الصفحات التالية من كتاب “العولمة”* لجلال أمين**
مشكلة الأخلاق في ظل العولمة
الذين يهللون لظاهرة العولمة يقعون فى رأيى فى خطأ فادح. فهم يفهمون العولمة أو يحاولون تصويرها على أنها تنطوى على عملية (تحرر) من ربقة الدولة القومية إلى أفق الإنسانية الواسع، تحرر من نظام التخطيط الآمر الثقيل إلى نظام السوق الحرة، تحرر من الولاء لثقافة ضيقة ومتعصبة إلى ثقافة عالمية واحدة يتساوى فيها الناس والأمم جميعاً، تحرر من التعصب لأيديولوجيا معينة إلى الانفتاح على مختلف الأفكار من دون أى تعصب وتشنج، تحرر من كل صور اللاعقلانية الناتجة من التحيز المسبق لأمة أو دين أو أيديولوجيا بعينها إلى عقلانية العلم وحياد الثقافة.
هكذا تصورلنا العولمة، ومن ثم فقد اقترن الحديث عنها بكثرة الحديث عن أشياء براقة تخلب اللب: من حقوق الإنسان والديمقراطية، إلى الإشادة بالعقلانية والعلم، وبقدرة التقانة الحديثة على التغلب على كل ما يتعرض الإنسان من عوائق ومشكلات، والهجوم على التعصب بكل أشكاله: الدينى أو القومى أو العرقى، والزعم بأننا فى كل هذه الأمور مقبلون على عصر جديد تنتصر فيه كل هذه القيم الرفيعة: احترام حقوق الإنسان (وبخاصة حقوق النساء) والديمقراطية والعقلانية والموضوعية، والتقدم التقانى. وكل هذا يصور على أنه جزء لايتجزأ من ظاهرة العولمة، كما يصور كل من يقف فى وجه العولمة على أنه يقف فى الحقيقة ضد التحرر من كل هذه الصور من صور الاستبعاد: استبعاد الدولة، استبعاد الجهل والفقر، واستبعاد التعصب.
كم يكون العالم جميلا لو كان كل ذلك صحيحا، ولكن الحقيقة للأسف غير ذلك، بل لعلها عكس هذا بالضبط. وإنما يساعد على تصديق كل هذه الأشياء، وتدعيم هذا الخطأ الفادح، أن لفظ العولمة لفظ يصف ما يجرى على السطح من دون أن يفصح عن محتواه الحقيقى، إذ إن الكلام يجرى عن العولمة من دون أن يثار السؤال عما تجرى عولمته.
العولمة هى فى الحقيقة عولمة نمط معين من الحياة، لا أشعر بأى التزام بتبنيه واتباعه. وإنما شاع الاعتقاد بضرورة تبنيه واتباعه لمجرد أنه ندر أن تثار مسألة خصوصيته، وارتباطه بثقافة معينة ونظرة معينة إلى الحياة والكون (أى بأيديولوجية معينة فى الحقيقة). ومسألة الخصوصية هذه نادرا ما تثار بسبب طول عهدنا باكتساح هذا النمط لحياتنا (فالظاهرة تعود بدايتها إلى خمسة قرون خلت)، وبسبب اشتداد هذا الاكتساح وسرعته فى العقود الأخيرة، وبسبب وجود مصلحة أكيدة لأصحاب الثقافة والمنتجات التى تجرى عولمتها فى عدم افتضاح خصوصيتها، واستخدامها مختلف وسائل القهر المادى والسياسى والنفسى والعقلى لتصدير ماهو خاص على أنه إنسانى وعام.
يلجأ المنتصرون للعولمة التذرع بالحتمية، فيلجأون إلى القول: إن علينا أن نقبلها لأنه لامفر لنا من قبولها.
وأود أن ألاحظ على هذه الحجة أولا أنها من نوع مختلف تماما عن الطرق الأخرى للدفاع عن العولمة ولايجوز أن نخلط بين هذا وذاك فالقول بالحتمية ليس فى الحقيقة دفاعا عن العولمة أو تمجيدا لها، بل هو تعبير عن اليأس من أى محاولة للوقوف فى وجهها. ولكنى فضلا عن ذلك أريد المجادلة فى صحة هذا الموقف اليائس نفسه.
إن من الممكن جدا أن يشيع الاعتقاد بأن ظاهرة ما ظاهرة حتمية لامفر منها نتيجة لمجرد التعود الطويل عليها، حتى ليستقر فى وعى المرء أن هذه الظاهرة جزء من طبيعة الأمور، ويصبح من أصعب الأمور تصور الدنيا من دونها. ومن هنا تكمن فى رأيى الأهمية القصوى لإدراك أن العولمة هى عولمة حضارة أو ثقافة بعينها، وإدراك خصوصية هذه الحضارة، ذلك أن الاعتقاد بأن العولمة ظاهرة محايدة بين الحضارات والثقافات، أو الاعتقاد بأن الحضارة الغربية هى حضارة إنسانية عامة وليست مجرد إفراز من إفرازات ثقافات بعينها، إن هذين الاعتقادين من شأنهما بالطبع أن يرسخا الاعتقاد بأن العولمة حتمية لامفر منها. ولكن من الجائز جدا أن يكون هذان الاعتقادان خاطئين. فالعولمة هى عولمة حضارة بعينها، وهذه الحضارة هى بدورها تعبير عن ثقافة أمة معينة أو ثقافة مجموعة معينة من الأمم. صحيح أن هذه الحضارة قد توفر لها منذ زمن طويل، يرجع إلى ما يقرب من خمسة قرون، وسائل فعالة مكنتها من فرض نفسها على أمم أخرى، غير الأمة أو الأمم التى أنجبتها، ولكن هذا وحده لايجعلها تستحق وصف الإنسانية أو العالمية بالمعنى الذى تستخدم به عادة هذه الأوصاف، ولايزيل عنها خصوصيتها. فالاعتراف بأن حضارة ما (أو ثقافة ما) قد اكتسحت العالم لايعنى الاعتراف بأنها من نتاج العالم بأسره، ولايعنى الاعتراف بأنها تستحق ان تكتسح العالم بأسره أو أنها يجب أن تكتسح العالم بأسره. قد تقبل القول إن التقدم العلمى حتمى، أو حتى إن تطوير التقانة أمر حتمى، إذ كلاهما يعبر عن نزعة طبيعية لدى الإنسان للاستكشاف وحب الاستطلاع وتخفيف ما يتحمله من مختلف صور العناء. ولكن قبول هذا أو ذاك كظاهرتين حتميتين لايلزمنا بقبول الحضارة الغربية كظاهرة حتمية. فمن الممكن مثلا، وبسهولة، أن تتصور تقدما فى العلم والتقانة، من دون هدف تحقيق أقصى ربح، أو هدف تعظيم الناتج، أو هدف تحقيق أقصى قدر من السيطرة على الطبيعة، أو تحقيق أعلى درجة من استقلال الفرد، أو أقل درجة من الإيمان بالميتافيزيقا…إلخ. وهذه كلها من السمات الأساسية للتقدم العلمى والتقانى الغربى. والزعم بغير ذلك ليس إلا اعترافا بقصور خطير فى الخيال، بل إنه يتضمن توجيه الإهانة إلى الجنس البشرى لأنه يفترض أن الإنسان غير قادر على تحقيق شئ أفضل من ذلك.
كذلك فإن اعتبار ظاهرة العولمة حتمية قد لايكون فى الحقيقة أكثر من اعتراف المرء بأنه لم يعد لدية طاقة باقية للمقاومة، أى أنه قد نفد جهده وأصبح مستعدا للتسليم. فإذا كان هذا هو اختيار بعضهم، فهو ليس ملزما لغيرهم، ومن الظلم على أى حال أن يوصف بالحتمية اختيار لايعكس إلا نفاد الطاقة أو استعجال المكأفاة. وهو موقف ظالم لأنه يحمَّل عدة أجيال قادمة عبء فشل جيل بعينه.
فاعتبار ظاهرة ماحتمية يتوقف أيضا على المدى الزمنى الذى يأخذه المرء فى اعتباره. فقد يكون موضوع الهزيمة والتسليم أمرا حتميا فعلا بالنسبة إلى جيلى، ولكنه ليس بالضرورة حتميا لجيل أولادى أو أحفادى. ومن حق هؤلاء أن يطالبوا جيلنا بأن يمتنع على الأقل عن بيع شئ كان من الممكن أن يرمموه أو أن يعيدوا بناءه. لقد ارتكب كمال أتاتورك مثلا هذا الخطأ فى تركيا، باستعجاله التسليم وإعلان الهزيمة أمام حضارة الغرب، ولا زال أحفاده حتى اليوم يحاولون إصلاح الذى ارتكبه.
العولمة والأخلاق ومؤتمر الأمم المتحدة عن السكان والتنمية:
ليس صحيحا ما قاله الكثيرون عن مؤتمر الأمم المتحدة عن السكان والتنمية، الذى عقد فى القاهرة فى سبتمبر 1994 من أن الوثيقة الأساسية المعدة للمناقشة فى هذا المؤتمر، تدعو إلى ممارسة الرذيلة والإجهاض والشذوذ الجنسى وممارسة الجنس خارج الزواج. ولكن الصحيح هو أن الوثيقة تبدى تسامحا غريبا إزاء هذا كله. ومن ثم فليس صحيحا القول بأن الضجة الكبيرة التى ثارت حول هذا المؤتمر كانت ضجة مفتعلة أو ليست فى محلها أو أن الذين فجروها لابد أنهم لم يقرءوا الوثيقة. فالوثيقة خطيرة حقا مثلما زعم أنصارها ومعارضوها على السواء، ولهذا فقد كانت وسوف تظل مدة طويلة، جديرة بالمناقشة وتستحق ما ثار وما سوف يثور حولها من جدل.
وأصارح القارئ بأنى لم أكن أتوقع قبل قراءة الوثيقة، أن أجد فيها تعبيرا واضحا بهذه الدرجة عن مبدأ الحرية الفردية، وأن تذهب إلى هذا الحد فى التساهل مع الميول والأهواء الشخصية. “الفرد” فى نظر وثيقة هذا المؤتمر هو الأساس، ومصلحته ورغباته هى المعيار، لا العائلة ولا الأمة ولا الدين ولا التقاليد ولا العرف. وكل ما تفرضه العائلة أو الأمة أو الدين أو التقاليد من قيود، من حق الفرد التخلص منها، والوثيقة تقف معه فى محاولة الفرار من هذه القيود.
على ضوء هذا يمكن أن نفهم موقف الوثيقة من الحرية الجنسية والشذوذ الجنسى والإجهاض. فالوثيقة نادرا ما يرد فيها لفظ ” العائلة” او ” الأسرة”، إلا عندما تشير إلى تنظيم الأسرة، والمقصود بهذا، كما هو معروف، شىء لا يكاد يكون ذا علاقة بالأسرة.
وتفضل الوثيقة، كبديل للفظ العائلة أو الأسرة، أن تستخدم ألفاظا ذات معان مرنة للغاية تشمل أى شخصية، دون الالتزام بأن يكون أحد الطرفين ذكرا والآخر امرأة، فتحاول الوثيقة قدر الإمكان تجنب استخدام لفظ “الزوجين” وتفضل عليه لفظ “قرينين” (Couple)، ويندر فى الوثيقة أن يرد لفظ ” الزواج”، وعندما تتكلم عن ممارسة الجنس لاتفترض وجود زواج، بل تحرص باستمرار، كلما جاء لفظ (قرينين Couple)، أن تضيف على الفور لفظ الفرد ” أو الأفراد” (Individuals) إذ ليس من الضرورى فى نظر الوثيقة أن تكون ممارسة الجنس هى دائما بين نفس الشخصين أو القرينين. وهى عندما تتكلم عن وسائل مكافحة مرض الإيدزلا تذكر من بين هذه الوسائل، العفة الجنسية، أو الامتناع عن ممارسة الجنس خارج نطاق الزواج.
والوثيقة تتكلم بإسهاب غريب عن ممارسة الجنس بين المراهقين دون أن تبدر منها أى عبارة تدل على الاستهجان، وفى نفس الوقت تعبر الوثيقة بصراحة عن استهجانها للزواج المبكر، وتفترض (رغبة فى تخفيض معدل نمو السكان) أنه كلما تأخر سن الزواج كان هذا أفضل. لاشك إذن أن ممارسة الجنس بين المراهقين فى نظر الوثيقة ممارسة خارج نطاق الزواج، ومع هذا فهى تتكلم عنه وكأنه شىء لا تشوبه شائبة: المهم فقط أن يتجنب المراهقون الوقوع فى الأمراض، وهذا يتطلب توعيتهم وتقديم الخدمات لهم المتعلقة بممارسة الجنس ومنع الحمل، وتوفير منتهى السرية لهم، واحترام حقهم فى الاحتفاظ بنشاطهم سرا عن الجميع!
أما الإجهاض، فالوثيقة وإن كانت لاتدعو إليه، وتفضل عدم الاحتياج إليه، فإنها لاتدينه، حتى لو لم يكن فى الحمل أى خطر على الأم، ما دام ” إجهاضا آمنا ” أى المهم فقط فى نظر الوثيقة هو ألا يهدد الإجهاض حياة الأم، وفيما عدا هذا فإنه لا غبار عليه. والوثيقة تستخدم عبارة “الأمومة المبكرة” دون تمييز بين ما إذا كانت قد حدثت فى نطاق الزواج أو خارجه، والشئ الوحيد الذى تستهجنه الوثيقة فى هذه الأمومة المبكرة، فيما يبدو، هو أنها تزيد من معدل نمو السكان، كما أنها تقيد فرص الأم فى العمل والمساهمة فى الانتاج!
الحرية الفردية إذن، وإلى آخر مداها، هى الفلسفة الكامنة وراء وثيقة مؤتمر السكان والتنمية. ومن حق واضعى الوثيقة، بالطبع، أن يتبنوا من الفلسفات الاجتماعية ما شاءوا، ولكن ليس من حقهم أن يقدموها للعالم وكأنها تعبير عن موقف إنسانى عام، يمثل آخر مراحل التقدم البشرى. هذا هو المرفوض. فلتعبر كل أمة أو حضارة عن قيمها كما تشاء، ولكن ليس من حقها أن تصور قيمها الخاصة وكأنها ” قيم الإنسان ” فى أى مكان وزمان. وقد ساعد على الوقوع فى هذا الخطأ للأسف. وعلى سهولة خداع الكثيرين من قراء الوثيقة، اللغة التى كتبت بها، وهى لغة تقارير الأمم المتحدة بوجه عام، التى أقل ما يمكن أن توصف به أنها لغة “لزجة” لاطعم لها ولا رائحة، يختار أصحابها ألفاظهم بعناية فائقة توحى لقارئها بأن مضمونها هو مجرد تحصيل حاصل، أو من قبيل البديهيات، أو توحى بأنها لغة محايدة، مع أن هذا الحياد المصطنع نفسه هو الذى يؤدى إلى تهريب قيم خاصة بمجتمع معين إلى غيره. مثال ذلك هو ما أشرنا إليه حالا من استخدام لفظ “قرينين” (Couple) بدلا من زوجين. فلفظ “قرينين” أكثر حياداً، لأنه لايفترض رباطا قانونيا معينا، ولكن حياده هذا هو الذى يجعل الشذوذ الجنسى والعلاقات الجنسية دون زواج أمرا مقبولا وجائزا لدى كاتب الوثيقة وقارئيها.
ومن الواضح أن وثيقة مؤتمر السكان، بتبنيها مبدأ الحرية الفردية فى العلاقات الاجتماعية بين الجنسين، إلى هذا المدى البعيد، إنما تحاول أن تستميل إليها جماعات ضغط مهمة، تزداد قوتها يوما بعد يوم فى المجتمعات الغربية الراهنة، وعلى الأخص الحركات النسوية الحديثة التى ترفع شعار تحرير المرأة وتفهمه فهما خاصا، والحركات المعبرة عن الشواذ جنسياً. فهذه الجماعات والحركات تبارك كل هذا الذى تعبر عنه الوثيقة من تسامح مع الحرية الجنسية خارج نطاق الزواج، ومع حرية الإجهاض، ومع الشواذ جنسيا، فضلا عما تتضمنه الوثيقة من عبارات متكررة، فى كل فرصة تسنح لذلك، عن ضرورة التسوية بين الرجل والمرأة.
إن وثيقة مؤتمر السكان يمكن أن تقرأ على أنها انعكاس وتعبير مباشر عن “حضارة السوق”: دع كل شئ لقوى السوق وخلص الأفراد، ذكوراً وإناثا، من قيود التقاليد والدين، واتركهم “أحرارا” ليقعوا “مختارين” فى قيود السوق . دع المرأة تخرج من سجن العرف والتقاليد لتدخل سجن السوق “بمطلق الحرية”، ودع الأولأ والبنات يمارسون الجنس منذ العاشرة، وأيا كان نوع هذه الممارسة، طبيعيا أو غير طبيعى، أخلاقيا أو غير أخلاقى، فهذا يجعلهم فريسة سهلة لقوى السوق ويعظم الأرباح. فالفرد المتخلص من قيود الأسرة والدين والوطن والأخلاق، هو أسهل فريسة لقوى السوق، وهيئة الأمم المتحدة، التى نظمت المؤتمر الأخير، قد أصبحت، للأسف الخادم المطيع لهذه القوى!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جلال أمين (2010). العولمة. القاهرة: دار الشروق. ص ص 32- 41، 158- 164
** جلال الدين أحمد أمين (1935 – )، عالم اقتصادي وأكاديمي وكاتب مصري. أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.