ما بعد الإنسان

العنوان: ما بعد الإنسان=   The Posthuman

المؤلف: روزى بريدوتي.

المترجم: حنان عبد المحسن مظفر

الطبعة: ط. 1

مكان النشر: الصفاة. الكويت.

الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت.

تاريخ النشر: 2021.

الوصف المادي: 247ص. ، 21 سم.

السلسلة: سلسلة عالم المعرفة؛ 488.

الترقيم الدولي الموحد: 8-689-0-99906-978.

 روزي بريدوتي (ولدت عام 1958) فيلسوفة إيطالية معاصرة ورائدة في دراسات المرأة الأوروبية ومنظرة نسوية، مشروعها الفلسفي يبحث في كيفية التفكير في الاختلاف بشكل إيجابي. وهي حاليًا أستاذة جامعية في جامعة أوتريخت في هولندا وعضو مؤسس في الاتحاد الأوروبي لمعاهد ومراكز العلوم الإنسانية.

ويتكون الكتاب من:

  • مقدمة المترجم.
  • مقدمة المؤلف.
  • الفصل الأول: ما بعد الحركة الإنسانية: الحياة ما وراء النفس.
  • الفصل الثاني: ما بعد المركزية البشرية: الحياة ما وراء النوع.
  • الفصل الثالث: غير الإنساني: الحياة ما وراء الموت.
  • الفصل الرابع: العلوم الإنسانية ما بعد الإنسان: الحياة ما وراء النظرية.
  • الخاتمة

الفصل الأول

ما بعد الحركة الإنسانية: الحياة ما وراء النفس

 تستكشف الكاتبة في هذا الفصل بعض المسارات الفكرية والتاريخية للعلوم الإنسانية، فتفتتح الكاتبة الفصل برسم تخطيطي لرجل تعد صورة أيقونية ورمزا للعلوم الإنسانية التي تجمع بين التطور البيولوجي والخطاب المعنوي للقدرة الإنسانية نحو فكر تقدمي عقلاني غائي. وترى الكاتبة أن العلوم الإنسانية قد تطورت تاريخيا الى نموذج حضاري شكًل نموذجا حضاريا لأوروبا باعتبارها ليست موقعا جغرافيا سياسيا فقط، بل هي أيضا وصف كوني للعقل الإنساني ومنبع للتفكير النقدي، وبذلك هي تمثل وعيا كونيا يعلو على الجميع، بل إنها تعتبر هذه الإعلائية سمتها والعلوم الإنسانية العالمية ما يميزها. هذه المركزية الأوروبية أصبحت عنصر هيكلي لممارسات أوروبا الثقافية ودعمت الحركة الإمبريالية لدولها. تفترض هذه المركزية جدلية الذات والآخر، فتعتبر الذات الأوروبية مساوية لمعاني الوعي والعقلانية والسلوك الأخلاقي المنظم، في حين يُعرًف الآخر باعتباره النظير السلبي والمعاكس لهذه المعاني. ويصبح الاختلاف هنا مفهوم سلبي يترجم معنى الاستعلاء من ناحية والدونية من ناحية أخرى.

يعتبر تصنيف العلوم الإنسانية المحدد لما يمكن اعتباره إنسانا أساسا لفهمنا لوضع ما بعد الإنسان الذي وصلنا اليه، ففروقات الموقع بين ما هو مركزي (الذات الأوروبية) وبين ما هو مهمش (الآخر) مهم جدا، خاصة فيما يتعلق بإرث شيء معقد ومتعدد الأوجه مثل العلوم الإنسانية، مما سبب تواطئها مع الإبادات الجماعية والجرائم من ناحية، ودعمها الآمال والتطلعات نحو الحرية من ناحية أخرى.

وتعلن الكاتبة هنا أنها لا تؤيد الحركة الإنسانية  Humanism أو بفكرة الإنسان التي تتمسك بها، فهي من معارضي الحركة الإنسانية Anti-Humanism  التي هي عقيدتها الفكرية والشخصية. وترى الكاتبة أن الشكوك بدأت تحوم حول نموذج الحركة الإنسانية بمركزيتها الأوروبية وميولها الإمبريالية فنشأت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي معارضة من قبل حركات اجتماعية وثقافات شبابية جديدة في ذلك الوقت مثل النسوية، ومعارضة الاستعمار، ومناهضة العنصرية، والحركات المضادة للأسلحة النووية وحركة حماية البيئة، وقد أنتجت هذه الحركات الاجتماعية نظريات اجتماعية وسياسية ونظريات معرفة تحدت ابتذال الشعارات الخطابية التي تركز على ديمقراطية الغرب والفردية والليبرالية والحرية التي يدًعون توفيرها للجميع.

ثم قامت الكاتبة بعرض الأدوات ووسائل التحليل الأصيلة لبعض حركات المعارضة، تلك الحركات التي عاشت الصدمة الناتجة عن التجارب السياسية الفاشلة خلال القرن العشرين، فقامت بمقاومة غطرسة الحركة الإنسانية، ورأت إمكانية الوصول للكمال الإنساني عبر الاستقلالية وتقرير المصير الذاتي، فاقترحت طرقا جديدة لرؤية الإنسان من زاوية أكثر شمولية وتنوعا. ومن هنا ترى الكاتبة أن مناهضة الحركة الإنسانية تعد إحدى الطرق التاريخية والنظرية التي تؤدي لفلسفة ما بعد الإنسان.  

بعد أن رسمت الكاتبة سلسلة الأنساب الخاصة بمناهضة الإنسانية أشارت إلى أن “ما بعد الإنسانية هي اللحظة التاريخية التي تمثل نهاية التعارض بين الحركة الإنسانية ومناهضة الحركة الإنسانية، وتنتهج نهجًا حواريًا يتطلع بإيجابية أكثر نحو بدائل جديدة”.

 وتمضي الكاتبة في تحديد ثلاثة فروع رئيسة لما بعد الإنسان في الفكر المعاصر:

 الفرع الأول يأتي من الفلسفة الأخلاقية، ويطور شكلا تفاعليا لما بعد الإنسان.

أما الفرع الثاني يأتي من الدراسات العلمية والتكنولوجية، ويفرض شكلا تحليليا لما بعد الإنسان. وترى الكاتبة أنه يجب ألا يعمينا فخرنا بالإنجازات التكنولوجية والثروة التي تأتي معها عن رؤية التناقضات الكبيرة وأشكال عدم المساواة الاجتماعية والأخلاقية التي تولدها تقنياتنا المتقدمة.

بينما يقترح الفرع الثالث نظرية ما بعد إنسانية نقدية. وتؤكد الكاتبة على أنها جزء من هذا الفرع الثالث، وتصرح بأن هدف ما بعد الإنسانية النقدية هو “تجاوز ما بعد الإنسانية التحليلية وتطوير وجهات نظر إيجابية حول موضوع ما بعد الإنسان”، وترى الكاتبة أن نهج ما بعد الإنسانية النقدية متجذر في المدارس النقدية مثل ما بعد البنيويين والنسوية الراديكالية وما بعد الاستعمار، حيث تهتم كل مجموعة من هذه المجموعات بالفهم الفردي للموضوع. وأشارت الكاتبة هنا الى ادوارد سعيد التي ترى أنه كان من بين أوائل من نبهوا الى أنه من الممكن اتخاذ موقف نقدي تجه الحركة الإنسانية باسم الإنسانية.

وتنهي الكاتبة هذا الفصل بثلاثة ملاحظات أساسية:

  • إننا بحاجة الى نظرية جديدة للذات تلتفت الى منعطف ما بعد الإنسان.
  • إن نهاية الحركة الإنسانية الكلاسيكية ليس بأزمة، بل إنها تنطوي على عواقب إيجابية.
  • كانت الرأسمالية المتقدمة سريعة في استشعار واستغلال الفرص التي أتاحها تراجع الحركة الإنسانية الغربية وعمليات التهجين الثقافي الناجمة عن العولمة.

الفصل الثاني

ما بعد المركزية البشرية: الحياة ما وراء النوع

تعرض الكاتبة في هذا الفصل مفهوم ما بعد المركزية كمعنى من المعاني المفسرة لما بعد الإنسان، والتي يمكن النظر اليه على أنه حركة تفكيكية لمرحلة المركزية البشرية وذلك لتعارضها مع غطرسة المركزية البشرية و”استثنائية الإنسان” كفئة أعلى. في هذا الصدد، دافعت الكاتبة عن مفهوم المادية الحيوية التي ترى الكون كله على أنه مادة واحدة لا نهائية وغير قابلة للتجزئة، بمعنى أن “الحياة ليست ملكًا للكيانات الفردية، بل هي خاصية للمادة ككل”. وترى الكاتبة أن هذا الفهم الأحادي للكون هو الأساس لما بعد الإنسانية التي تتجنب النزعة الإنسانية التقليدية المتمركزة حول الإنسان، وتسمح بتطوير فهم جديد للفرد، فتكتب: “هناك علاقة مباشرة بين الأحادية، الوحدة العامة لكل مادة وما بعد مركزية الإنسان كإطار عام للإشارة إلى الذاتية المعاصرة “، فمشروع هذا الفصل إذن، هو تقديم مخطط تفصيلي لما سيبدو عليه عالم ما بعد المركزية البشرية من خلال طرح كيفية التعامل مع الآخر الحيواني، والآخر التكنولوجي.

أولا: العلاقة بين الإنسان والحيوان: تريد الكاتبة معارضة النزعة الضارة للاقتصاد العالمي الحالي بنهج إيجابي للذاتية ما بعد البشرية، في قلب هذا النهج يوجد “زوي” (Zoe) -الهيكل الديناميكي المنظم ذاتيًا لجميع المواد الحية-، يسعى هذا النهج إلى إنشاء رابطة إيجابية بين جميع الكائنات الحية، وبذلك يتحدى التمييز بين الذات الذكورية ونظرائه من البشر وغير البشر.

إن ما بعد الإنسان من منطلق ما بعد المركزية البشرية يبدل الثنائيات الراسخة ويعترف بالمساواة العميقة بين البشر والحيوانات، فيقتلع مفهوم التسلسل الهرمي للأنواع ويأخذ بمعيار واحد موحد كمقياس لجميع الأشياء. فالجميع -إنسان وحيوان- يتشاركون هذا الكوكب أو الإقليم أو البيئة بشروط جديدة لم تعد هرمية أو بديهية، وبالتالي تعاد حاليا هيكلة النمط القديم للعلاقة لتكون أكثر إنصافا مع الحيوانات. يتطلب نهج ما بعد المركزية البشرية إعادة التفكير في الحيوانات ليس فقط من منظور عاطفي بل أيضا من منظور عضوي بوصفهم مركبات ثقافية-طبيعية. وتعتبر النعجة دوللي الشكل المثالي للعلاقة المعقدة والتفاعل الجديد بين الإنسان والحيوان. وترى الكاتبة أن التحدي اليوم يتمثل في كيفية التخلي عن الحدود القائمة في العلاقة بين الإنسان والحيوان، فلطالما حددت الحيوانات الفضائل الأخلاقية بحيث تم إضفاء الصفة المرجعية على هذه الفضائل في القصص الرمزية للحيوانات، حيث تحولت الحيوانات الى مرجعية مجازية للقواعد والقيم.

وتؤكد الكاتبة على أن ما نحتاجه هو التحول إلى الأخلاق التي تتمحور حول “زوي”  (Zoe)، حيث يكون الحفاظ المستدام للحياة العامة هو الهدف الأساسي، وبالتالي لا يتم اختزال الكائنات الحية إلى منفعتها أو قيمتها السوقية، بل يتم فهمها على أنها متميزة.

 ثانيا: العلاقة بين الإنسان والتكنولوجي: تعد الوساطة التكنولوجية أمر أساسي لرؤية جديدة لذاتية ما بعد الإنسان. فأصبحت التكنولوجيا أمرا أساسيا في مأزق ما بعد المركزية البشرية، فقد تحولت العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا في السياق المعاصر لتصل الى درجات غير مسبوقة من الحميمية، إن مأزق ما بعد الإنسانية يدفع بإزاحة خطوط ترسيم الحدود بين المولود والمصنًع، بين العضوي وغير العضوي، بين الدوائر الإلكترونية والنظم العصبية العضوية. فالوظيفة المجازية التي اضطلعت بها الآلات في زمن الحداثة كأداة للمركزية البشرية، تستبدل اليوم في مابعد المركزية البشرية بربط الذات بالآلات بشكل أكثر حميمية من خلال المحاكاة والتعديل المتبادل. فبدمج الوعي الإنساني بالشبكة الإلكترونية قامت تقنيات المعلومات والاتصالات المعاصرة على العمل على تخريج وتقليد النظام العصبي البشري إلكترونيا.  

الفصل الثالث

غير الإنساني: الحياة ما وراء الموت

تثير الكاتبة في هذا الفصل قضية الموت والقتل، وعلاقتهما بمفهوم “غير الإنساني”. وقد عرفت “غير الإنساني” بأنه تأثير الرأسمالية المتقدمة التغريبي والمسلع على الإنسان. فالتكنولوجيا أدت الى تجريد الذات من الإنسانية باسم الكفاءة الحادة. فالعلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا وكذلك التأثيرات التي تنطوي على هذه العلاقة بما في ذلك الرغبة والقسوة والألم، تتغير بشكل جذري مع التقنيات المعاصرة للرأسمالية المتقدمة.

وقد أدت النهج القاسي للكوارث التاريخية التي وقعت خلال القرن الماضي الى خسائر في الالتزام والأحاسيس الأخلاقية لمرتكبي العنف وكذلك لضحايا العنف. وقد أدى ذلك الى زيادة البهيمية الأخلاقية بين البشر. وقد طور المفكرون المناهضون للاستعمار والعنصرية هذه النظرة من تفكك الإحساس الأخلاقي لدى الفاشيين والعنصريين والمستوى الأخلاقي الأعلى لضحايا العنف وجعلوها في صميم الحركة الإنسانية الجديدة.

وترى الكاتبة أن السياسة الحيوية لما بعد الإنسان تغير من الحدود بين الحياة والموت، ومن ثم لا تتعامل فقط مع سلطة الأحياء ولكن أيضا مع ممارسات الموت. وترتبط معظم هذه الظواهر بالظواهر الاجتماعية والسياسية واللاإنسانية، وقد قامت الكاتبة بتصنيف الطرق المختلفة وراء الموت، وهي الفقر والمجاعة والعنف والأمراض والحوادث والحروب والكوارث.

وإذا كان القلق بشأن الانقراض شائعا في العصر النووي فإن حالة ما بعد الإنسان تمد أفق الموت الى البشر جميعا على هذا الكوكب، بما يعيد تكوين البشرية حول رابطة مشتركة من الضعف ويربط الإنسان بمصير الأنواع الأخرى، فالموت والدمار هما القاسمان المشتركان لهذا التحالف.

بالإضافة الى ذلك فإن قدر كبير من المخاوف الصحية والبيئية بالإضافة الى القضايا الجيو-سياسية تطمس التمييز بين الحياة والموت.

وتؤكد الكاتبة أنه من المهم التأكيد على أن السياسة الإيجابية المتمثلة في عملية تحويل المشاعر السلبية الى ممارسات إنتاجية ومستدامة لا تنكر حقيقة الرعب والعنف والدمار، بل تقترح فقط طريقة مختلفة للتعامل مع تلك الحقائق، فللسياسة المعاصرة قدر هائل من القسوة. فقد شهد عالم ما بعد الحرب الباردة تحولا عميقا في ممارسات الحرب، وتتضمن أشكال الحرب الجديدة الكفاءة العظيمة للأسلحة التكنولوجية “الذكية” التي يديرها الإنسان عن بعد مثل الدرون والروبوتات والتي تحقق كما هائلا من الضحايا والخسائر المادية. وتتعجب الكاتبة من تطور هذه الإنجازات التكنولوجية، والمخاطر اللاإنسانية التي تنطوي عليها أسلحة ما بعد المركزية البشرية. وتجادل بأن إطلاق النار في المدارس وهجمات الطائرات بدون طيار وغيرها من الجوانب اللاإنسانية لحالة ما بعد الإنسان تتطلب قيمًا معيارية جديدة، وفقًا للكاتبة أدت ضربات الطائرات بدون طيار إلى زيادة كبيرة (وغير متساوية) في معدلات الوفيات بين السكان المستهدفين،  وبهذه الطريقة أصبحت الحرب بشكل متزايد وسيلة أخرى للخصخصة التجارية، بحيث تحول الموت حرفيًا إلى سلعة أخرى.

إن النظرية ما بعد الإنسانية للموت تبتعد كثيرا عن فكرة الموت باعتباره الحالة غير الحية التي يفترض أن “يعود” الجسد اليها. فالموت هنا هو التحول نحو غير الملحوظ لذات ما بعد الإنسان، ومن ثم فهو جزء من دورات التحول. وترى الكاتبة هنا أن المطلوب هو فهم أكثر تعقيدًا للموت في مرحلة ما بعد الإنسان (أى إعادة تعريف فهمنا بدقة لما يعنيه “الموت” في حاضر ما بعد الإنسان)، حيث يمكن إحراز تقدم نحو سياسة عامة أكثر استدامة، لافتة إلى أن نظرية ما بعد الإنسان مهيأة بشكل فريد لتقديم رؤى جديدة في الفهم النقدي للموت.

الفصل الرابع

العلوم الإنسانية ما بعد الإنسان: الحياة ما وراء النظرية

تناقش الكاتبة في هذا الفصل تأثير نظرية ما بعد الإنسان على العلوم الإنسانية، فهي ترى أن تداعيات ما بعد المركزية البشرية تضع أجندة مختلفة للعلوم الإنسانية. إن صورة الفكر المتضمنة في تعريف ما بعد المركزية البشرية للإنسان تذهب الى أبعد من مجرد إعادة النظر في أولويات البحث، ذلك لأنها تقوم بتفكيك الذات من خلال الهويات والولاءات في عالم معولم تسوده الصراعات.

وترى الكاتبة أن إزاحة المركزية البشرية والتسلسل الهرمي للأنواع يحرم مجال العلوم الإنسانية من الأسس المعرفية التي كان قائما عليها. إلا أن الكاتبة ترى أن ما بعد المركزية المعززة تكنولوجيا يمكن أن تجند موارد الشفرات الوراثية البيولوجية والاتصالات عن بعد والوسائط وتكنولوجيا المعلومات في مهمة تجديد العلوم الإنسانية. ذلك أن جوهر العلوم الإنسانية الذي يتسم بمركزيته البشرية قد تفكك بسبب هذا التكوين المعقد للمعرفة الجديدة الذي تهيمن عليه الدراسات العلمية والمعلومات التكنولوجية.

أدت الاستجابة المعرفية لما يحدث في عصرنا هذا الى إنشاء وتكاثر مجالات متعددة التخصصات تتعامل مع مستجدات العصر، وتعد الدراسات الجندرية والدراسات النسوية ودراسات ما بعد الاستعمار والعلوم الإنسانية الرقمية نماذج أولية لهذه المجالات الجديدة. وتشير الكاتبة الى اندلاع ما عرف بحروب العلوم أو حروب “النظرية” أو “الثقافة” في الجامعات الأمريكية، وكان جوهر الخلاف هو مسألة الاختلافات في الأنماط بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية.  

وتشير الكاتبة الى أن أزمة العلوم الإنسانية فرصة، فوفقًا لها يعتمد مستقبل العلوم الإنسانية على قدرة العلماء واستعدادهم للتعامل مع الفرص والتحديات التي ينطوي عليها مأزق ما بعد الإنسان، وتشتمل على تأثير التقنيات الحيوية وتغير المناخ والتحولات البيئية والاجتماعية الأخرى.

ثم تقترح الكاتبة الطرق التي يمكن لمجتمعات العلوم والإنسانيات أن تعمل معًا من خلالها، وقامت بتجميع لمحة موجزة من الأعمال الحديثة متعددة التخصصات (مشاريع مثل حوار ستيفن جولد وروزاموند بورسيل بين العلم والفن من خلال “تفاعل متطور للصور والمعلومات العلمية”، أو “العمل الرائد لسارة فرانكلين على النعجة دوللي”) ويشير إلى أن مثل هذا “الإحراج للثراء” لا يدل على أزمة في العلوم الإنسانية، بل بالأحرى تعبير عن حيوية متجددة في هذا المجال.

مع وضع هذه النماذج متعددة التخصصات في الاعتبار، تحدد الكاتبة “القواعد الذهبية” لنظرية ما بعد الإنسان منها: “دقة رسم الخرائط، مع مساءلة أخلاقية تابعة لها؛ فكر عابر للتخصصات، أهمية الجمع بين النقد والتصوير الإبداعي؛ مبدأ اللاخطية، قوى الذاكرة والخيال واستراتيجية التغريب”، وتؤكد الكاتبة على أن هذه الإرشادات المنهجية تقوم ليس فقط ببناء نظرية نقدية لما بعد الإنسان ولكن أيضا يمكنها أن تساعد في إعادة تحديد العلاقة بين العلوم الإنسانية وعلوم الحياة على أساس متبادل.  

وتؤكد الكاتبة على تأييدها للدعوة الى تحول معرفي في العلوم الإنسانية لعصر ما بعد الإنسان  لإنتاج المعرفة الخاصة به. ومع ذلك تشير الكاتبة الى بعض الصعوبات التي تواجه هذا المشروع الهام، أول هذه الصعوبات هو الافتقار الى تقليد التأمل المعرفي، ويرتبط هذا الأمر بالإصرار المؤسف على ثقافة قائمة على العزلة التخصصية، ومركزية أوروبية غير عقلانية، فالعلوم الإنسانية تحتاج الى طفرة قوية تساعدها على الابتعاد عن بعض معتقادتها الراسخة، ويجب عليها أن تتحلى بالشجاعة الملهمة لتجاوز الاهتمام الحصري بالإنسان سواء كان إنسان الحركة الإنسانية أو إنسان المركزية البشرية، والى احتضان مزيد من التحديات الفكرية الكوكبية.

ثم تطرح الكاتبة سؤالا: ما الممارسة المؤسسية الأنسب للنظرية النقدية لما بعد الإنسان والعلوم الإنسانية في قرننا هذا؟. فالكاتبة ترى أن الجامعة الآن ليست سوى استنزاف طفيلي للموارد، مثلها مثل البورصة أو شركات التأمين، في هذا السياق لا تعني فكرة “التفوق” شيئا كبيرا، ولكنها عامل حاسم في التبادل العابر للأمم لرأس المال الأكاديمي. فالتفوق يفهرس وفق المال وطلبات الأسواق ورضا المستهلكين. وترى الكاتبة أن النموذج الأنسب للجامعة في عصرنا يكون في صورة جامعات جديدة افتراضية ومن ثم عالمية، يمكن تعريفها بأنها مساحة “ذكية” ببنية تحتية تكنولوجية مكثفة غير هرمية وسهلة الاستخدام بما يهزم التنظيم التقليدي لإنتاج المعرفة ونقلها. وهنا يتم نزع الفضاء الأكاديمي المنفصل في السابق ومكانته المقدسة لصالح “جامعة تعددية عالمية” قادرة على التفاعل مع فضاء المدينة من أجل خلق روح جماعية من الذكاء المجتمعي. هذه الجامعة الجديدة تعد كيانا جديدا له مهمة كونية، تلتقي فيه التكنولوجيا بالميتافيزيقا، ويتراجع فيه دور تكوين المواطن وبنائه.  

ختاما تجدر الإشارة الى أن المرء لا يمكن أن يتجاهل تفاؤل الكاتبة بشأن التحول الى مرحلة ما بعد الإنسان، والذي تعتبره “فرصة رائعة لنقرر معًا ما نحن قادرون على أن نصبح عليه.”، فهي تتعامل مع ما بعد الإنسان كمصطلح مفيد لاستكشاف سُبل الانخراط بشكل إيجابي في الحاضر. فنظرية ما بعد الإنسان هي أداة توليدية تساعدنا على إعادة التفكير فيما نعنيه بالإنسان في عصر الهندسة الوراثية، تلك اللحظة التاريخية التي أصبح فيها الإنسان قوة قادرة على التأثير في جميع أنواع الحياة على هذا الكوكب.

عرض:

أ. نسرين حسن

باحثة في العلوم السياسية

عن نسرين حسن

شاهد أيضاً

ما بعد الإنسانية: الفرص والتحديات

أ. منال يحيى شيمي

يشهد العالم اليوم ثورة تقنية وتكنولوجية هائلة، ورغم ما تحمله هذه التكنولوجيا من إمكانات وفرص لتحسين جودة الحياة وحمل القدرات البشرية إلى أفق جديد، فإنها وبنفس القدر تهدد الحياة البشرية والطبيعة الإنسانية بالمعنى الذي نعرفه.

ازدواجية التنوير: دراسات في النقد الثقافي المقارن

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

ازدواجية التنوير: دراسات في النقد الثقافي المقارن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.