“علم تجديد الصلة بالله”
مالك بن نبي وتأسيسه لعلم جديد*
د. عبد الرزاق بلعقروز**
نحاول هنا تسليط الضوء على النواة المركزية التي راهن عليها مالك بن نبي من أجل استيفاء الشروط لدخول دورة حضارية جديدة، هذه النواة متعددة التسمية في برنامجه النقدي والتأسيسي، فيسميها دافع الإيمان والقوة الروحية تارة، وانتفاضة القلب والطاقة الأخلاقية تارة أخرى، والأدهش أنه اقترح لها علماً يُعنى بهذا الفضاء الموصول بتغيير ما بالنفوس، وهو برأيه علم لم يوضع له اسم بعد، فاقترح له تسمية علم “تجديد الصّلة بالله”، وهو ليس من اختصاص جدالات المُتكلّمة الذين ينطقون أفكاراً مجردة؛ وإنَّما من اختصاص منهاج التصوّف، لا على طريقة الدروشة والشعوذة وإنما على طريقة إيقاظ الدافع الداخلي باعتباره أداة نراهن بها من أجل الدخول إلى نهضة جديدة.
لنقل إذاً، ومن دون مواربة بأن تجديد القيم وتفعيلها هو المسلك الآمن للنهضة الجديدة، لأن تجديد القيم يعيد وصل الصلة الممزقة بين الفكر والنشاط العملي، أو بين الحقيقة النظرية والحقيقة الفعلية، فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، إذ يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان كما جاء في عبارة مالك بن نبي.
وإنه ليبدو أن هيمنة ثقافة الإنسان الاستهلاكي والإنسان الاقتصادي والإنسان الجنساني اليوم وتحويل القيم الثقافية إلى سطوح من دون معانٍ وأشكال خالية من المحتوى نتيجة للعولمة؛ يستوجب تجديد الطاقة الأخلاقية وتفعيل الاهتمام بمشروع “انتفاضة القلب” من أجل التصدي لهذه الهيمنة من جهة، ومن أجل الارتكاز على الدافع الإيماني لتأسيس النهضة المعنوية الجديدة في مقابل النهضة المادية التي أتى بها الغرب إلى العالم.
إن الذي دفع بنا إلى مساءلة وإخراج هذه الفكرة إلى دائرة الاهتمام والنّقاش، جملة من المبررات أهمها إننا نريد أن نفكر مع مالك بن نبي، وليس فقط معرفته، فأن تعرف المفكر أو الفيلسوف معناه الانسياق التحليلي مع أفكاره، والاكتفاء بالغوص في معانيها، أما التفكير معه فيعني أن تثور مفاهيمه التي ابتكرها وتعيد إخراجها وإلباسها معاني جديدة من أجل اختبار قدرتها التأويلية والتشريعية على إيجاد مسالك ودروب جديدة للفكر والمعنى أو إيجاد حلول للمشكلات التي تنخر جسم الوعي العربي والإسلامي المتمزّق.
كذلك فإن من مبررات الاهتمام بهذا الموضوع هو ضآلة تسليط الضوء على موضوع القيم في فكر مالك بن نبي، فثمة عدم لفت الانتباه إلى هذه الزاوية من التفكير، رغم أن مالك بن نبي قدم نظرات ثاقبة في هذه المسألة، ونظرية مخصوصة في كيفية الخروج من ثقافة الهوان والارتكاس إلى ثقافة الإبداع والإنجاز والتفكير، وقدَم أيضاً نقداً لنظام القيم الغربي الذي وصفه بالفوضى، فضلاً على أنه راهن على أن شروط الدخول إلى دورة حضارية جديدة موقوف حصوله على تجديد قيم الإيمان وبثها في الشعور من جديد من أجل أن يتحرك المجتمع وطاقاته نحو الحضارة؛ بوصفها مستوى من الرقي الذهني والسلوكي والعمراني. فبالروح، والروح وحده، تنهض الإنسانية وتتقدم، فحيثما فقد الروح سقطت الحضارة وانحطت لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوى بفعل جاذبية الأرض[1].
تشخيص المرض: أفول رصيد القيم المعنوي
ثمة توافق على مستوى التحليل من أن الأزمة ليست في حقيقتها تضييع الإنسان المسلم لإيمانه، أو شك في مبادئه الكبرى التي نَظَمَت العالم لأربعة عشر قرناً، أو تبَني لرؤى فكرية وخطرات فلسفية منقولة عن ثقافات أخرى منحرفة، مثلما نجد ذلك جليًا في تجربة الحداثة الغربية، التي جعلت من الثورة على الأسس الدينية الكبرى الناظمة لإدراك العالم والوجود عنواناً لمشروعها التحديثي، وإنّما تضرب جذور العجز في انطفاء جذوة الفعالية والحركة الإيمانية في الحياة، وتخلّي الإنسان المسلم عن إدارة شؤون الحياة إدارة إسلامية، ولفتة مالك بن نبي في هذا المقام جليّة: «والمسلم لم يتخل مطلقاً عن عقيدته، فلقد ظل مؤمناً متديناً، ولكن عقيدته تجرّدت من فاعليتها، لأنه فقدت إشعاعها الاجتماعي فأصبحت جذبية فردية، وصار الإيمان إيمان فرد”[2]، وفي ضمن الوجهة نفسها نجد علي عزّت بيجوفيتش يقول: «إن الإخلاص للكتاب لم يتوقف ولكنه فقد خصوصيته الفاعلة، لقد استبقى الناس في أفئدتهم من القرآن ما أشيع حوله من تصوف ولا عقلانية، فقد القرآن سلطانه كقانون ومنهج حياة واكتسب قداسته كشيء»[3].
هذا التشخيص، يمكننا إدراك مظاهره عند مالك بن نبي في طغيان العوالم الثلاثة الكبرى التي عليها مدار الإصلاح الحضاري: الأشياء والأشخاص والأفكار، واختلال التوازن بينها: ففي مستوى طغيان الأشياء تحتل الأشياء قمة سلم القيم وتتحوّل الأحكام النوعية خلسة إلى أحكام كمية فتظهر النزعة إلى مراكمة الأشياء… وفي طغيان الأشخاص تتجلّى في عدم القدرة على الفصل بين المبادئ والأشخاص الذين يمثلونها ويجسدونها، أو بمصطلحات مالك بن نبي: عدم القدرة على الفصل بين الفكرة المجرّدة والفكرة المجسدة… وطغيان الأفكار، حيث يصل الأمر ببعض المثقفين إلى الابتعاد عن المجتمع وانقطاع علاقة أفكاره بهذا المجتمع[4] … في حين أن المهمة الجوهرية للمثقف هي مضاعفة الوعي في المجتمع.
لقد فقدت هذه الدوائر وظيفتها الحيوية بسبب تضييع رصيد القيم المعنوي، وتوقف جذوة الإشعاع الروحي الذي غير ما بالنفوس. وتحت التأثير المستمر للشكلية الدينية قلت قراءة القرآن وكثر الاستماع إلى تلاوته بصوت غنائي. أما ما يحثّ عليه القرآن من –جهاد واستقامة وتضحية بالنفس والمال وهي أمور شاقة بغيضة إلى النفوس الواهنة – كل ذلك قد ذاب وتلاشى في ضباب الصوت الجميل لتلاوة القرآن وحفظه عن ظهر قلب. هذه الحالة الشاذة قد أصبحت الآن مقبولة كنموذج سائد بين الشعوب المسلمة، لأنها تتناسب مع أعداد متزايدة من المسلمين لا يستطيعون الانفصام عن القرآن ولكنّهم من ناحية أخرى لا يملكون القوة أو الإرادة على تنظيم حياتهم وفق منهج القرآن[5].
وفي مستوى التركيبة الاجتماعية تمزّقت شبكة العلاقات الاجتماعية التي كانت خميرة الإصلاح والنهوض، وتغيّر نظام القيم الاجتماعي وأفرز عوائد أخرى تقطع مع اللحمة الاجتماعية التي صاغتها القوة الروحية الإيمانية، حيث طفت إلى السطح قيم خلقية مذمومة، نبصر فيها أعراضاً على مرض اجتماعي أو خللاً في شبكة علاقاته، تتجلّى في واقع التمزق بين أفراد المجتمع[6]. إن التشخيص الذي قدمه مالك بن نبي لأسباب الانحطاط ليس مرتبطاً بالأساس الجوهري، أي الإيمان الإسلامي في تعاليمه وأركانه، إنّما مكمن العجز وأصل المرض فقدان الحماس للمبادئ الإيمانية الإسلامية، والإهمال الكامل لها في الممارسة العملية، فالمظاهر كافة: مثل الانفصال بين الفكر والعمل، والتخلي عن الواجب، والخلط بين جواهر الأشكال ومظاهرها، وشيوع الفساد والظلم، والخراب الأخلاقي، والتشدد في أداء التكاليف الدينية، هي أعراض على مرض واحد هو: أفول الروح، لأن “كل قوة في العالم تبدأ بثبات أخلاقي، وكل هزيمة تبدأ بانهيار أخلاقي، فكل ما يراد تحقيقه لا بد أن نبدأ بتحقيقه أولاً في أنفس الناس»[7]. “وتغيير النفس إقدارها على أن تتجاوز وضعها المألوف هو من شأن (التصوف)، أو بعبارة أدق هو من شأن علم لم يوضع له (اسم) بعد، ويمكن أن نسميه (تجديد الصلة بالله)[8].
موضوع علم “تجديد الصلة بالله”
إن هذا العلم الجديد هو ما نحتاج نحن اليوم إلى وضع أصوله وتوسيع فضاءاته، ولكن لم يُحَدث مالك بن نبي كثيراً فى هذا العلم، ولم يبين أصوله بصورة منفصلة عن تحاليله لمشكلات الحضارة التي قاربها، وإنما يمكن للمُنقب أن يستخرج من مشروعه موضوع هذا العلم، لأن أي مبحث معرفة استقل بموضوع ومنهج مخصوصين، جاز له أن يصير علماً ويجري تفريع المسائل من أصوله، ولو حق لنا أن نحدد موضوع هذا العلم لقلنا بأن موضوعه القيم الأخلاقية الإيمانية ذات المصدر الديني من جهة البحث في كيفية نقلها من دائرة الوجود إلى دائرة الحضور، أو من مرتبة الشواهد المُثلى إلى مرتبة النماذج الإنسانية الحية التي تتجلى في سلوكها، على أن لا يكون هذا الحضور أو السلوك فردياً أو واحدياً، وإنما يتحدد دور هذه المنظومة القيمية الإيمانية في إعادة النسيج الاجتماعي إلى لحمته من أجل أن يتحرك هذا النسيج الاجتماعي وينتقل من حقبة الأرض والغريزية إلى حقبة السماء والقيمة، لأنه “كلّما حدث إخلال بالقانون الخلقي في مجتمع معين، حدث تمزق في شبكة العلاقات التي تتيح له أن يصنع تاريخه”[9]
علم «تجديد الصلة بالله» وصلته بغيره من العلوم الأخرى:
أولًا- علم “تجديد الصّلة بالله” والتصوُّف: أو الاقتراب من أجل إثبات الاختلاف
لقد أكد مالك بن نبي وبصورة مباشرة إلى أن هذا العلم الجديد، ليس على منهاج علم الكلام، بخاصة في الصيغة التي اقترحها محمد عبده في (رسالة في التوحيد)، وإنما على منهاج التصوف، لكن هذا الاقتراب من التصوف ليس الغرض منه إثبات التماثل بينهما وإنما هذا الاقتراب هو بغرض إثبات الاختلاف، الاختلاف عن مفهوم التصوف الدَروشي الذي تخلّى منعزلاً عن إدارة الحياة وقيادة التاريخ وتدبير الوجود، لأن مالك بن نبي ضمن مشروعه الحضاري يلح على مسألة الجهد والمنهج والتصميم، وعلى التشكيلة الجمالية للثقافة فى حين يسلك التصوف مسلك الطَّهارة النفسية أو القلبية من خبائث الأخلاق ومذموم الصفات، ويرى في التزكية، بخاصة النفسية الفردية، مقصداً من مقاصد الوصول إلى القلب السليم، أما قضايا المجتمع والإصلاح الاجتماعي والقيادة الحضارية والكفاءة في علوم الدنيا، فلا يوليها شطراً كبيرًا من اهتمامه، أي إن مالك بن نبي بقصده وضع اسم جديد للتعبير عن جملة من المفاهيم والاراء التي تحتاج إلى من ينظمها في نسق علمي تستقل به عن مفاهيم التصوف التي ترتكز على الفهم الجزئي للحياة، ولا تتكامل مع جميع الجوانب الوجودية الأخرى[10].
ثانياً-علم تجديد الصلة بالله وعلم الكلام:
إن المفهوم الذي يسكن فهم مالك بن نبي عن علم الكلام هو المفهوم الذي يتخذ من البراهين المنطقية والحجج العقلية أدوات للدفاع عن العقيدة الدينية، إنه علم يهدف إلى إثبات وجود الله، ويمكن الإبصار في جهود الإعجاز العلمي التي تتكاثر اليوم کامتداد لهذا العلم، لأنه إذا كان علم الكلام التقليدي يستعين بالآلة المنطقية، فإن الإعجاز العلمي اليوم يستعين بالآلة العلمية ومستحدثات العلوم، من أجل البرهنة على وجود الله وإثبات قدرته وإحكامه للنّظام الكوني، إنه امتداد مع تغير في الأداة والآلة الدفاعية. هذا ما لا يرتضيه مالك بن نبي في المراهنة على إثبات وجود الله، ما أسميناه بالمفهوم الأفلاطوني للإله، ويبدو أن الذي تحقق هو هذا الفهم المتأثر بالفكرة الأفلاطونية عن الواحد الأمثل المعزول والنقي في بساطته العقلية التأملية، أما إله القرآن “فهو الله الحي، … والصفات المعزوة إلى الله ليست عبارة عن مواضيع للتأمل النظري، أو التأمل السلبي الخارج عن إطار الوجود المحسوس، وإنما هي عبارة عن المفردات والتعابير المطابقة التي ينبغي على الإنسان أن يستخدمها من أجل التكلم عنه، والتوجه إليه… وهو لا يتجلى فقط من خلال اللغة، وإنما من خلال الحركة الروحية والزمنية بشكل متداخل لا ينفصم”[11].
وملمح الفرق بينهما؛ أن المفهوم الكلامي عن العقيدة لا يتعدى طور المُحاجَجَة، بينما العقيدة في معجم هذا العلم الجديد «تجديد الصلة بالله»، تهدف إلى إشعار الإنسان بوجود الله من خلال الحياة، بأن يملأ النفس بالطاقة والقوة والقدرة على التجديد الروحي، والتجدّد السلوكي، وعلى وصل نسيج المجتمع من أجل إعادة تفعيل عوالم الحقيقة الثلاثة: الأفكار والأشخاص والأشياء، هذا العلم لا يرى أن المسلم فقد الإيمان بالله، أو فقد الإيمان بمنظومة الإيمان، وإنما فقد الدافعية الإيمانية تجاهها. إن الأخلاق المقدسة لا تهدف إلا إلى تمحور عالم الثقافة حول القيم، أما “عندما يتمحور عالم الثقافة حول الأشياء تحتل الأشياء القمة في سلم القيم، وتتحول – خلسة – الأحكام النوعية إلى أحكام كمية دون أن يشعر أصحاب تلك الأحكام بانزلاقهم نحو (الشيئية): أي نحو تقويم الأمور بسلّم الأشياء”[12].
هكذا إذن يظهر أن قوة الروح وإيقاظ حاسة القيم ورؤية العالم بها مُجدّداً، آلية من آليات تنزيل هذا العلم الجديد، إنه علم عملي وليس علمًا نظرياً.
ثالثًا – علم تجديد الصلة بالله وفلسفة التربية:
يقول كانط “لا يستطيع الإنسان أن يصير إنساناً إلا بالتربية. فهو ليس سوى ما تصنع به التربية. ولا بد من ملاحظة أن الإنسان لا يربّى إلا من قبل أناس، ومن قبل أناس ربوا هم أيضاً”. يؤشر هذا النَّص على مركزية الفعل التربوي بالنسبة إلى العملية التعليمية كلها، هذا الفعل التربوي لا بد له من دليل يحكم ويَنْظِمُ هذه العملية التربوية برمتها، وإلا كان الفعل التربوي مجرّد خطرات وأفعال لا تعرف وجهتها، وبالتالي لا تعرف ما الذي تُكوّنه أو تصوغه.
من هنا، فإن «علم تجديد الصلة بالله» أوثق من جهة الصلة بالتربية، لأنها -أي التّربية- أداته من أجل إنجاز مشروعه عملياً، أي أداته من أجل إعادة الدافعية والسلوك الحضاري، وهي أيضاً الأداة الجوهرية في مشروع الحفاظ على إنسان الحضارة، وهكذا “فليست التربية مجموعة من القواعد والمفاهيم التي لا سلطان لها على الواقع، على عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء…. فكل حقيقة لا تؤثر على الثالوث الاجتماعي: الأشخاص، والأفكار والأشياء، هي حقيقة ميتة”[13].
ندرك، إذاً، جليّاً الصلة القوية بين هذا العلم الجديد والتربية ويشد عضد هذه الحقيقة مراهنة مالك بن نبي الكبرى على التربية بوصفها الوعاء الذي تُعرف به القيم، وترسخ في نفوس الناشئة، ويجري الاحتفاظ بمنجزاتها، ذلك أن الإنسان هو مجموعة من القيم والمقاصد وليس مجرد آلة طبيعية.
علم تجديد الصلة بالله: المحاور الكبرى
يأتي سعينا التحليلي من أجل استخراج المحاور الكبرى لهذا العلم الجديد والمساهمة في وضع أصول له، مستكملين ما كان مالك بن نبي يروم تأسيسه من أجل إعداد إنسان الحضارة من جديد، بعد أن فقد إشعاعه الإيماني وإرادته للحركة وهمته الروحية، فكانت النتائج في واقعنا اليوم: الإنشداد نحو الإسلام الشكلي أو الميكانيكي -بتعبير البشير الإبراهيمي-، وشيوع الكلام في القضايا الجزئية والمسائل المفصولة عن هموم الحياة والزمان. هذه المظاهر أعراض على مرض في المبدأ الأخلاقي وعدم ارتباط به وبقوته المحرّكة، من هنا، فإن المحاور المركزية الكبرى التي راهن عليها مالك بن نبي من أجل إنجاز هذا العلم الجديد هي كالتالي:
۱ – من معرفة الله إلى الاتصال به:
ضمن هذا الإطار الكلي يوجه مالك بن نبي نقده إلى علم الكلام الذي يسعى إلى البرهنة على وجود الله، حاشداً العدة المنطقية الاستدلالية من أجل ذلك، في حين أن التحدي الأكبر ليس هو إثبات وجود الله وإنّما إشعار الناس بوجوده، وإرجاع الفاعلية لهذه العقيدة الإيمانية وقوتها الإيجابية وامتدادها الاجتماعي، إن المطلوب هو ملء النفس الإنسانية المسلمة بالله سبحانه وتعالى بوصفه مصدر الطاقة، وفي هذا المقام يتبنى مالك بن نبي موقف محمد إقبال تبنياً كلياً “حين نبه على أن المطلوب ليس العلم بالله ولكنه في أوسع وأدق معانيه (الاتصال بالله)؛ ليس المطلوب مفهوماً كلامياً، ولكنه انكشاف للحقيقة الخالدة وبحسب تعبيره هو (تجلّي هذه الذات العلوية)” [14].
وبهذا الإجراء النقدي؛ يرسي بن نبي الأسس الأولى لعلم كلام جديد، علم كلام لا يختزل الطاقة في المهارات المنطقية والجدالية، وإنما يتجه إلى ملء النفوس المتعطشة الحيرى بالقيمة والمعنى، إنه علم عملي وليس نظرياً، ومواده ليست نظرية، وإنما هي كتل من النّشاط الإيجابي المتحرّك ومن القيم الإسلامية، وهذا ما قاله محمد إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) بخصوص فهم التوحيد والإيمان الإسلامي، وهكذا وَجدت الثقافة الإسلامية الجديدة أساساً لوحدة العالم فى مبدأ التوحيد، إنما هو الوسيلة العملية لجعل هذا المبدأ عاملاً حياً في حياة البشر العقلية والوجدانية… ولما كان الله هو المنبع الروحي المطلق لكل حياة، فإن الولاء لله والإخلاص له يساوي بالفعل ولاء الإنسان لطبيعته الخاصة المثالية[15].
إن مشكلة الاتجاهات الإصلاحية رغم أن بداياتها كانت تحتوي على النفثة الرّوحية والانتفاضة القلبية، إلا أن تعاليمها لم تكن تهدف إلى تكوين مخلصين وإنما إلى تكوين بارعين في فنون الجدال والمماحكات النّضالية، وقد نمت هذه الاتجاهات الإصلاحية من حيث عدد المنتسبين لها، ولم تنم من حيث عدد المخلصين الباذلين والزاهدين في قيم الحياة المادية المنفصلة عن القيمة من أجل المبدأ الأعلى، ذلك أن الإخلاص “يتكفّل بتجريد نية المسلم وقصده من كل ما يؤثر في صفاء علاقته بالله عز وجل… هو لب العبادة ومخها، وأساس القوة، وأصل النجاح، بدونه يفقد الجهد الإنساني مُبرّراته النفسية العميقة”[16].
إن مالك بن نبي هنا، يقترب من فلسفة الدين في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، عندما يجري التأكيد على أولوية التجدد النفسي باعتباره جوهر النّهضة، وعلى التوحيد باعتباره صلة بالله أكثر من كونه برهنة على وجوده، ذلك أن فلسفة الدين المعاصرة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر “لا تقصد الدفاع عن العقيدة ضد خصم معيّن، وإنّما تجديد الفهم لمكوناتها ومقتضياتها في سياق المستجدات الفكرية، ولا تشتغل بالمسائل النظرية المجرّدة، وإنّما بالمسائل العملية المشخصة، وبفضل استبدال فلسفة الدين تقرير العقيدة مكان تفهيمها على المقتضى الحديث واستبدالها الاشتغال بالمسائل العملية مكان الاشتغال بالمسائل المجرّدة، تكون عبارة عن حركة اليقظة الفكرية التي يشهدها العالم الإسلامي في عصرنا هذا”[17].
والموقف نفسه نعثر عليه لدى إسماعيل راجي الفاروقي في كتابه (التوحيد، مضامينه على الفكر والحياة)، فهو قد ناهض هيمنة المفهوم الكلامي للتوحيد، الذي صور الله باعتباره مبدأ الخلق وعلّته، أو المحرك الأول، وحشد جميع الأدلة الأنطولوجية والغائية على وجوده، إن الفاروقي في بحثه عن جوهر التوحيد، يُدخل إلى مُعجم العقيدة الإسلامية مضامين غير معهودة، فهو “لب المعيارية في الكون. وهذا هو البعد من مفهوم الإله الذي تعرض لقدر كبير من البخس في النظرية التي طرحها الفلاسفة التي صورته على أنه إله خلق وانتهى من مهمة الخلق، إلا أنه سبحانه صاحب الأمر والمدبر لكل ما في الوجود وعنايته بالكون وبكل ما يصدر فيه من حركات وسكنات وأفعال حقائق لا يرقى إليها الشك، وأن اتباع الإنسان لمشيئته ولإرادته قدر استطاعته، هو أساس قيمة الفعل الإنساني… ولو قدر للمسلم أن يستخدم هنا مقولة (قيمة المعرفة) لوجدنا لسان حاله يقول إن قيمة الغيبي الماورائي هو أنه يقوم بدوره الفاعل بوصفه مصدر: الأمر التكوينـي أو مـولـد الـدافـعـيـة، أو المعيارية[18].
وبهذا الإجراء التجديدي الذي رامه مالك بن نبي، يكون دور الاتجاهات الإصلاحية هو تعبئة القيمة الإيمانية وتفعيلها في الحياة، وإلا أضحت إصلاحاً ظاهرياً يَقْلِبُ الأولويات في مراحل الحضارة وخطواتها، فالحاجة إذاً ليست إلى الإصلاح الفكري ما لم يسبقه إصلاح روحي أو نهضة إيمانية، ينتفض القلب فيها على القيم السائدة، من أجل تغيير الفرد وتوشيج العلاقات الاجتماعية باعتبارها أساس الحركة في الفكر والحياة، وأساس إعادة الوحدة الممزقة بين الفكر والحياة أيضاً.
٢ – مركزية العلوم الأخلاقية والنفسية في الكشف عن “علم تجديد الصلة بالله”
يدرك مالك بن نبي في تحليلاته لمشكلات الحضارة، مركزية الدين في ذلك، فالدين هو نواة تكوين الحضارات، وهو القوة التي تتجدّد تبعاً لها النفوس التي ألِفت عوائد الانحطاط وأضحت طبيعة ثانية لها، و قد استخرج مالك بن نبي هذه الفكرة من مساءلاته الاستقرائية لنشأة الحضارات بخاصة الحضارة الإسلامية والغرب المسيحي المعاصر.
فالدين بعناصره الكبرى: الاعتقادات الشاملة والقيم الروحية والقواعد المُوجّهة والنموذج النبوي الحي بخاصة على النحو الذي يصوغه الإسلام، متى دخلت وعي الإنسان وامتزجت تعاليمه بروحه، تغيّرت العوائد السائدة من جديد، وتحرك الإنسان وقلبه مفعم بالغاية الجديدة بعد أن أغلق على ذاته في حدود طبيعته أو غريزته، وتحرّكت تلازماً هذا عجلة الحضارة مثمرة رؤية جديدة إلى العالم ونظاماً قيمياً جديدًا نحو مقاصد جديدة أيضاً.
من هنا، فإن الدين قوة حيوية لصيقة بالإنسان، وأي مشروع حضاري لا يراعي هذه القوة فهو لا ينسجم مع طبيعة وحقيقة الحاجات الإنسانية، والتفسير المادي حسب مالك بن نبي عاجز عن تفسير جميع التغيرات الكبرى في التاريخ الإنساني، لأنه ليس بالمادة وحدها يحيا الإنسان ويتحرّك، “فالمادية تفشل في تفسير إصرار الإنسان على أن يجد معنى في الكون ومركزاً له، وحينما لا يجد معنى له، فإنه لا يستمر في الإنتاج المادي مثل الحيوان الأعجم، وإنّما يتفسخ ويصبح عدميًا… وقضية المعنى تزداد حدة مع تزايد إشباع الجانب المادي في الإنسان، فكأن إنسانية الإنسان لصيقة بشيء آخر غير مادي. والبحث عن المعنى قد عبّر عن نفسه على هيئة فنون وعقائد”[19]، ومالك بن نبي أدرك هذا البعد الجوهري في الإنسان، ذلك أن الإطار الاجتماعي لا يتحرّك فقط حسب الحاجات المادية وإنما يتحرك أيضاً طبقاً لوجوده النفسي أو حاجاته الروحية.
هذا، وإن مالك بن نبي نبهنا إلى أهمية استخدام المعجم النفسي والاجتماعي والتربوي من أجل فهم كيف تؤثر القوة الدينية على النفس الإنسانية. ومن التطبيقات المنهجية التي يوردها مالك بن نبي، تشغيله لقانون الكبت عند فرويد، هذا القانون يخرجه بن نبي من مضائقه الغرائزية الطبيعية، ويصله بآلية إسكات صوت الغرائز وإيقاظ قانون الروح، “وهذه العملية الشرطية ليس من شأنها القضاء على الغرائز ولكنها تتولى تنظيمها في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدّينية: فالحيوية الحيوانية التي تمثلها الغرائز بصورة محسوسة لم تُلغَ ولكنّها انضبطت بقواعد نظام معين، وفي هذه الحالة يتحرَّرُ الفرد جزئياً من قانون الطبيعة المفطور في جسده، ويخضع وجوده في كليته إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدّينية في نفسه، بحيث يمارس حياته في هذه الحالة الجديدة حسب قانون الروح”[20].
إن هذا الإقرار ملمح جوهري إلى مدى الحاجة إلى التنبيه على محورية تغيير النفس وتغيير المجتمع والاحتفاظ بنظام القيم الإيماني. فالعلوم النفسية والأخلاقية تتولى مهمة البحث في الحاجات الحقيقية للنّفس الإنسانية، من أجل إقدارها على تجاوز وضعها المألوف، وأيضًا من أجل الإبانة عن الأبعاد الروحية للإيمان أو الدين مثل “الإيمان وتأثيره النفسي الإيجابي في تكامل الشخصية، الإيمان بالله كغريزة نفسية، علاقة الإنسان بالله، مراحل تطور الوعي الديني في الأعمار المختلفة، العبادة وتأثيراتها السلوكية والاجتماعية والعاطفية، الإلحاد والخسارة الروحية. أما الأبعاد الخلقية فتتجلى في: الميول الأخلاقية المنوعة وأهميتها في تكوين المشاعر والعادات، تأثير المعتقدات القائمة على الإيمان بالله والكمال الخلقي، عوامل التطور الخلقي وعوامل السيطرة والرشد، الأخلاقيات المادية، والنفعية، الأنانية، دراسة الحالات ومعالجتها”[21].
وهذه هي المهمة التي تتولاها العلوم النفسية والأخلاقية ضمن هذا العلم الجديد، وتطبيقات مالك بن نبي في إظهاره لدور المثل الأعلى الديني جليّة، إذ إنّه يقدّم المثل الديني الأعلى من وجهة نظر علم النفس بالتدخل “في تكوين الطاقة النفسية الأساسية لدى الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية الواقعة تحت تصرف (أنا) الفرد، ثم في توجيه هذه الطاقة تبعاً لمقتضيات النشاط الخاص بهذه (الأنا) داخل المجتمع، تبعاً للنشاط المشترك الذي يؤديه المجتمع في التاريخ”[22].
وهذه التطبيقات إيحاءات بضرورة توظيف هذه المعرفة الإنسانية توظيفاً يعين على بث الحيوية في الإنسان، لتأتي التربية فيما بعد، لكي تستكمل المسار في المحافظة على هذه القيم المعنوية الإيمانية وعلى ترسيخها في الوعي، هذه التربية وظيفتها حضارية بشكل مخصوص، إذ إنّها تحافظ على منظومة القيم الإيمانية وتعمل على ترسيخها وتعميقها، حتى تستحيل سلوكاً عيانياً، وقيمة اجتماعية، وسلوكاً حضارياً، وهذا ما عمل مالك بن نبي على إرسائه، فهو “يؤكّد على أن ثمة ارتباطاً قائماً بين التربية كأداة، ومنظومة القيم الثقافية كمحتوى تربوي، والحضارة كمنتوج تربوي، بحكم أننا نتعامل مع مشكلة الثقافة باعتبارها منهجاً تربوياً ينتظر التطبيق ويستهدف تجسيد معاني التحضر في إطار تربوي قائم على فلسفة أخلاقية محددة باعتبار هذه الفلسفة ذاتها هي البعد الأساسي الذي يحدد المعالم المميزة لهذه العملية التي تستهدف تأهيل الفرد للفعل التاريخي المجسد لمعنى التحضر في الحياة الاجتماعية”[23].
جلي إذاً كيف يجري الوصل بين هذه العلوم التي أعطى لها مالك بن نبي -رغم تخصصه التقني- الأولوية القصوى في مشروع علم تجديد الصلة بالله، لأنها العلوم الأقرب إلى النفس الإنسانية، وهو يريد تجريدها من إحالاتها الفلسفية الوضعية المادية ويسكنها في أرض إنسانية الإنسان، من أجل أن تنتج وتثمر. وتبعاً لهذا؛ فإن مستلزمات التحليل لأركان “علم تجديد الصلة بالله” توجب استخراج مبدأ آخر تواتر بصورة جلية في تحليلات مالك بن نبي جميعها، هذا المبدأ هو مبدأ الفكر المستعمل أو قيمة العمل.
3- الفكر المُسْتَعْمَل كغاية لعلم تجديد الصلة بالله:
إن القيمة الجوهرية للفكر لا تُستمَد من إطاراته النظرية فقط، وإنما من قيمته العملية أيضاً، ذلك أن الفكرة التي لا تلد عملاً هي فكرة ميّتة، وإن تمزق العلاقة بين الفكر والعمل هي أحد الأعراض الخطيرة للانحطاط، لأن جوهر أي تغيير لا يستهدف ثورة في الرؤوس فقط، وإنما في السلوك العملي أيضاً، وقد حذر مالك بن نبي من هذا الاكتفاء بالصحة النظرية للفكرة، إذ “لا يكفي أن نعلن عن قدسية القيم الإسلامية، بل علينا أن نزودها بما يجعلها قادرة على مواجهة روح العصر، وليس المقصود أن نقدّم تنازلات إلى الدنيوي على حساب المقدس، ولكن أن نحرّر هذا الأخير من بعض الغرور الاكتفائي والذي قد يقضي عليه”[24].
واستعمال العلم هو أحد مقاصد «علم تجديد الصلة بالله»، فالفلسفة الخلقية باعتبارها قوانين روحية لتوجيه السلوك، الغاية منها هي إرشاد أشخاص المجتمع إلى القيم، فليس عند مالك بن نبي علم من دون عمل، ولا قوة نظرية من دون قوة عملية “بل هناك حياة متكاملة قوامها معرفة الذات، والإحساس بالقيم، والمشاركة في ملء الحياة، والمساهمة في بناء شخصية الغير، ومن هنا فإن الفلسفة الخلقية لا يمكن أن تكون مجرد نظر عقلي يستهدف تعريف الفضيلة أو تحديد ماهية الخير، بل هي لا بد من أن تتخذ طابع الفلسفة العملية، التي تأخذ على عاتقها مهمة العمل على إيقاظ الحساسية بالقيم لدى الناس، والمشاركة في تربية الإنسانية بوجه عام”[25].
والأخذ بالقيم إلى القيمة العملية ضروري، “ذلك أن المراد الإلهي من إنزال علمه ليس أن نقف على قيمته النظرية ومبانيه الاستدلالية، وإنّما نتلقاه باستعدادنا وقدراتنا العملية، فنتحقق به في سلوكنا على اعتبار انه هو وحده العلم الذي تصلح به أحوالنا وتسعد به حياتنا، وعلى هذا فإن العمل لا يشكل هدفاً للعلم المنزل فحسب، بل إنه يشكل روحه الخالصة، بحيث تصبح العلاقة بين العِلمين – الإلهي والبشري – علاقة عمل رباني ونظر إنساني قد يليه التطبيق أو لا يليه”[26].
ويُعد هذا الإقرار بقيمة العمل، وتوحيد الصلة بينه وبين العلم، وصلاً قوياً بين حركة المجتمع وبين البعد العملي، إذ في استعمال العلم تتحرك الإرادة والمجتمع، وما ضروب اللافعالية التي تطبع سلوك الإنسان المسلم المعاصر، إلا ملمح جوهري على تمزق تلك الوحدة بين العلم والعمل، فمسلم اليوم شبيه بالميتافيزيقيين الذين يعتبرون الحقيقة هي التطابق بين الشيء وتصورنا عنه، أو هي فعل منطقي معرفي خالص، كلا، الحقيقة عند مالك بن نبي أفعال وجهود حيوية تُرى بمنطق عملي وبأداء نظامي متميّز، “وهذا الارتقاء بالسلوك الإنساني الفردي هو الهدف المحوري لحركة البناء الحضاري، كما أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وهي من الجهة المنهجية غاية الارتقاء المعرفي والروحي، فهما مطلوبان طلب الوسائل، بينما الارتقاء السلوكي أو الأخلاقي مطلوب لذاته”[27]
لقد تشكلت اتجاهات قيمية في الفلسفة الأخلاقية المعاصرة، يجمعها هم البحث عن السبل المنهجية التي تمكن من إعادة الوحدة الممزّقة بين الفكر والعمل، ومن الاجتهادات المعاصرة إسهام الفيلسوف المعاصر طه عبد الرحمن في كتابه (سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم) وهو برأينا انخراط جليّ في مشروع علم تجديد الصلة بالله، وذلك بوضعه لضوابط ترتب الصّلة المنهجية بين العلم والعمل «أحدها، مبدأ تقديم اعتبار العمل، ويقضي بأن كل مسألة لا يترتب عليها عمل لا فائدة منها ولا حاجة للبحث فيها… والثاني، مبدأ العلم المستعمل، ويقضي بأن لا يتعلم المرء من العلم إلا ما يعمل به، ولا يندفع في الاستزادة منه حتى يعمل بما حصَل منه، بل عليه أن يقتصر منه على القدر الذي يعرف به العمل. والثالث، مبدأ العلم النافع، ويقضي بأن لا يتعاطى المرء من العلم إلا العلم الذي إذا عمل به، لا تقتصر ثماره على عاجله بل تتعدّاه إلى آجله، ولا تقتصر على ذاته، وإنما تتعداه إلى غيره»[28].
واللافت للنظر هنا القيمة الفكرية للعمل، فالعمل يثمر فتح الدروب العلمية الجديدة، ويجدد الصلة بالله، فضلاً أنه يقي السلوك والعلم من آفات القصور عن الفائدة والغلو في التجريد، وبهذا الالتفاف على التجلي العياني للقيم، ندرك مدى القيمة الكبرى لهذا المشروع الذي لم يظهر بأصوله وتفريعاته عند مالك بن نبي، ويمكن أن نرصف فكرة “القيام بالواجب” كعلامة على وحدة الفكر والعمل، فالواجب عند مالك بن نبي يكتسب صفة القداسة، ويربطه ببذل الجهد وتحمل الكُلفة واقتحام العقبة، إذ ليس من الميسر في أساس اقتحام العقبة سوى إرادة الإنسان، من هنا فحين نختار جانب الواجبات تتحدد تلقائياً ثقافة جدية، وما المطالبة بالحقوق إلا علامة على الانحدار والذبول نحو نداء الطبيعة والغريزة.”
خاتمة:
آفاق مشروع علم تجديد الصلة بالله
هكذا إذاً، نرصد أحد المشاريع الفاعلة في الفكر الإسلامي المعاصر، مشروع علم تجديد الصلة بالله، الذي ترك مالك بن نبي بافتتاحه له، ترك الوصية لإكمال مسيرته البحثية، ولتطوير هذا المشروع وتحويله إلى علم جديد، وهذا المشروع برأينا؛ نوع من العودة إلى الدلالة الأصلية للفقه، بعد أن سلبه سلطان «الفقهوت»[29]، القيمة المعنوية والبعد المعياري، وحصره في الذهنية الفقهية القانونية الشكلية. إن المفهوم الأصلي للفقه هو علم معاملة العبد لربه، لكن جديد بن نبي أن هذه المعاملة يريد أن يأخذ بها من العلاقة بين الإنسان والله إلى الله والمجتمع، وذلك ببث الحيوية الأخلاقية في نسيجه كيما يقوى على القيام والنهوض مجدداً، بعد أن عاد مُرتكساً ومنجذباً نحو نداء الغرائز، وعطل وظيفته التاريخية.
إن تأسيس هذا العلم في حقيقته لفَت انتباه المسلم إلى المرحلة الأولى من مراحل الحضارة، التي أرّخ لنسيان توثبها الإيماني الأول، الانفصال بين القيم والحياة الاجتماعية، ولفت أيضاً الى أن الأسباب المادية وحدها ليست مفتاحاً للخروج من نفق التخلف والانحطاط المُظلمين، فالأسباب الروحية أقوى وأكثر فاعلية وامتدادًا في نسيج المجتمع، وما مساعي الاتجاهات الإصلاحية التي راهنت على التجديد الفكري إلا أمارة على عدم تمييزها بين دفعة الحضارة وبين تمظهراتها العقلية، فاتَهم أن ينبهوا في برامجهم الإصلاحية، إلى مركزية تجديد القيم الإيمانية، وأن ينصرفوا عن التجديد الفكري، لأنه المرحلة الثانية في الحضارة، وبتأكيد مالك بن نبي على مركزية القيم في الإصلاح وعلى القيمة العملية للفكرة وعلى أهمية العلوم الأخلاقية والنفسية، يكون قد فتح الأفق لإتقان خطاب إصلاحي جديد، يتحرك على المستوى النفسي للإنسان المسلم من أجل تغييره وإمداده بالطاقة الأخلاقية التي متى قامت في روح إنسان تحول إلى إنسان جديد، إنسان الدافعية الإيمانية وإنسان انتفاضة القلب وإنسان الواجب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عبد الرزاق بلعقروز (2014). قوة القداسة: تصدع الدنيوة واستعادة الديني لدوره. ط. 1. بيروت: منتدى المعارف. ص ص. 149 – 193.
** أستاذ محاضر A ورئيس قسم الفلسفة بجامعة سطيف 2.
فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب لفئة أفضل مؤلف شاب عن كتابه «روح القيم وحرية المفاهيم نحو السير لإعادة الترابط والتكامل بين منظومة القيم والعلوم الاجتماعية» في عام 2019.
[1] مالك بن نبي وجهة العالم الاسلامي ترجمة عبد الصبور شاهين (دمشق: دار الفكر، ٢٠٠٦)، ص ٣١.
[2] المصدر نفسه، ص ٤٥
[3] علي عزّت بيجوفيتش، الإعلان الإسلامي، ترجمة وتحقيق محمد يوسف عدس (القاهرة: دار الشروق، ۱۹۹۹)، ص ٥٧
[4] محمد شاويش مالك بن نبي والوضع الراهن (دمشق: دار الفکر، ۲۰۰۷) ص ۹۸-۱۰۰ .
[5] بيجوفيتش، المصدر نفسه، ص 57.
[6] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ج :۱ شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة عبد الصبور شاهين مشكلات الحضارة (دمشق) دار الفكر، ٢٠٠٦، ص ٤٣.
[7] بيكوفيتش، الإعلان الإسلامي، ص ٨٥
[8] بن نبي وجهة العالم الاسلامي ص٥٤.
[9] بن نبي، ميلاد مجتمع، ج ۱: شبكة العلاقات الاجتماعية، ص ٥٣.
[10] لقد طرح د. ماجد عرسان الكيلاني، في سلسلته حول أصول التربية الإسلامية، مفهوماً يقترب من، إن لم نقل هو إنجاز وتحقيق لمراد مالك بن نبي ضمن هذا الإطار، أي الانخراط في هذا العلم بواسطة التربية التي أولاها مالك بن نبي حيزاً مركزياً وراهن عليها كأداة أساسية من أدوات إنجاز مشروعه الحضاري تتمظهر لنا هذه الحقيقة من تشغيل الدور الاجتماعي للقيمة الخلقية، حيث سلك الكيلاني مسلك التوسيع مساحات التزكية، بأن تدخل الحياة كلّها تزكية النفس: القدرات العقلية، الإرادية… تزكية البيئة العامة الدينية، المعرفية، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية»… انظر: ماجد عرسان الكيلاني: فلسفة التربية الإسلامية (عمان: مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع (۱۹۹۸)، ومناهج التربية الإسلامية والمربون العاملون فيها (عمان) مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع، ۱۹۹۸).
[11] محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، ترجمة هاشم صالح (بيروت:مركز الإنماء القومي، ۲۰۰۷، ص ۲۳.
[12] مالك بن نبي مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة بسام بركة وأحمد شعبو؛ تقديم عمر مسقاوي (الجزائر) دار الوعي؛ دمشق: دار الفکر، ۲۰۱۲)،ص ۷۹
[13] بن نبي، ميلاد مجتمع، ج ۱: شبكة العلاقات الاجتماعية، ص ١٠٠.
[14] بن نبي، وجهة العالم الاسلامي، ص ١٥٥.
[15] محمد إقبال تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة محمد يوسف عدس (بيروت: دار الكتاب اللبناني؛ القاهرة: دار الكتاب المصري، ۲۰۱۲)،ص ٢٤٦.
[16] برغوث، محورية البعد الثقافي في استراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي»، ص ۱۰۷-۱۰۸.
[17] طه عبد الرحمن سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (الدار البيضاء؛ بيروت المركز الثقافي العربي، ۲۰۰۲)، ص .٢٢٤
[18] إسماعيل راجي الفاروقي، التوحيد؛ مضامينه على الفكر والحياة، ترجمة السيد عمر (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، ٢٠١٤)، ص ٣٥.
[19] عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان (دمشق: دار الفكر، ٢٠٠٦، ص ٥٧.
[20] مالك بن نبي شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي، مشكلات الحضارة (دمشق): دار الفكر، (٢٠٠٦)، ص ٦٧.
[21] العلوم الطبيعية والاجتماعية من وجهة نظر إسلامية: المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي، ترجمة عبد الحميد الخريبي (جدة: منشورات عكاظ؛ جامعة الملك عبد العزيز، ١٩٨٤)، ص ٩٤ .
[22] بن نبي، ميلاد ،مجتمع، ج :۱ شبكة العلاقات الاجتماعية، ص٧٤.
[23] عمر النقيب، مقومات مشروع بناء إنسان الحضارة في فكر مالك بن نبي = (نحو نظرية تربوية جديدة للعالم الإسلامي المعاصر) (الجزائر: الشركة الجزائرية -اللبنانية، ٢٠٠٩ ، ص ٤٥.
[24] بن نبي مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص ۱۱۲.
[25] زكريا إبراهيم، المشكلة الخلقية تونس؛ دار سحنون؛ القاهرة: مكتبة مصر، ١٩٦٩، ص ٥٨
[26] طه عبد الرحمن، سؤال العمل بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، ۲۰۱۲)، ص ۲۲۸.
[27] برغوث محورية البعد الثقافي في استراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، ص ص .۱۱۰
[28] عبد الرحمن، المصدر نفسه، ص ١٤.
[29] نستعمل هنا، مصطلح ،الفَقَهُوت للإشارة إلى هيمنة العقل الفقهي القانوني على الفضاء الإيماني الإسلامي، وهذا تماثلاً كلمة «الكهنوت المستخدمة في المعجم النقدي الغربي، وقد أخذنا هذه المفردة بنية صوتية ومضموناً من كتاب: طه عبد الرحمن روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الإئتمانية (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، ۲۰۱۲)، وجاء في تعريف هذا المصطلح من الكتاب المذكور، الفقهوت: الهيئة التي تختص في الفقه الصناعي، وتدعي الأحقية بتولّي الحكم والولاية على الناس تدبيراً لشؤونهم المرئية والغيبية» (ص ٥١٣).