقتصادية يشكلان معا قمة التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي نهاية ذلك التطور، أي أن لا بديل للعالم عن هذه الأفكار التي وصلت إلى قمة النضج الإنساني. “لقد توصلنا إلى نهاية الطريق في تطور أيديولوجيات الإنسانية، فيمثل نمط الليبرالية الغربية الشكل النهائي لنظام الحكم”.

وغفل فوكوياما في تحليله هذا أن فكرة نهاية التاريخ التي يعتقد أنها مبتكرة ما هي إلا فكرة قديمة مرتبطة بكافة الأيديولوجيات والعقائد الدينية في مرحلة هيمنتها، نظرا لتقديمها الإجابات النهائية للتساؤلات الكبرى، فالعقيدة الدينية هي الوسيلة التي كانت تضفي مشروعية لفكرة نهاية التاريخ في الماضي، أما اليوم، في عالم النيوليبرالية، وبما أن مرجعية المشروعية الاجتماعية أصبحت تقوم على الفعالية الاقتصادية، يلجأ الخطاب السائد إلى نسب طابع أبدي لقوانين السوق حتى يكرس فكرة نهاية التاريخ، فاحتل بذلك المجال الاقتصادي مكانة العقيدة الدينية.

ومن هنا يمكننا تلخيص مفهوم العولمة -كما يرى بعض الباحثين- في مفهوم التغريب westernization، أو مفهوم الأمركة[4] Americanization ، فهي عملية هيمنة الغرب وعلى رأسه الولايات الأمريكية على اقتصاديات وثقافات بلدان العالم بأسره.

وتقوم ثقافة العولمة على أربعة محاور [5]:

  • “عالم ماكدونلد” بما يتضمنه من دخول أنماط من الاستهلاك -ومنها الطعام كتعبير رمزي- وما يترتب عليه من أساليب استهلاكية جديدة في تناوله، مختلفة عن النمط التقليدي في الثقافات المختلفة، بغرض الشعور بأننا مثل الشباب الأمريكي المتقدم. وثقافة الاستهلاك لا يتبناها فقط الأغنياء في المجتمع، ولكنها تتسلل لحياة الجميع من خلال إدخال تدريجي لهذه الأنماط الاستهلاكية في ثقافته اليومية المعتادة، ويستلزم ذلك الأمر حملات من الدعاية المكثفة.
  • “ثقافة دافوس” التي تتكون من مجموعة من رجال الأعمال والطامحين للوصول إلى بريق عالمهم وبلوغ ذروة النخب يوما ما.
  • “ثقافة النادي العقلي” وهي تشمل شبكات أكاديمية ومؤسسات ومنظمات غير حكومية تسعى لتعزيز الأفكار والسلوكيات التي ابتكرتها العقليات الغربية، مثل ايديولوجيا حقوق الإنسان والنسوية وحماية البيئة وتعدد الثقافات وغيره، بالإضافة إلى تعزيز السياسات والسلوكيات التي تتماشى مع هذه الأيديولوجيات. وتبدو هذه الأفكار والسلوكيات لأول وهلة أفكارا وسلوكيات بريئة، ولكنها في حقيقة الأمر هي أدوات فعالة في مجال تهديد الثقافات المحلية وتقويض سلطة الدولة القومية واختراق المجتمعات لنشر الثقافة الغربية.
  • “الحركات الشعبية” التي كثيرا ما تعزز أجندات النادي العقلي وتقوم طواعية بالتبشير لهذه الأفكار[6].

 ومن الآثار المباشرة لنظام العولمة على المستوى الاقتصادي أن تجري المتاجرة بالبضائع والخدمات عبر الحدود الدولية في ظل اقتصاد قائم على الجدارة العالية والتكنولوجيا المتقدمة مما يتسبب بطبيعة الحال إلى إعادة هيكلة في المشروعات القائمة في الدول النامية وما يتبع ذلك من تقليص لفرص العمل وتسريح الأيدي العاملة في تفاقم واضح لظاهرة البطالة التي تؤدي بالضرورة إلى ظاهرة تفشي الفقر.

 وقد صرح بعض كبار أثرياء العولمة “أن مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئا لا يطاق”. و”إن دولة الرفاه تهدد المستقبل، وإنها كانت مجرد تنازل من جانب رأس المال إبان الحرب الباردة، وإن ذلك التنازل لم يعد له الآن ما يبرره بعد انتهاء هذه الحرب”[7].

هذا الوضع العالمي الجديد القائم على “نظام السوق” أو “ديكتاتورية السوق” كما جاء في كتاب “فخ العولمة” سيؤدي إلى تمكين 20% من سكان العالم من الحصول على الدخل المرتفع والعيش الرغد، وخروج 80% من السكان من المنافسة وتنهار دخولهم بصورة واضحة ويزداد الاعتماد عند هذه الطبقات على التبرعات وأعمال الخير[8]. إذن فإن العولمة بطبيعة تأسيسها تنحاز بشكل مطلق للأغنياء على حساب باقي فئات المجتمع، فيزداد تركز الثروة في أيدي القلة وتتسع الفروق بين البشر.

ويرى بعض الباحثين أن “العولمة” في سيطرتها على العالم ترتكز على فلسفة داروين القائمة على قانون الانتخاب الطبيعي، ذلك القانون الذي يقضي بألا يتمكن من التكاثر والعيش سوى الأنواع الأقدر على المنافسة للبقاء[9]، فقد تبنت العولمة نفس القاعدة مما يسمح فقط ببقاء الأشخاص والمؤسسات الاقتصادية الأفضل، وتهميش الأقل قدرة على المنافسة باعتباره غير ملائم للبقاء اقتصاديا. فعندما ينزع البعد الأخلاقي من قوانين الاقتصاد تصبح قوى السوق مساوية لقوى الطبيعة، أي محايدة أخلاقيا، ولذا فإن كانت الأنواع عند داروين تتكيف باستمرار مع البيئة في مسعى للبقاء، فإن في العولمة تحتل السوق العالمية مكان البيئة الطبيعية، وعلى الجميع الإذعان للتكيف مع قوانينه وتوفيق أوضاعه تبعا لها، إذ لا مكان للتخلف والفقر في هذه الغابة الداروينية.

إذن فإن الداروينية التي تقوم عليها الرسالة الكلاسيكية الليبرالية الحديثة التي تلهم العولمة الرأسمالية اليوم، تحول الاقتصاد من خلال قوى السوق إلى عامل لتحديد كل الخيارات الأخرى سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية، فالمال والقدرة على استهلاك المزيد من السلع المادية هما الدافع الوحيد، والوسيلة المستخدمة هي التنافسية العدوانية[10].

لا يتوقف تأثير العولمة عند هذا التقسيم المادي الظالم لسكان العالم، ولكن تسعى مؤسسات الإعلام العالمية العملاقة وبواسطة الصور الحاملة لأنماط استهلاكية موحدة إلى تنميط الأحلام والأماني والأذواق والسلوك وأشكال الحياة[11]، بحيث تكون جميعها على منوال الرؤية الغربية الاستهلاكية[12]، فيقدمون السعادة في صورة الإنسان المستهلك الذي ينشغل كلية بالسعي نحو امتلاك أنواع معينة من السلع والخدمات العالمية، ليس بوصفها مجرد سلع استهلاكية تشبع حاجات لدى الفرد ولكن باعتبارها حالة من الإيمان بطريقة حياة وضرورة مطلقة، فأصبح بالتالي إنسانا لا يستهلك الأشياء بقدر ما تستهلكه الأشياء. هذا هو نموذج الإنسان الذي يسعى المشروع المادي الثقافي النيوليبرالي إلى صوغه في النفوس وتعميمه عبر العالم، نموذج يظن أن كينونة ووجود الإنسان لا يتحققان إلا بامتلاك المزيد دائما مهما كانت المقدرة المادية للفرد.

هذا الوضع يزيد الأمر صعوبة على الـ80% من سكان الأرض الذين يتشوفون لمستوى استهلاك صاغته وسائل الإعلام في حين أن مقدرتهم الشرائية في تدهور مستمر.

وفي ضوء هذا التفاوت المعيشي الهيكلي، يتحدث كاستيلز Castells عن ظهور مصاحب للاقتصاد العالمي لعالم جديد يسمى “العالم الرابع” Fourth World، ذلك العالم الذي نرى فيه ظهور ملايين من البشر يعانون من الأمية والمرض والفقر، يعيشون بلا مأوى ويمارسون أنواعا مختلفة من الإجرام، يظهر هؤلاء في كل بلد مستبعد من فوائد العولمة، وعبر كل بلد مهمش من حيث المشاركة في الاقتصاد الجديد.

ويرى باومان أن الفقراء في الليبرالية الجديدة هم هؤلاء الذين ليس لديهم وظيفة، ويميلون إلى إلقاء المسئولية على ظروفهم، وهؤلاء لم يعد ينظر إلى محنتهم على أساس أنها مشكلة اجتماعية جماعية، وإنما تربط مشكلتهم بالإجرام في المجتمع ويصبح الفقر مجرد مصدرا للإزعاج والقلق[13].

ويرى باومان أن الفقر أصبح يحظى بمنزلة مهمة في العولمة العالمية، فقد انتقل العالم من النظام الاجتماعي الذي كان فيه الناس تشارك في المقام الأول كعمال، حيث كان العمل يمثل مركز الحياة وهوية الإنسان، وحيث كانت أخلاقيات العمل قوة مركزية في المجتمع، إلى مجتمع استهلاكي، يشارك فيه الناس في المقام الأول كمستهلكين، وفي الوقت الذي كان فيه العمل يؤدي على ربط الدوافع الفردية معا والى التكامل الاجتماعي، نمت في المجتمعات الاستهلاكية “الفردانية التملكية” Possessive Individualism، وأصبحت حالة البطالة دائمة للكثيرين، وتزايد عدم الاستقرار في العمل لجمهرة كبيرة من الناس بسبب عدم الحاجة اليهم[14].

الخلفية النظرية لاقتصاد العولمة:

ونسعى هنا إلى تفهم الطبيعة النظرية لهذا السعي المحموم لخلق وتنميط أحلام البشر عند مستوى استهلاكي ترفي موحد خادم للأهداف الاقتصادية والثقافية لنظام العولمة.

فبقراءة المشهد الاقتصادي الراهن نجد انفصال واضح في فهم هذا المشهد عن النظرية الكلاسيكية الاقتصادية التي سادت العالم لقرون طويلة، تلك النظرية القائمة على تحديد المشكلة الاقتصادية في ثلاثة عناصر:

  • الشعور بالحاجة Human needs القابلة للإشباع.
  • تتحقق منفعة utility يمكن قياسها عند الحصول على الوسيلة اللازمة للإشباع.
  • تتناقص المنفعة تدريجيا بزيادة هذا الإشباع[15].

إذن ففي النظرية الاقتصادية الكلاسيكية كان هدف الاستهلاك هو إشباع حاجة حقيقية يشعر بها الفرد، فالجوع على سبيل المثال يشبع بالطعام حتى استيفاء حاجة الفرد، على اختلاف مستويات هذا الطعام وتنوعه، وكذلك الملبس والمسكن وغيره.

أما الرؤية الاقتصادية في ظل العولمة فهي تقوم باستبدال مفهوم “الحاجة الحقيقية المباشرة” بمفهوم “الرغبة المصطنعة” Human fake desire، ففي الوقت الذي يمكن فيه تحديد الحاجة الحقيقية بطريقة واضحة لارتباطها بحاجات مادية وثقافية وخدمية تنبع من طبيعة الإنسان وتركيبته كبشر، يأتي مفهوم الحاجة المصطنعة كمفهوم غير منضبط لأنه غير مرتبط بحاجة حقيقية لدى الإنسان، بل هي حاجات يتم خلقها وتصوير أهميتها ومحوريتها في حياة الإنسان وزرعها كوعي جمعي على مستوى العالم من خلال وسائل الدعاية والإعلام، ويتم بذلك صناعة ذوق استهلاكي قائم على رغبات عبثية يتم تحويلها من خلال الإحاح الإعلامي إلى عادات وحاجات استهلاكية. هذه الحاجات المصطنعة العبثية يتم توليدها والتحكم فيها من خارج التركيب الإدراكي الطبيعي للحاجة عند الفرد[16]، ويتم ذلك على أيدي رأسمالية مسيطرة تسعى للربح الفاحش المبالغ فيه. فعلى سبيل المثال لم يعد المسكن الذي يقيم فيه الفرد رغم اتساعه ووجوده في مكان راق (وهو في ذلك إشباع لحاجة حقيقية) بكاف في ظل هذا المفهوم، بل يجب السعي للسكن في قصر فخم في منتجع مغلق لا يسكنه الا مستوى اجتماعي معين، ويجب أن يتوافر فيه حوض سباحة وحديقة متسعة، وكلاهما صيانتهما مكلفة، وغيره من مظاهر الترف التي في حقيقة الأمرلا حاجة للإنسان اليها الا لمجرد إشباع حاجة مصطنعة غير حقيقية.

 أما “المنفعة” التي تتولد من إشباع الحاجة الحقيقية فإنه يتم استبدالها في الرؤية الاقتصادية للترف بمفهوم “اللذة المؤقتة”، هذه اللذة لا حدود قصوى لها، فهي لا تتناقص بزيادة الإشباع على عكس المنفعة، وهي متحركة من حاجة مصطنعة إلى أخرى. فاللذة مفهوم نفسي غير قابل للإشباع والضبط والقياس.

من ناحية أخرى كانت نظرية العلاقة بين العرض والطلب على السلع في السوق الحر قائمة على دراسة المنتجين اتجاهات الطلب الفعلي على تلك السلع وسعرها بالأسواق، فكلما زاد الطلب على سلعة ما ارتفع التوقع من تحقيق الربح من إنتاجها فيتجه اليها المنتجون سعيا وراء الاستفادة من هذه الفرص الربحية، فيقومون بدراسة سعر السوق وكلفة تقديمها لمعرفة هامش الربح المحفز على الإنتاج. فالنظرية الاقتصادية الكلاسيكية ترى أسبقية الطلب على العرض، ولكن الرؤية الاقتصادية الجديدة تعتمد بالأساس على العرض لتحريك طلب المستهلكين وذلك عن طريق خلق الحاجة لديهم على هذه السلع، فيُخلق الطلب الجديد من خلال وسائل الدعاية المختلفة ومن خلال الاعتماد على الميل الغريزي لدى المستهلك للمحاكاة، فانعكست العملية الاقتصادية بتقديم العرض على الطلب مع ثقة المنتجين في تحقيق أكبرربح ممكن مستندين على أبعاد نفسية ودراسة لواقع أصبح فيه استهلاك السلع الترفيهية وسلع الرفاهية عملة مضمونة في السوق. وأصبحت هذه النظرية المعبرة عن الفلسفة النيوليبرالية تعتمد الإنتاج كمحرك للنشاط الاقتصادي، فالمهم هو الإنتاج ومزيد من الإنتاج، ومن أجل ذلك لابد من التسويق ومزيد من التسويق، ومن أجل التسويق تجوز التضحية بأي شيء، حتى روح الإنسان نفسه[17] الذي يلهث وراء استهلاك هذا الكم الضخم من اللاشيء. 

وقد جاء هذا التطور للنظرية الاقتصادية الغربية تطورا طبيعيا نابعا من واقع المرجعية المادية لهذه النظرية، فباعتبار المادية والنفعية هي المرجعية المتحكمة في آليات السوق، وباعتبار الداروينية الشرسة التي تفرض منطق الأقوى والأصلح هي الفلسفة المهيمنة في ظل العولمة، فقد انتقلت وحدة التحليل الأولى تدريجيا في هذه النظرية من “المستهلك العادي” إلى “المنتج القوي”، فاضطربت أولويات الفرد المستهلك واختلطت عليه حاجاته الحقيقية مع حاجاته المصطنعة التي فرضت عليه فرضا من إملاءات آلة الدعاية الضخمة المعبرة عن الرأسمالي المتحكم.

إذن فالنظرية الاقتصادية الكلاسيكية تم تجاوزها في ظل العولمة و”نظام السوق”، فلم تعد المشكلة الاقتصادية هي ندرة الموارد الطبيعية إزاء تعدد الحاجات الحقيقية لدى الإنسان، بل تحولت المشكلة الاقتصادية إلى تدهور القوة الشرائية للفرد أمام سيل الحاجات المصطنعة وغير الحقيقية.

وينجم عن هذه المشكلة الاقتصادية الحديثة ظهور نوع من “الفقر النسبي” القائم على الشعور بالحرمان والألم النفسي الحقيقي لعدم إشباع رغبات مصطنعة فرضت على الوعي الإنساني الجمعي فرضا، يضاف إلى هذا الفقر النسبي الفقر الحقيقي الذي لا تنجو منه أمة من الأمم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

* مدير مركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وسكرتير تحرير مجلة المسلم المعاصر

[1] الطيب بوعزة (2013). نقد الليبرالية. ط. 1. القاهرة: تنوير للنشر والإعلام.

[2] سعيد رضا عاملي (2011). العولمة والجو الديني: بحث في كتاب الدين والعولمة: فرص وتحديات. ط. 1. بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي.ص. 16.

[3] تاريخيا مرت الليبرالية بثلاثة مراحل:

المرحلة الأولى هي مرحلة الليبرالية الكلاسيكية Classical Liberalism، وكان الأب الروحي لها هو آدم سميث Adam Smith القائل بفكرة اليد الخفية وبمبدأ ” دعه يعمل دعه يمر” Laissez Faire , Laissez Passez

المرحلة الثانية هي مرحلة الليبرالية الجديدة أو الليبرالية الاجتماعيةNew Liberalism، وكان الأب الروحي لها هو كينز Keynes القائل بعقلنة دولة الرفاه الاقتصادية من خلال تدخل الدولة، وضرورة تدخل الدولة تتأتي لعلاج السلبيات التي تمخضت عن الليبرالية الكلاسيكية من بطالة وفقر وأزمات اقتصادية، وأن هذه السلبيات هي من الخصائص البنيوية للاقتصاديات الرأسمالية الليبرالية.

المرحلة الثالثة هي مرحلة النيوليبرالية Neo-Liberalism، وكان الأب الروحي لها هو ميلتون فريدمان Milton Friedman وفريدريش فون حايك Friedrich Von Hayek، وكانت رؤيتهما تدور حول الإقلال من دور الدولة في الاقتصاد إلى الحد الأدنى وانسحابها من كثير من مسئولياتها الاجتماعية من ناحية وتفعيل حرية السوق بصورة كاملة. وفي هذه الرؤية يهمل مفهوم العدالة الاجتماعية الذي سماه حايك بالوهم.

[4] وائل حلاق (2014). مصدر سابق ص. 301.

[5] Berger P.L. & HuntingtonSP (2002). Many Globalizations: Cultural Diversity in the Contemporary World. New York: Oxford University Press.

[6] سام برايك (2015). القومية في عالم العولمة. القاهرة: المركز القومي للترجمة. ص. 204.

[7] هانس بيترمان& هارالد شومان (1998). فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية. ترجمة د. عدنان عباس علي. (عالم المعرفة؛ 238).

[8] هانس بيترمان وهارالد شومان (1998). مصدر سابق.

[9] أزوالدو دي ريفيرو (2011). خرافة التنمية: الاقتصاديات غير القابلة للحياة في القرن الحادي والعشرين. ترجمة عمر سعيد الأيوبي. ط. 1. أبوظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث(كلمة).

[10] أوزوالدو دي ريفيرو (2011). مصدر سابق. ص. 104.

[11] العياشي ادراوي (2015). العولمة الاقتصادية ومأزق القيم. مجلة الحياة الطيبة. (30).

[12] ان اندماج الأسواق الاقتصادية أدى إلى خلق حالة من الانصهار الاقتصادي والثقافي عبر العالم، فماكدونلد ونيك والفيس بوك وموضات الملابس وغيرها دليل على خلق تماثل في الوعي عبر العالم. انظر:

سام برايك (2015). مصدر سابق. ص. 179.

[13] شمس العجيلي & باتريك هايدن (2016). النظريات النقدية للعولمة. ترجمة هيثم غالب الناهي. ط. 1. بيروت: المنظمة العربية للترجمة. ص. 184.

[14] شمس العجيلي & باتريك هايدن (2016). مصدر سابق. ص. 185.

[15] رفعت المحجوب (1973). الاقتصاد السياسي. ج. 1. القاهرة: دار النهضة العربية. ص. 66.

[16] الحاجات الطبيعية للفرد تدور في إطار الحاجة إلى الطعام والشراب والمسكن والملبس والتعليم والرعايا الصحية ووسائل ترفيه.

[17] جلال أمين (2010). العولمة. ط. 2. القاهرة: دارالشروق. ص. 131.

عن مهجة مشهور

شاهد أيضاً

الجمال بين الرؤية الإسلامية والعولمة

أ. د. زياد خليل الدغامين

تعد مواجهة التحديات التي تهدف إلى طمس الهوية الإسلامية، ومسخ قيمها، والعبث بمفاهيمها الدينية والثقافية من الضرورات الملحة التي تفرض نفسها على واقع الأمة.

غزة وبداية جديدة للتاريخ

أ. مهجة مشهور

نتابع منذ شهور ما يجري على أرض غزة الطاهرة من قتل وتدمير وتجويع واستباحة لكل المعاني الإنسانية، ويتساءل البعض كيف يمكن لهذه الجرائم أن تتم على مرأى ومسمع من العالم دون محاولات حاسمة من قِبل الدول الكبرى لإيقاف هذه الكارثة الإنسانية. بل على العكس إننا نرى هذه الدول تدعم بالسلاح والمال مَن يقوم بهذه المجازر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.