العنوان: لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية: الشرق وتراث العصور العتيقة.
المؤلف: توماس باور.
المترجم: عبد السلام حيدر.
الطبعة: ط. 2.
مكان النشر: بغداد.
الناشر: منشورات الجمل.
تاريخ النشر: 2023.
الوصف المادي: 223 ص.؛ 22 سم.
الترقيم الدولي الموحد: 3-8-6058-9922-978.
كثيراُ ما كان يلفت انتباهي، توجه ثُلة من النخب الغربية نحو قول كلمة عدلٍ وقسطٍ بحق الإسلام، والصدع بها صراحةً وسط الملـأ، دون مواربة أو تردد، ودون عمل حساب للاتجاه السائد الغالب المناهض لتلك الكلمة. تلك الثُلة النخبوية كنت دائماً أصفها بالثُلة “المقسطة” التي تنتصر لقيم العدل والقسط في وسط بيئةٍ غربيةٍ طالما اتصفت، تاريخياً وحضارياً (وما زالت بكل أسف)، بالتمييز والعنصرية والتنمر ضد كل ما هو إسلامي، بل ضد كل ما هو غير غربي. فليس من السهل، أن يقف المرء في وجه عشيرته، وفي وجه موروثه الاجتماعي، منتصراً لكلمة حقٍ، قد تكلفه الكثير من مكانته العلمية والاجتماعية في وسط أقرانه. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على بطولة وفروسية ذلك الشخص، وصدقه مع ذاته، وإخلاصه لقيم الحق والإنصاف مهما كان الثمن.
من هذه الثلة المنصفة البروفيسور والمستشرق الألماني المعروف توماس باور Thomas Bauer (1961)، الحائز على درجة الدكتوراه عام 1989 من جامعة إيرلنجن – نورنبرغ Erlangen – Nuernberg، عن دراسته “الشعر العربي القديم”، ثم الحائز على درجة الأستاذية عام 1997 عن دراسته “الحب: شعر الحب العربي في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين”. وهو حالياً أستاذ للدراسات العربية والإسلامية في جامعة مونستر Muenster الألمانية. وأصدر قرابة أربعين عملاً علمياً، بين طويل وقصير، حصل بعضها على جوائز، مثل كتابه “لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟ الشرق وتراث العصور العتيقة”، الفائز بجائزة Tractatus – Preis عام 2019 لأفضل عمل قصير؛ وهو الكتاب الذي نحن بصدد عرضه في هذا المقال.
كتاب Warum es kein islamisches Mittelalter gab? Das Erbe der Antike und der Orient صدر في ميونيخ Muenchen عام 2008، وتمت ترجمته إلى العربية بقلم المُترجم المصري “د. عبد السلام حيدر”، عن “منشورات الجمل”، بغداد، عام 2020. يعد هذا الكتاب – كما أشرنا سالفاً – من الأعمال العلمية القصيرة (223 صفحة). وقد استُهِل بـ”مقدمة المترجم”، ثم “مقدمة الكتاب”، واشتَمل على خمسة فصول متتالية، اختتمت بـ”ملحق الصور” و”مراجع الكتاب” و”مصادر الصور”. والكتاب في أصله عبارة عن محاضرةٍ، كان قد ألقاها المؤلف، تحت عنوان “هل كانت هناك عصور وسطى إسلامية”، في “أكاديمية برلين براندينبورغ للعلوم”، فبراير عام 2014.
تتمثل نقطة انطلاق الكتاب، كما أورد المؤلف في المقدمة، في مشاعر “الغضب” التي تولدت لديه تجاه البيئة العلمية والفكرية المحيطة به، جراء شيوع خطأ منهجي ناجم عن استخدامها مصطلح “العصور الوسطى الإسلامية”؛ وذلك على مدار أعوام بل عقود طويلة، ما أدى إلى ترسيخ ذلك المصطلح في الذهنية الغربية، وفي الوعي الجمعي الغربي بشكلٍ عام، الأمر الذي أوجب، من وجهة نظره، العمل على إعادة تأسيس المصطلح على أساس نظري متين.
أول ما يتبادر إلى ذهن القاريء، هو التساؤل: ما الذي جعل “باور” يشذ عن السياق الفكري الغربي السائد، مهاجماً ذلك المصطلح المترسخ غربياً بقوة؟ وهنا يسرد “باور” الأسباب الستة وراء “خروجه” عن السياق المعتاد الذي اتسم، طيلة عقود فائتة، بالتحيز والعنصرية والتمييز ضد الإسلام والمسلمين. وهي تلك الأسباب التي استهل بها فصله الأول تحت عنوان “ستة أسباب ضد (العصور الوسطى الإسلامية)”.
قبل سرده تلك الأسباب، نجد “باور” يلفت نظرنا إلى طبيعة مصطلح “العصور الوسطى الإسلامية”، مبيناً كيف تم تحديده ثقافياً منذ البداية، وفرضه أوروبياً على العالم الإسلامي، من الهند شرقاً إلى موريتانيا غرباً، وموضحاً كيف تم وضع أوروبا والشرق في حقبةٍ زمنية واحدة، بالرغم من كونهما مختلفين أشد الاختلاف على امتداد تلك الحقبة. بمعنى آخر، إن مصطلح “العصور الوسطى” لا يصف فقط حقبة التاريخ الأوروبي الممتدة من نهاية العصور العتيقة إلى العصور الحديثة، إنما يُستخدم أيضاً أوروبياً لتسمية الحقبة المتزامنة لتاريخ الشرق (الذي يشكل العالم الإسلامي جزءاً كبيراً منه)؛ فينتهي الأمر بوضع الشرق برمته – بثقافته وأدبه وعلومه وأوضاعه الاجتماعية – تحت مظلة هذا المصطلح، ظلماً وزوراً وبهتاناً.
وهنا يطرح “باور” الإشكالية المحورية التالية: هل يعني التزامن التطابق؟ ويجيب بالنفي القاطع؛ إذ لا الواقع التاريخي ولا العقل ولا العلم ولا المنطق يجيزون ذلك. وأكثر ما يتعجب منه “باور”، ندرة طرح تلك الإشكالية علمياً ونظرياً ومنهجياً من قبل العلماء والباحثين والمفكرين، سواء الأوروبيين منهم، أو الأمريكيين، أو العرب. وذلك على رغم من كونها إشكالية ذات أهمية قصوى فيما يتعلق بتاريخ الحضارات والمقارنة بينها.
أما الأسباب الستة وراء رفضه ذلك المصطلح الذي صُك أوروبياً، فتكمن في: انعدام الدقة، خطأ الاستنتاجات، الازدرائية، الغرائبية، النبرة الامبريالية، اللاموضوعية.
فأما انعدام الدقة، فيتمثل في عدم وضوح المصطلح، بل في إضفائه من اللبس والتخبط والغموض ما يستفز أي إنسان عاقل. وقد قدم المؤلف دليلاً (ضمن أدلة كثيرة) عن ذلك، موضحاً أن تلك الحقبة التي طالما وُصفت بكونها حقبة التعصب الديني لم تنطبق أبداً على العلماء المسلمين حينذاك، إذ كانوا بعيدين كل البعد عن أية تعصب أو تشدد، وبالتالي لم يكونوا قروسطيين (نسبة إلى القرون الوسطى) كما يُشاع، أو كما يُراد أن يُشاع. فالأطباء في العالم الإسلامي، على سبيل المثال، لم يكن كثير منهم مسلمي الديانة، بل كانوا مسيحيين ويهوداً.
وأما خطأ الاستنتاجات، فيتمثل في تأسيس المصطلح، منذ البداية، على مقدمات غير حقيقية، أعطت صورةً زائفة وكاذبة عن الوضع الحقيقي حينذاك. ومن أهم تلك المغالطات أو الأكاذيب، ما تم ترسيخه في الأذهان بأن العصور الوسطى كانت ذات توجهٍ ديني كبير. وهنا يرد المؤلف على تلك الأكذوبة موضحاً، أن حرفيي وفلاحي العصور الوسطى في أوروبا لم يكونوا أكثر ورعاً أو تديناً من أقرانهم في العصور الحديثة، بحروبها وإصلاحاتها الدينية. كما أن العالم الإسلامي في تلك الفترة لم يشهد أية آثار أو ملامح للتشدد الديني، بل وُجدت فيه مجالات حياتية كانت “دنيوية بالكامل”، بل “تصل إلى حد المجون”، مثلما حدث في مجال الأدب والشعر، حيث ظهر شعر الغزل “الصريح”، وقصائد المديح والنفاق للحكام، على حد وصف المؤلف. واستخلاصاً من ذلك، لم تكن حقبة القرون الوسطى مختلفةً عن سابقتها العتيقة ولا عن لاحقتها الحديثة، ولم تُشكل فاصلاً وسطاً بينهما، كما يُدَعى.
وأما الازدرائية، فتتمثل في عدم براءة المصطلح منذ البداية، بإضفاء الدلالة السلبية عليه، بحيث تصير العصور الوسطى زمنا مخصصاً للعالم حالك الظلمة (ص 24)، الذي يقف وسطاً بين العصر العتيق المنير وعصر النهضة المستنير. وهنا تم توظيف المصطلح أوروبياً لازدراء العالم الإسلامي والتشهير به دون وضعه في المرجع الزمني المرتبط به. ويضرب المؤلف مثالاً بمقالٍ تم نشره في جريدة دير شبيجل Der Spiegel الألمانية (في 12 فبراير عام 1979)، حيث وُصفت الثورة الإيرانية باعتبارها عودةً إلى العصور الوسطى الإسلامية التي لم يتم تجاوزها بعد.
وأما الغرائبية، فتتمثل في تطبيق المصطلح وإنزاله بطريقة غريبة ومتعسفة على المجتمعات الإسلامية، ثم “اغتصاب” ثقافات تلك المجتمعات لصالح التاريخ الأوروبي. وهو ذلك التاريخ المتحيز الذي جعل أوروبا الغربية “اصطلاحياً” هي الوريث الشرعي الوحيد للعصور القديمة العتيقة، سواءً للإمبراطورية الرومانية أو الحضارة الإغريقية.
وأما النبرة الامبريالية، فتتمثل في صناعة المصطلح أوروبياً، بحيث يحيل الثقافات الإسلامية كلها إلى العصور الوسطى، نافياً عنها العصرنة والحداثة. فمن المنظور الامبريالي الأوروبي، يقف الإسلام وحده في مكانٍ ما، بين العصور الوسطى والعصر الحديث. فطريق الحداثة “الصعب”، بحسب هذا المنظور، لم يصل إليه الإسلام بعد لكونه متمركزاً على فكرة الدين، وهو ما لا يتفق مع الفكر السياسي الأوروبي الذي جعل من الدين “فكرةً تاريخية”. وبناءً عليه، يُستثنى العالم الإسلامي من تاريخ العصر الحديث؛ ذلك العالم الذي لم يشهد مرحلتي “النهضة والتنوير” اللتين تمثلان السبيل الوحيد نحو الحداثة الغربية، كما يدعي هذا المنظور الامبريالي.
ومن ثم، يصير الإسلام – وفقاً لهذا التصور الامبريالي – هو “القروسطي” الوحيد الذي لم يلحق بقطار الحداثة الذي تعتبره أوروبا مكسباً إيجابياً خاصاً لها، يستوجب على بقية القارات اللحاق به. ومن ثم، لم يعد أمام العالم الإسلامي سوى حلين؛ إما أن يتبع خطوات التطور الأوروبي، فيمر بعصور “النهضة والتنوير”، جاعلاً من الدين “فكرةً تاريخية”، وإما أن يأخذ الحداثة الغربية جملةً واحدةً دون تردد؛ وهو ما سيفرض بالطبع التدخل العسكري، مثلما حدث في أفغانستان 2001، والعراق 2003.
وأما اللاموضوعية، فتتمثل في طرح التساؤلات الآتية: كيف يمكن لدعاة الفرادة التاريخية (أوروبا) الزعم بأنهم الوريثون الوحيدون للعصور العتيقة، بينما كان العالم الإسلامي يعيش حينذاك عصراً ذهبياً ناهضاً، معتمداً فيه بشكلٍ كبير على ترجمة علوم العصور العتيقة، وتطويرها، والبناء عليها؟ كيف تجعل أوروبا التزامن وحده صانعاً للحقبة، بالرغم أن التزامن وحده لا يعني تشابه الظروف المعيشية أو تطابق الإدراك والشعور؟ باختصار، إن عدم الموضوعية يكمن ببساطة في وضع أوروبا والشرق معاً – عنوةً وغصباً – تحت مظلة أو حقبة تاريخية واحدة، بالرغم من اختلاف تطورهما في تلك الحقبة.
عقد المقارنة بين الشرق والغرب
وبعد عرض المؤلف للأسباب الستة وراء رفضه لمصطلح “العصور الوسطى الإسلامية”، علمياً وتاريخياً ونظرياً ومنطقياً وواقعياً، ينتقل بنا إلى مرحلة المقارنة بين الشرق والغرب في فترة “العصور الوسطى”، متناولاً “النقلة” النوعية من العصر العتيق إلى العصر الحديث (أي ما بين القرنين الخامس والحادي عشر الميلاديين)؛ ليخرج “باور” بنتيجةٍ علميةٍ مفادها باختصار: إن تلك “النقلة” في أراضي الإمبراطورية الرومانية، حينذاك، لم تكن مشابهةً – على الإطلاق – لنظيرتها في أراضي الشرق، سواءً الشرق المسلم أو غير المسلم (الصيني والإفريقي والفارسي). وهو ما أفرد وخصص له المؤلف فصلاً كاملاً (الفصل الثاني) تحت عنوان “الشرق والغرب بالمقارنة: من (الأمية) إلى (الأرقام)”.
أقام المؤلف حجته عبر استخدام منهجية “ألف باء العصور الوسطى”؛ وهي منهجية تخص اختبار المصطلحات التي تحدد ظواهر الحياة اليومية في كلتا المنطقتين، بهدف المقارنة بينهما في تلك المرحلة الانتقالية بين العصرين. استخدم المؤلف، في تلك العملية البحثية، 26 مصطلحاً على حسب عدد الحروف الأبجدية اللاتينية. فعلى سبيل المثال، استخدم “باور” مصطلح Alphabetismus – الذي يعني “الأمية” بالعربية – في أول تلك العملية، لكونه يبدأ بحرف الـA، وهو أول الحروف الأبجدية اللاتينية. ثم يختبر مصطلح Baeder – الذي يعني “الحمامات العامة” بالعربية – مُسجلاً المصطلح الثاني، لكونه يبدأ بحرف الـB الذي يعد ثاني الحروف الأبجدية اللاتينية. وهكذا، حتى يصل المؤلف إلى المصطلح الأخير Ziffer – الذي يعني “أرقام” – والذي يبدأ بحرف الـZ، آخر الحروف الأبجدية اللاتينية.
ويمكننا هنا تسليط الضوء على بعض المصطلحات الكاشفة عن ذلك التباين الشديد بين المنطقتين، في نفس الحقبة، والذي يثبت بالدليل والبرهان أن ظلمات الغرب لم تزامنها ظلمات مماثلة في الشرق، وإنما زامنتها أنوار الشرق. فنأتي مثلاً إلى اختبار مصطلح “الأمية” بالنسبة للمنطقتين، لنكتشف أن ظاهرة الأمية كانت تمثل الوضع الطبيعي في الغرب، بدايةً من العصور العتيقة الثانية، بينما نجد – خلافاً لذلك – مهارات القراءة والكتابة قد مثلت ظاهرةً واضحةً على نطاق واسع من العالم الإسلامي، بما فيها الأوساط الحرفية.
ثم يسوق “باور” مصطلحاً آخر، وهو مصطلح الـDachziegel أو “القرميد” الذي يمثل ظاهرةً أخرى من ظواهر الحياة اليومية في المنطقتين. فيتبين لنا، كما أورد المؤلف، أنه بينما كان القرميد مختفياً في أوروبا القرون الوسطى، وبيما كانت غالبية الأوروبيين مرتضيةً بمواد التسقيف القابلة للاحتراق والاختراق والتلوث بالحشرات، كان إنتاج القرميد مزدهراً في الشرق الإسلامي، وعلى الأخص في بلاد الشام؛ إذ استمر استخدامه في المباني الكبيرة، من أديرة وكنائس في فترة ما قبل الإسلام إلى المساجد فيما بعد الإسلام. ولقد كان المسجد الأموي أحد تلك المباني المعمارية الكبيرة التي ازدانت بالقرميد. بمعنى آخر، لم يتوقف أو يتراجع إنتاج القرميد في الشرق الإسلامي، كما حدث في الغرب المسيحي.
وكما تفحص المؤلف في إنتاج “القرميد”، فقد تفحص أيضاً في إنتاج “الزجاج” Glas، وفي إنتاج “الفلوس النحاسية” Kupfermuenzen؛ ليُظهر كيف كان إنتاج كليهما منهاراً أو مختفياً في الغرب، بينما كان متوهجاً ومتوفراً في الشرق. فقد شهدت صناعة الزجاج انهياراً كبيراً في أوروبا القرون الوسطى، بينما وصلت إلى ذروتها في مصر وسوريا، وبالذات في القرنين الثاني عشر والرابع عشر الميلاديين. أما إنتاج الفلوس النحاسية، فقد كان مختفياً في الغرب، بينما كان متوفراً بكميات كبيرة في الشرق.
وتطرق “باور” أيضاً، في مجال المقارنة بين الشرق والغرب، إلى منتوجات الورق Papier الذي يعد في الأصل إختراعاً صينياً. فبينما ندر استخدامه في أوروبا المسيحية – اللهم إلا ورق البردي – مما أدى إلى غياب أي سوق أوروبي للكتب حتى القرن الثالث عشر الميلادي، انتشرت صناعة الورق في الشرق الإسلامي على نهاية القرن الثامن الميلادي، الأمر الذي أدى حينذاك إلى “انفجار حقيقي” في إنتاج الكتب العربية (ص85).
قاد ما سبق المؤلف إلى تناول مصطلح التمدن Urbanitaet؛ إذ تحدث عن مدى تحضر وتمدن المدن العربية المسلمة، على عكس نظيرتها الغربية المسيحية؛ حيث استمرت حياة المدن الحضرية في الشرق الإسلامي، على مر العصور الوسطى، بينما كانت تتلاشى في الغرب المسيحي، بل كانت تتلاشىى الثقافة الحضارية الغربية كلها. فنجد مدناً إسلامية جديدة قد أُنشئت، مثل بغداد بالعراق والرملة بالشام والفسطاط بمصر، ولا نجد لها نظيراً في الغرب. “فبينما كانت المدن في الغرب تذوي وتنكمش، كانت مدن الشرق تنمو وتزدهر” (ص 93). نعم، كانت تزدهر بأسواقها وعلمائها وحرفها وطبقتها الحضرية المتذوقة للشعر والأدب؛ لا المزدرية لها كما كان حادثاً في الغرب المسيحي.
وبينما كانت أوروبا المسيحية تحرم “شعر الغزل” (مصطلح الـ Liebesdichtung)، وتُجرم الشعر المتأمل في الطبيعة، وتزجر كل من يذهب إلى الغابة بغرض التأمل في الزهور والنباتات لكون ذلك يعطله عن الذهاب إلى الكنيسة، كان الشعر العربي ظاهرةً عامة ومنتشرة في الشرق الإسلامي. ولم لا؟ وقد سبق الشعر العربي نظيره الغربي بقرونٍ عديدة.
ومع ازدهار المدن في الشرق الإسلامي، توطدت شبكة المواصلات (مصطلح الـ Verkehrswege) بين تلك المدن؛ إذ ورث العالم الإسلامي شبكة المواصلات من الرومان والفرس، وحرص على صيانتها، مقاوماً تدهورها في أراضي الإمبراطورية الرومانية، الناتج عن اندلاع الحروب الأهلية الأوروبية بوتيرةٍ متكررة، وهجرة الشعوب الأوروبية حينذاك.
كذلك تناول المؤلف “الطب” Medizin، الذي كان قائما في أوروبا حينذاك على التمائم والسحر والشياطين، بينما كان قائماً في ديار الإسلام على البحث العلمي والعقلاني، مُقدماً رواداً في هذا المجال، من “أبو بكر الرازي” إلى “إبن سينا”.
وتناول المؤلف أيضاً “العلوم الطبيعية” Naturwissenschaften التي كان يُنظر إليها بازدراء وعداء شديدين من قبل رجال الكنيسة في أوروبا المسيحية، معتبرين إياها مرادفةً للهرطقة الدينية، بينما كان يُنظر إليها في الشرق الإسلامي بكل تبجيلٍ واحترام؛ مما نتج عنه قيام العلماء المسلمين بترجمة وتطوير العلوم اليونانية التابعة للعصور العتيقة، الأمر الذي أهلهم ليصيروا هم الأمناء حقاً على تلك العلوم، في وقتٍ كان نظراؤهم الغربيون بعيدين كل البعد عن الاهتمام بترجمة تلك العلوم من اليونانية إلى اللاتينية. ويحسب المؤلف هذا الصنيع للمسلمين قائلاً: “لم يحدث من قبل أن قام المرء بمثل هذا النقل الممنهج والكامل للتراث العلمي والفلسفي المتاح لثقافةٍ ما، من لغةٍ أجنبية إلى لغته الخاصة، كما كان الحال في العالم العربي مع ترجمة التراث اليوناني إلى اللغة العربية، فيما بين القرنين الثامن والحادي عشر الميلاديين” (ص 83).
وقد أكد “باور” على استمرار الشرق الإسلامي في تطبيق العلوم العتيقة – المأخوذة من العصور العتيقة – في مجال الحسابات والرياضيات، ومواصلة تطويرها، على عكس ما فعله الغرب. فعلى سبيل المثال، كان العالم الإسلامي مُستخدماً للمعداد (أداة تقنية بسيطة تساعد في الحسابات والرياضيات)، وهو الذي كان معروفاً في العصور العتيقة من الإمبراطورية الرومانية حتى الصين، بينما كان العالم الغربي متوقفاً حينذاك عن استخدامه.
وكما برع المؤلف في إبراز الفروق بين العالمين في الظواهر المادية الحسية الملموسة، فقد برع أيضاً في إظهار تلك الفوارق في الظواهر غير المادية، وهي تلك الظواهر المتعلقة بالفكر والعقيدة والروح والوجدان. فنجده يسلط الضوء على مصطلح “عقيدة الخطيئة الأصلية” أو Erbsuendenlehre، ليبرز مدى الفارق بين الشرق والغرب في مجال الاعتقاد والفكر الديني. فبينما كان الخوف العميق، المتأسس على الدين، هو السائد المسيطر في أوروبا المسيحية، وهو الخوف المتمثل في عقيدة “الخطيئة الأصلية”، كان الإيمان بالجنة وبرحمة الله هما المحرك الأساسي في وجدان وعقل المسلم بالشرق، إذ شكلت “الجنة” و”المغفرة” دوراً محورياً في الوعي الجمعي المسلم.
ولم ينس المؤلف التطرق إلى مسألة “اليهود” Juden؛ فأوضح كيف كان يهود أوروبا عرضةً للتعسف، حيث كان عقد المذابح – المنظمة لهم – ظاهرةً متعارف عليها أوروبياً، بينما كان يهود الشرق الإسلامي يحظون بمعاملة منصفة باعتبارهم “أهل ذمة”، وباعتبار أن لديهم الحق في تحقيق الحد الأدنى من وضعهم التشريعي واستقلالهم الذاتي. وهنا يشيد “باور” بترسخ مبدأ وحق التعددية الدينية في الشرق الإسلامي، والاعتراف بغير المسلم شرعاً وقانوناً، سواءً كان يهودياً أو غير يهودي. فالمجتمعات المسلمة، كما يشيد المؤلف، لم تنشأ على كراهية الأجنبي أو غير المسلم، لكونها مجتمعات متعددة الأعراق في الأصل. وهنا يستخدم المؤلف مصطلح الـXenophobie، والذي يعني كراهة الأجنبي، موضحاً أن تلك الكراهة لم تعرفها المجتمعات المسلمة إلا بعد استيراد الأيديولوجيات الغربية الحديثة. وهذا على العكس تماماً، مما كان سائداً في الغرب المسيحي، حيث كان الأصل هو “الحط من جميع البشر الذين لا ينتمون إلى دائرتهم الثقافية” (ص 97)، وإقامة تحيزات مُسبقة وصور نمطية عن “العدو” الذي لا ينتمي إلى الدائرة الثقافية الغربية.
بعد عرض الظواهر المعيشية الفارقة بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي في تلك الفترة الزمانية، التي يسميها الغرب “العصور الوسطى”، يستخلص “باور” الخلاصة الآتية: إن الشرق لم تحدث فيه أية قطيعة مع العصور العتيقة الثانية (التي تبدأ [وفقاً لرؤية المؤلف] من القرن الثالث حتى القرن الحادي عشر الميلادي) كما كان الحال مع الغرب المسيحي. فالتغير والتطور الإيجابي الحاصل في الشرق كان مناقضاً لما حدث في الغرب.
ففي الشرق الإسلامي، استمر العمران القديم مُبقياً على العصور العتيقة. وفي الشرق الإسلامي، تطورت الأفكار “العتيقة” السابقة لظهور المسيحية لتصير علوماً طبيعية، وازدهرت حضارة القراءة والكتابة على عكس حضارة الجيرمان التي لم تكن تقرأ ولا تكتب. إذن، فقد حافظ الشرق الإسلامي أولاً على الثقافة العتيقة، وواصل ثانياً تطويرها؛ وهما أمران يميزان الشرق، كما يؤكد “باور”. ومن ثم، لم يكن هناك “عصر نهضة” (إحياء) أو Renaissance في الشرق، إذ أنه لا إحياء لما لم يمت (ص 105).
ورغماً عن تلك الحقائق والوقائع التي لا تخطئها العين، فإن هناك من المؤرخين الأوروبيين من يصر على تبني أغرب “الحُجج” لإنقاذ الاحتكار الأوروبي للعصور العتيقة دوناً عن بقية الأمم. من هذه “الحُجج” الواهية، اتهام المسلمين بأنهم الذين دمروا تراث العصور العتيقة، بل ووصم ثقافتهم – التي حافظت بأفضل طريقة ممكنة على ذلك التراث العتيق – بالتخلف والتأخر؛ وهو أمرٌ مناف بل مضاد كل التضاد لحقيقة الشرق في ذلك الحين.
بعد تفنيد الفوارق الحضارية بين العالمين الشرقي والغربي في فترة “العصور الوسطى”، ينتقل بنا “باور” إلى البحث عن الصورة الكاملة، غير المنقوصة، وغير المشوشة؛ وهو ما يناقشه عبر فصله الثالث تحت عنوان “بحثاً عن الصورة الكاملة: من البحر المتوسط إلى هندوكش[1]“.
بحثاً عن الصورة الكاملة
في هذا الفصل، يتناول “باور” نظرياً ومنهجياً كيفية تحديد الحُقب التاريخية بشكل عقلاني ومنطقي وعلمي؛ أي بشكلٍ غير متحيز. فيبتديء فصله الثالث بنقده للقصور أو التحيز الأوروبي في التعامل مع التاريخ العالمي؛ ذلك التحيز الذي جرى حينما قرر المؤرخون الأوروبيون حذف الإمبراطورية الفارسية أو الأخميدية من التاريخ العالمي، بهدف جعل العصور العتيقة حكراً على اليونان والرومان. إن “إخفاء” بلاد فارس – التي كانت تمثل إمبراطوريةً بجانب نظيرتها الرومانية – إنما هو تحقيب غير عقلاني؛ بل تحقيب ظالم. نعم، لقد استأصل المؤرخون الأوروبيون إثنى عشر قرناً من التاريخ الفارسي؛ وهو استئصال يمثل تقليداً تاريخياً في المراجع العلمية الأوروبية؛ فيكفي فقط التطلع إلى “أطلس dtv لتاريخ العالم” لنكتشف مدى الغبن الذي مورس حيال التاريخ الفارسي والحضارة الفارسية. وبالطبع، لم يُسمح للتاريخ الفارسي بالظهور إلا في حقبة “العصور الوسطى”، ليتم نعته بأقبح وأسوأ الصفات، كما حدث مع التاريخ الإسلامي.
ويتعرض المؤلف في هذا الفصل للإشكالية المنهجية المتعلقة بتقسيم الحقب التاريخية، مُحذراً من الخطأ المنهجي المتمثل في تقسيم الحقب اعتمادا على عدد قليل من العلامات المُختارة بشكلٍ متعسف، داعياً إلى ضرورة تصحيح ذلك الخطأ الشائع، من خلال البحث عن “خطوط تغير الحالات التاريخية” التي تظهر تحولاً في الظروف المعيشية عبر أكبر عدد من المجالات. قد تشمل “خطوط التغيير” هذه، استخدام الورق على سبيل المثال، أو الانتقال من لغة إدارية إلى أخرى، أو التوقف عن استمداد السلطة من الإله.
وبناء على ذلك، يقوم “باور” بتحديد أربعة شروط لتحديد الحقبة التاريخية الشاملة. فأول تلك الشروط، ألا تكون الحقبة التاريخية قيمية (سلبية كانت أم إيجابية)؛ وهو ما لا ينطبق على مصطلح “العصور الوسطى” الذي تم تصنيفه سلبياً منذ البداية، كما أشرنا من قبل. وثاني تلك الشروط، أن تسري الحقبة على نطاق واسع، وهو ما لم يتحقق في المصطلح المعني، إذ أنه رُغماً عن تحقق التزامن فعلياً في مناطق جغرافية كبيرة (أوروبا) إلا أنه ظلت مناطق كثيرة أخرى من العالم لديها حقبتها الخاصة بها، ومنها بلاد الإسلام وبلاد فارس وبلاد الصين. أما ثالث تلك الشروط، أن تتضمن الحقبة التاريخية تغيرا في الظروف الحياتية بشكلٍ شاملٍ وعميق، وليس لنخب ضيقة؛ وهو ما يناقض العديد من مصطلحات التحقيب التقليدية. وآخر تلك الشروط، أن تؤذن الحقبة التاريخية بتغيرات نهائية ودائمة، لا بتغيرات أولية ومؤقتة.
وبكل أسف، فقد ضرب معظم المؤرخين الأوروبيين بتلك الشروط عرض الحائط، متخذين أوروبا معياراً عالمياً، جاعلين حقبة التدهور الأوروبي هي ذاتها حقبة العالم الإسلامي، رُغماً عن اختلاف وتباين الظروف بين المنطقتين، كما أسلفنا سابقاً. وهنا يجدر القول، إنه لمن التشويه والتزييف التاريخي، أن تصير منطقة غرب أوروبا ووسطها – وهي منطقة هامشية بالنسبة للعالم الفسيح الواسع – مقياساً للعالم بأسره. وإنه لمن الكذب والتدليس التاريخي، كما يؤكد المؤلف، أن تتسلط أوروبا على منهجية التحديد الحقبي، فتتفرد وحدها، دون غيرها، بكتابة التاريخ.
وإن كانت أوروبا المتسلطة تعترف في تاريخها بالثقافة الإسلامية التي كانت قد أفادتها في النهوض Renaissance – حيث قام المسلمون بحفظ العلوم العتيقة الموروثة من الرومان واليونان، مما أتاح لأوروبا النهوض لاحقاً – إلا أنها لا تعترف بالثقافة الإسلامية في شكلها المطلق المستقل؛ فتصفها بالتخلف والقصور والعجز.
خلاصة القول، يدعو “باور” إلى حتمية تصحيح ذلك الخطأ المنهجي العقيم والقديم، في تحديد الحقب التاريخية، عبر استبعاد غرب أوروبا ووسطها كليةً من تاريخ منطقة الشرق، الواقعة بين المحيط الأطلنطي وجبال الهندوكش، في الفترة ما بين القرنين السادس والحادي عشر الميلاديين. فإذا تمكنا من ذلك، “لحصلنا على صورةٍ نقية وغير مشوشة لعصر نهضة رائع، يمثل نوعاً ما.. عصر نهضة شرقي” (ص 142).
المرحلة التكوينية للعلوم الإسلامية
واستكمالاً لعرض حجته – التي تقول إن الشرق الإسلامي لم يشهد قط عصوراً مظلمة كتلك التي شهدها الغرب المسيحي – يقدم لنا المؤلف ما أنتجته الحضارة الإسلامية في تلك الفترة من إنجازاتٍ فريدة من نوعها، كانت بمثابة مرحلة تكوينية للعلوم الإسلامية، في وقتٍ كان فيه الغرب المسيحي غارقاً في ظلمات الجهل والتخلف. امتدت تلك الفترة من القرن السابع إلى القرن الحادي عشر الميلادي؛ ذلك القرن الأخير الذي بلغت فيه الحضارة الإسلامية مرحلة “النضج”؛ وهو ما تناوله المؤلف تفصيلياً في الفصل الرابع من كتابه تحت عنوان “العصور الإسلامية العتيقة المتأخرة: المرحلة التكوينية للعصور الإسلامية”.
لقد أسهب “باور” في الإشادة بالقرن الحادي عشر الميلادي؛ فتارةً يصفه بالقرن “الرهيب”، وتارةً يصفه بـ”العصر الذهبي” للثقافة الإسلامية. فهو عالم جديد، ارتكز على أسس العصور العتيقة (اليونانية والرومانية والفارسية)، لكنه خرج بعد ذلك عن تلك العصور، فلم يعد عتيقاً، كما أورد المؤلف. إن ما شهده العالم في القرن الحادي عشر الميلادي كان بمثابة “انجراف جغرافي ثقافي”، تحولت وانجرفت فيه البوصلة من أراضي الإمبراطورية الرومانية السابقة – التي باتت تعاني العوز والفقر – إلى الأراضي الشرقية المسلمة (التي كانت تابعة فيما قبل للإمبراطورية الساسانية) والتي باتت المنطقة الأكثر إنتاجيةً، فكراً وثقافةً وعلماً وأدباً وشعراً. تلك الأراضي الشرقية المسلمة، حيث بغداد والكوفة وقزوين وهمدان وأصفهان وخراسان ونيسابور ومشهد، التي أضحت مركزاً ثقافياً رئيسياً جاذباً لمختلف العلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي.
في تلك “البقعة” الشرقية، نشأت وتكونت علوم إسلامية عديدة؛ من صناعة المعاجم الضخمة، ولا سيما معاجم النظرية النحوية في اللغة العربية، إلى تعريب “علم المنطق”، إلى تطوير الفلسفة اليونانية القديمة حتى صارت مدخلاً تمهيدياً في دراسة العلوم الشرعية، إلى إنشاء “علم المنهجية القانونية” أو “أصول الفقه” التي مثلت جسراً واصلاً بين النصوص الدينية والحياة الواقعية، إلى تدشين “علم تفسير القرآن” و”علم الحديث” و”علم الكلام”. هذا فضلاً عن إرساء علم الطب والرياضيات والبصريات في تلك الفترة.
لقد أفرزت تلك الحقبة علماء مسلمين عظماء: من ابن جني والزمخشري في علم النحو، إلى السكاكي وعبد القادر الجرجاني في علم البلاغة، إلى ابن سينا في علوم المنطق والطب، إلى الشافعي والجويني والطوسي والشيرازي في علم أصول الفقه، إلى الماوردي في علم التفسير، إلى البيهقي والبغوي في علم الحديث، إلى البيروني في علم الرياضيات، إلى ابن الهيثم في علم البصريات، إلى الغزالي في علوم التصوف والفلسفة.
وبناءً على ذلك، يقوم المؤلف باستبدال التحقيب الأوروبي المجحف لمنطقة الشرق الإسلامي بتحقيبٍ آخر، وهو تحقيبٌ مكون من ثلاث مراحل: المرحلة الأولى، هي مرحلة “العصر الذهبي” للإسلام، وهي المرحلة “التكوينية” الممتدة من القرن السابع حتى القرن الحادي عشر الميلادي. أما المرحلة الثانية، فهي المرحلة “ما بعد التكوينية”، الممتدة من القرن الثاني عشر إلى القرن التاسع عشر الميلادي، حيث كان التطوير المستمر للعلوم المفردة. وأخيراً، تأتي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة “المواجهة مع الحداثة”، الممتدة من القرن التاسع عشر الميلادي حتى يومنا هذا.
الخلاصة والتوقعات
في الفصل الخامس والأخير- تحت عنوان “القرن الحادي عشر كحدود حقبة: خلاصة وتوقعات” – أفاد “باور” صراحة بعدم صلاحية مصطلح “العصور الوسطى” عموماً، و”العصور الوسطى الإسلامية” خصوصاً، فكلاهما غير دقيق، غير علمي، مفعم بالتضليل. كلاهما يحمل حمولةً سلبيةً يُقصد بها التشهير بالعالم الإسلامي، وإبقاؤه في نطاق الغرائبية. كلاهما يصادر حقيقة العالم الإسلامي بطريقةٍ إمبريالية عنصرية، ومن ثم يمنع رؤية الحدود الحقبية الحقيقية. كلاهما لا يرتكز على أساس واقعي؛ إذ إن عمليات التحول في العصور العتيقة الثانية، في كلٍ من الغرب المسيحي والشرق الإسلامي وغير الإسلامي (الصين على سيبل المثال)، تمت بطرق مختلفة بل متناقضة في كثيرٍ من الأحيان. فمنذ القرن الخامس الميلادي، تطور كل من القسمين الشرقي والغربي بشكلٍ متباين، بحيث لا يبدو منطقياً وضعهما في حقبةٍ واحدة. وحتى القرن الحادي عشر الميلادي، كان العالم الإسلامي المبكر يشبه عالم الصين في عهد مملكة “التانج” الصينية، أكثر مما كان يشبه أوروبا في عصورها المظلمة.
وحتى القرن الحادي عشر الميلادي، كانت إفريقيا أيضاً تعيش قروناً ذهبية، وليس “عصوراً وسطى”. قروناً ذهبية منسيةً، بكل أسف، لعدم توثيقها وتسجيلها؛ إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة إفريقيا المزدهرة في تلك الحقبة. ويجدر الإشارة الى أن تحضر العالم الإسلامي، حينذاك، أضحى يُشكل الوصلة بين الصين وشرق إفريقيا، كما كان يمثل الوصلة بين أوروبا ومنطقة الساحل أو “حزام السافانا”، وهو الحزام الجغرافي الإفريقي الممتد بين المحيط الأطلسي والبحر الأحمر.
وهنا يطرح “باور” تساؤلاً محورياً، وهو: كيف يمكن إذن تحديد الحقب التاريخية، بعد إسقاط مصطلح “العصور الوسطى”؟ وللإجابة عن ذلك، نجده يقدم رأيين علميين. أولهما يقول إن ما حدث حول عام 1500 ميلادياً يمثل وقفةً حقبيةً، لوقوع أحداث مهمة حول هذا التوقيت؛ أهمها: استيلاء العثمانيين على القسطنطينية عام 1453، ثم قيام “كولومبوس” برحلته الاستكشافية الأولى باتجاه أمريكا عام 1492، ثم سقوط “غرناطة” في العام ذاته، ثم إعلان الدولة الصفوية في إيران عام 1501، ثم إعلان قيام الدولة المغولية بعدها بفترةٍ وجيزة، وأخيراً احتلال العثمانيين لدولة المماليك في عام 1517.
وأما الرأي الثاني، فيقول معترضاً أن تلك “الأحداث المهمة” لم يكن لديها تأثيرات عامة أو انعكاسات شائعة على بقية العالم. صحيح إنها كانت مدهشة وعظيمة في بدايتها، إلا أنها لم تخلف توابع عميقة في العالم؛ ومن ثم لا تمثل حدوداً حقبية. فاكتشاف القارة الأمريكية، على سبيل المثال، لم يصر ملحوظاً في أوروبا حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي.
وبين هذا الرأي وذاك، اتخذ “باور” موقفاً وسطاً. فهو يرى، من ناحية، أهمية الفترة الزمنية الحادثة حول عام 1500، والتي لا يمكن تجاهلها، لما يمثله هذا العام من علامةٍ فارقةٍ في تاريخ قيام الدول العظمى المؤثرة: دولة المغول في الشرق، ودولة العثمانيين في الغرب، وبينهما دولة الصفويين؛ إذ لا جدال أن توطد تلك الدول العظمى الجديدة قد أوجد حالةً جديدةً، أثرت على الحياة اليومية لمجتمعاتٍ عديدة.
إلا أنه يؤكد من ناحيةٍ ثانية، أن النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي كان أكثر جذرية في التغيير عما حدث حول عام 1500. لقد كان القرن الثامن عشر مفعما بأحداث الثورة الفرنسية و”التنوير” التي شعر جميع الأوروبيين بتأثيرها المباشر، وأدركوا عبرها أنها فترة انتقال حُقبي. نضف إلى ذلك، الاستعمار التدريجي للهند والخفوت البطيء للقوة العثمانية، والتي تعد – من جانب – أعراضاً ظاهرةً لتغيراتٍ طويلة الأمد، وتعد من جانبٍ آخر أحداثاً انقلابية فورية التأثير على جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية اليومية، سواءً في الغرب أو الشرق. وهو الأمر الذي جعل “باور” يؤكد في خلاصة بحثه قائلاً أن “النصف الثاني من القرن الثامن عشر يشكل بالفعل قَطعاً حقبياً حقيقياً أكبر وأعمق من الوقت حول سنة 1500” (ص 207).
وبالنظر إلى ما سبق يضع المؤلف تصوره البديل للحقب التاريخية كالتالي:
أولا: العصور العتيقة الأولى (اليونانية والرومانية والفارسية) الممتدة من قبل الميلاد حتى عام 250 ميلاديا.
ثانيا: العصور العتيقة الثانية الممتدة من 250 ميلادياً إلى القرن الحادي عشر ميلادياً.
ثالثا: العصر الحديث الأول الممتد من نصف القرن الحادي عشر حتى عام 1500 ميلادياً.
رابعاً: العصر الحديث الثاني الممتد من من بعد عام 1500 حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.
خامساً: عصر الحداثة الممتد من نهاية القرن الثامن عشر حتى القرن الواحد والعشرين ميلادياً.
وأخيراً: القرن الواحد والعشرين الحالي الذي تنبأ به “باور” ليكون عصر البشر الآليين.
لقد استطاع “باور” هنا اجتياز التقسيم التاريخي الأوروبي (عتيق، وسطي، حديث) والذي رآه معوقاً للنظر والتحليل، كما استطاع اجتياز التمركز الأوروبي في التفكير، والذي رآه مضللاً للعلم والمنطق والحقيقة. وبتجاوزه هذا وذاك، استطاع المستشرق الألماني أخذ نطاقات أكبر وأوسع في الاعتبار، واستطاع الخروج من “الأسر” الفكري الأوروبي الضيق، المانع لمعرفة الحقيقة، الحاجب عن الوصول إليها. وهو الأمر الذي يجعلني أصف “باور” بالسابح ضد التيار، المحرر للحقيقة بالعلم والنظر والبحث، وهو ما يُحمد له بكل تأكيد.
ما بعد القراءة
برع المؤلف، من وجهة نظري، في تفنيد وإجهاض الفرضية الغربية القائلة أو الزاعمة إن الشرق الإسلامي قد عاصر العصور “الوسطى” المظلمة التي شهدتها أوروبا المسيحية في الفترة ما بين القرنين الخامس والحادي عشر الميلاديين. وقد برع في تقديم الأدلة الواقعية والبراهين العقلية على بطلان تلك الفرضية، ودحض ما تحمله من افتراءٍ وظلم وعنصرية تجاه الشرق الإسلامي، وكذلك الشرق غير الإٍسلامي (الصين، بلاد فارس، إفريقيا).
وكان من ضمن أدواته للتدليل، استخدام منهجية “ألف باء العصور الوسطى”، عاقداً مقارنةً ذكيةً ودقيقةً بين “التطورين” في كلٍ من الشرق والغرب، على امتداد الفترة المعنية بالدراسة. كذلك استخدامه للمنطق والعقل في دحض مسألة وجوب تلازم المزامنة مع المطابقة. ولم يكتف المؤلف بسرد الحجج، واحدة تلو الأخرى، بل انتقل إلى مرحلةٍ أعلى؛ وهي تقديم البديل، وتأسيس تحقيب جديد، خالٍ تماماً من مصطلح ومفهوم “القرون الوسطى”، وخالٍ تماماً من العنصرية الأوروبية. وهي مبادرة علمية ونظرية تستحق الإشادة.
ومن هذا المدخل الواقعي والعقلاني، يدحض المؤلف الفرية “العلمية” الغربية التي يدعي أصحابها المركزية الأوروبية، فيسيطرون بها على جميع الثقافات والحضارات، ويصادرون بها تاريخ بقية العالم غير الغربي، لا عن جهلٍ وتغافل، بل عن علمٍ وقصدٍ. فمؤرخو المركزية الأوروبية يعلمون كل العلم بأنهم كاذبون، وبأنهم يلوون الحقائق ويطوعونها لحساب الإبقاء على هيمنتهم العلمية والحضارية والثقافية، خدمةً وتمهيداً وتبريراً لتحقيق المصالح العسكرية والسياسية والاقتصادية للقوى الغربية.
فهكذا كانت دائماً ودوماً سياسات العالم الغربي تجاه الشرق الإسلامي: سياسات القوة الصلبة التي تمارس الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية على العالم الإسلامي من ناحية، وسياسات القوة الناعمة التي تمارس الهيمنة الفكرية والثقافية على العقول والقلوب المسلمة، لخدمة وتبرير سياسات القوة الصلبة، من ناحيةٍ أخرى.
من المهم، في هذا السياق الإشارة والإشادة، بالمؤرخ والمستشار “طارق البشري” الذي طالما تناول مسألة “المعاصرة” في كتاباته ومؤلفاته. إذ كتب مبيناً: “ليس من الحتم في إطار المعاصرة، أن يكون العصر الحديث الأوروبي، يتطابق أو يماثل أو يشبه العصر الحديث لدى العرب والمسلمين، إذا نظرنا إلى العصر الحديث، لا بحسبانه التواكب الزمني، ولكن باعتباره جملة الظروف والأوضاع التاريخية والحضارية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية في وقتٍ ما”.[2]
ينتقد “البشري”، في هذا الصدد، قسماً من أولئك “الإصلاحيين” و”المجددين” و”النهضويين العرب” الذين يولون وجوههم تجاه “الوافد” القادم من الغرب، لينزلوه كليةً على المجتمعات المسلمة، دون تفنيدٍ أو بحثٍ أو تمحيص. فيصف نهجهم بالعوار، “إذ يقوم لديهم التلازم بين الحداثة والإصلاح وبين القدم والبلى، وإذ يعتبرون المواكبة الزمنية كافيةً لوحدة (العصر) بين مجتمعاتٍ متخالفة في أنساقها وظروفها المعيشية، وإذ لا يبالون بأثر نقل النموذج في حال اختلاف الأنساق”.[3]
بل وصف نهجهم بـ”الإصلاح الضال”، “الذي استعار قيماً ومفاهيم غربية غريبة”، “وهي لا تتيح إلا تفكك الجماعة [المسلمة] وانحلال البيئة وفساد قوامها”. ذلك “الإصلاح الضال” الذي تغافل وانصرف عن الاستجابة لما تواجهه الأمة من تحديات تهدد الجماعة المسلمة، محولاً أصول الإٍسلام من حاكمةٍ إلى محكوم عليها من قبل العقل الأوروبي الحديث، ومن ميزان إلى موزون، لينتهي مطاف ذلك “الإصلاح” إلى إلغاء شخصية الجماعة المسلمة، وإلغاء ثوابتها.[4]
وإذا كان اللوم والعيب على أولئك المؤرخين الأوروبيين الذين صادروا تاريخ العالم الإسلامي لحساب تاريخهم، المؤرَخ بمنتهى العنصرية والإمبريالية، فإن اللوم والعيب على أولئك المؤرخين والمفكرين العرب – الذين وصفهم أستاذنا “البشري” بالمضلين – أكبر وأعظم؛ بل أكثر إيلاماً وإيذاءً لنا.
ومن اللافت للانتباه، نقد كلٍ من “البشري” و”باور” منهجية التضليل في استخدام المصطلحات والمفاهيم. فبينما انتقد “البشري” منهجية التضليل في استخدام مصطلح “الإصلاح”، انتقد “باور” منهجية التضليل في استخدام مصطلح “القرون الوسطى”. وكذلك وصف كل منهما للمنهج المُضل بالغرابة. فـ”البشري” ينتقد “المُصلح” العربي الذي استعار قيماً ومفاهيم “غربية غريبة”، كما هو مُبين أعلاه، و”باور” يلفت النظر إلى “الغرائبية” في منهج المفكر الغربي عند صكه لمصطلح “القرون الوسطى”.
كلا المفكريَن قام بتحرير المصطلحات والمفاهيم المغلوطة والشائعة؛ وهو الدور الكفاحي التحريري لكل مُفكر شريفٍ. ورُغماً عن اختلاف “البشري” عن “باور” عقائدياً ودينياً وحضارياً وثقافياً، إلا أنهما اجتمعا في النهاية على كلمة حقٍ وقسطٍ يقذفان بها الباطل. وهكذا هو الحق دائماً وأبداً، يجمع ويوحد كل من يرنو إليه مخلصاً خالصا.
عرض:
د. شيرين حامد فهمي*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جبال تمتد عبر أفغانستان وشمال غرب باكستان
[2] طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة: ماهية المعاصرة، (القاهرة: دار الشروق)، 2005، ص11.
[3] ما سبق، ص 19.
[4] ما سبق، ص34.
* دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.