تساؤلات حول علاقة الفقه والتنظير ضمن ثنائية الواحدية والتنوع

 تساؤلات حول علاقة الفقه والتنظير    

ضمن ثنائية الواحدية والتنوع

أ. د. شريف عبد الرحمن سيف النصر*

للنظرية مكانتها الخاصة من العلم الحديث؛ فهي الإطار الفكري الذي يربط بين الوقائع، والمفاهيم، والفروض. والتنظير — بحكم اشتقاق الكلمة سواء من اليونانية أو العربية — يعنى التأمل والنظر في الواقع وما يحويه من ظواهر وتفاصيل[1]. وقد بدأ استخدام كلمة نظرية (في الغرب) منذ أواخر القرن السادس عشر على الأقل.[2] حيث كانت النظريات إحدى الأدوات العقلية التي تعرض لها فرانسيس بيكون في كتابه الشهير “الأورجانون الجديد” (1620)، عندما افترض أنه كما أن الصانع لا يمكن أن يتوسل إلى إتمام صنعته إلا بأدوات، فكذلك العقل لا يمكنه أن يفهم ظواهر الواقع من دون أدوات. وكلمة الأورجانون نفسها تشير إلى معنى الأداة أو الآلة، والمقصود بها في هذا السياق أداة الفكر أو آلة الفكر، ومن أهم الأدوات التي ركز عليها العقل الحديث في مرحلة النهضة كانت بلا شك النظريات.[3]

النظرية العلمية هي بنية فكرية، يتصورها العقل البشري، يحاول من خلالها أن يفسر الظواهر المطردة، وأن يحدد العلاقة بين السبب والنتيجة. تقترح النظرية عادة مجموعة من الافتراضات أو المقولات التي تفسر من خلالها اطراد العلاقة بين مجموعة من المتغيرات.

في المشرق الإسلامي، لم تُعرَف النظريات ولم تشتهر، على الأقل بنفس الطريقة التي عُرفت واشتهرت بها في الغرب، فبالمقارنة مع العقل الغربي الحديث الذي اهتم بالتفتيش عن “النظرية”، وبذل الجهد لإقامة “الأبنية النظرية” في كافة مجالات الفكر، جادل البعض بأن علماء المسلمين لم يقدِّموا — على غزارة ما قدموه — نظريات، في مجال الفقه الإسلامي، وغيره من فروع المعرفة الأخرى،[4] وأن المدارس العلمية لم تُقبِل، تحت تأثير احتياجاتها الواقعية ولا الذهنية، على صياغة نظريات قياساً على ما حدث في المجتمعات العلمية الغربية.[5]

وقد تطوع نفر من المستشرقين (وأتباعهم من الحداثيين العرب) بتقديم تفسيرات (لا تخلو من عنصرية) لظاهرة “غياب النظريات” في إطار التشكيل الحضاري الإسلامي، تركز على اتهام العقل الفقهي بأنه عقل بسيط وغير مركب، يفتقر القدرة على التفكير المجرد، وتحجبه التفاصيل والجزئيات عن رؤية الصورة الأوسع والأشمل، التي تحتاج لبصيرة وملكة ذهنية لا تتاح للمشرقيين عمومًا، وللمسلمين خصوصًا. (هذا التفسير/الاتهام تفرعت عنه تفسيرات/اتهامات أخرى تتعلق باعتماد الفقه على النصوص الدينية دون القيام بتأصيل الظواهر في شكل نظريات، واهتمامه بالجوانب العملية للمشكلات اليومية والحياتية، وتأثره السلبي بالفكر اليوناني وبخاصة في مجال المنطق الاستنباطي)، وبناء عليه لم يطور العقل المسلم نظريات بقدر ما اهتم بتتبع الأحكام والقواعد والتفاصيل الفقهية.[6]

يشير الفقه إلى معنى مطلق الفهم، أو فهم غرض المتكلم من كلامه، أو فهم الأشياء الدقيقة، أما اصطلاحاً، فيشير إلى العلم بالأحكام الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية.

وفي معرض الرد على هذا الانتقادات (التي عوملت معاملة الحقائق من قبل الكثيرين) أكد البعض أن علماء المسلمين وإن لم يطوروا نظريات بهذا الاسم، فإنهم قد طوروا أصولاً وقواعد (لاستخلاص الأحكام) تقوم بما تقوم به النظريات، ومن ثم يصح اعتبارها بمثابة دليل على حضور التفكير النظري في التراث الفقهي الإسلامي. وقد انحاز الفقيه القانوني المعروف المستشار طارق البشري إلى هذا الرأي، مؤكدًا أن غياب الكلمة لا يعني غياب الوظيفة، فقد قامت الأصول والقواعد الفقهية بالمهام التي أوكلها الغرب للتنظير.[7] حيث كان المشتغلون بالفقه والحديث يوظفونها في استخلاص الأحكام، وفي الترجيح بين الروايات وتصنيفها، وفي الحكم على عدالة الرواة، وهذه الأغراض قريبة من وظائف النظريات كما تستخدم في يومنا الحاضر، فهي عمليات اتسمت بالصرامة العلمية والمنهاجية ولم تتأثر بالخلافات الأيديولوجية والسياسية التي كانت حاضرة دومًا في الخلفية.  

وجهة نظر أخرى تذهب إلى أن العقل المسلم وإن لم يبتكر مفهوم النظرية، فإنه لم يتأخر كثيرًا في الاستفادة منه، حيث بدأت عملية توظيف مفاهيم النظرية والتنظير في إطار المؤسسات المعنية بدراسة الشريعة والفقه الإسلامي منذ وقت مبكر، تزامن مع سعي العديد من الفقهاء المعاصرين “لتجديد الفقه وتطْويرِه”؛ وبشكل خاص بعد أن شاع التدوين القانوني المتأثر بالنمط الغربي، وبعد أن صارت “الشريعة والقانون” عنوانًا مشتركًا للعديد من الأقسام الأكاديمية في إطار بلدان العالم الإسلامي.[8]

فبعد أن لاحظ المشتغلون بالفقه خصوصًا والعلوم الشرعية عمومًا أن منظومة الفقه تتراجع لتحل محلها منظومة “القوانين الوضعية”، وبعد أن استشعر هؤلاء تزايد حدة الانتقادات الموجهة لمنظومة الفقه، (متهمة إياه بعدم القدرة على مواكبة التطور التشريعي الحديث)، كان من ضمن الإجراءات التي نهضوا بها العمل على استدخال مفاهيم النظرية والتنظير ضمن بنية الفقه الإسلامي، بهدف تقريب أحكام الفقه الكلية من النظريات القانونية، وتطوير المقولات الفقهية بنفس الطريقة التي تم من خلالها تطوير القواعد القانونية في إطار منظومات القوانين الوضعية.[9]

في هذا السياق يمكن ملاحظة تأثر طرق تدريس الشريعة الإسلامية، (التي عرفت تاريخًا طويلًا من تعدد المذاهب والمدارس والآراء الفقهية، وعكست حالة من الحيوية والثراء في الفهم والنظر والتفاعل المرن مع واقع يتغير باستمرار)، بطرق تدريس القانون (الغربي/الوضعي/الحداثي)، وبالأطر المعيارية والشكلية التي تعمل المقررات القانونية الغربية وفقا لها، وبخاصة من زاوية السعي للتوصل إلى جملة من النظريات القانونية، التي تضع حدًا للتنوع في الآراء، وتضبط آليات القضاء والفتيا، وفق رؤى مختارة وبدائل محددة.[10]

وكان من أبرز مظاهر هذا التأثر تطوير “النظريات الفقهية” ضمن جهد أوسع لإنتاج مدونات جامعة، على غرار المدونات القانونية. حيث خرجت إلى حيز الوجود العديد من الكتابات الفقهية التي بُوِبَت موضوعاتها على وفق النمط الجديد، أي على شاكلة المدونات القانونية. حيث أكدت العديد من هذه المؤلفات على الجانب الحقوقي في النظريات الفقهية، مما دل بوضوح على أن المحفز الذي مثلت هذه المؤلفات رد فعل له، كان هو القوانين والمدونات الغربية.[11]

انبثاق “النظريات الفقهية”، كان وفقًا للبعض إجراء ضروريًا لمواكبة الحالة العلمية السائدة، فيما ذهب آخرون إلى أنه أدى — ضمن ما أدى إليه — إلى اختزال تنوع المنظومة الفقهية لصالح مقولات نظرية/قانونية مصمتة، الأمر الذي مثل نوعًا من الردة عن التنوع إلى الواحدية. فضلًا عن أنه عكس تقليدا لفكرة القانون الغربي (الذي طرح على أنه قالب لمعرفة شاملة، ومعيارا عاما لكل من الفكر والممارسة في موضوعه)، بينما الأصل في الفقه الإسلامي أنه مُتميز في مصادره ومسائله وكافة مظاهر تشكلاته. وفي ضوء هذه التقييمات المتباينة تثور تساؤلات حول موقع التنظير في مجال اجتهاد العقل المسلم، وما إذا كان الفقه قد خلا بالفعل من التنظير بلفظه ومعناه، أم أنه غاب بلفظه وحضر بمعناه؟

حول اتهامات الاستشراق

إذا كان المشروع الاستشراقي قد أخذ على عاتقه إعادة إنتاج النسق المعرفي الإسلامي، وتغيير الطريقة التي ينظر بها المسلمون إلى تراثهم الفقهي، فإن منهجه في ذلك لم يكن — غالبا — عبر الكشف عن روح التراث الحقيقية، وإنما عبر ممارسة نوع من الإسقاطات الحضارية، التي حملت في كثير من الأحيان نوعًا من الغلو في وصف سلبيات العقل التراثي، وافتراض أن مشكلات التاريخ الغربي حاضرة بشحمها ولحمها في إطار تراث الشرق.

من ذلك أنه تم — تحت تأثير “الخطاب الاستشراقي” — الانتقاص من حالة “التنوع الفقهي”، واعتبار أن تعددية المذاهب والمدارس والآراء كانت ضمن العوامل التي منعت تطور “البيئة التشريعية” في إطار العالم الإسلامي، وأدت إلى عدم اكتمال نضج منظومتي العدالة والحقوق ضمن إطار مؤسسي يناسب ما انتهى إليه المجتمع المعاصر من تعقيد ومركزية.

الاستشراق هو مصطلح يشير إلى دراسة ثقافات ولغات وحضارات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا من قبل الغربيين. نشأ الاستشراق في العصور الوسطى، لكنه ازدهر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر خلال عصر الاستعمار الأوروبي.

الخطاب الاستشراقي، وهو يوجه هذه الانتقادات للشرق المسلم، كان يستحضر — فيما يبدو—مشكلات الحضارة الغربية في فترة ما قبل الدولة القومية الحديثة، معتبرًا أن الشرق المعاصر يمر بمرحلة تشبه مرحلة ملوك الإقطاع في أوربا العصور الوسطى، من حيث التشتت، وغياب المؤسسات التشريعية المنظمة، وذلك بطبيعة الحال انطلاقًا من فرضية المركزية الأوربية ومرجعية التاريخ الأوربي، والنظر إليه باعتباره المعيار الذي ينبغي قياس تطور كافة الأمم الأخرى على وفقه.

وكما لاحظنا فإن الكثير من اتجاهات الخطاب الفقهي المعاصر لم تتعامل مع هذه الاتهامات الاستشراقية على نحو نقدي، وإنما تم اعتبارها تجسيدا لما عليه الواقع فعليا. من هنا تمثل رد الفعل التلقائي إزاءها في التبرؤ منها وتبني الطرح المعاكس لها. وإذا كان الاتهام الأبرز في حالتنا هو الاتهام بغلبة العقل الجزئي (ما أدى إلى غياب التنظير)، فإن ردة الفعل إنما تمثلت في إنكار تهمة “الجزئية”، وفي نفس الوقت المسارعة إلى تطوير “نظريات”، حتى لو كانت هذه مجرد محاكاة غير متقنة للنظريات الغربية، وحتى لو لم تكن النظريات هي الشكل الأفضل للتعبير عن المعرفة الإسلامية، وصوغها بطريقة مقبولة.

هذا ولم يقتصر الأمر على أهل الفقه وحدهم فأهل التفسير وأهل القراءات وأهل اللغة والبلاغة وجدوا أنفسهم، ربما تحت ضغط مزاج عام صار بدوره ميالًا إلى فكرة الرأي الواحد والمعنى الواحد والتفسير الواحد والقراءة الواحدة، وجدوا أنفسهم منساقين باتجاه التنظير، الذي هو بحكم التعريف يختزل المتنوع وينمط المتعدد. وبدلا من الاحتفاء بالتعدد في احتمالات تفسير آيات القرآن الكريم، وفي طرق تلاوته، وفي تنوع أوجهه الإعرابية وطرق تذوقه بيانيًا وبلاغيًا، صار المعاصرون من علماء كل فن من الفنون السابقة أقرب إلى ترجيح وجهة نظر واحدة، وقراءة واحدة، وتفسير واحد، وإعراب واحد، ووجه بياني وبلاغي واحد، وذلك ضمن رؤية جديدة باتت تضيق بالتنوع، وتميل إلى صب الآراء المتعددة في إطار مقولات محددة (نظريات). ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت “النظريات” هي بالفعل ذلك المكون المنهاجي الذي يحتاجه الفقه لاستعادة فاعليته، التي بلا شك أصابتها بعض مظاهر التدهور والانقطاع، وكيف نفهم السعي الدؤوب لكثير من الفقهاء المعاصرين إلي تأكيد أهمية النظريات الفقهية، تطويرًا وتأصيلًا وتوظيفًا، وهل أدى تطوير “النظريات الفقهية” بالفعل إلى انتعاش الحراك الفقهي واستئناف خط صعوده المجهض؟ كما يتعين التساؤل عما إذا كانت “الجزئية” هي التشخيص الصحيح لمشكلات العقل الفقهي، التي يجب التخلص منها لمعالجة أدواء هذا العقل، والأخذ بيده لمسار التعافي، أم إن هذه الجزئية يمكن النظر إليها على أنها تعبير عن مستوى إجرائي تنفيذي لعقل كلي امتلكه الفقهاء وطوروا مقولاتهم الفقهية في ضوء منه، بمعنى أنه لم تكمن المشكلة في الجزئية بذاتها، ولكن في موازنة حضورها مع حضور الرؤية الكلية والتصور التجريدي.

الفقه والتنظير ضمن ثنائية الواحدية والتنوع

لعل استيعاب ثنائية “الواحدية والتنوع” هو مما يمكن أن يساعد على فهم أسباب اختلاف المقولات النظرية عن المقولات الفقهية، ويمكن شرح هذه الثنائية بالإحالة إلى ثنائية أخرى وهي ثنائية الحداثة والوحي، فالتنظير قد استلهم الأولى، فيما الفقه الإسلامي قد استلهم ونبع من الثاني. فما الذي تشير إليه ثنائية الحداثة والوحي فيما يتعلق بطرفي المقارنة في حالتنا؟ ولماذا نرادف بين الحداثة والواحدية من جانب، والوحي والتنوع من جانب آخر؟

إن التنظير شديد الصلة بالحداثة كحالة وبالتصور الحداثي للعالم كعملية، فالحداثة تستهدف — ضمن ما تستهدف—”ممارسة التحكم العقلاني في العالم”، وهذا التحكم الحداثي — كأي تحكم — يناسبه دومًا إغفال التفاصيل (أو التخلص منها)، وتجاوز الحالات المعينة (أو إهمالها)، على أساس أن التفاصيل قد تمثل استثناءات على ما يراد تعميمه وفرضه، أو تمثل استدراكات على ما لا يود المتحكم أن يستدرك بشأنه. التحكم يناسبه التخلص من حالات التعدد والالتباس وعدم الوضوح، ويصر على الوضوح والحقيقة المطلقة والقدرة على سبك الواقع ضمن أطر محددة وغير ملتبسة. التحكم بعبارة أخرى يستهدف نفي التعدد، والغموض والتنوع، ويتجاوز الإمكانات اللانهائية المزود بها البشر لفهم العالم وتفسير ظواهره.

تشير الحداثة إلى مجموعة من التغييرات الجذرية التي طرأت على مختلف جوانب الحياة في المجتمعات الأوربية، والتي تشمل أمورا مثل سيطرة العقلانية والعلمانية على التفكير. التأكيد على أهمية الفرد وقيم الحرية والمساواة. الإيمان بالتقدم والتطور المستمر.

مما يناسب التحكم أيضًا أن يتم وفق أسلوب عقلاني (يقوم على معايير موحدة)، ومن صور صياغة المعايير الموحدة صك عبارات قاطعة ومباشرة يمارس في ضوئها التحكم، وهو ما تمت ترجمته في إطار القوانين والمدونات التشريعية. فهذه القوانين والتشريعات المدونة تعكس —على نحو عقلاني — الرغبة الحداثية في التحكم في الواقع، وتترجم الموقف الحداثي من التنوع على نحو شديد الصرامة، فهي لا تستبعده فقط، ولكنها بمعنى من المعاني تدينه وتجرمه أيضًا.

ولهذا فإن الأصل في التنظير/التقنين أنه ضجر بتعددية الواقع، وازدحامه بالتفاصيل، وتغيره الذي لا يتوقف، كما إن أهل التنظير/التقنين تواقون إلى التوصل إلى النظرية التي يتسع نطاق تطبيقها لكل الجزئيات (النظرية التي تفسر كل شيء، أو نظرية النظريات كما يقول البعض، أو المقولة القانونية التي ليس بها ثغرات). من هنا مثّل التنظير/التقنين تعبيرا صريحا عن “الواحدية”، من حيث هي سعي للوصول إلى الصيغة العامة المجردة التي تسري على جميع الأجزاء. صحيح أن النظريات القانونية يمكن أن تصاغ وتستقى من منابع شتى، ولكنها في النهاية (متى صيغت في شكل مدونة قانونية محددة) تضع حدًا لحالة التنوع والتعدد، فبدلًا من وجود مذاهب مختلفة ومدارس متنوعة وآراء تتفاعل مع الواقع وتنفعل بمتغيرات هذا الواقع، يصبح لدينا مقولات قانونية صارمة، يتم العمل بموجب بنودها المحددة، وإدانة أو حتى تجريم كل من يعمل بخلافها.

ومن الطبيعي أن يتساءل المهتمون بنشأة وتطور الفقه الإسلامي عما إذا كانت استعارة هذه الطريقة (التنظير/التقنين) في التصور والعمل، تفرغ الحراك الفقهي من ديناميته، أم إن هذه الصيرورة (تحول الفقه إلى نظريات فقهية، ومدونات قانونية) هي تطور ضروري، كان لابد وأن تشهده منظومة الفقه الإسلامي حتى تحقق أغراضها.

إن روح الوحي قد صبغت الفقه الإسلامي كما صبغت التشكيل الحضاري الإسلامي منذ لحظته الأولى بصبغة خاصة، فكما كان الوحي يتفاعل مع الواقع، فينزل منجمًا استجابة لتفاصيل حياتية جارية، كذلك سادت حالة تفاعلية نشطة بين الفقه وبين تفاصيل الواقع، لم تستهدف قولبة الواقع، ولا قولبة أفراده، وإنما تعاطت على نحو شديد المرونة والاستيعاب مع مسألة التغير، بوصفه أحد مكونات الوجود التي لا يمكن تجنبها، فلم يسع الفقه إلى نفي التغير أو إنكاره، وإنما إلى مراقبته وتوجيهه، حتى انعكست عليه ديناميكية الواقع وحيويته وتجدده.

المقولات الفقهية — بهذا المعنى — لم يُرد لها أن تكون مجرد قوانين، أو نظريات، تقيد الواقع، أو تتحكم فيه، وإنما أريد لها أن توجه الواقع وترشده. أريد للمقولات الفقهية أن تراعي التنوع لا أن تفرض أنماطاً، أريد لها أن تربط بين التصور والعمل، بحيث يصدر العمل مشبعًا بأساسه التصوري، لا أن يتم الفصل بينهما في إطار ثنائية (النظر والتطبيق)، أريد لها أن تراعي الأغلبية، ولكن أن تسمح في نفس الوقت بورود الاستثناءات. من جانبه فإن الخطاب التوجيهي للوحي أقر دومًا مبدأ الاستثناء على الأحكام، مراعاة لحال أهل الأعذار وغيرهم (في الصيام، والزكاة، والحج وغير ذلك). فمن يوجه يناسبه أن يراعي الاستثناءات، أما من يريد التحكم فلا يناسبه إلا أن يعمم.

المدهش أنه بعد أن تسربت الحداثة — بطرق شتى — إلى العقل المسلم، أصبح ثمة تفضيل لطريقة التقنين، والتنظير، وأصبح تصور أن الواحدية هي الأصل هو التصور المبدئي الذي يصدر عنه كثير من العلماء، والفقهاء، بل وحتى الحركيين، فالكثير من المشتغلين بالحركة “أصبحت تحركهم أيديولوجيا الصورة الواحدة للنموذج الإسلامي المثالي، أي النموذج الذي ينبغي أن يتم العمل على استعادته، وصياغة الواقع على وفقه، حتى لو كان هذا النموذج لم يتواجد على مدار التاريخ إلا في أذهان من يرومون تحويله إلى واقع ضيق يحملون الجميع على اعتناقه.”[12]

ولهذا يذهب البعض إلى أن التصور الأحادي الذي بات يصبغ العديد من تيارات الفكر والحركة، هو تصور نابع من التأثر بالصورة الحداثية للعالم، وليس نابعًا من الصورة الأصلية للتاريخ والحركة والفكر الإسلاميين. هذا ويتم التأريخ لغلبة هذه العقلية (الأحادية) بالقرنين الأخيرين تحديداً، حيث بدأت تجربة الاحتكاك وجهًا لوجه بالحداثة الغربية. المفارقة وفقا لوجهة النظر هذه أن الغرب نفسه قد طبع العقل الإسلامي المعاصر بما صار يتهمه به لاحقًا من (عدم تسامح مع التعدد والتنوع).

حول مآلات التنوع

يؤكد مجرى التاريخ العام وتاريخ الفقه الإسلامي صحة فرضية غلبة التنوع على الواحدية، ورغم ذلك يدعي البعض أنه حتى لو كان التاريخ الإسلامي شاهدا على غلبة التنوع، فإن سنن الواقع الاجتماعي تنص على أن كل ما يبدأ متنوعًا وتعدديًا لابد وأن ينتهي أحاديًا ومحددًا، وذلك على اعتبار أن الاستقرار على شكل نهائي هو المآل الطبيعي لأي حالة أصلية من التفاعل والتنوع.

فالبقاء على أصل التفاعل يثير دومًا إحساسًا بالقلق، ما يدفع إلى محاولة تجاوزه ووضع حد له، بالوصول إلى شكل من الاستقرار والنمطية، حتى تتحقق الفاعلية والغرض النهائي (وعلى هذا الأساس — وفقا للبعض — قام الصحابة رضوان الله عليهم بجمع المصحف على حرف قريش، الأمر الذي وضع حدًا لتعددية القراءات، التي كانت مظهرًا من مظاهر المرونة في التعامل مع النص المؤسس للحضارة الإسلامية. كما يعتبر آخرون أن كتب التحقيق والاختصارات تعمل العمل نفسه داخل المذاهب الفقهية، الأمر الذي أرسى ملامح نظام فقهي واضح وموحد على الأقل فيما يتعلق بكل مذهب فقهي على حدة، نفس الشيء يمكن أن يقال بخصوص حصر المذاهب في أربعة مذاهب سنية، وتفضيل كل منها لآراء فقهية معينة باعتبارها آراء سائدة، حيث نظر إلى هذا الإجراء على أنه وسيلة ضرورية لترويض التعدد وإمكانية الاستفادة منه على نحو عملي).[13]

إن تأمل هذه العلاقة (العملية) بين الأصول المتنوعة والمآلات الواحدية يدفع باتجاه التساؤل عما إذا كانت استعادة روح التنوع (في الفقه وغيره) تحمل فائدة مؤكدة، أم إنها يمكن أن تمثل مدخلًا للتفكيك، وعن كيفية الرهان على التنوع والتعدد في ضوء التوجيه الإلهي: “أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ” (الشورى 13)، فهل التعددية (الفقهية والمذهبية وتعددية القراءات وتعددية المدارس والاتجاهات) مدخل للفرقة في الدين، أم إنها من الدين، أو حتى هي الدين؟ وهل يمكن للتعددية والتنوع أن تكون مدخلاً أصليًا لإقامة الدين، أم إنها يجب أن تظل كوضع استثنائي يتم اللجوء إلى تفعيله في أوقات الضرورة؟ وعلى الجانب الآخر، هل التنظير، واللجوء إلى المقولات العامة (التي ينسحب مضمونها على كل الجزئيات) هو التطور الطبيعي للمقولات الفقهية التي لم يكن من المتصور أن تستمر في تعددها وتنوعها وتفرعها وتشعبها إلى ما لا نهاية؟ وهل التنوع والتعدد في المقولات هو مما يفيد المجالات المعرفية المختلفة، أم فقط المجال الفقهي؟

ما مضمون “النظريات الفقهية” وهل تعد محاولات تنظيرية مكتملة؟

كما سبق القول، يذهب اتجاه معتبر من الفقه المعاصر إلى أن العقل المسلم لم يتأخر في التجاوب مع الوضع المعرفي السائد، الذي من معالمه تطوير النظريات في فروع العلم المختلفة، حيث يؤكد هؤلاء على أن مفهوم النظرية لم يكن فقط حاضرًا بروحه، وإنما تمكن حقل الفقه من تطوير “نظريات فقهية” فعلية. وفي هذا الإطار يعتبر العديد من المشتغلين بالفقه الإسلامي أن توظيف مصطلح “التنظير”، يمثل اجتهادًا “يعطي للفقه حيوية في البحث والتأصيل العلمي”. حيث يؤكد هؤلاء أن استخدام التنظير يدخل ضمن اعتبارات التجديد والابداع الذي ينشده سديد المعقول في حراسة صحيح المنقول.[14]

وجهة النظر التي لم تر في ممارسة “التنظير الفقهي” بأسًا، ومارسته بالفعل، كان مستندها غالبًا أن التنظير إنما يبتغي الوصول إلى المقولات العامة والمجردة، وأن التعميم/التجريد هو هدف محايد، ومستوى منهاجي معتبر، ومعمول بمقتضاه في إطار بنية الفقه الإسلامي نفسها، ولهذا يمكن النظر— من دون حرج — إلى ما يصدر من “أحكام” في إطار واقعة معينة، على أنه يشكل في مجموعه نظرية عامة، تنفرد بمفهوم كلي، ذي موضوع معين، وأركان، وشروط، ولها آثارها التي تنبني عليها.[15]

ولهذا أصّل هؤلاء لمفهوم التنظير الفقهي على أساس من كونه “تصور مجرد جامع للقواعد العامة، الضابطة للأحكام الفرعية الجزئية”. هذا التصور يقوم بالذهن، سواء عبر الاستنباط بالتسلسل الفكري المنطقي، أو عبر استقراء الأحكام الفرعية الجزئية.[16]  كما يتصف هذا التصور بالتجريد، إذ يحاول أن يتخلص من الواقع التطبيقي لينفذ إلى ما وراءه من فكرة “تحكم” هذا الواقع. وبمراجعة التعريفات التي قدمها دارسو تطور النظرية الفقهية الإسلامية سوف نلحظ أن هذا المعنى قد تكرر بوضوح في معظمها.[17]

النظرية الفقهية هي تصور مجرد جامع للقواعد العامة، الضابطة للأحكام الفرعية الجزئية.

وعلى هذا الإساس فإن استخدام مفهوم التنظير للإشارة إلى “المعنى العام الذي تندرج تحته جزئيات البحث” صار استخدامًا شائعًا في إطار ما يسمى بالنظريات الفقهية.[18] وقد حاز مثل هذا الاستخدام تأييدًا من قبل المجتمع الفقهي بناء على قناعة مفادها أن مطالعة هذه النظريات الأساسية تعطي الطالب ملكة فقهية عاجلة تؤهل فكره، وتعينه على مدارك الفقه.[19]

ومن أمثلة النظريات الفقهية التي صيغت وفق هذا التصور نظرية العقد التي تُنظم العلاقات التعاقدية بين الأفراد. نظرية الضمان التي تُحدد المسؤولية عن الأضرار. نظرية الملكية التي تُعرّف أنواع الملكية وحقوقها. نظرية الإرث التي تُنظم توزيع التركة بعد وفاة صاحبها. نظرية القضاء التي تُحدد قواعد وإجراءات التقاضي. نظرية الجهاد التي تُحدد أحكام الحرب والسلم. نظرية المعاملات المالية التي تُنظم مختلف المعاملات المالية، مثل البيع، والشراء، والإيجار، والقرض.

وقد اتسمت هذه النظريات الفقهية بعدد من الخصائص، مثل: الأساس الشرعي: يجب أن تستند النظرية إلى النصوص الشرعية ولا تُخالفها. الشمولية: يجب أن تُغطي النظرية جميع جوانب الظاهرة التي تُفسرها، الموضوعية: يجب أن تكون النظرية مُوضوعية ولا تُعبر عن آراء أو معتقدات شخصية. الوضوح: يجب أن تكون النظرية مصاغة بعبارات واضحة ومفهومة إلخ.

ولكن، الخصائص السابقة —على أهميتها— لا تفي باعتبارات التنظير، وفقا لمعناه الاصطلاحي، فما يسمى “نظرية” وفقًا لهذا الفهم ليس سوى مجموعة من المسائل أو الأحكام الفقهية المندرجة تحت باب من أبواب الفقه، أو شرح لبعض الأحكام الفقهية دون ربطها بمبادئ أو افتراضات عامة. وكأن التنظير هنا هو درب من دروب تصنيف (تبويب) الموضوعات، وقد قصد به الإشارة على أعلى مستوى من مستويات التصنيف، فهو التصنيف الكلي أو الشامل، الذي يستقصي موضوعًا ما من كل جوانبه وأطرافه. وليس في تسمية هذا النهج بالتنظير مناسبة ظاهرة لموضوع التنظير، فالتنظير إنما يتعلق بالنظر التفسيري، وليس النظر التجميعي، فتجميع أطراف موضوع ما لا يتضمن بالضرورة وصلًا بين هذه الأطراف في إطار مقولة يمكن على أساسها فهم الواقع بطريقة أفضل.

إن التعميم النظري قد عومل في إطار “النظريات الفقهية” على أنه مجرد لون من ألوان “التجريد العقلي” الذي يحتاجه الفقيه لكي يتعامل مع المسائل الفقهية بنفس الطريقة التي يتعامل من خلالها القانوني مع القواعد القانونية العامة والمجردة، فهذه الأخيرة تأتي دائمًا على نحو منضبط ومفهرس وجاهز للاستدعاء عند الحاجة من قبل المؤسسات البيروقراطية، التي لا يشغلها بالضرورة فقهاء يجيدون استنباط الأحكام، وإنما موظفون ارتقوا وفقًا لقواعد الأقدمية أو ما شابهها، ولكنهم وفقًا لمكانتهم الوظيفية مفوضون لإصدار الأحكام والبت في القضايا، ومن هنا كان لابد وأن تتوافر لديهم مقولات قانونية جاهزة ومبوبة وصالحة للاستخدام الفوري. وهذا ما يمكن أن تقدمه لهم “النظريات الفقهية” بعناصرها المحددة، ومقولاتها المنضبطة.[20]

النظرية إذن إنما استدعيت في إطار علوم الفقه لإفادة العموم والتجريد، والتنظير تم التعامل معه على أنه وسيلة مثلى للتبويب والتعميم. وهذا استعمال صحيح من الوجه القانوني (الوجه الذي أريد من خلاله للمقولات الفقهية أن تصبح ذات صبغة قانونية)، ولكنه لا يعبر عن المضمون الاصطلاحي للتنظير، فالتعميم التنظيري هو في التحليل الأخير تعميم تفسيري، وليس مجرد تعميم تبويبي. فالنظرية إنما تعرف على أساس من قدرتها على تقديم تفسيرات عامة وليس مجرد مقولات عامة.

وبناء على ما سبق، عندما تشير وجهات نظر ناقدة إلى غياب التنظير في إطار الفقه الإسلامي، تثور تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الآراء تخلو من المنطق، بعبارة أخرى هل من المقنع الاحتجاج على هذه الانتقادات بأنه قد تم بالفعل تأليف نظريات فقهية؟ ألا تختلف طبيعة النظريات عما تمت صياغته تحت مسمى النظريات الفقهية؟  أليست النظرية إطارا تفسيريا قبل أن تكون إطارًا تصنيفيًا أو تبويبيًا، على نحو ما جرى عليه العمل في إطار الجهود التنظيرية داخل حقل الفقه الإسلامي؟

موقع التفسير في إطار البنية الفقهية

على الرغم من أن التنظير يشير إلى أشياء مختلفة عند الجماعات العلمية المختلفة، إلا أنه وفقًا لأي من تعريفاته المتداولة لا يقتصر على كونه تجريدًا/تعميمًا ينسحب على الجزئيات، وإنما هو تجريد “عقلاني”، أي تجريد يفترض إمكانية الإحاطة العقلية بتفاصيل الموضوع محل التناول، ويدعي القدرة على الإمساك بجوهر الظاهرة المبحوثة. فالتنظير كما سبق القول يحمل قدرًا من النَفَس الحداثي، الذي يفترض أن العقل صورة للعالم، وأنه بمقدور العقل أن يعكس العالم فيلخصه في جملة ويفسره بمقولة.

ولما كان من المفترض أن المقولات الفقهية تنطلق من نسق معرفي مغاير، يعتمد على الاجتهاد، وعلى أن رأي الفقيه صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب، كان التعدد في الآراء الفقهية، وكان الثراء في التعبير عن الظواهر من وجوه شتى، وكان تعدد وجوه الرأي والفهم. فالعقل المسلم لا يفترض الهيمنة على الواقع، ولا الإحاطة بكافة جزئياته، ومن هنا وُصف النشاط العقلي لدى المسلمين بالاجتهاد، وليس بالتنظير، فالعقل في النهاية قاصر عن أن يحيط بكافة التفاصيل، ومن ثم فإن ما ينتج عنه من محاولات لإدراك الواقع ليست قولًا فصلًا لا يحتمل المراجعة.

من ناحية أخرى فإن ما يشغل العقل المسلم في المقام الأول هو احتواء الظواهر داخل أطر شرعية، أو بعبارة أخرى إيجاد نسب شرعي للظواهر،[21] من خلال الحكم عليها وليس تفسيرها، (على سبيل المثال الحكم على التضخم، وليس تفسير التضخم، والحكم على الاحتكار وليس تفسير لماذا ينشأ الاحتكار إلى آخره)، وذلك على اعتبار أن التفسير هو بمثابة مقولة كلية نهائية، ترتب نتائج متناهية على مقدمات غير متناهية، وترد الواقع المتنوع إلى مقولات محددة، تمسك بقبضة الحقيقة وتلخصها في جملة أو بعض جمل، على نحو يختزل العديد من عوامل التسبيب، لصالح ما يُظن به أنه الأكثر أهمية والأكثر قدرة على تفسير الظواهر.

وكما هو معلوم فإن الفقه ينطلق من قاعدة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن هذا المنطلق يبدو أن التصور الفقهي يميل للوصف بأكثر مما يتصدى للتفسير، فثمة دقة فقهية شديدة في استعراض تفاصيل المسائل الفقهية، مع وضع الشروط والقيود، حتى لا تختلط بغيرها، (الأمر الذي ساعد على تكوين تراثا فقهياً ثرياً على مستوى الوصف والحكم). كما أن السؤال الأساسي الذي يعنى به الفقه هو سؤال “ما العمل؟” (التوصل إلى الأحكام العملية التي تنظم حياة المسلمين فيما بينم وتنظم علاقتهم مع غيرهم)، فيما التنظير يتعلق بسؤال تفسير الواقع (وهو غرض معتبر، ولكنه لا ينعكس بالضرورة على العمل). ولهذا يذهب البعض إلى أن الفقه لم يُعن بمسألة البحث النظري في الأسباب، بقدر عنايته بكيفية التصرف إزاء النتائج. ولكن يبقى السؤال عن موضع التفسير في إطار الجهد الفقهي؟ هل بالفعل لم يهتم الفقه بتفسير الواقع؟ وما هو موقع الفقه بين الوصف والتفسير والحكم؟ وأين وكيف تتقابل وظائف الفقه ووظائف النظريات؟ وهل يتعين أن تمثل مسألة صياغة نظريات تفسيرية أولوية بالنسبة للعقل الفقهي المعاصر؟

صعوبات الحديث عن النظرية الفقهية

لم يكن غياب البعد التفسيري فيما يسمى بالنظريات الفقهية المعاصرة هو العائق الوحيد أمام جهود سبك الأحكام الفقهية في إطار ما أطلق عليه “النظريات الفقهية العامة”، فقد عقب البعض على هذه الجهود بالقول إن “النظرية” في التحليل الأخير وليدة “الفكر الإنساني”، فيما الأحكام الشرعية لا تستخلص وفق نفس الطريقة التي تستخلص من خلالها النظريات. لذلك كان الفقهاء أدق عندما سموها أحكامًا، وعقدوا لكل مجموعة متجانِسة من الأحكام بابًا، وبناء عليه ليس واردا أن يطلق على حكم الوحي، ويصطلح عليه، بما يستخدم لوصف نتاج الفكر البشري لتباعد المصدرين.[22]

كما أكد آخرون أن استخدام النظريات هو أمر “فرضه الوضع العلمي (المشبع بالرؤية الغربية للعالم)، وهو وضع لا يحتكم إلى أساس من الوحي كمصدر للمعرفة، ويقتصر على دراسة الوجود المادي، مما ألزم أصحابه محاولة إيجاد معيار ومبدأ يرجعون إليه للربط بين القوانين، ولاستنباط الأحكام من ذلك المعيار والمبدأ. ولهذا فإنه بالنسبة للمسلمين، الذين يمثل الوحي بالنسبة لهم معيارًا ومبدأ أساسيًّا لاستنباط الأحكام، لم يتم تطوير نظريات بالمعنى السابق في تراثهم. لكونه مفهوما مشبعا بخصائص معرفية غريبة عن الأسس المعرفية الإسلامية.[23]

رغبة البعض في مضاهاة التحديث القانوني —وفقا لوجهات النظر الناقدة— هي ما دفعتهم، ضمن أسباب أخرى، إلى تصور إمكانية صياغة “نظريات فقهية”، على نفس النحو الذي صيغت به “النظريات القانونية”، لتمثل نظاما موضوعيا تنطوي تحته الجزئيات. ولكن غرض “التعميم” كما سبق القول، مناسب لأغراض الضبط والتحكم، في حين أن التنوع الفقهي يبدو في التحليل الأخير أكثر اقترابًا من طبيعة البشر، وأكثر التصاقًا بواقعهم، وأكثر تعبيرًا عما يهمهم، وأكثر قابلية لتوجيههم وإرشادهم، إذا ما قورن بنمط التنظير القانوني، الذي ينمط الواقع وأفراده في إطار من المقولات العامة، التي يفترض فيها (على غير الحقيقة) أن بمكنتها تلخيص الواقع، والتاريخ، والبشر. ويبقى السؤال هل يمكن طرح تعريف جديد لمعنى النظرية من وجهة نظر إسلامية، لتأخذ في الاعتبار فكرة التعددية، كما تأخذ في الاعتبار بنفس الوقت فكرة المرحلية (ما يعني أنها لن تصاغ لكي تكون مقولات مطلقة ونهائية في موضوعها)؟

ما الذي قد يلحقه التنظير بالفقه من أضرار؟

يقول الإمام السيوطي

فكانت المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة، كلٌ مأمور بها في هذه الشريعة، فصارت هذه الشريعة كأنها عدة شرائع، بعث النبي صلى الله عليه وسلم بجميعها، وفي ذلك توسعة، …لقدر النبي وخصوصية له على سائر الأنبياء، حيث بعث كل منهم بحكم واحد، وبعث هو صلى الله عليه وسلم في الأمر الواحد بأحكام متنوعة، يحكم بكل منها، ويصوب قائلها ويؤجر عليها ويهدي بها.[24]

تلخص الفقرة السابقة وجهًا واحدًا لما كان يعده الأقدمون فوائد للتعدد، ولكن المعاصرين — كما سبق القول— يميلون إلى التحديد، عبر “صياغة النظريات” التي تحول طبيعة الموضوعات التي تتناولها من السعة إلى الضيق. ولهذا يخشى البعض أن يؤدي استدخال مفهوم النظرية والتنظير في إطار منظومة الفقه الإسلامي إلى تغيير طبيعة الشريعة، أو أن يكون هذا جزءًا من المحاولة الاستشراقية الممتدة لإعادة صياغة العقل المسلم. أو أن يكون ببساطة تأكيدًا على استلحاق العقل المسلم بالمركزية الغربية، وإجهاضًا لمحاولة توجيه التاريخ الإسلامي بعيدا عن هذه المركزية. (ربما تبدو الأمور أقل خطورة عند مناقشة التنظير في مجالات المعرفة الأخرى، فمن المفهوم أن الدور المعياري الذي يلعبه الفقه أكبر أثرًا في حياة المسلمين من خطابات الاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرهم).[25] ولهذا المخاوف يبقى التساؤل: إذا كانت أهداف التنظير مغايرة لأهداف الفقه، فكيف يمكن للفقه بأدواته الذاتية أن يمثل قاطرة لإصلاح الواقع؟، بعبارة أخرى هل ينبغي أن يلعب الفقه دومًا أدوارًا محافظة، أم أنه يمكن أن يمارس أدوارًا إصلاحية إزاء الواقع؟ وإذا كانت الإجابة عن السؤال السابق بما يفتح الباب أمام ممارسة الفقه لأدوار إصلاحية فما الأدوات الذهنية (بخلاف النظريات) التي يمكن أن يصب فيها الفقه مقولاته بخصوص تطوير الواقع وتوجيهه؟

******

* أستاذ مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.

[1] صلاح قنصوة، فلسفة العلم، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002)، ص 196.

[2] Douglas Harper, “theory”. Online Etymology Dictionary, at: https://bit.ly/49rhWdU

[3] انظر: فرانسيس بيكون، الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة، ترجمة عادل مصطفى (وندسور: هنداوي، 2017).

[4] التساؤل عن العلاقة بين الفقه والتنظير لا يعني أن العقل المسلم لم يفصح عن نفسه إلا من خلال الفقه ومقولاته. فقط التساؤل بهذه الطريقة يبدو أكثر قابلية للتناول، لأن الفقه ميدان محدد، ومن ثم يمكن اختبار هذه العلاقة بتركيز أكبر في إطاره، على العكس مما لو اختبرناها في إطار كتابات مؤرخي التاريخ الإسلامي، أو في خطابات المتكلمين والفلاسفة أو في أشعار المتصوفة، من ناحية أخرى فقد مثل تداخل الخطابات المعرفية مع الخطاب الفقهي ملمحًا مميزًا في إطار التاريخ الإسلامي، حيث كانت الكتابات في موضوعات مثل الاقتصاد أو السياسة أو الاقتصاد تحمل توجهًا فقهيًا واضحًا، وتتم على أيدي فقهاء، ولم تتمايز الكتابة في الموضوعات المعرفية عن الكتابات الفقهية إلا بعد التقاء الشرق بالغرب، وتأثر المعرفة الإسلامية بمنتجات الحداثة، والتي كان من أبرزها ما صار يطلق عليه “العلوم الاجتماعية”.وفي ضوء هذه المبررات فإن هذه الورقة ستبحث عن النظرية ضمن الحقل الفقهي بالأساس.

[5] طارق البشري، حول العقل الأخلاقي العربي، نقد لنقد الجابري، المستقبل العربي، مجلد 24، عدد 276، ص ص 52: 77. مالك بن بني، فكرة الأفرو-أسيوية، في ضوء مؤتمر باندونج، ترجمة عبد الصبور شاهين، (دمشق: در الفكر، 2001). هذا وقد نبهت المعاجم العربية المعاصرة إلى أن لفظ النظرية من المولَّد، وأن معناه “قضية تثبت بالبرهان” أو أنه “جملة من التصورات المؤلفة تأليفاً عقلياً، تهدف إلى ربط النتائج بالمقدمات”، ولهذا قد لا يكون من المفيد أو الملائم أن نبحث عن أصل الكلمة أو جذورها في المعاجم القديمة. ولا أن نحلل صياغتها كمصدر صناعي من الفعل الثلاثي نظر، لنصل بذلك إلى معنى عربي لكلمة نظّر، كما أوردته كتب الفلسفة والمنطق. فالكلمة غريبة عن تراثنا، لفظا ومعنى. انظر: مسعود بن موسى فلوسي، محاضرات في النظريات الفقهية، قسم الشريعة، كلية العلوم الإسلامية، جامعة باتنة، 2018، ص 3.

[6] انظر: المبروك الشيباني المنصوري، صناعة الآخر: المسلم في الفكر الغربي، من الاستشراق إلى الإسلاموفوبيا (بيروت، نماء، 2014).

[7] يذهب المستشار البشري إلى أن أصول الفقه هو المكان الطبيعي الذي يمكن أن نعثر فيه على التنظير الإسلامي، أو على ما يقوم مقام التنظير في إطار المنظومة الفكرية الإسلامية. وما يقوم مقام التنظير ليس الحكم الشرعي نفسه، ولكن أدلته، من حيث الجملة لا من حيث التفصيل. فعلم الأصول فلا يتعرض للمسائل الخاصة إلا على وجه ضرب الأمثلة، وهو بهذا قرين التنظير المتعلق بالعموم، فالنظرية بطبيعتها عامة. علم أصول الفقه يختلف بهذا المعنى عن النظريات السلوكية الجزئية التي تتعلق بتفاصيل مفردة وحوادث بعينها. انظر: البشري، حول العقل الأخلاقي العربي، مرجع سابق.

[8] قبلي بن هني، التعريف بالنظريات الفقهية وأهمية دراستها، مجلة الدراسات الفقهية والقضائية، المجلد 1، العدد 1، ديسمبر 2015، ص 46.

[9] بلغت محاولات “تحديث” الفقه الإسلامي نتيجة ملموسة وفق المعنى السابق في العام 1877، عندما تم وضع القانون المدني الإسلامي في الدولة العثمانية، وأصبح هو القانون الساري في الدول التابعة للدولة العثمانية حتى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبذلك تحققت الوحدة التشريعية الملائمة لمطالبات التحديث، ولكن الغريب في الأمر أنه بعد أن جرى هذا التحديث أصبح على اليهود والنصارى لأول مرة في إطار العالم الإسلامي أن يخضعوا للتعاليم المدنية الإسلامية، لاحقا اكتفت هذه الدول بالنص على أن الشريعة هي مصدر تشريعاتها الوضعية المعمول بها فعليا. انظر، توماس باور، ثقافة الالتباس، ترجمة: رضا حامد قطب (الشارقة: منشورات الجمل، 2017) ص 211- 212.

[10] انظر: مسعود بن موسى فلوسي، مرجع سابق.

[11] تجب ملاحظة أن هذا القيد غير لازم، فالنظرية الفقهية لا تنحصر في الجوانب الحقوقية، حيث صيغت العديد من النظريات الفقهية في أبواب العبادات وغيرها من أبواب الفقه الإسلامي. انظر مسعود بن موسى فلوسي، مرجع سابق.

[12] توماس باور، مرجع سابق.

[13] توماس باور، مرجع سابق، ص 209

[14] هني، مرجع سابق، ص 43. وقد قُدِّمت حجج متنوعة لدعم وجهة النظر هذه، منها أن كونه (أي التنظير) وليد تشكيل حضاري مغاير هو أمر لا يضر، وأن النظريات يمكن النظر إليها على أنها مرادفة للقواعد الفقهية، على اعتبار أن ما بينهما من الفرق لا يعدو أن يكون فرقا في الصياغة فقط، كما إن من إيجابيات النظريات: تيسير حفظ المعلومات، وحسن عرض الإسلام على غير المسلمين، وتسهيل التقنين، وفتح أبواب التطبيق الرسمي للشريعة، ودفع التناقض من خلال تناول المسائل الفقهية المتباينة بمقولات فقهية متجانسة. كما أن التنظير يقدم معيارا للنقد وإدراك الفوارق، لأن الناظر حينما يجمع الصور المختلفة في المكان الواحد يمكنه أن يقارن بينها، والمقارنة طريق عملي لفتح باب مسائل جديدة، وأخيرا فإن النظريات تعين على معرفة أسباب تعدد الأحكام، وبها يظهر الرباط بين الأحكام وبين المقاصد والعلل، والعلاقة بينها وبين أسرار التشريع. وعلى هذا الأساس مال الكثيرون إلى تبني التنظير كمفهوم منهاجي، يمكن ترتيب مصنفات الفقه على أساس منه. انظر: أفلح بن أحمد الخليلي، تأصيل منهج النظريات، بحث ضمن أعمال ندوة تطور العلوم الفقهية المنعقدة في سلطنة عمان، النظرية الفقهية والنظام الفقهي، مسقط، 2012.

[15] محمد فتحي الدريني، النظريات الفقهية (دمشق: منشورات جامعة دمشق، 1981)، ص 139.

[16] جمال الدين عطية، التنظير الفقهي (الدوحة، 1987).

[17] عرف الدريني “النظرية العامة” في إطار الفقه الحديث بقوله: “مفهوم كلي قوامه أركان، وشرائط، وأحكام عامة، يتصل بموضوع معين، بحيث يتكون من كل أولئك نظام تشريعي ملزم، يشمل بأحكامه كل ما يتحقق فيه مناط موضوعه”. وذهب أحمد فهمي أبو سنة إلى أن “النظرية الفقهية” تشير إلى “القاعدة الكبرى التي موضوعها كلي، تحته موضوعات متشابهة في الأركان، والشروط والأحكام العامة، كنظرية الملك، ونظرية العقد، ونظرية البطلان.” وعرفها آخرون بأنها موضوع يشتمل على مسائل أو قضايا فقهية، حقيقتها أركان وشروط وأحكام، تقوم بين كل منها صلة فقهية، تجمعها وحدة موضوعية تحكم هذه العناصر جميعًا، وذلك كنظرية الملكية، ونظرية العقد، ونظرية الإثبات، ونظرية الحق، ونظرية التعسف باستعمال حق الغير، ونظرية الشرط، ونظرية المؤيدات الشرعية، ونظرية الأهلية والولاية، ونظرية العرف ونظرية الشخصية الاعتبارية وغيرها. انظر: الدريني، مرجع سابق، ص ص 140 -141، أحمد فهمي أبو سنة، النظريات العامة في الشريعة الإسلامية (القاهرة، دار التأليف، 1967)، ص 44.

[18] قبلي ابن هني، مرجع سابق، ص 40. ومن ذلك ما قيل في “نظرية العقد” مثلاً، والتي تتناول التعريف بالعقد، وبيان الفرق بينه وبين التصرُّف والإلزام، والكلام عنْ تكوين العقد ببيان أركانه، وشروط انعقاده، وصيغته، واقتران الصيغة بالشروط، وأثر ذلك في العقد، كما تتناول الكلامَ عن محل العقد، وعن أهليَّة العاقدين، وعوارضها، وعن ولايته الأصلية والنيابية، وعن حكم العقد، وأحكام العقود، وعنْ عيوب العقد، وعن الخيارات وأثرها في العقود، انظر: يعقوب الباحسين، “القواعد الفقهية”، (الرياض: مكتبة الرشد، 1998) ص ص 149: 150.

[19] على جمعة، المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية، (القاهرة: دار السلام، 2001) ص 319.

[20] من المفهوم أن ثمة فروقا جوهرية بين النظريات الفقهية والقوانين الوضعية، تتعلق بـ

المصدر: حيث مصادر النظريات الفقهية تؤول إلى النصوص الشرعية، بينما مصادر القوانين الوضعية نابعة من العقل البشري.

الهدف: حيث تهدف النظريات الفقهية إلى تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية، بينما تهدف القوانين الوضعية إلى تحقيق مصالح المجتمع.

السلطة: حيث تلزم النظريات الفقهية المسلمين باتباعها لأنها صادرة عن الله تعالى، بينما تُلزم القوانين الوضعية الأفراد باتباعها لأنها صادرة عن السلطة الحاكمة.

[21] طارق البشري، حول العقل الأخلاقي العربي، نقد لنقد الجابري، مرجع سابق.

[22] عمر سليمان الأشقر، تاريخ الفقه الإسلامي (عمان: دار النفائس، 1991). محمد الفقيه، النظرية الفقهية، شبكة الألوكة، 9/11/2010، على الرابط:  http://bit.ly/4bqX2gT، إسماعيل عبد عباس، تعريف النظرية الفقهية، شبكة الألوكة، 2/6/2020 على الرابط: https://bit.ly/3HM27CR

[23] على جمعة، مرجع سابق.

[24] السيوطي، اختلاف المذاهب، (القاهرة: دار الاعتصام) ص 29.

[25] على المستوى التاريخي يرصد باحثون أنه بعد أن ظهر النظام القانوني الحديث (في دول العالم الإسلامي)، تم استبعاد الفقهاء ليحل محلهم رجال القانون الدارسين على الطريقة الغربية، وتم تحييد الشريعة الإسلامية لصالح قوانين وضعية، أو أعيد تشكيلها لتصبح نسخة من القانون (الإنجليزي أو الفرنسي). وأحد الأدوات التي استخدمت في إطار عملية “إعادة التشكيل” كان تحويل الشريعة إلى “فكر نظري”. بهذا الاعتبار فإن إحلال “نظريات الشريعة”، محل الشريعة كان وسيلة — وفقا للبعض — لاختزال تنوع الأخيرة إلى قوانين عامة، وأنه من ثم كان محاولة للقضاء على التنوع لصالح مقولات تناسب كل الأوضاع، وائل حلاق، قصور الاستشراق، منهج في نقد العلم الحداثي (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019). 

عن شريف عبد الرحمن سيف النصر

شاهد أيضاً

نحو علم للقواعد الاعتقادية الشرعية

أ. د. حسن الشافعي

أحاول في هذه الدراسة الإجابة عن سؤال علمي مضمونه: هل يمكن قيام علم - أو فرع من فروع البحث والدرس الكلاميين - للقواعد الاعتقادية الشرعية؟

تطور القواعد الفقهية من ظاهرة إلى علم

أ. د. محمد عبد الرحمن المرعشلي

القواعد الفقهية هي من أعظم الإبداعات العقلية وهي "صيغ إجمالية عامة من قانون الشريعة الإسلامية، ومن جوامع الكلم المعبر عن الفكر الفقهي، استخرجها الفقهاء في مدى متطاول من دلائل النصوص الشرعية، وصاغوها بعبارات موجزة جزلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.