سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم

الصفحات التالية من كتاب سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم* لطه عبد الرحمن**.

إشكال الفصل بين العقل والقلب

لقد جرى فصل “العقل” عن “القلب” بقدر لا يقل عن فصله عن الحس؛ فلما حدد الفلاسفة العقل بكونه جوهرا قائما بذاته، لم يسعهم إلا أن يجردوه من القلب كما جردوه من الحس، ذلك أن إناطة العقل بالقلب كإناطته بالحس ينزع عنه صفة القيام بذاته، أي “الجوهرية”، ويسندها بالتالي إلى القلب، وهو ما لا يرتضونه؛ وبهذا، أصبح مفهوم “العقل” عندهم  مستقلا عن مفهوم “القلب”، وكرسوا هذا الاستقلال بأن خصوا العقل بوظيفة معرفية صرف، في حين خصوا القلب بوظيفة وجدانية صرف، بحيث يكون القلب هو محل العواطف والانفعالات.

أما عند المسلمين، فإذا استثنينا رجال التصوف، فليس في علمائهم من لم يغلب حديثه في العقل على حديثه في القلب، لكي ينتهي، في آخر المطاف، إلى تغييب معنى “القلب”؛ ويكاد هذا التغييب يبلغ حد النسيان الكلي عند جمهرة المتفلسفة منهم لشدة افتتانهم بالمنقول اليوناني، بل لضيق تصورهم لمضامين الفلسفة وآلياتها، حتى توهموا أن الفلسفة لا تمارس إلا على طريقة واحدة وهي ” طريقة الإغريق”؛  أما الفقهاء والأصوليون والمتكلمون، فإنهم، إذا تعرضوا لمفهوم “القلب”، عند تناولهم للعقل والمعقول والمعاني المعقولة في باب العلل والمقاصد، حصروا كلامهم فيه من جهة أنه محل الاعتقاد والنية؛ ثم لا يلبثون أن ينصرفوا عنه إلى كلام غيره؛ وإن هذا الانصراف منهم، وهم المشتغلون بالنظر في النصوص الدينية، ليثير العجب متى علمنا أن عدد الآيات التي ذكر فيها لفظ “القلب”، مفردا ومثنى وجمعا، تبلغ اثنتين وعشرين ومائة آية، منها الآيات التي تربط القلب بالإدراك، إحداها الآية الكريمة: “أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها (الحج -46).

ويبلغ العجب مداه حين نراهم يقيمون علم الشريعة تحت مسمى “الفقه”، ولا يولون فيه لموضوع القلب أية عناية خاصة، مع أن لفظ “الفقه” ورد في صيغة الفعل منسوبا إلى القلب في سبع آيات، منها الآية: “ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لايفقهون بها” (الأعراف – 179)، وكذلك الآية: ” وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا” (الأنعام – 25)؛ ونورد على هذا الفصل بين القلب والعقل الاعتراضات الآتية:

1. تجوهر العقل في الثقافة الإسلامية؛ أدى هذا الفصل بين القلب والعقل إلى “تجوهر” العقل في الثقافة الإسلامية، تأثرا  بالفلسفة اليونانية[1]؛ والمقصود ب “التجوهر” هنا هو أن جمهور المسلمين أقاموا العقل مقام جوهر كائن في حيز داخل القلب أو في حيز داخل الدماغ؛ والحال أننا لا نجد في النصوص الشرعية الأساسية، قرآنا كريما أو سنة شريفة، ولو شاهدا واحدا يستفاد منه إمكان هذا التجوهر، بل ما نجده هو، على العكس من ذلك، شواهد تنفيه صراحة؛ فقد ورد فيها الفعل: “عقَل” بوصفه يدل على الفعل الإدراكي الذي يختص به القلب؛ كما أن القرآن استعمل فعل “َفَقِه” وأسنده إلى القلب باعتباره مرادفا لـ “َعَقَل”؛ ولم يثبت أن علماء المسلمين، بله فقهاءهم، جعلوا من “الفقه” جوهرا يحتل حيزا في القلب أو الدماغ؛ ثم إن القرآن استعمل لفظا ثانيا في نفس المعنى، مسندا هو الآخر إلى القلب، وهو “العلم” كما في الآية: “رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطبع الله على قلوبهم، فهم لايعلمون” (التوبة – 93)، فيكون العلم هو، كذلك، أحد الألفاظ المرادفة للعقل؛ ولم يقل أحد من المحققين بأن العلم جوهر محله القلب أو الدماغ، مع قولهم بأن العقل إنما هو العلم، وإن كان بعض المتكلمين خص العقل بالعلم بالضروريات وحدها، أي بالحقائق البديهية التي لاتحتاج إلى إعمال النظر.

وبهذا، يتبين أن اختصاص القلب بفعل العقل لا يختلف في شيء عن اختصاص العين بفعل النظر أو اختصاص الأذن بفعل السمع أو اختصاص اليد باللمس أو اختصاص اللسان بالذوق[2]؛ لذلك، يكون من يجعل العقل جوهرا قائما في حيز من القلب كمن يجعل النظر جوهرا قائما في حيز العين والسمع جوهرا قائما في حيز الأذن، هكذا بالنسبة لباقي قوى الأدراك؛ وكما أنه لا يصح أن يكون النظر والسمع جوهرا متحيزا، فكذلك لا يصح أن يكون العقل جوهرا متحيزا؛ ثم هناك صفة أخرى للعقل سبقت الإشارة إليها، وهي أنه فعل يقترن بكل القوى الإدراكية الأخرى، فلا يكون، مثلا، السمع سمعا، حتى يعقل، ولا البصر بصرا، حتى يعقل، بحيث تكون كل الإدراكات موصولة بالقلب؛ والشواهد على ذلك من القرآن الكريم كثيرة؛ فهناك الآيات التي تجمع بين ذكر القلب وذكر السمع والبصر جميعا كما في الآية: ” أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم”(النحل – 108)؛ وهناك أيضا الآيات التي تجمع بين ذكر العقل والسمع، حتى إن السمع يبدو فيها أقرب قوى الإدراك إلى العقل، كأنما الأذن إذا وعت، لزم أن يعي القلب كما في الآية: ” أم تحسب أن اكثرهم يسمعون أو يعقلون” (الفرقان – 44) أو الآية : “وقالو لو كنا نسمع أو نعقل، ما كنا في أصحاب السعير”(الملك – 10)، وكذلك الآيات التي يرد فيها ذكر السمع بمعنى “العقل” كما في الآية: ” ونطبع على قلوبهم،فهم لا يسمعون”(الأعراف – 100)؛ وأخيرا هناك الآيات التي تجمع بين ذكر القلب والبصر كما في الآية : ” فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور” (النور – 37)، وكذا الآيات التي يرد فيها ذكر البصر بمعنى “العقل” كما في الآية: “أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون“(يونس – 43)؛ تترتب على كل هذا حقيقة أساسية، وهي أن الذي ينزل منزلة الجوهر ليس العقل، ولا بالأولى أية قوة إدراكية أخرى، وإنما هو القلب؛ فالقلب هو وحده الذات الجامعة التي تتفرع منها كل قوى الإدراك[3]، بحيث نحتاج أن نعيد  صوغ التعريف الذي وضعناه للعقل بإدخال معنى “القلب” فيه، فنقول: “العقل هو عبارة عن إدراك القلب للعلاقات القائمة بين الأشياء“.

ولولا التجوهر الذي وقع لفعل القلب – أي العقل –بدل القلب نفسه، لوقع التفطن لحقيقة أساسية، وهي أن الفعل العقلي أكثر أفعال الإدراك قابلية للتغير والتقلب، وذلك لأن إمكانات الربط بين الأشياء أكثر من أن تحصى، فيتعين أن يكون الفعل الذي ينهض بهذا الربط في مثل كثرة هذه الإمكانات التي لا تنعد؛ وهكذا، فإن العقل يتقلب في أطوار تختلف باختلاف المراحل التي يمر بها تاريخ الإنسانية، بحيث ما كان عقليا في مرحلة تاريخية سابقة قد يصير لاعقليا في مرحلة لاحقة؛ والعكس بالعكس، فما كان يعد لا عقليا في مرحلة تاريخية سابقة قد يصبح عقليا في مرحلة لاحقة؛ وليس هذا فقط، بل يتقلب أيضا في أطوار تختلف باختلاف أحوال الفرد الواحد، بحيث ما كان معقولا عنده في حال، يجوز أن يصير غير معقول في حال سواه، والعكس بالعكس؛ ولا يقف الأمر عند حد تقلب الفعل العقلي في الزمان؛ بل يجاوز ذلك إلى أن يتقلب في المكان، فقد يكون الشيء الواحد عقليا في موضع ثقافي أو مجال معرفي أو نسق منطقي معين، وقد لايكون كذلك في موضع ثقافي أو مجال معرفي أو نسق منطقي غيره، ويجوز أن يكون الشيء الواحد عقليا من وجه وغير عقلي من وجه آخر، حتى كأنه شيئان مختلفان، وهكذا.

والجدير بالذكر بهذا الصدد هو أن في المعنى اللغوي للقلب إشارة إلى قابليته للتغير، إذ الفعل منه، أي “قلب” يراد منه، في قولنا: “قلب الأمر”، أنه غيره إلى عكسه، وهذا منتهى التغيير؛ فيكون في إسناد العقل للقلب إرادة صريحة لنسبة قابلية التغير إليه، هذه القابلية التي لاتفتأ تؤكدها وقائع تقلب المعرفة الإنسانية، نظرية كانت أو عملية.

2. تفقيه الممارسة الدينية؛ أفضى هذا الفصل بين القلب والعقل إلى الغلو في “تفقيه” الممارسة الدينية؛ والمراد بـ ” التفقيه” هنا هو التقنين الفقهي لأفعال المكلفين بما يجعل اهتمام الفقيه منصبا أساسا على ظاهر موافقة هذه الأفعال في جزئياتها للأحكام الشرعية؛ والحال أن هذا الاهتمام الخاص بظاهر الأحكام كان سببا في إهمال المعاني الخلقية التي تنطوي عليها هذه الأحكام؛ فلا يسع الناظر في النص الشرعي الأصلي إلا أن يلحظ بأن الحكم الواحد من أحكامه ينضبط دائما بصفة خلقية، أو أكثر، يتوجب على المكلف أن يحصِّلها، فيكون الأصل في الحكم الفقهي هو القيمة الخلقية؛ وقد أدى الإهمال لهذه القيم الخلقية فى الأحكام الفقهية إلى الوقوع في محذورين اثنين:

أحدهما قصر الأخلاق على جزء محدود من أفعال المكلفين؛ وفي هذا جهل بحقيقة الأخلاق؛ فالصواب أن كل فعل يأتيه الإنسان يكون سببا من أسباب تخلُّقه، لأن صلاحه في الدنيا، بل فلاحه في الآخرة، مستمد من هذا التخلق الذي لا ينقطع إلا بانقطاع حياته؛ وهكذا، فما من فعل يأتيه الإنسان إلا ويصح الحكم عليه بالخير أو الشر، يستوي في ذلك ” الفعل الحسي” كالأكل و “الفعل المعنوي” كالفهم.

والمحذور الآخر هو اعتبار الأخلاق من المقاصد الكمالية؛ وفي هذا سوء فهم لحقيقة الدين، لأن اعتبار الأول في الدين يكون، لا للحاجات البدنية والمصالح الدنيوية التي أولاها الفقهاء عناية خاصة، وإنما للمعاني الروحية والمطالع الأخروية التي تغافلوا عنها، فضلا عن أن، في الوقوع في هذا المحذور، تجاهلا أو سوء تأويل للحديث الشريف: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”؛ فلا يصح أن تكون البعثة النبوية على جلالها من أجل ما هو كمالي لا حرج في تركه، وإنما ينبغي أن تكون من أجل ما هو أمر ضروري لا يجوز أبدا تركه؛ كما لايصح أن يكون الإتمام الذي تستهدفه هذه البعثة يتعلق بجزء معين من الإسلام، وإنما ينبغي أن يتعلق بكلية هذا الدين باعتباره الطور الخاتم لأطوار التشريع الإلهي المنَّزل.

3. عدم تبين آفات المعرفة العقلية؛ مَنَع فصل العقل عن القلب علماء المسلمين من تبين وتأمل مختلف الآفات التي قد تدخل على المعرفة العقلية، وبالتالي منعهم من تحديد أنواع المعرفة العقلية المحفوظة من هذه الآفات والتي توصل إلى الصلاح الدنيوي والفلاح الأخروي، ناهيك من وضع نظرية مفصلة في هذه الأنواع؛ فلقد ذكر القرآن الكريم أن القلب قد يتعطل عن أداء وظيفته الإدراكية المحددة له، معبرا عن مظاهر هذا التعطل بألفاظ مختلفة، منها لفظ “المرض” كما في الآية : ” في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا“( البقرة – 10) ، ولفظ “القفل” كما في الآية: ” أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها” ( محمد – 24)، ولفظ ” الكِنان” كما في الآية: ” إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا” (الكهف – 57)، ولفظ ” الطبع” كما في الآية ” وطبع على قلوبهم، فهم لا يفقهون”(التوبة – 87)، ولفظ “الختم” كما في الآية: “ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة” (البقرة -7)، ولفظ “القسوة” كما في الآية: ” ثم قست قلوبهم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو أشد قسوة” (البقرة – 74) ، ولفظ ” الحيلولة” كما في الآية: ” واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون” (الأنفال – 24)؛ وقد نصنف مظاهر هذا التعطل إلى أربعة أقسام: “المرض” و”الإقفال” (على تقدير أن “الكنان” و”الطبع” و”الختم” إنما هي درجات متفاوتة من “الإقفال ” ) و”القسوة” و”الحيلولة”؛ ولما كان كل تعطل يورث آفة عقلية محددة، لزم أن تختلف آفات المعرفة العقلية باختلاف هذه التعطلات القلبية الأربعة؛ فتكون هناك “المعرفة العقلية المريضة” و” المعرفة العقلية المقفلة” (بدرجاتها الثلاث: “المغطاة” و”المطبوعة” و”المختومة”)، وهناك “المعرفة العقلية القاسية” و”المعرفة العقلية المفصولة”؛ وفي مقابل هذه الأنواع من المعرفة العقلية الضارة، هناك أنواع المعرفة العقلية التي تنفع الإنسان في حياته، دنيا وأخرى، وهي، على التوالي، “المعرفة العقلية السليمة” و”المعرفة العقلية المفتوحة” (برتبها الثلاث: “المكشوفة” و”الواعية” و”المشروحة”) و”المعرفة العقلية اللينة”، و”المعرفة العقلية الموصولة”؛ ومن هنا، يتضح أن المعرفة العقلية ، على خلاف الرأي الشائع ليست واحدة كما أن ترتيبها لايعود إلى معيار واحد، هو معيار الصدق والكذب، بل إن هناك معايير متعددة تتمثل في “معيار السلامة والمرض”، و”معيار الانفتاح والانغلاق” و”معيار اللين والقسوة” و”معيار الوصل والفصل”.

ورب معترض يقول إن هذه المعايير الأخيرة تضبط المعرفة العقلية العملية، في حين أن معيار الصدق والكذب يضبط المعرفة النظرية، وشتان بين المعرفتين؛ والجواب عن هذا القول يكون من أوجه:

أ.  أن المعرفة العملية ينبغي أن تشمل المعرفة النظرية، بحيث يكون معيار المعرفة الأولى متضمنا لمعيار المعرفة الثانية، فمثلا “السلامة” هي الصورة العملية ل”الصدق” والمتضمنة له، و”المرض” هو الصورة العملية ل “الكذب” والمتضمنة له.

ب‌. أن الأصل في الإدراك العقلي أن يكون، بموجب صلته بالقلب، إدراكا عمليا، نظرا لأن القلب، لما كان هو الجوهر الحي في الإنسان، بل كان هو مصدر الحياة فيه، صار أعلق شيء بالعمل، لأنه سبب البقاء؛ فيلزم أن يكون الفعل الخاص بالقلب، وهو الإدراك العقلي، مشبعا بهذا التوجه العملي الأصلي؛ علاوة على ذلك، فإن الإنسان المدرك، ولو أنه يركز، في الظاهر، على هذه القوة أو تلك من قواه الإدراكية، فإن قلبه، في الحقيقة، يدرك الأشياء بجميع هذه القوى دفعة واحدة في تعاضد بينها، وإلا فلا أقل من أنه يدركها، باعثا الاستعداد في هذه القوى لكي يمد بعضها بعضا على طريقته؛ فمثلا من يسمع صوتا من قريب، فإنه يعد نفسه ليري صاحبه أو يكلمه أو ليصافحه، بل قد يتطلع إلى أن يشم رائحته، فضلا عن أن من يفقد حاسة معينة، قد يجد في حواسه الأخرى بعض العوض؛ وهذا الإدراك – أو الاستعداد الإدراكي – الشامل تزدوج فيه أسباب النظر بأسباب العمل؛ والفصل بين هذه الأسباب إنما هو تصرف إجرائي ينبغي أن لا يتعدى به طوره، فيظن أنه الحق في نفس الأمر.

ت. أن المعرفة، في النص القرآني، لايمكن أن تكون إلا معرفة عملية صريحة؛ ولا يقال إن هذا النص يحث على استعمال العقل والنظر في آيات الكون، حتى لا يكاد يضاهيه نص ديني آخر، لأنا نقول إن المطلوب من هذا النظر ليس هو معرفة الكون لذاته، وإنما معرفة المكون الأعلى؛ والحال أن معرفة المكون الأعلى لا تكون إلا عملية ، لأنها، أصلا، عبادة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن النص الديني غايته أن يرتقي بعمل الإنسان إلى رتبة العمل الصالح، فلا يجوز أن يخوض في المسائل المجردة، لاسيما وأنه يخاطب الناس كافة؛ وحتى إذا اقتضى السياق أن يتعرض لهذه المسائل الدقيقة، كان ذلك يِضرب الأمثال عليها، تقريبا لها وإشعارا بمآلها العملي.

إن الفصل بين العقل والقلب أفضى إلى ترسيخ الاعتقاد لدى جمهور المسلمين بأن العقل جوهر كائن في حيز مخصوص من القلب أو من الدماغ، وجعل فقهاءهم يولون اهتمامهم بالأساس لظاهر موافقة الأفعال للأحكام، ويهملون القيم الأخلاقية التي تنبني  عليها، كما منع علماءهم من تأمل أنواع الآفات التي يحتمل أن تدخل على المعرفة العقلية؛ والحقيقة أن القلب هو مصدر الإدراكات العقلية التي تتميز بشدة التقلب ومتانة الصلة التي تربطها بكل قوى الإدراك التي يملكها الإنسان، بحيث يكون في سلامة القلب سلامة المعارف والمدركات؛ كما أن القلب هو مصدر القيم الأخلاقية التي تنبني عليها الأحكام الشرعية، بحيث يكون في صلاحه صلاح الأعمال والتصرفات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* طه عبدالرحمن (2012). سؤال العمل. ط. 2. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي. 325 ص.

** طه عبدالرحمن (1944 بالجديدة بالدار البيضاء)، فيلسوف مغربي، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق. ويعد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في مجال التداول الإسلامي العربي منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين.

[1]الفارابي: “إن العقل الذى به يتجوهر الإنسان آخر ما يتجوهر به هو أن يكون عقلا على كماله الأول، فهو بعد بالقوة، وما هو بالقوة فإنما كون لأجل فعله، وذلك هو الذي هو جوهره هو ليس بعينه فعله”، فلسفة أرسطوماليس، ص. 123.

[2]قول مأثور لعلي بن أبي طالب: “العقل في القلب”.

[3]أو قل الروح التي محلها القلب.

عن طه عبد الرحمن

شاهد أيضاً

الإنسان الرقمي والحضارة القادمة

تأليف: أ. د. دانيال كوهين

ترجمة: د. علي يوسف أسعد

عرض: أ. أحمد خميس أحمد السمبختي

على عكس المتوقع من عنوان الكتاب "الإنسان الرقمي والحضارة القادمة"، لا يُعنى هذا الكتاب فقط بالأثر المباشر للآلة الرقمية على الإنسان، بل يرسم من ثنايا الموضوعات التي يُغطيها صورة لمجتمع كامل يُشكل الإنسان، ويشكله الإنسان والآلة معًا.

الفلسفة – المنهج – الفكر “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

التباسات الحداثة

المعرفة المستدامة

مغامرة المنهج

في نقد التفكير

سؤال السيرة الفلسفية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.