بين المتعة والسعادة
أ. منال يحيى شيمي *
يلهث البشر جميعا وراء السعادة، فهي مقصد وغاية الكبير والصغير. ولكن ماهي السعادة؟ مفهوم أصابه الكثير من التشويش مؤخراً.
تلعب الكثير من الجهات الاقتصادية على هذا المفهوم من أجل تحقيق مصالحها، فتطالعنا إعلانات يومية بأننا حين نفعل كذا أو حين نمتلك كذا سوف نكون سعداء، فمثلا إذا امتلكت بيتاً في الكمبوند (س) فسوف تحقق السعادة، وإذا امتلكت سيارة ماركة (كذا) فسوف تحقق السعادة، وإذا قضيت إجازتك الصيفية على شاطئ (كذا) فسوف تكون من المحظوظين السعداء… إلخ.
فهل هذا حقيقي؟ ما المعنى الحقيقي للسعادة وكيف يمكن تحقيقه؟ هذا ما نناقشه في السطور التالية.
في هذه الورقة نطرح فكرة السعادة من ثلاثة مداخل: الإيماني والطبي والفلسفي.
السعادة من رؤية إيمانية:
لا يرد مصطلح السعادة في القرآن الكريم إلا في مقام الحديث عن الدار الآخرة والجنة “فمنهم شقي وسعيد” هود (١٠٥) “وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها..” هود (١٠٨)
أما في الحياة الدنيا فيرد مصطلح ومعنى “الحياة الطيبة” “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة” النحل (٩٧)، فهذا وعد مؤكد من الله لهم.
والحياة الطيبة تحمل معاني الرضا، فالحياة الطيبة لا تشترط كثرة المال، وإنما كفايته، ولا تشترط انعدام المشكلات، وإنما القدرة على التعامل معها بصبر ويقين. هي مرتبطة بالسكينة وليس اللهفة واللهث وراء الأشياء، ومرتبطة كذلك بالأمن وعدم الخوف. ليست هي الحياة الرغدة المترفة التي يتمتع فيها الإنسان بمستوى استهلاكي عال وبوسائل الترف واللذة المختلفة، وإنما هي تلك الحياة التي يتمتع فيها الفرد بالإشباع المادي والأمان النفسي. “الذي أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف”.
ويقدم القرآن الكريم إشارات لأسباب السعادة في الدنيا قبل الآخرة، نجد منها مثلا معنى الود في الآية الكريمة “إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا” مريم (96)، والود أحد أسباب السعادة وهو الحب والمودة، وقيل في التفاسير حب الله لهم وتحبيب الخلق فيهم فيلقى لهم القبول ف الأرض، وقيل مودة المسلمين والرزق الحسن، وأي سعادة أكبر. فراحة البال والرضا والصحبة الصالحة كلها من مسببات السعادة.
ومنها أيضا معنى الأمن والدعم في الآية “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون* نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا …” فصلت (30، 31) هكذا يمكن تحقيق الحياة الطيبة بالجمع بين الإيمان بالله والعمل الصالح (الاستقامة) بما يحقق الراحة النفسية والأمان وعدم الحزن والرضا والفاعلية بالإصلاح في الأرض على منهج الله مع التمتع بالنعم والطيبات.
وقد جاء في الحديث الشريف: “من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة”. (صحيح الترمذي) فالانشغال بالآخرة والعمل لها يسبب السعادة ولا ينقص ذلك من الرزق شيئا بل تأتيه الدنيا رغم عدم سعيه لها ولا تطلعه اليها. أما الانشغال بالدنيا وجعلها المقصد والغاية يؤدي إلى الاحتياج المستمر حتى وإن كان الإنسان غنيا، مما يورث الهموم ولا يزيد من الرزق شيئا.
ومن أقوال السلف الصالح عن السعادة التي يحققها المؤمن بمعرفته بالله ويقينه به “… لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها (لقاتلونا) بالسيوف” يقصدون السكينة والطمأنينة وانشراح الصدر حتى في أشد الظروف. وقال الإمام ابن تيمية: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
والسعادة بهذا المعنى ليست شعور ساكن ستاتيكي بل هي شعور إيجابي محفز على العلم النافع والعمل الصالح الذي يغذي هذا الشعور باستمرار.
السعادة من رؤية علمية طبية معاصرة:
يساعدنا التطور العلمي في المجال البيولوجي وعلم المخ والأعصاب تحديداً في تعريف السعادة علمياً وفهم كيف يمكن الوصول اليها.
يقول الدكتور روبرت لاستينج أستاذ المخ والأعصاب الأمريكي في كتابه “اختراق العقل الأمريكي” أن هناك نوعين من المواد الكيميائية العضوية التي يفرزها المخ ويتحكمان في الحالة المزاجية للإنسان، وهما السيروتونين والدوبامين. الدوبامين هو مصدر الشعور بالمتعة، بينما السعادة مصدرها السيروتونين.
وينبه د. لاستينج إلى ضرورة التفرقة بين اثنين من أهم المشاعر الإنسانية هما السعادة من ناحية والمتعة أو اللذة من ناحية أخرى. ويرى أن هناك أزمة ثقافية حقيقية تعاني منها أمريكا والعالم أجمع ناتجة عن الخلط بين هذين المفهومين. فكثير من الناس يساوي بين المتعة والسعادة ولكنهما مختلفان تماما. فهناك فارقا كبيراً بين الإثنين نذكر هنا 6 اختلافات أساسية:
أولاً: المتعة قصيرة الأمد.. بينما السعادة طويلة الأمد.
ثانياً: المتعة عضوية.. بينما السعادة نفسية.
ثالثاً: المتعة تؤخذ… بينما السعادة تعطى.
رابعاً: المتعة يمكن تحقيقها بالأشياء المادية.. بينما السعادة لا يمكن تحقيقها بالمادة.
خامساً: المتعة يشعر بها الفرد وحده. بينما السعادة يشعر بها في جماعات اجتماعية.
سادساً وأخيراً: الإفراط في المتعة يؤدي إلى الإدمان سواء كانت تلك المتعة متعلقة بتصرفات أو أشياء، بينما لا يوجد إدمان في الزيادة في السعادة. فالدوبامين (مصدر المتعة) يثير ويحفز الخلايا العصبية، والخلايا العصبية عندما يتم تحفيزها بشكل مفرط وبشكل متكرر تموت تدريجياً، لذلك تملك الخلايا العصبية آلية دفاعية لمواجهة هذا الخطر حيث تقوم بتقليل عدد المستقبلات المتاحة للتحفيز في محاولة للحد من الضرر الذي قد يلحق بها، لذا فأنت عندما تأخذ ضربة تثير الخلايا العصبية بشكل كبير فتقلل الخلايا العصبية من مستقبلات التحفيز كإجراء دفاعي وفي المرة التالية تحتاج ضربة أكبر ليحدث نفس القدر من الإثارة، ثم ضربة أكبر ثم أكبر إلى أن تبدأ الخلايا العصبية في الموت وهذا ما يسمى الإدمان.
السيروتونين (مصدر السعادة) في المقابل مثبط وليس محفز للخلايا العصبية، فهو يثبط مستقبلاته لتوفير الرضا. لذلك فلا يمكن تجاوز الحد في السعادة، وغير وارد في هذه الحالة الإدمان، فالسيروتونين يسبب تهدئة الخلايا وليس إثارتها أو إشتعالها. وبذلك ينتهي الأمر بالرضا أو بالقناعة وهذا ما نسميه السعادة.
ويقول دكتور لاستينج أنه قد ثبت علمياً أن هناك شيء واحد يقلل من السيروتونين وهو الدوبامين. وهذا يعني أننا كلما سعينا للحصول على المتعة كلما قلت السعادة التي نحصل عليها.
وتقوم وسائل الإعلام بصورة متعمدة ومنظمة بالخلط بين مفهومي المتعة والسعادة حتى تقنع الناس أنه يمكنهم “شراء” السعادة، وللأسف أصبح هذا أساس من أسس الاقتصاد الحديث، فهو مبني على السلع التي تغذي الشعور بالمتعة وليس السعادة، ونتيجة لذلك أصبحنا وبلا شك أكثر تعاسة.
يرى د. لاستينج أن عقولنا يتم اختراقها بمعلومات خاطئة ويسمون هذا “الدعاية”، إلا أن الدعاية تختلف عن التسويق، والفارق بينهما هو الحقيقة، فالتسويق يعتمد على حقائق عن المنتج، أما الدعاية فهي تُبنى على معلومات خاطئة. وعلى أساس هذه المعلومات المغلوطة تتشكل أنماط سلوكنا ومعيشتنا في سعينا لتحقيق أكبر قدر من المتعة أو السعادة.
كيف نفرق بين المتعة والسعادة على المستوى الشخصي؟
المتعة هي: أن تقول هذا الشعور جميل، أنا أريد المزيد، فالمتعة تولد المزيد من المتعة.
أما السعادة فهي: أن تقول هذا الشعور جميل، أنا لا أحتاج المزيد، فأنا راض.
والحقيقة أن كل الأشياء التي تشعرك بالسعادة هي أشياء لا يمكن شرائها، وفي رأي د. لاستينج هي أربعة أشياء على وجه التحديد:
- الاتصال والتواصل :(connect) التواصل المباشر يولد نوعا من التعاطف ويولد شعور بالسعادة. والمقصود هنا التواصل وجها لوجه فهذا ينقل إليك مشاعر الطرف الآخر، فالاتصال بين الأشخاص مهم جدا للشعور بالسعادة والرضا. أما عن التواصل غير الشخصي مثل الفيسبوك فقد تبين أن هذا النوع في الواقع يبث التعاسة، لأنه يسبب ارتفاع في مستوى الدوبامين، فمع كل رسالة تومض على شاشتك يحدث ارتفاع للدوبامين.
- ساهم. تطوع. تبرع (contribute): المساهمة في أعمال الخير وخدمة الغير من المحتاجين والتبرع بالمال للفقراء والعطاء (كل ما يمكن أن نسميه الأعمال الصالحة)، كل هذه الأعمال تسبب ارتفاع السيروتونين.
- تكيف أو تعامل (cope): هناك ثلاثة أشياء مهمة لتقليل التوتر وزيادة السيروتونين وبالتالي زيادة السعادة: النوم الجيد، فقلة النوم تدمر السعادة، وهناك دراسة أثبتت أن النوم في نفس الغرفة مع الهاتف المحمول يسبب قلة النوم. اليقظة الذهنية والتأمل تزيدان من السيروتونين، أما أداء العديد من المهام في نفس الوقت يسبب التشتت ويقلل السعادة. وأخيرا فإن التمارين الرياضية تحفز السيروتونين فتزيد السعادة.
- اطبخ (cook) إطعام الطعام: عندما تعد طعامك بنفسك لك ولعائلتك فأنت تتحكم فيما تأكله والنسب التي تأخذها من كل عنصر غذائي، وأنت في نفس الوقت تحقق التواصل مع عائلتك، وهناك أطعمة تساهم في زيادة السيروتونين مثل السمك، والأغذية الغنية بـ الأوميجا 3، وأخرى ترفع الدوبامين مثل السكر. فعندما تأكل الوجبات السريعة تتناول الكثير من السكريات لأن كل عنصر فيها غالبا يحتوي على السكر فالوجبات السريعة إذن تقلل السعادة وتزيد من المتعة. وهكذا فعل الطهي نفسه يجمع بين التحكم فيما تأكله وبين التواصل مع الغير وتقديم الخير للآخرين.
المتعة والإدمان:
عندما تتحول رغبة المتعة إلى احتياج هذا عادة مؤشر للإدمان. عندما لا تستطيع العمل أو التركيز في عملك أو مع أسرتك لأن هذه الرغبة الشديدة تستدعيك فهذا علامة على الإدمان. وهذا يمكن أن يحدث من التسوق، ألعاب الفيديو، الهواتف المحمولة وغيرها. فإذا وجدت نفسك تتفحص تليفونك كل دقيقتين بحثا عن رسالة جديدة فهذا مؤشر لإدمان الهاتف. وهناك نمط للإدمان تتبعه الشركات الكبرى لتستمر في بيع منتجاتها وتضمن زيادة أرباحها.
وخلاصة ما يقوله البروفسير الأمريكي أن الناس يلهثون باستمرار وبدون وعي وراء المتعة وذاك يكون على حساب سعادتهم الحقيقية.
السعادة من رؤية فلسفية:
ترى أغلب المذاهب الفلسفية أن السعادة هي خيرا أقصى وغاية ما بعدها غاية، وتربط معظمها السعادة بالأخلاق والمعرفة، ونادر منها ما سقط في جانب اللذة والشهوة وجعل السعادة مساوية للشهوات مثل السوفسطائيون.
يرى “أفلاطون” (428- 347 ق م) – فيلسوف السعادة- أن الأخلاقيين وحدهم من يكونون سعداء بحق، ويؤكد أهمية أن يسعى المرء نحو اكتساب الفضائل الأساسية حتى يكون سعيدا، وأن يضبط الإنسان شهواته بشكل عقلاني. ويعتبر أفلاطون أن أنواع المتع مثل الثراء والراحة هي بمثابة أشكال زائفة من السعادة.
وعلى نفس النهج يسير “أرسطو” (384- 322 ق م)، إذ يعتبر الفضيلة ضرورية حتى يحقق المرء السعادة. فالعامل الأكثر أهمية عنده نحو تحقيق السعادة هو امتلاك شخصية أخلاقية جيدة، ولا يكفي امتلاك المرء عددا قليلا من الفضائل بل يجب الكفاح من أجل امتلاكها جميعا، وهذا يتطلب عمل خيارات بعضها صعب أو صعب جداً فعادة الخيارات الأقل خيراً تأتي بمتعة فورية وتكون أكثر إغواءً بينما الأكثر خيراً تكون أصعب وتتطلب نوعاً من التضحية.
ويرى “الفارابي” (260ه، 874م- 339ه، 950م) أن السعادة هي الخير المطلوب لذاته، وهي تتحقق بوصول النفس لدرجة من الكمال لا تحتاج فيها إلى المواد، ويقصد بالكمال هنا سمو النفس حتى تتصل بالله وتتشبه بصفاته، هذه هي السعادة في الحياة الدنيا. أما السعادة القصوى فتكون في الحياة الآخرة ودار الخلود بالقرب من المولى عز وجل.
ويربط “الفارابي” بين السعادة من جهة وبين المعرفة والأخلاق من جهة أخرى، فالوصول إلى السعادة يحتاج إلى مراحل هي بالأساس مراحل علمية ومعرفية، فالسعادة ناتجة عن التبحر في المعرفة. ويرى كذلك أن الواجب على الإنسان الذي يريد السعادة أن يضبط شهواته، وينتقد “الفارابي” السوفسطائيين اللذين يرون أن السعادة في اللذات.
والرجل السعيد عنده هو الذي أصلح أخلاقه وضبط شهواتها لكي تكون شهوتها في الحق فقط. فواجب على الإنسان الحفاظ على قيمته كإنسان بعدم الانزلاق وراء الشهوات. وينال الإنسان من السعادة بقدر مداومته على الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة.
يقول “الفارابي” في كتابه “سبيل تحصيل السعادة” العلم هو طريق النفس إلى تحصيل السعادة فكلما زدنا علماً زدنا كمالاً، فالسعادة الحقيقية هي نهاية الكمال الإنساني، وبالعلم يزول الخوف، والسعادة من شروطها انتفاء الخوف. إذن يصل الإنسان إلى السعادة الحقيقية بالوصول إلى أقصى درجات العلم وأكثرها يقيناً وهي المعرفة بالله. ومن أسباب السعادة كذلك مساعدة الآخرين على بلوغ السعادة من خلال حثهم على الفضائل الأخلاقية والعمل الصالح.
من مدخل أخر يقدم “الرازي”(240ه، 854م- 313ه، 925م) نظرية في اللذة لا تختلف كثيرا -في رأيي- عما قاله “الفارابي” رغم اختلاف اللفظ أو المصطلح.
“فالرازي” لا يفرق بين اللذة والسعادة كما يفعل الفارابي ولكن يتحدث عن لذات زائفة ولذات حقيقية، فالسعادة هي “اللذة الحقيقية”، فيقول “اللذة مطلب طبيعي لكل حي ولا أحد يطلب الألم ويعيش فيه، لكن اللذة ليست معروفة لكل الناس على حقيقتها”.
ويعرف اللذة الحقيقية أو السعادة القصوى بأنها “عودة النفس إلى الحالة الأصلية التي كانت عليها قبل امتزاجها بالمادة”، هي “العودة إلى الحالة الطبيعية بعد ألم ألّم بالإنسان” فاللذة هي كشف أذى لحق بالإنسان.
والنفس الإنسانية تتنازعها ثلاث قوى: شهوانية، وغضبية، وعاقلة. وتكون صحة النفس (السعادة) في وجود توازن بين هذه القوى.
والعقل أو النفس العاقلة ينبغي أن تكون لها السلطة على الشهوانية والغضبية، والعقل يستمد سلطانه من كونه عطاء إلاهياً. ومهمة العقل هي قمع النفس الشهوانية أي الهوى والتخفيف من جموح النفس الغضبية، وهذا لا يعني القضاء على الشهوة والغضب بالكلية، فكل نفس منهم لها مهمتها دون إفراط أو تفريط، فسيطرة العقل على الشهوة والغضب من أسباب السعادة. و”الرازي” هنا متأثر بشدة بـ “أفلاطون” ويبني عليه.
يربط “الرازي” كذلك بين الأخلاق واللذة الحقيقية أو السعادة ويتحدث عن عوارض النفس الرديئة أو الأخلاق السيئة على أنها أمراض يجب الإستشفاء منها. ويرى انها عادة ترجع إلى غلبة الهوى على الإنسان وانسياقه وراء الشهوات، وكأن الانسياق وراء الشهوات من سوء الأخلاق، وضبط النفس وتأديبها هو السبيل لتحصيل مكارم الأخلاق، وبالتالي هو السبيل إلى السعادة.
الخطاب الأخلاقي لدى “الرازي” خطاباً تطبيقياً، فهو يدعو لتحرير النفس من هيمنة الصفات الرديئة ويوضح السبيل إلى ذلك، فيتناول أمثلة للصفات الرديئة مثل العُجب والبخل والحسد والكذب ويشرحها ويوضح كيف على الإنسان أن يقومها.
وهكذا يقدم “الرازي” نظرية في اللذة، فاللذة الحقيقية والسعادة القصوى هي في رجوع النفس تدريجياً -عن طريق تعلم الفلسفة وقمع الهوى – إلى حالتها الأصلية، وعلى هذا الأساس يدعو “الرازي” إلى القضاء على عوارض النفس الرديئة أو الصفات السيئة كما ذكرنا، وهو يقدم ويقترح سبلاً لذلك منها: ضرورة أن يجتهد الإنسان في معرفة عيوب نفسه، وأن يستعين في ذلك بمن يثق فيه من أصدقائه ويطلب منه أن يراقبه ويضع له لائحة بما يراه فيه من الأخلاق المذمومة ليعمل هو على التخلص منها.
وفي نظريته يميز “الرازي” بين حدين في التنعم: حداً أعلى وهو الاستمتاع بلذات الحياة شريطة ألا يتم ذلك بارتكاب الظلم وجميع ما يسخط الله وما لا يجب في حكم العقل والعدل.. وحدا أدنى وهو “أن يأكل الإنسان ما لا يضره ولا يمرضه ولا يتعدى إلى ما يستلذه ويشتهيه …”.
وفي هذا السياق يضع “الرازي” بصفته طبيبا في كتابه “الطب الروحاني” ضوابط للذة منها:
- الإكثار من اللذات يُخْرِج من تحقيق اللذة، فالإدمان والمثابرة على اللذات يُسقط الالتذاذ بها. ويرى أن كمال اللذة يكون بتحقيقها حسب مقدار الحاجة إليها. فاللذة بالأكل مثلا عندما يكون على قدر الجوع.
- ومنها ألا تجلب اللذة ألماً على صاحبها يفوق مقدار اللذة. فاللذة لها ضوابط كماً وكيفاً. “ينبغي على الإنسان ألا يطلب لذات ينتج عنها من الالآم ما هو أكبر كماً وكيفاً من اللذة التي يحصلها. أو يشتري لذة بائدة منقطعة بأخرى دائمة غير منقطعة ولا متناهية” وهذا وفقا لمبادئ العقل.
- واللذة التي يحققها الإنسان يجب ألا تسبب الألم أو الأذى للغير وهذا وفقا لمبادئ العدل ناهيك عن الدين. ف”الرازي” يخاطب العقل الإنساني عامة بعيداً عن الأديان.
وختاماً فإننا نلحظ اتفاقا واضحا بين الآراء التي استعرضناها في المعنى الحقيقي للسعادة.. بين الرؤية الفلسفية التي رأت السعادة في العلم والتحلي بمكارم الأخلاق، طلب الكمال وضبط العقل للشهوات، والرؤية الطبية التي أقرت أن السعادة هي زيادة إفراز السيروتونين في المخ وأن هذا مرتبط بأنشطة تعتمد على العطاء والبذل والتواصل والتراحم والتعلم والتأمل وليس الأخذ والاستهلاك والامتلاك، والرؤية القرآنية التي أقرت قبل كل ذلك أن الحياة الطيبة مرتبطة بمعرفة الله والعمل الصالح المستمر، وجعلت الإيمان والعمل الصالح هما ركني السعادة في الدنيا.
وهذا يأخذنا إلى الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه في بداية هذه الورقة، فليست السعادة في امتلاك هذه السيارة أو تلك، أو السكن في هذا الكمبوند أو ذاك كما تحدثنا الإعلانات التلفزيونية، ولا في السعي الحثيث نحو تجديد ماركة الموبايل كما توهمنا الشركات العالمية الكبرى، بل إن امتلاك هذه الأشياء قد يكون نفسه من مسببات الشقاء، فالمتع لا تنتهي ولا تحقق السعادة بل أن اللهث المستمر وراءها يفقد الإنسان السكينة والرضا والمعنى الحقيقي للحياة الطيبة.
*****
* باحثة بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وحاصلة على ماجستير في العلوم السياسية. جامعة القاهرة.
المصادر:
- الكتب:
- محمد عابد الجابري (2001). العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية. ط. 1. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.640 ص.
- مهجة مشهور (2018). الغنى والفقر بين العولمة وفقه الحياة. ط. 1. القاهرة: دار الكتاب المصري.
- تفسير الطبري
- تفسير ابن كثير
- Robert H. Lusting (2017). The Hacking of the American Mind: The Science Behind the Corporate Takeocer of Our Bodies and Brains. New York: AVERY “An Imprint of Penguin Random House”.
- مواقع الإنترنت:
- أحمد عمراني (2019). في فلسفة اللذة والمتعة عند الطبيب أبي بكر الرازي. تاريخ الاطلاع 15/ 06/ 2021. متاح في
- محمود كيشانة (2017). نظرية السعادة عند الفارابي. تاريخ الاطلاع 15/ 06/ 2021. متاح في:
- حاتم حميد محسن (2016). أرسطو ومفهوم السعادة. تاريخ الاطلاع 25/ 06/ 2021. متاح في
اعجبني المقال في طروحاته الجديدة نسبيا ومتعددة التخصصات، رغم تجاهله للمنظور الاقتصادي للسعادة والرفاه ممثلا باقتصاديات الرفاهية وبحوث السعادة. السعادة هي في نهاية المطاف مفهوم معياري وخلافي بالضرورة ضمن النظرية الشخصية للمعرفة وهي النظرية الغربية السائدة حاليا في العلوم الاجتماعية المعاصرة. وبالتالي، لا توصيف موضوعي للسعادة بدون الدين الحق.